عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

المخالفة لا بالموافقة ولذلك ذهب بعض الأعلام إلى جريان أصالة البراءة والإباحة مع موافقتهما مع الاستصحاب فلا تغفل ثم إنّه يتفرع على هذا التنبيه فروع.

منها : ما ذكره الشيخ الأعظم قدس‌سره من أنه لو شك في حلية أكل لحم حيوان مع العلم بقبوله التذكية جرت أصالة الحل بخلاف ما إذا شك في الحلية من جهة الشك في قبوله للتذكية وعدمه إذ الحكم حينئذ هو الحرمة لأصالة عدم التذكية لأن من شرائطها قابلية المحل وهي مشكوكة فيحكم بعدمها وكون الحيوان ميتة انتهى. (١)

هذا بالنسبة إلى الشبهة الحكمية وأما الشبهة الموضوعية فقد أشار إليه بقوله ، (٢) أيضا ومن قبيل ما لا يجري فيه أصالة الإباحة اللحم المردد بين المذكى والميتة فإنّ أصالة عدم التذكية المقتضية للحرمة والنجاسة حاكمة على أصالتي الإباحة والطهارة انتهى.

ولا يخفى عليك أنّ التذكية حيث تعرض على الحيوان لا على الأجزاء والأعضاء أمكن حينئذ منع جريان أصالة عدم التذكية في القطعات المرددة من المذكى والميتة إذ لا تذكية لها ثم إن الشيخ قدس‌سره أورد بعض الإشكالات والجواب عنها بقوله وربما يتخيل خلاف ذلك تارة لعدم حجية استصحاب عدم التذكية وأخرى لمعارضة أصالة عدم التذكية بأصالة عدم الموت والحرمة والنجاسة من أحكام الميتة والأوّل مبني على عدم حجية الاستصحاب ولو في الأمور العدمية والثاني مدفوع أوّلا : بأنه يكفي في الحكم بالحرمة عدم التذكية ولو بالأصل ولا يتوقف على ثبوت الموت حتى ينفى بانتفائه ولو بحكم الأصل والدليل عليه استثناء ما ذكيتم من قوله وما أكل السبع فلم يبح الشارع إلّا ما ذكي وإناطة إباحة الأكل بما ذكر اسم الله عليه وغيره من الأمور الوجودية المعتبرة في التذكية فإذا انتقى بعضها ولو بحكم الأصل انتفت الإباحة.

وثانيا : انّ الميتة عبارة عن غير المذكى إذ ليست الميتة خصوص ما مات حتف أنفه بل

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢١٨.

(٢) في الفرائد : ٢٢٣.

٦٠١

كل زهاق روح انتفى فيه شرط من شروط التذكية فهي ميتة شرعا وتمام الكلام في الفقه. (١)

حاصله أن مع جريان أصالة عدم التذكية لا مجال لأصالة الإباحة وأصالة البراءة ثم ذكر الإشكال في جريان أصالة عدم التذكية من جهتين.

إحداهما هو عدم حجية استصحاب عدم التذكية وثانيتهما معارضة أصالة عدم التذكية بأصالة عدم الموت.

وأجاب عن الأول بأنه مبني على عدم حجية الاستصحاب ولو في الأمور العدمية وهذا المبنى (كما ترى).

وأجاب عن الثاني بوجهين أحدهما إنّ عدم التذكية موضوع للحرمة ولا يتوقف ترتب الحرمة على ثبوت الموت حتى بانتفائه ولو بحكم الأصل ويقع التعارض.

وثانيهما بأن الميتة عنوان عدمي وهو مساوق لعنوان غير المذكى فلا يكون أمرا وجوديا حتى لا يمكن إثباته بأصالة عدم التذكية وعليه فمع أصالة عدم التذكية يصدق الميتة أيضا لمساوقة العنوانين في المعنى ولا منافاة بين ترتب الحرمة والنجاسة على عنوان الميتة التي هي عبارة شرعا عن كل زهاق روح انتفى فيه شرط من شروط التذكية وبين ترتبهما على عنوان غير المذكى بعد وحدتهما في المعنى بل لو اختص عنوان الميتة بموت حتف الأنف لا يحصل المنافاة لأنه أخص حينئذ من عنوان غير المذكى والشأن في كل مورد رتب الحكم الشرعي في لسان الدليل على عنوانين أحدهما أعم من الآخر هو كون العبرة بالعنوان العام دون الخاص هذا ويمكن أن يقال إنّ البيان الذي أفاد الشيخ الأعظم لمعنى الميتة يفيد تعميم معنى الميتة لا عدميتها إذ الزهوق والخروج أمر وجودي وهو مأخوذ في معناها.

هذا مضافا إلى ما أورده السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره حيث قال والتحقيق إنّ حرمة أكل اللحم مترتب على عدم التذكية بمقتضى قوله تعالى (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) وهكذا عدم جواز الصلاة بخلاف النجاسة فإنّها مترتبة على عنوان الميتة والموت في عرف المتشرعة على ما

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢٢٣.

٦٠٢

صرح به في مجمع البحرين زهاق النفس المستند إلى سبب غير شرعي كخروج الروح حتف الأنف أو بالضرب أو الشق ونحوها فيكون أمرا وجوديا لا يمكن إثباته بأصالة عدم التذكية وعليه فيتم ما ذكره الفاضل النراقي من معارضة أصالة عدم التذكية بأصالة عدم الموت فيتساقطان ويرجع إلى قاعدة الطهارة وإن كان التحقيق جريانهما معا.

إلى أن قال ومجرد كون عدم التذكية ملازما للموت (لأن التذكية والموت ضدان لا ثالث لهما) غير مانع من جريانهما فإن التفكيك بين اللوازم في الاصول العملية غير عزيز كما في المتوضئ بمائع مردد بين الماء والبول مثلا فإنّه محكوم بالطهارة الخبثية دون الحدثية للاستصحاب مع وضوح الملازمة بينهما بحسب الواقع ففي المقام يحكم بعدم جواز الأكل بمقتضى أصالة عدم التذكية وبالطهارة لأصالة عدم الموت. (١)

وعليه فيتقدم أصالة عدم التذكية على أصالة الإباحة بالنسبة إلى الأكل بعد ما عرفت من أن غير المذكى بنفسه موضوع للحرمة كما يتقدم أصالة عدم الموت على قاعدة الطهارة بالنسبة إلى النجاسات لأن الموت أمر وجودي وموضوع للنجاسة ويكون أصالة عدم الموت أصلا موضوعيا بالنسبة إلى قاعدة الطهارة التي كان موضوعها هو الشك في الموت وعدمه والتفكيك في اللوازم في التعبديات لا مانع منه.

