عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

والوجه في أنّ عدم العلم حجة مقبولة من ناحية العبد انّ الاحتمال ليس ببيان عندهم بل هو كالعدم فالعقوبة مع الاحتمال عقوبة بلا بيان ولا يجوز أن يكتفي المولى في الحجة بنفس الاحتمال لأن عرف العقلاء لا يرونه حجة واللازم في الاحتجاج هو انقطاع العذر بما يراه العقلاء حجة وسيأتى إن شاء الله تعالى بقية الكلام عند استدلال القائلين بالاحتياط بالوجه العقلي.

ومنها : أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان على فرض تماميتها محكومة لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل وذلك لما يقال من أنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي ومعه لا مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بيان لكفاية قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل للبيان فلا تقبح المؤاخذة بعد هذا البيان.

يمكن أن يقال إن أريد من الضرر المحتمل العقوبة فقد أجيب عنه بوجوه منها ما أجابه الشيخ الأعظم قدس‌سره بأن الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه وإنّما هو بيان لقاعدة كلية ظاهرية وإن لم يكن في مورده تكليف في الواقع فلو تمت عوقب على مخالفتها وإن لم يكن تكليف في الواقع لا على التكليف المحتمل على فرض وجوده فلا تصلح هذه القاعدة لورودها على قاعدة القبح المذكورة بل قاعدة القبح واردة عليها لأنها فرع احتمال الضرر أعني العقاب ولا احتمال بعد حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان فمورد قاعدة دفع العقاب المحتمل هو ما ثبت العقاب فيه ببيان الشارع للتكليف فردد المكلف به بين أمرين كما في الشبهة المحصورة وما يشبهها. (١)

حاصله أن قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل من القواعد الكلية الظاهرية وتكون متكفّلة للعقوبة على مخالفة التكليف المحتمل بما هي كذلك وإن لم يكن في مورده تكليف في الواقع فهذه القاعدة كالاصول العملية وعليه فلا تصلح لأن تكون بيانا للتكليف المجهول ومع كونها ظاهرية لا يرتفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ومع عدم ارتفاع موضوع

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢٠٣.

٥٤١

قاعدة قبح العقاب بلا بيان تجري وتحكم هذه القاعدة بعدم ملازمة العقاب للتكليف المجهول لعدم وصوله وعدم بيانه فإذا حكمت هذه القاعدة بذلك فلا عقاب ولا ضرر بالنسبة إلى هذا التكليف المجهول ومع عدم العقاب والضرر لا يبقى موضوع لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل لأنّ قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل فرع احتمال الضرر أعني العقاب وهو منفي بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ولا يخفى ما فيه فإن الوجوب النفسي في قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل أي العقوبة يستلزم منه تعدد العقاب عند مصادفة احتمال التكليف للواقع ولا يمكن الالتزام بذلك في هذه القاعدة وغيرها.

قال السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره : إنّ احتمال التكليف لا يزيد على القطع به ولا تعدد للعقاب مع القطع بالتكليف فكيف مع احتماله. (١)

ومنها : ما أجابه السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره من أنّ وجوب دفع الضرر المحتمل إرشادي بمعنى أن العقل يحكم ويرشد إلى تحصيل المؤمن من عقاب مخالفة التكليف الواقعي على تقدير تحققه والفرق بينه وبين الوجوب الطريقي أنّ الوجوب الطريقي هو المنشأ لاحتمال العقاب ولولاه لما كان العقاب محتملا بخلاف الوجوب الإرشادي فإنّه في رتبة لاحقة عن احتمال العقاب إذ لو لا احتمال العقاب لما كان هنا إرشاد من العقل إلى تحصيل الأمن منه.

وبذلك ظهر انّ مورد كل من القاعدتين أي قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل وقاعدة قبح العقاب بلا بيان مغاير لمورد الآخر ولا تنافي بينهما لعدم اجتماعهما في مورد واحد أبدا.

فإن احتمل العقاب مع قطع النظر عن وجوب دفع الضرر المحتمل بأن كان التكاليف المحتمل منجزا على تقدير ثبوته واقعا كما في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي والشبهة الحكمية قبل الفحص كان مورد لحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل إرشادا إلى تحصيل المؤمن ولا مجال فيه لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان. (٢)

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٢٨٥.