ثم لا يذهب عليك أن جريان الأصل الحاكم وهو أصالة عدم التذكية موقوف على كون غير المذكى موضوعا مركبا من الحيوان الزاهق روحه وغير الوارد عليه التذكية لا موضوعا متصفا بعدم رعاية التذكية الشرعية إذ أصالة عدم التذكية لا تثبت الاتصاف كما لا يخفى وهكذا غير خفي إن جريان أصالة عدم التذكية مشروط بما إذا لم يكن عموم يدل على قابلية كل حيوان للتذكية وإلّا فلا مجرى للأصل المذكور والظاهر من كلام الشيخ الأعظم قدس‌سره إنّه يدل على قابلية كل حيوان للتذكية عموم قوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٣١٣ ـ ٣١٤.

٦٠٣

أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً)(١) وهو محتاج إلى تأمل زائد.

ولا يخفى أيضا أن جريان أصالة عدم التذكية يتوقف على ما إذا لم يكن أصلا موضوعيا آخر يدل على قبوله للتذكية كما إذا شك مثلا في ان الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليته للتذكية أم لا فأصالة قبول الحيوان للتذكية مع الجلل محكمة ومع أصالة قبوله للتذكية لا مجال لأصالة عدم تحقق التذكية فهو قبل الجلل كان يطهر ويحل بالفري بسائر شرائطها فالأصل إنه كذلك بعده. (٢)

فتحصل أنّ مع جريان أصالة عدم التذكية يحكم بحرمة أكل اللحم وعدم جواز الصلاة في أجزائه وأمّا النجاسة فهي غير مرتبة على غير المذكى حتى يحكم بثبوتها مع جريان أصالة عدم التذكية بل هي مرتبة على عنوان الميتة وهو أمر وجودي ومع جريان أصالة عدم الموت يحكم بعدم النجاسة وعدم حرمة الاستعمال وأمّا قاعدة الطهارة فهي لا تجري مع جريان أصالة عدم الموت لأن أصالة عدم الموت أصل موضوعي بالنسبة إليها كما لا يخفى.

ومما ذكرنا يظهر أنّ المتصف بالموت هو الحيوان لا اللحم والشاهد لذلك أنّه لا يقال : مات اللحم والجلد بل يقال مات الحيوان وعليه فالتذكية صفة في الحيوان لا في أجزائه ولا يصح جعلها صفة في أجزائه في الاستصحاب بأن يقال هذا اللحم كان سابقا غير مذكى والآن كان كذلك ومقتضى ذلك هو عدم جريان أصالة عدم التذكية في الجلود واللحوم المنفصلة المرددة بين كونها من المذكى أو غير المذكى فإذا لم تجر أصالة عدم التذكية في الأجزاء من الحيوان كالجلود واللحوم المستوردة من بلاد الكفار أمكن الأخذ بقاعدة الطهارة والحلية فيها والحكم بالطهارة وجواز الاستعمال ما لم يقم أمارة على عدم تذكيتها وما دام احتمل أن تكون تلك الجلود واللحوم المنفصلة من الجلود واللحوم التي صدرت

__________________

(١) الانعام / ١٤٥.

(٢) الكفاية ٢ : ١٩٠ ـ ١٩٣.

٦٠٤

من البلاد الإسلامية إلى بلاد الكفار أو احتمل تذكية حيوانها نعم لا يجوز أكل هذه اللحوم بعد اشتراط العلم بالتذكية في جواز الأكل بنص قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ). (١)

ثم إنّه لا فرق بين أن يكون الشك في التذكية وعدمها ناشئا من جهة الشك في قابلية الحيوان للتذكية وعدمها كما في الحيوان المتولد من الشاة والخنزير من دون أن يصدق عليه اسم أحدهما أو ناشئا من جهة الشك في اعتبار شيء في التذكية وعدمه كما إذا شككنا في اعتبار كون الذبح بالحديد مثلا أو عدمه ففي كلا الصورتين يكون المرجع أصالة عدم تحقق التذكية للشك في تحققها لأن عدم تحقق التذكية له حالة سابقة في زمن حياة الحيوان حيث إنه لم يكن في حال حياته متصفا بالتذكية والآن كان كذلك هذا بناء على عدم جريان أصالة عدم قابلية الحيوان للتذكية بالعدم الأزلي وإلّا فمع جريان أصالة عدم قابلية الحيوان للتذكية لا مجال لجريان أصالة عدم التذكية فيما إذا شككنا في قابلية الحيوان للتذكية بخلاف ما إذا علمنا القابلية وشككنا في اعتبار شيء في التذكية.

ربما يدعى أنه لا إشكال في جريان أصالة عدم قابلية الحيوان للتذكية بالعدم الأزلي ومعه لا شك في عدم التذكية حتى يجري فيه أصالة عدم التذكية.

ويشكل ذلك بأن الحيوان الذي نشك في قابليته للتذكية لم يكن بقيد الوجود موردا لليقين بل هو من أول وجوده وحدوثه مشكوك القابلية فلا حالة سابقة لها تجري وتتقدم على أصالة عدم التذكية.

ولذلك قال سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره : وبالجملة فما هو معلوم هو عدم قابليته على نحو السالبة المحصلة وهو ليس موضوعا للحكم.

وما هو موضوع لم يتعلق به العلم إذ الحيوان الواقع بأيدينا لم يكن في زمان من أزمنة وجوده موردا للعلم بأنه غير قابل حتى نستصحبه.

__________________

(١) المائدة / ٣.