(٢) وذلك لوجود البيان مع وجود العلم الإجمالى واحتمال البيان في الشبهة الحكمية قبل الفحص.

٥٤٢

وإن لم يحتمل العقاب مع قطع النظر عن وجوب دفع الضرر المحتمل مع احتمال التكليف فإنّ احتمال التكليف لا يستلزم احتمال العقاب كما في الشبهة الحكمية بعد الفحص فيما إذا لم يكن هناك منجز خارجي من علم إجمالي أو إيجاب احتياط أو غيرهما كان موردا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ولا مجال فيه لجريان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل وبعبارة أخرى مورد وجوب دفع الضرر المحتمل فرض وصول التكليف تفصيلا أو إجمالا بنفسه أو بطريقه كما في أطراف العلم الإجمالي والشبهة قبل الفحص وموارد وجوب الاحتياط الشرعي ومورد قاعدة قبح العقاب بلا بيان هي الشبهة بعد الفحص واليأس عن الحجة على التكليف فلا توارد بين القاعدتين في مورد واحد. (١)

ولا يخفى عليك أنّ عدم استلزام احتمال العقوبة مع احتمال التكليف محتاج إلى الإثبات فمع عدم إثبات ذلك احتمال العقوبة باحتمال التكليف موجود ومع وجود الاحتمال المذكور تجري قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل كما تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعليه فتتوارد قاعدتان على مورد واحد وهو احتمال العقوبة فتدبر.

ومنها : ما أجابه المحقق الأصفهاني قدس‌سره من أنّ قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل إمّا موضوعها غير محرز وإمّا تكون محكومة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان حيث قال إنّ موضوع قاعدة دفع الضرر المحتمل إن كان احتمال العقوبة لا على تقدير (أي لا على تقدير المراجعة إلى القاعدتين) فاحتمال العقوبة قبل المراجعة إلى القاعدتين في نفسه غير ملازم لاحتمال التكليف لما مرّ من أنّ الملازمة بين الاحتمالين فرع الملازمة بين المحتملين والملازمة بين العقوبة ومخالفة التكليف غير ثابتة قبل المراجعة حتى تورث التلازم بين احتمال العقوبة واحتمال التكليف فلا احتمال للعقاب بل للتكليف فقط.

وبعد المراجعة إلى القواعد العقلية فقاعدة قبح العقاب تنفي الملازمة بين التكليف واستحقاق العقوبة على مخالفته بما هو بل تفيد أنّ الملازمة إنّما تكون بين التكليف الذي قامت

__________________

(١) مصباح الأصول ٢ : ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

٥٤٣

عليه الحجة واستحقاق العقوبة فالاستدلال بقاعدة قبح العقاب بلا بيان للجزم بعدم العقوبة لا للفراغ عن حكم العقاب المحتمل لا على تقدير إذ المفروض عدم احتمال العقاب لا على تقدير بمجرد احتمال التكليف لأنه فرع إحراز الملازمة بين المحتملين.

وإن كان موضوع قاعدة دفع المحتمل أعم من الاحتمال على تقدير ولا على تقدير لأن ملاكه أعم كما هو واضح فاحتمال التكليف ملازم لاحتمال العقوبة لاحتمال الملازمة واقعا بين مخالفة التكليف واستحقاق العقوبة فالموضوع محرز قبل المراجعة إلى القاعدتين.

وحينئذ فتقديم قاعدة قبح العقاب بلا بيان على قاعدة دفع الضرر المحتمل لأجل أنّ قاعدة دفع الضرر المحتمل حكم في فرض الاحتمال وقاعدة قبح العقاب بلا بيان حيث تنفي الملازمة بين مخالفة التكليف الواقعي واستحقاق العقوبة فهي رافعة للاحتمال بتّا بحيث لا يحتمل العقوبة على تقدير لإبطال التقدير بقاعدة قبح العقاب فهي واردة على قاعدة دفع الضرر المحتمل. (١)

والحاصل أنّ موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل (بناء على ان المراد من الضرر هو العقوبة) هو احتمال العقوبة وهذا الموضوع أي احتمال العقوبة فرع وجود الملازمة بين العقوبة ومخالفة التكليف الواقعي فلو قطعنا النظر عن الملازمة المذكورة فالموضوع غير محرز ومع عدم إحراز الموضوع لا محال للتمسك بقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ولو لاحظنا وجود الملازمة المذكورة فالقاعدة جارية لوجود موضوعها وهو احتمال العقوبة ولكنها محكومة لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان إذ مع جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يبقى موضوع للأخرى.

فإنّ قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل حكم بوجوب الدفع في فرض احتمال العقوبة والاحتمال المذكور ليس إلّا على تقدير وجود الملازمة بين مخالفة التكليف الواقعي واستحقاق العقوبة ولا مجال للاحتمال المذكور بعد كون قاعدة قبح العقاب بلا بيان رافعة للملازمة بين التكليف الواقعي الذي لم يصل وبين استحقاق العقوبة.

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ١٩١ ـ ١٩٢.

٥٤٤

وبعبارة أخرى احتمال العقوبة الذي هو موضوع لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل موقوف على وجود الملازمة بين التكليف الواقعي الذي لم يصل واستحقاق العقوبة وقاعدة قبح العقاب تنفي الملازمة المذكورة ومع نفي هذه الملازمة لا يبقى الموضوع لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

لا يقال : إنّ قاعدة دفع الضرر المحتمل تصلح أيضا لأن تكون بيانا لأنا نقول : لا مجال لذلك لأنه مستلزم للدور إذ بيانيتها فرع تحقق موضوعها وتحقق موضوعها فرع عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان الرافعة لموضوعها وعدم جريانها فرع بيانية قاعدة دفع الضرر المحتمل فبيانية قاعدة دفع الضرر متوقفة على بيانيتها وهي دور فيستحيل كون قاعدة دفع الضرر بيانا.

لا يقال : إنّ الدور المذكور يتصور أيضا في طرف قاعدة قبح العقاب بلا بيان بعد فرض صلاحية قاعدة دفع الضرر المحتمل للبيانية في نفسها بتقريب أنّ جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان فرع موضوعها وهو عدم البيان وهو موقوف على عدم بيانية قاعدة دفع الضرر المحتمل وعدم بيانيتها موقوف على عدم موضوعها وعدم موضوعها موقوف على جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان وجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان موقوف على عدم بيانية قاعدة دفع الضرر المحتمل فعدم بيانيتها موقوف أيضا على عدم بيانيتها وهي دور فكما انّ بيانيتها دورية كذلك عدمها.

لأنا نقول : كما حققه المحقق الأصفهاني قدس‌سره انّ قاعدة دفع الضرر المحتمل في نفسها لا تصلح للبيانية حتى يرتفع بها موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأن المراد بالبيان المأخوذ عدمه في موضوعها ما يصحح المؤاخذة على مخالفة التكليف كالعلم التفصيلي والاجمالي والخبر المجعول منجزا للواقع واشباه ذلك وهذا المعنى غير متحقق بقاعدة دفع الضرر المحتمل لأنها إمّا حكم إرشادي من العقل بدفع العقاب المحتمل ترتبه على التكليف الواقعي المحتمل كما هو ظاهر العلماء أو قاعدة كلية ظاهرية متكفلة للعقوبة على مخالفة

٥٤٥

التكليف المحتمل بما هي كذلك وإن لم يكن في مورده تكليف في الواقع كما هو صريح شيخنا العلامة الأنصاري قدس‌سره في خصوص هذا البحث من الرسائل.

وعلى اي حال فهي ليست مصححة للمؤاخذة على مخالفة التكليف الواقعي المحتمل (حتى يصدق البيان بوجودها) أمّا على الأول فلأن استحقاق المؤاخذة مفروض في موضوعها (قاعدة دفع الضرر المحتمل) لا أنه ناش من حكمها فهذا الاستحقاق المفروض الثبوت لا بد من أن يكون بسبب مصحح للمؤاخذة غير هذه القاعدة فلذا ينحصر موردها في صورة العلم الإجمالي بالإضافة إلى كل من الطرفين أو بالإضافة إلى الخبر المنجز للواقع على تقدير مصادفته وأشباه ذلك.

وأما في ما نحن فيه فحيث لم يفرض فيه وجود المصحح فالقاعدة غير صالحة في نفسها للبيانية وأما على الثاني فلأنها على الفرض مصحح للمؤاخذة على مخالفة التكليف المحتمل بما هي مخالفة له مع قطع النظر عن الواقع فكيف يعقل أن تكون بيانا مصححا للمؤاخذة على الواقع.