٦٠٥

أضف إلى ذلك ما تقدم من أنّ استصحاب العنوان الذي يلائم مع عدم وجود الموضوع لا يثبت كون هذا الحيوان غير قابل إلّا على القول بالأصل المثبت فإن استصحاب العام بعد العلم بانتفاء أحد فرديه لا يثبت به بقائه في ضمن الفرد الآخر فلا يمكن إثبات الأثر المترتب على الفرد نعم لو كان لنفس العام أثر يترتب به كما لا يخفى. (١)

ولقائل أن يقول عدم قابلية الحيوان الموجود لازم في ظرف ترتب الحكم وهو ظرف التعبد الاستصحابي لا ظرف اليقين حتى ينافي كونه من باب السالبة بانتفاء الموضوع في ظرف اليقين وعليه فاستصحاب عدم قابلية الحيوان إلى ظرف ترتب الحكم وهو حال وجود الحيوان يكفي للتعبد بعدمها ومعه لا مجال لأصالة عدم التذكية وإن أبيت عن ذلك فلا تجري إلّا أصالة عدم التذكية المعلومة حال حيوة الحيوان وبقية الكلام في محله راجع التنبيه الثالث من مباحث المقصد الرابع في العام والخاص.

ومنها : ما أشار إليه في نهاية الأفكار من أنه لو شك في الحكم الوجوبي أو التحريمي لأجل الشك في النسخ فإنه تجري فيه أصالة عدم النسخ وبجريانها لا يبقى مورد لأصالة الإباحة والبراءة عن التكليف. (٢)

ومنها : ما أفاده شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره حيث قال ومن أمثلة المقام أعني الشبهة الموضوعية التحريمية التي كان فيها أصل موضوعي مانع عن إجراء البراءة العقلية والشرعية المال المردد بين كونه حلال التصرف أو حرامه وهو نحوان.

الأول أن يكون الشك بعد إحراز كونه مال الغير في طيب نفسه وعدمه وهذا واضح إنّ الأصل الموضوعي فيه عدم الطيب لأنه معلوم ولو بالعدم الأزلي كما لو شككنا من أول وجود المال إنه هل وجد مقرونا بطيب نفس المالك أم بغيره فاستصحاب عدمه الأزلي كاف في إثبات الحرمة لأن اعتبار الطيب إنما هو حسب ظاهر الدليل يكون بنحو مفاد كان التامة لا الناقصة.

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٢٢١.

(٢) نهاية الأفكار ٣ : ٢٥٥.

٦٠٦

الثاني أن يكون الشك في أصل مالية الغير وهذا على قسمين :

تارة يكون الترديد عارضيا ومعلوم من ابتداء الأمر كونه ملكا للغير وإنّما نشك في تحقق أحد الأسباب المملكة وعدمه مثل قطعة أرض نشك في أنه ملك الزيد أو انتقل إلينا بأحد النواقل الشرعية ولا إشكال في استصحاب حرمة التصرفات الثابتة سابقا في اللاحق تكليفا وعدم تحقق الأثر وضعا عقيب مثل بيعه وصلحه وهبته ونحو ذلك وأخرى يكون الترديد ساريا إلى أول وجوده مثل الثمرة التي تردد بين كونه من بستان الشخص أو بستان الغير أو ولد الشاة الذي تردد أمره بين كونه ولد شاة الشخص أو ولد شاة الغير ، إلى أن قال المسألة مبنية على أن المراد من قوله عليه‌السلام في بعض الأخبار «لا يحل مال إلّا من حيث ما أحلّه الله» هل يستفاد منه اشتراط حلية المال على تحق أمر وعنوان وحيثية وجودية على نحو مفاد كان التامة كما ربما يشهد به وقوعه عقيب الاستثناء إلى أن قال فنستصحب عدمه الأزلي عند الشك ولو ما كان ثابتا قبل تحقق الموضوع أو على نحو مفاد كان الناقصة فلا يجوز استصحابه. (١)

التنبيه الثاني :

في رجحان الاحتياط ويقع الكلام في مقامين

المقام الأوّل :

في رجحان الاحتياط في الشبهات البدوية ولا إشكال بعد ما عرفت من عدم وجوب الاحتياط في رجحان الاحتياط وحسنه في جميع موارد الشبهات سواء كانت وجوبية أو تحريمية أو كانت حكمية أو موضوعية.

وذلك لحكم العقل بأن الاحتياط لإدراك الواقع حسن لأنّ ما في الواقع تكاليف فعلية للمولى ولها ملاكات واقعية وإن كان الجهل بلزومها عذرا في مخالفتها والمفروض أنّ الأحكام الشرعية ثابتة في الواقع وجعل العذر لا يكون بمعنى رفع أصلها في الواقع بحيث

__________________

(١) أصول الفقه ٣ : ٦٤٦ ـ ٦٤٧.

٦٠٧

لا يكون للجاهل حكم في الواقع بل بمعنى رفع الثقل من ناحية التكاليف الواقعية مع فرض ثبوتها فقوله عليه‌السلام هلا تعلمت يدل على ثبوت الأحكام الواقعية كما أن قوله عليه‌السلام «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه» شاهد على وجود الحكم وثبوته حال الجهل بحيث يمكن أن يصير معلوما.

هذا مضافا إلى النقل حيث عرفت الأخبار الكثيرة الدالة على الأمر بالاحتياط.

ثم الظاهر من تلك الأوامر الواردة في الأخبار هو مولوية هذه الخطابات لأن المولوية هي المنسبقة إلى الذهن بعد عدم إرادة الوجوب منها جمعا بين أخبار الاحتياط وأخبار البراءة وحمل جميع الأخبار على الإرشاد مع إمكان المولوية في بعضها لا وجه له سيما في مثل قوله عليه‌السلام من ارتكب الشبهات نازعته نفسه إلى ان يقع في المحرمات وقوله عليه‌السلام من ترك الشبهات كان لما استبان له من الإثم أترك وقوله عليه‌السلام من يرتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه.