وحيث إنّ عنوان القاعدة دفع الضرر المحتمل فموضوع هذا الحكم مما فرض فيه الوقوع في العقاب على تقدير ثبوته فلا يعقل أن يكون هذا الحكم طريقيا لأن المنجز لا يتنجز فيستحيل أن يكون هذا الحكم العقلي طريقيا بل إذا فرض هناك حكم فهو حكم نفسي حقيقي يترتب على مخالفته العقاب وهو أجنبي عن تنجيز الحكم الواقعي المجهول.

وحيث عرفت أنها لا تصلح أن يكون بيانا في نفسها فلا يعقل أن يكون في نفسها رافعة لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان بل رافعة لحكمها على تقدير سلامة موضوع نفسها فتدبره فإنه حقيق به. (١)

وعليه فتقديم قاعدة وجوب دفع الضرر على قاعدة قبح العقاب بلا بيان مع عدم صلاحيتها للبيان لزم أن يكون من باب التخصيص على تقدير سلامة موضوع نفسها لأن

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ١٩٢.

٥٤٦

موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان محفوظ والتخصيص متوقف على سلامة موضوع نفس قاعدة وجوب دفع الضرر وحيث إنّ المفروض عدم المصحح للعقوبة لا موضوع لقاعدة وجوب دفع الضرر حتى يخصص حكم قاعدة قبح العقاب بلا بيان فلا تغفل.

وبعبارة أخرى إنّ تحقق موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان بعد فقدان العلم والعلمي وجداني بخلاف موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل فان العقوبة لا تحتمل إلّا من ناحية سبب مصحح للمؤاخذة ولا سبب له إلّا إذا حصل العلم الإجمالي فإنّه بالإضافة إلى كل واحد من الأطراف منجزا فمع العلم الإجمالي يتحقق احتمال العقوبة واستحقاقها بالنسبة إلى كل طرف من أطرافها.

أو إلّا إذا ورد الخبر المنجز للواقع على تقدير مصادفته وأشباه ذلك فإنّ مع قيام الخبر يتحقق احتمال العقوبة واستحقاقها على تقدير المصادفة والمفروض هو عدم وجود هذه الأسباب المصححة ونفس الحكم في هذه القاعدة وهو وجوب الدفع لا يثبت موضوعه أيضا كما هو الواضح.

فهذه القاعدة لا مورد لها بعد عدم سبب مصحح للمؤاخذة بخلاف العكس فإنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان جارية بالوجدان لوجود موضوعها وهو عدم البيان وترفع احتمال العقوبة الذي لا مصحح له من ناحية التكليف الواقعي بصراحة نفي الملازمة بينه وبين العقوبة وعليه فمع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ينتفي احتمال العقوبة الذي لا مصحح له على فرض ثبوته فلا موضوع لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل بأي معنى كان سواء قلنا بأن موضوعها هو احتمال له سبب مصحح أو قلنا بأن موضوعها الأعم فالأول لا موضوع لها بنفسها إذ لا سبب مصحح له على الفرض والثاني يرتفع بجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان لو فرضنا أنّ موضوعها مطلق احتمال العقوبة ولو لم يكن له سبب مصحح.

قال سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره : إنّ القياس في قاعدة قبح العقاب بلا بيان مركب من صغرى وجدانية وكبرى برهانية فالنتيجة المتحصلة منهما قطعية بتيّة وأما القياس في

٥٤٧

قاعدة وجوب دفع الضرر ليس كذلك فإنّ الصغرى فيه ليس أمرا وجدانيا فعليا بل صحة صغراه يتوقف على أمور : إمّا تقصير العبد في الفحص عن تكاليفه أو كون المولى غير حكيم أو غير عادل أو كون العقاب بلا بيان أمرا غير قبيح فلأجل واحد من هذه الأمور يصير العقاب محتملا والمفروض عدم تحقق واحد منها فظهر أن الصغرى في قاعدة قبح العقاب وجدانية قطعية فعلية أما الصغرى في قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل معلقة على تحقق واحد هذه الأمور والمفروض عدم تحققها ولا شك عندئذ في حكومة القياس المنظم من المقدمات الفعلية على المتوقف على أمور لم يحصل واحد منها بمعنى أنّ قياس قاعدة قبح العقاب بلا بيان دافع لصغرى قياس وجوب دفع الضرر المحتمل.