لظهور كون الأمر بالاحتياط في مثل هذه الأخبار للاستحباب النفسي وحكمته كما أفاد شيخنا الأعظم قدس‌سره هي أن لا يهون عليه ارتكاب المحرمات المعلومة ولازم ذلك استحقاق الثواب على إطاعة أوامر الاحتياط مضافا إلى الثواب المترتب على نفسه. (١)

ولا مانع من اجتماع الاستحباب الطريقي مع الاستحباب النفسي في الاحتياط كما ذهب إليه الشهيد الصدر قدس‌سره حيث قال وهكذا يظهر عدم محذور في استفادة استحباب الاحتياط في الشبهات البدوية كحكم مولوي طريقي مثل أوامر الاحتياط نعم لا يبعد ظهور بعضها في أن الاحتياط لنكتة أخرى غير الواقع المشتبه مثل النبوي الدال على أن من ترك الشبهات كان لما استبان له أترك إلى أن قال الشهيد الصدر وهذه نكتة أخرى تجعل الأمر بالاحتياط في مورد الشبهة نفسيا لا طريقيا ولا بأس بالالتزام بثبوته أيضا ان صحّ سنده فيثبت استحبابان للاحتياط أحدهما طريقي والآخر نفسي. (٢)

لا يقال : لا يجتمع الطريقية والنفسية في الشيء الواحد لأنا نقول : نعم ولكن هذا فيما إذا

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢١٦ ـ ٢١٧.

(٢) مباحث الحجج ٢ : ١١٨ ـ ١١٩.

٦٠٨

أريد من أمر واحد وأما إذا كان الأمر متعددا فلا مانع من إرادة الطريقية من أمر والنفسية من آخر.

ثم لا يذهب عليك أن حسن الاحتياط ورجحانه في الشبهات التحريمية بالترك وفي الشبهات الوجوبية بالإتيان ولا فرق في الأولى بين أن يدور أمر المشتبه بين الحرمة والإباحة وبين أن يدور أمره بين الحرمة والاستحباب بناء على أن دفع المفسدة الملزمة للترك أولى من جلب المصلحة الغير الملزمة كما أن إطلاق الأخبار الدالة على استحباب الاحتياط يقتضي ذلك.

لا يقال : إن لازم ذلك عدم حسن الاحتياط فيما احتمل كونه من العبادات المستحبة بل حسن الاحتياط بتركه إذ لا ينفك ذلك عن احتمال كون فعله تشريعا محرما لأنا نقول : كما أفاد شيخنا الأعظم قدس‌سره إن حرمة التشريع تابعة لتحققه ومع إتيان ما احتمل كونها عبادة لداعي هذا الاحتمال لا يتحقق موضوع التشريع ولذا قد يجب الاحتياط مع هذا الاحتمال كما في الصلاة إلى أربع جهات وفي الثوبين المشتبهين وغيرهما. (١)

المقام الثاني :

في رجحان الاحتياط في العبادات المحتملة ولا إشكال في ذلك فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والاستحباب للعلم بالأمر فيه فيتمكن من نية القربة بإتيانه بقصد الأمر المعلوم بالإجمال.

وأما إذا دار الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب من الإباحة أو الكراهة فقد يشكل من جهة أن العبادة لا بد فيها من نيّة القربة وهي متوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا ولا علم بذلك في الفرض المذكور.

ويمكن الجواب عنه بوجوه :

منها : أن الإتيان بما احتمل كونها عبادة لداعي هذا الاحتمال يكفي في تحقق العبادة ولا حاجة فيه إلى العلم بالأمر لا تفصيلا ولا إجمالا لصدق أنه أتى بالعمل لله وهو المناط في حصول القربة والعبادة.

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢١٦ ـ ٢١٧.

٦٠٩

وقد صرّح شيخنا الأعظم قدس‌سره بذلك حيث قال ومع إتيان ما احتمل كونها عبادة لداعي هذا الاحتمال لا يتحقق موضوع التشريع. (١) والوجه في كفاية إتيان العمل بداعي احتمال المطلوبية هو صدق القربة والعبادة بذلك.

قال الشهيد الصدر قدس‌سره : إنّ اللازم في صحة العبادة مطلق الداعي القربي فإن الانبعاث عن احتمال الأمر داع قربي الهي لأنه مظهر من مظاهر الإخلاص ذاتا للمولى وكل ما هو مظهر للإخلاص للمولى يوجب التقرب ذاتا إليه أيضا بلا حاجة إلى جعل ولم يناقش فيه أحد. (٢) وهذا الجواب أحسن الأجوبة كما لا يخفى.

ومنها : أن الأمر على تقدير لزومه موجود في المقام وذلك لأن حكم العقل بحسن الاحتياط في العبادة يكشف عن ثبوت الأمر الشرعي بالإتيان بما احتمل كونه عبادة بقاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع وعليه فيكفي قصد الأمر المنكشف لحصول نية القربة وتحقق العبادة.

أورد عليه بأن حكم العقل بحسن الاحتياط لا يكشف عن تعلّق الأمر الشرعي به بنحو اللّم أي من ناحية حسنه العقلي لأنّ حسن الاحتياط حكم عقلي في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية لا في سلسلة عللها كاوامر العقل بالإطاعة فكما أن أوامر العقل بالإطاعة إرشادي ولا يكشف عن الأمر المولوي فكذلك أمر العقل بالاحتياط إرشادي ومثل هذا يستحيل ان يكون منشأ لحكم شرعي بالملازمة فالأمر الشرعي غير موجود.

ولا يخفى ما فيه فإن عدم قابلية مورد حكم العقل بالإطاعة الحقيقية للحكم المولوي كما أفاد المحقق الأصفهاني قدس‌سره من جهة كونه محكوما عليه بالحكم المولوي والحكم المولوي لا يتكرر لأنه تحصيل الحاصل وأما في موارد الاحتياط فليس فيها إلّا احتمال الأمر ولا مانع من البعث المولوي نحو المحتمل لعدم كفاية الاحتمال للدعوة كما لا مانع من تنجيز المحتمل

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢١٦ ـ ٢١٧.

(٢) مباحث الحجج ٢ : ١١٩.

٦١٠

بالأمر الاحتياطي طريقيا فإن أريد عدم الكاشفية لامتناع المنكشف فهو غير وجيه وإن أريد عدم تعينه لاحتمال الإرشادية والمولوية فهو وجيه فتدبر. (١)

حاصله أن الكشف عن الأمر الشرعي عن حسن الاحتياط في سلسلة المعلولات وإن أمكن في المقام ولكن لا دليل له في مقام الإثبات فالأمر الشرعي غير محرز في النهاية.

ومنها : أن الأمر الشرعي بالاحتياط بنحو الاستحباب النفسي موجود بدلالة الأخبار الواردة في المقام بمثل قوله عليه‌السلام من ارتكب الشبهات نازعته نفسه إلى أن يقع في المحرمات وقوله عليه‌السلام «من ترك الشبهات كما لما استبان له من الإثم أترك» لظهور كون الأمر للاستحباب النفسي ومع الأمر المولوي يكفي قصده في تحقق القربة والعبادة ولا وقع لما في الكفاية من أنه لو فرض تعلّق أمر به لما كان من الاحتياط بشيء بل كسائر ما علم وجوبه أو استحبابه في عدم كونه من الاحتياط وذلك لأن متعلق الأمر هو الاحتياط ولا يخرج المتعلق عن عنوانه وهو الاحتياط بتعلق الأمر الاستحبابي به فتدبر جيدا.

اللهمّ إلّا أن يقال : كما في مباحث الحجج بأن الأمر الجزمي قد تعلّق بعنوان الاحتياط فلا يمكن قصده إلّا بإتيان متعلقه وهو الاحتياط في العبادة الواقعية المحتملة ولا يمكن الاحتياط فيها إلّا بقصد أمر جزمي على الفرض فلو أريد تصحيح ذلك بهذا الأمر لزم منه ما يشبه الدور إلّا أنّه يمكن الجواب عن هذا الإشكال بأن للاحتياط بوجوده الخارجي متأخر عن جعل الأمر الذي صقع وجوده وعالمه عالم الوجود الذهني والذي يتوقف عليه الأمر بالاحتياط وجوده في ذهن الآمر في مقام الجعل وهو ليس كالوجود الخارجي للاحتياط متأخرا عن الأمر فلا دور. (٢)

هذا كله بناء على لزوم قصد الأمر الجزمي في حسن العبادة وتحققها ولكن عرفت عدم لزوم ذلك.

فالأولى هو أن يقال إن الاحتياط حسن ولو في العبادات ولا حاجة في حسن الاحتياط

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ٢١٦.

(٢) مباحث الحجج ٢ : ١٢٠.

٦١١

في العبادات إلى إحراز الأمر لكفاية الإتيان بداعي احتمال الأمر في تحقق العبادة بحكم العقل والعرف من دون حاجة إلى إحراز الأمر أو تعلّقه به إذ يكفي في عبادية الشيء مجرد إضافته وانتسابه إلى المولى قال السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره : إنّ الإتيان بالعمل برجاء المحبوبية واحتمال أمر المولى من أحسن أنحاء الإضافة والحاكم بذلك هو العقل والعرف بل هو أعلى وأرقى من امتثال الأمر الجزمي إذ ربما يكون الانبعاث إليه لأجل الخوف من العقاب وهو غير محتمل في فرض عدم وصول الأمر والإتيان برجاء المطلوبية. (١)

هذا مضافا إلى دلالة أخبار من بلغ على عدم اشتراط الجزم بالنية ولا قصد الأمر المعلوم في تحقق العبادة الواقعية إذ الظاهر منها أن ما اتي به هو عين ما هو في الواقع وأنّ الثواب الذي يصل إليه عند مصادفة عمله للواقع هو عين الثواب المقرر على العمل في الواقع مع أنه متفرع على أنه أتى به فهو شاهد على أنّ الجزم بالنية لا يعتبر في تحقق العبادة وإتيانها.

قال سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره : ومما يؤيد إمكان الاحتياط في التعبديات بل من أدلته أخبار هذا الباب (أي أخبار من بلغ) فإن تلك الأخبار تدل على أن تمام الموضوع للثواب هو البلوغ كما في صحيحة هشام أو السماع كما في بعض آخر منها وعليه فمهما بلغه أو سمعه وعمل على وزانه رجاء أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قاله فيثاب وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله فهذه الأخبار أقوى شاهد على أنه لا يشترط في تحقق العبادة الجزم بالنية ولا قصد الأمر في تحقق الإطاعة إذ الثواب الذي يصل إليه عند المطابقة ليس إلّا نفس الثواب المقرر على العمل كما هو ظاهر الصحيحة.

وبالجملة أنّ الظاهر منها أنّ العمل المأتي به رجاء إدراك الواقع والتوصل إلى الثواب إذا صادف الواقع يكون عين ما هو الواقع ويستوفي المكلف نفس الثواب الواقعي وإن لم يصادف الواقع يعطى له مثل الثواب الواقع تفضلا ولو كان الإتيان باحتمال الأمر لغوا أو تشريعا لما كان له وجه.

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٣١٦.

٦١٢

والحاصل أنّ مقتضى إطلاق البلوغ والسماع إمكان الاحتياط وعدم لزوم الجزم واليقين بالصدور أو الحجية وإلّا فلو كان شرطا لما كان جهة لإعطاء ثواب نفسي لعدم الإتيان بالعمل الصحيح. (١)

ثم لا يخفى عليك أن المستفاد من الكفاية إنّ منشأ الإشكال في جريان الاحتياط وحسنه في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب هو تخيل كون القربة المعتبرة في العبادة مثل سائر شروطها المعتبرة فيها مما يتعلق بها الأمر المتعلق بها فيشكل جريان الاحتياط فيها حينئذ لعدم التمكن من قصد القربة المعتبرة فيها وقد عرفت أنه فاسد وإنما اعتبر قصد القربة فيها عقلا لأجل أن الغرض منها لا يكاد يحصل بدونه وعليه كان جريان الاحتياط فيها بمكان من الإمكان ضرورة التمكن من الإتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله غاية الأمر أنه لا بد أن يؤتى به على نحو لو كان مأمورا به لكان مقربا بأن يؤتى به بداعي احتمال الأمر أو احتمال كونه محبوبا له تعالى فيقع حينئذ في على تقدير الأمر به امتثالا لأمره تعالى وعلى تقدير عدمه انقيادا لجنابه تبارك وتعالى ويستحق الثواب على كل حال إمّا على الطاعة أو الانقياد. (٢)