ولعله إلى ذلك ينظر كلمات القوم وإلّا فظاهر كلماتهم من ورود إحدى الكبريين على الأخرى غير صحيح فإنّ النزاع ليس بين الكبريين بل صحتهما مما لا إشكال فيه وصدقهما لا يتوقف على وجود مصداق لصغراه إذ العقاب بلا بيان قبيح كان بيان في العالم أولا كما أن دفع الضرر المحتمل واجب كان الضرر فى العالم أولا فاحتمال الضرر في بعض الموضوعات وتحقق البيان كذلك غير مربوط بحكم الكبريين وموضوعهما فلا يكون إحدى الكبريين واردة أو حاكمة على الأخرى قط بل أحد القياسين بعد تمامية مقدماته وجدانا أو برهانا يدفع صغرى القياس الآخر بالبيان المتقدم. (١)

هذا كله فيما إذا كان المراد من الضرر في قاعدة وجوب دفع الضرر هو العقوبة الأخروية وقد عرفت أنه لا مجال لاحتمال العقوبة في نفسه إن أريد بالاحتمال ما له سبب مصحح كما يقتضيه كون وجوب الدفع إرشاديا وإن أريد به الأعم فلا مجال له أيضا لحكومة قاعدة قبح العقاب بلا بيان عليه وأما إذا أريد من الضرر غير العقاب الأخروي من الضرر الدنيوي الذي لا يتوقف ترتبه على العلم أو العلمي فلا حاكم حينئذ على قاعدة دفع الضرر المحتمل لاختصاص قاعدة قبح العقاب بالضرر الأخروي وهو العقوبة وعليه فمقتضى وجوب

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ١٩٠ ـ ١٩١.

٥٤٨

الدفع هو لزوم الاجتناب عن موارد الضرر المحتمل ولكن يمكن أن يقال كما أفاد شيخنا الأعظم قدس‌سره إنّ الضرر (الدنيوي) وإن كان محتملا لا يرتفع احتماله بقبح العقاب إلّا أنّ الشبهة من هذه الجهة موضوعية لا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين فلو ثبت وجوب دفع المضرة المحتملة فكان هذا مشترك الورود فلا بد على كلا القولين اما من منع وجوب الدفع وإمّا من دعوى ترخيص الشارع وإذنه فيما شك في كونه من مصاديق الضرر. (١)

هذا مضافا إلى إمكان المناقشة في كبروية القاعدة كما أفاد في الكفاية حيث قال إنّ المتيقن من الضرر الدنيوي فضلا عن محتمله ليس بواجب الدفع شرعا ولا عقلا ضرورة عدم القبح في تحمل بعض المضار ببعض الدواعي عقلا وجوازه شرعا مع أن احتمال الحرمة أو الوجوب لا يلازم احتمال المضرة.

وإن كان ملازما لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة لوضوح انّ المصالح والمفاسد التي تكون مناطات الأحكام وقد استقل العقل بحسن الأفعال التي تكون ذات المصالح وقبح ما كان ذات المفاسد ليست براجعة إلى المنافع والمضار وكثيرا ما يكون محتمل التكليف مأمون الضرر نعم ربما يكون المنفعة أو المضرة مناطا للحكم شرعا وعقلا (ولكن لا يثبت به الكلية).

إن قلت نعم ولكن العقل يستقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن مفسدته أو أنّه كالاقدام على ما علم مفسدته كما استدل به شيخ الطائفة قدس‌سره على أن الأشياء على الحظر أو الوقف.

قلت استقلاله بذلك ممنوع والسند شهادة الوجدان. (٢)

ويؤيده اتفاق العلماء من الاصوليين والأخباريين على عدم لزوم الاجتناب عما يحتمل وجود المفسدة فيه في الشبهات الموضوعية ولو كان العقل مستقلا بوجوب الدفع ذهبوا إلى الاحتياط فيها فتدبر.

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

(٢) الكفاية ٢ : ١٨٠.