وفيه كما في نهاية الدراية أنّه إن كان قصد القربة خصوص الإتيان بداعي الأمر المحقق تفصيلا أو إجمالا فالعبادة لا يعقل تحققها في الاحتياط بعد كون المفروض أنّ الشبهة وجوبية ولا أمر محقق لا تفصيلا ولا إجمالا سواء كان قصد القربة مأخوذا في موضوع الأمر الأول أو كان بأمر آخر أو كان مأخوذا في الغرض فإن قصد القربة لا يختلف معناه الدخيل في مصلحة الفعل الباعث على الأمر به باختلاف طرق إثباته وبناء على هذا وإن كان مأخوذا في الغرض ولكنه حيث لا ثبوت لما أخذ في الغرض على الفرض فلا يعقل إتيان الفعل على نحو يترتب عليه الغرض وإن كان قصد القربة هو إتيان الشيء بداعي الأمر سواء كان محققا أو

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

(٢) الكفاية ٢ : ١٩٥.

٦١٣

محتملا فالاحتياط بمكان من الامكان سواء أخذ قصد القربة بهذا المعنى الأعم في متعلق الأمر الأول أو كان بأمر آخر أو ماخوذا في الغرض وعليه فليس مبنى الإشكال في إمكان الاحتياط وامتناعه هو الإشكال في قصد القربة في العبادات من حيث إمكان أخذه في متعلق أوامرها أو في متعلق أمر آخر بها أو عدم إمكان أخذه إلّا في الغرض. (١)

ولقد أفاد وأجاد قدس‌سره وعليه فلا ارتباط بين المسألتين إذ مع القول باعتبار الجزم بالأمر في تحقق العبادة لا يعقل الاحتياط في العبادة إذ المفروض أنه لا علم بالأمر لا تفصيلا ولا إجمالا سواء أخذ قصد القربة في متعلق الأمر الأول أو كان مأمورا به بأمر آخر أو كان مأخوذا في الغرض.

ومع القول بعدم اعتبار الجزم بالأمر وكفاية الإتيان بداع الأمر ولو كان محتملا فيمكن الاحتياط من دون تفاوت بين الصور الثلاثة المذكورة.

التنبيه الثالث :

في قاعدة التسامح في أدلة السنن :

وقد استدل المشهور بأخبار «من بلغ» على جواز الحكم باستحباب شرعي اصطلاحي لكل مورد ورد فيه خبر يدل على طلب فعله ولو كان الخبر ضعيفا وهذا هو معنى قاعدة التسامح في أدلة السنن إذ يسامح في سند الأخبار الدالة على استحباب فعل شيء من الأشياء وإليك هذه الروايات :

منها : ما رواه في الكافي عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له وإن لم يكن على ما بلغه (٢) هذه الرواية صحيحة.

ومنها : ما رواه في الكافي عن محمّد بن يحيى عن محمّد بن الحسين عن محمّد بن سنان عن عمران الزعفراني عن محمّد بن مروان قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول من بلغه ثواب من

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ٢١٧.

(٢) الكافي ٢ : ٨٧ جامع الأحاديث ج ١ الباب ٩ من أبواب المقدمات ح ١.

٦١٤

الله على عمل ففعل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه. (١)

والخبر ضعيف لجهالة عمران الزعفراني

ومنها : ما رواه في المحاسن عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن أبيه عن علي بن الحكم عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله (٢) هذه الرواية صحيحة.

ومنها : ما رواه في المحاسن عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن أبيه عن أحمد بن النظر عن محمّد بن مروان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء فيه الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان له ذلك الثواب وإن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله. (٣)

ولا يخفى عليك أنه إن كان المقصود من محمّد بن مروان هو الذي يكنّى بالكلبي كما استظهره في جامع الرواة فهو موثق لنقل الأجلاء عنه.

ومنها : ما رواه الصدوق قدس‌سره في ثواب الأعمال عن أبيه رحمه‌الله قال حدثني علي بن موسى عن أحمد بن محمّد عن علي بن الحكم عن هشام عن صفوان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال من بلغه شيء من الثواب على خير فعمله كان له وذكر مثله إقبال السيّد ٦٢٧ روينا بإسنادنا إلى أبي جعفر بن بابويه رضي الله عنه من كتاب ثواب الأعمال فيما رواه بإسناده إلى صفوان عن أبي عبد الله عليه‌السلام إنه قال من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له وذكر مثله. (٤)

والظاهر أن المراد من علي بن موسى هو الكمنداني لأنّه الذى يكون من العدة التي روى عنهم محمّد بن يعقوب عن أحمد بن محمّد بن عيسى وروى الصدوق في الفقيه عن أبيه عنه كما في جامع الرواة فهو من المشايخ وغير ذلك من الروايات.

ولا إشكال في هذه الأخبار من جهة السند لصحة بعضها بلا كلام فالمهم في المقام هو

__________________

(١) الكافي ٢ : ٨٧.

(٢) المحاسن ١ : ٢٥.

(٣) المحاسن ١ : ٢٥.

(٤) جامع الأحاديث : ١ الباب ٩ من أبواب المقدمات ح ٤.

٦١٥

البحث عما يستفاد من هذه الأخبار فيقع الكلام في أمور :

الأمر الأول : الأمر الأول : أنّ موضوع هذه الأخبار هو البلوغ أو السماع ومقتضى تفرع العمل عليهما بقوله عليه‌السلام فصنعه أو فعمله إن الداعي إلى العمل هو نفس البلوغ والسماع وحيث إن البلوغ والسماع لا يساوقان الحجية فلا محالة يعمّان الموارد التي لا يكون البلوغ والسماع حجة فالعمل بما بلغ أو سمع لا يزيد على الإتيان به بداعي الأمر المحتمل فهذه الروايات تصلح بإطلاقها للدلالة على عدم اشتراط الجزم بالنية في تحقق العبادة وصحة ما ذهبنا إليه في التنبيه الثاني من كفاية الإتيان بداعي الأمر المحتمل في تحقق العبادة وإلّا لما كان وجه لترتب ثواب العمل الواقعى عليه.

الأمر الثاني : الأمر الثاني : إنّه لا دلالة لهذه الأخبار على استحباب نفس العمل لأن الموضوع فيها ليس ذات العمل حتى يمكن استكشاف الأمر من ترتب الثواب عليه بعنوان الجزاء والاستحقاق بدعوى أنه لا وجه لهذا الترتب إلّا تعلّق الأمر به فيكون نظير من سرّح لحيته فله ثواب كذا في دلالة ترتب الثواب على استحباب نفس تسريح اللحية وتعلّق الأمر به بل الموضوع فيها هو العمل المأتي به بداعي احتمال الأمر وهو الاحتياط والعقل يحكم باستحقاق الثواب عليه لأنه موضوع يقتضي بنفسه الثواب مع قطع النظر عن الأمر الشرعي وعليه فلا دلالة لهذه الأخبار إلّا على ترتب الثواب على العمل المأتي به بداعي احتمال الأمر ولعله من باب الإرشاد والتفضل قال شيخنا الأعظم قدس‌سره : إن دلت الأخبار المذكورة على أصل الثواب فهي مؤكدة لحكم العقل بالاستحقاق فيما إذا أتى بالاحتياط وإن دلت على خصوص الثواب البالغ كما هو ظاهر بعضها فهو وإن كان مغايرا لحكم العقل باستحقاق أصل الثواب على هذا العمل بناء على أن العقل لا يحكم باستحقاق ذلك الثواب المسموع الداعي إلى الفعل إلّا أن مدلول هذه الروايات أخبار عن تفضل الله سبحانه على العامل بالثواب المسموع وهو أيضا ليس لازما لأمر شرعي هو الموجب لهذا الثواب بل هو

٦١٦

نظير قوله تعالى (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)(١) ملزوم لأمر إرشادي يستقل العقل بتحصيل ذلك الثواب المضاعف. (٢) فكما أن قوله تعالى (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) لا يكشف عن أمر مولوي لأنه من باب التفضل فكذلك جعل الثواب المسموع في المقام لا يكشف عن أمر مولوي بل يكشف عن التفضل فلا دلالة لهذه الأخبار على ما نسب إلى المشهور من استحباب نفس العمل الذي بلغ الثواب عليه.

نعم يمكن أن يقال باستكشاف الأمر المولوي لو تعلّق الأمر بعنوان آخر غير عنوان الانقياد الذي حكم به العقل كعنوان الاحترام برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا أسند ثواب شيء وعمل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تعلّق الأمر المولوي بالعمل المسموع فيه شيء من الثواب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة الاحترام به صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن لا يحرز أنّ بعض الأخبار في مقام بيان الثواب من هذه الناحية بل غاية ما يستفاد منها هو جعل الثواب المسموع على العمل المذكور من باب التفضل فلا تغفل.

ثم إنه قد ذهب في الكفاية إلى أنه لا يبعد دلالة بعض تلك الاخبار على استحباب ما بلغ عليه الثواب مستدلا بأن صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله.

ظاهرة في أن الأجر كان مترتبا على نفس العمل الذي بلغه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّه ذو ثواب وكون العمل متفرعا على البلوغ وكونها الداعي إلى العمل غير موجب لأن يكون الثواب إنما يكون مترتبا عليه فيما إذا أتى برجاء أنه مأمور به وبعنوان الاحتياط بداهة أن الداعي إلى العمل لا يوجب له وجها وعنوانا يؤتى به بذاك الوجه والعنوان وإتيان العمل بداعي طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما قيد به في بعض الأخبار وإن كان انقيادا إلّا ان الثواب في الصحيحة إنما رتب على نفس العمل ولا موجب لتقييدها به لعدم المنافاة بينهما.

__________________

(١) الانعام / ١٦٠.

(٢) فرائد الاصول : ٢٣٠ الطبعة القديمة.

٦١٧

بل لو أتى به كذلك أي بداعي طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو التماسا للثواب الموعود كما قيد به في بعضها الآخر لأوتي الأجر والثواب على نفس العمل لا بما هو احتياط وانقياد فيكشف عن كونه بنفسه مطلوبا وإطاعة فيكون وزانة وزان من سرّح لحيته أو من صلّى أو صام فله كذا ولعله لذلك أفتى المشهور بالاستحباب فافهم وتامل. (١)

وقد أوضحه المحقق الأصفهاني بأن الظاهر من أخبار من بلغ هو كونها في مقام تقرير ذلك الثواب البالغ وتثبيته ومقتضى ذلك ثبوته لنفس العمل لأنه هو الذي بلغ الثواب عليه ولا ينافي هذا الظهور ظهور الفاء في التفريع الظاهر في داعوية الثواب للعمل ببيان أن الداعي إلى العمل يمتنع أن يصير من وجوه وعناوين ما يدعو إليه بحيث يتعنون العمل المدعو إليه بعنوان من قبل نفس الداعي إذا الفرض أنّ العنوان ينشأ من دعوة الشيء فيمتنع أن يكون مقوما لمتعلق الدعوة وللمدعو إليه وعليه فما يدعو إليه الثواب هو ذات العمل ويستحيل أن يكون هو العمل الخاص المتخصص بخصوصية ناشئة من قبل دعوة الثواب كخصوصية كونه انقيادا أو احتياطا فما يدعو إليه الثواب ليس هو الانقياد وإنما الانقياد يتحقق بإتيان ذات العمل بداعي احتمال الأمر فهو متأخر عن دعوة احتمال الأمر فيمتنع أن يؤخذ في متعلق دعوته وعليه فالثواب المترتب إنما رتب على ما دعى إليه احتمال الأمر وهو ذات العمل لا العمل المقيد بالاحتمال ولا ما يتعنون بعنوان الانقياد. (٢) يمكن أن يقال كما أفاد شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره إن العبرة بلسان الدليل لا بالعمل الخارجي وعليه فظهور الفاء في قوله فعمله أو فصنعه في التفريع على بلوغ الثواب يكفي في الدلالة على أن الثواب المجعول في الروايات المذكورة ليس مرتبا على ذات العمل بل مرتب على العمل المأتي به بداعي احتمال الأمر وعليه فداعوية الثواب مأخوذة في موضوع ترتب الثواب في لسان الدليل وما ذكره صاحب الكفاية من أن الداعي إلى العمل لا يوجب وجها وعنوانا يؤتى به بذلك

__________________

(١) الكفاية : ٢ : ١٩٧ ـ ٢٠٠.

(٢) نهاية الدراية ٢ : ١٢١ ، الطبعة الأولى.

٦١٨

الوجه والعنوان لأنه حيثية تعليلة لا تقييديه صحيح بالنسبة إلى العمل الخارجي الذي أتى به لا بالنسبة إلى لسان الدليل فإن الدليل جعل الثواب على العمل المتفرع على هذا الداعي وبناء على كشف الأمر منه لا يكشف إلّا عن الأمر المتعلق بالعمل المتفرع لا نفس العمل من دون تفرعه وأما ظهور الكلام في وحدة الثواب فليس معناه كما في منتقى الاصول إرادة الوحدة الشخصية المتحققة بالمحافظة على تمام الخصوصيات البالغة من حيث المتعلق وغيره بل يراد به الوحدة من حيث الجنس بمعنى أن نفس ذلك الثواب يحصله المكلف سواء كان على نفس ذلك العمل أم على أمر آخر ملازم له فالمنظور إثبات الثواب البالغ بكمه وكيفه لا أكثر. (١)

فظهور الحديث في كونه في مقام التقرير وتثبيت الثواب البالغ على العمل لا يلازم ثبوته لنفس العمل لا سيما مع ظهور التفريع في كون الثواب مرتبا على العمل المأتي به بداعي احتمال الأمر.

لا يقال : إن التفريع بالفاء ربما يكون بمعنى ترتيب أحدهما على الآخر من دون دلالة على أن يكون المرتب عليه علة غائية للمرتب نظير قول القائل سمع الأذان فبادر إلى المسجد فإن الداعي للمبادرة هو تحصيل فضيلة المبادرة لا سماع الأذان.

وما نحن فيه قابل للحمل على ذلك بلحاظ ترتب العمل على بلوغ الثواب لتقوم العمل المترتب عليه الثواب ببلوغ الثواب وعليه فمجرد كون الفاء للتفريع لا يعيّن القسم الأوّل. (٢)

لأنا نقول : كما في منتقى الاصول إنّ الذي يظهر من مثل هذا التعبير هو كون الاندفاع نحو العمل لأجل تحصيل الثواب فالظاهر من التفريع في المقام من باب تفريع المعلول على علته الغائية ومعناه هو انبعاث العمل عن الثواب المحتمل.

والمثال المذكور لا يصلح نقضا لعدم تصور داعوية سماع الأذان للمبادرة إذ الداعي ما يكون بوجوده العيني مترتبا على العمل وبوجوده الذهني سابقا عليه وسماع الأذان لا يترتب خارجا على المبادرة. (٣)

__________________

(١) منتقى الاصول ٤ : ٥٢٢.

(٢) نهاية الدراية ٢ : ٢٢١ الطبعة الأولى.

(٣) منتقى الاصول ٤ : ٥٢٠.

٦١٩

هذا مضافا إلى ما في تنظير المقام بالأخبار الواردة في الموارد الكثيرة المقتصر فيها على ذكر الثواب للعمل مثل قوله عليه‌السلام من سرّح لحيته فله كذا وذلك كما أفاد شيخنا الأعظم قدس‌سره لأن استفادة الاستحباب الشرعي في مثل من سرح لحيته الخ باعتبار أن ترتب الثواب لا يكون إلّا مع الاطاعة حقيقة وحكما فمرجع أخبار مثل من سرح لحيته الخ إلى بيان الثواب على إطاعة الله سبحانه بهذا الفعل فهي تكشف عن تعلّق الأمر بها من الشارع فالثواب هناك لازم للأمر يستدل به استدلالا إنيا ومثل ذلك استفادة الوجوب والتحريم مما اقتصر فيه على ذكر العقاب على الترك أو الفعل.

وأما الثواب الموعود في أخبار من بلغ فهو باعتبار الإطاعة الحكمية فهو لازم لنفس عمله المتفرع على السماع واحتمال الصدق ولو لم يرد به أمر آخر أصلا فلا يدل على طلب شرعي آخر نعم يلزم من الوعد على الثواب طلب إرشادي بتحصيل ذلك الموعود والغرض من هذه الأوامر كأوامر الاحتياط تأييد حكم العقل والترغيب في تحصيل ما وعد الله عباده المنقادين المعدودين بمنزلة المطيعين. (١)

والحاصل أن جعل الثواب على عمله المتفرع على السماع واحتمال الصدق لا يكشف عن أمر آخر متعلق بهذا العمل مع هذا العنوان وذلك لأن العمل المأتي به بداعي احتمال الأمر مما يحكم العقل باستحقاق الثواب عليه وهو موضوع يقتضي بنفسه الثواب مع قطع النظر عن الأمر الشرعي لأنه احتياط وانقياد فلا يكشف جعل الثواب عليه عن تعلّق الأمر بالعمل المأتي به بداعي احتمال الأمر فضلا عن نفس العمل مع قطع النظر عن تفرعه على السماع وبلوغ الثواب ومع عدم الكشف المذكور لا مجال للحكم باستحباب العمل الماتي به بداعي احتمال الأمر فضلا عن نفس العمل فتدبر جيدا.

الأمر الثالث :

إنّه ليس مفاد أخبار من بلغ إسقاط شرائط حجية الخبر في باب المستحبات وإنّه لا يعتبر فيها ما اعتبر في غيرها من العدالة والوثاقة.

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢٣٠.

٦٢٠