٥٤٩

وأما دعوى أنّ الإقدام على الضرر الدنيوي يعد سفاهة عند العقلاء فيجب الاجتناب عنه فهي مندفعة بأن السفاهة فيما إذا لم يكن غرض عقلائي هذا مضافا إلى ما في مصباح الاصول من أن العقل غير مستقل بقبح الإقدام الملازم لاستحقاق العقاب ليكون حراما شرعيا وإلّا لزم كون كل فعل سفهي حراما شرعا وهذا مما نقطع بخلافه. (١)

فتحصّل انّ قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل لا تجري مع جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان لحكومتها عليها هذا فيما إذا أريد من الضرر العقوبة الأخروية وأما إذا أريد من الضرر غير العقاب الأخروي من المضار الدنيوية فقاعدة قبح العقاب بلا بيان لا تجري لاختصاصها بالعقوبة الأخروية فلا حاكم حينئذ بالنسبة إلى قاعدة وجوب دفع الضرر ولكنها لا تفيد بعد عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الموضوعية فإنّ ذلك يكشف عن عدم وجوب دفع الضرر الدنيوي أو يكشف عن ورود الترخيص الشرعي هذا مضافا إلى منع الملازمة بين الشبهة التحريمية والضرر ثم إن قاعدة قبح الإقدام على ما لا يؤمن مفسدته غير ثابتة كما ليس الإقدام على الضرر الدنيوي مع وجود غرض عقلائي سفاهة وعلى تقدير السفاهة لا يكون محرما.

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٢٨٧.

٥٥٠

الخلاصة

الاستدلال بقاعدة قبح العقاب بلا بيان

ربما يستدل بحكم العقل على البراءة والمراد منه هو حكمه بقبح العقاب على شيء من دون بيان التكليف بعد الفحص واليأس عن الظفر بما يكون حجة على المكلف واستشهد له بحكم العقلاء كافّة لقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف المولى بعدم إعلام تحريمه لأنّه من مصاديق الظلم هذا مضافا إلى شهادة الوجدان بأنّ العقوبة والمؤاخذة بدون إقامة الحجة قبيحتان.

ويشكل ذلك بأمور :

منها : أنّ تلك القاعدة مصادرة حيث إنّ دعوى أنّ مخالفة التكليف تمّت عليه الحجة خروج عن زيّ العبودية فيكون ظلما قبيحا وأمّا مخالفة ما لم تتمّ عليه الحجة فليس ظلما ولا يستحق فاعله العقاب واللوم عين المدعي إذ ما ذا يراد بالحجة إذ لو اريد بها ما يصحح العقاب كانت القضية بشرط المحمول وإن أريد بها العلم فهو أوّل الكلام فيكون الدليل عين المدعى نفسه وبمنهجة غير فنيّة لأنّه التزم فيها بأنّ مرجع قضايا يا الحسن والقبح إلى قاعدة أوّلية بديهيّة هي حسن العدل وقبح الظلم.

وقد تقدم أنّ قضية قبح الظلم وحسن العدل لا يمكن أن تكون أوّلية لأنّ الظلم عبارة عن سلب ذى حق حقه فلا بد من تشخيص الحق الذى هو من مدركات العقل العملى نفسه في المرتبة السابقة عليه.

ويمكن الجواب عنه بأنّ الدعوى هي أنّ قضية حسن العدل وقبح الظلم من الوجدانيات البديهيّة ومن المعلوم أنّ الوجدانيات لا تحتاج إلى الاستدلال حتى يقال إنّ القضية المستدل بها بشرط المعمول أو عين المدعى ومصادرة ثمّ لا منافاة بين كون القضية المذكورة بديهية وبين تقدم تشخيص الحق والظلم والعدل على التقبيح والتحسين لأنّ تشخيص الحق والظلم والعدل أيضا من البديهيات وترتب الحكم البديهي على الموضوع البديهي لا ينافي بديهيّة القضية كما لا يخفى.

٥٥١

ثمّ إنّ المراد من الحجة في القضية المذكورة هو ما يمكن الاحتجاج به والبيان لا عنوان ما يصحح العقوبة حتى يوجب أن يكون القضية بشرط المحمول وحاصل القضية أنّ مخالفة التكليف الذى كان معلوما بالعلم أو العلمي ظلم وخروج عن زيّ العبودية لقيام الحجة عليه بخلاف ما إذا لم يكن كذلك لعدم قيام الحجة عليه فليست بظلم بل العقوبة عليها عقوبة بلا حجة وظلم إذ الاحتمال عند العقلاء ليس بحجة بل هو بحكم عدم البيان.

منها : إن تلك القاعدة منافية مع حق الطاعة قال الشهيد الصدر إنّ المحقّقين من علماء الاصول قد فصّلوا بين أمرين أحدهما مولوية المولى وحق طاعته واعتبروا المولوية وحق الطاعة كلّيا متواطئا لا تقبل الزيادة والنقصان وليست ذات مراتب وهي عبارة عن حق طاعة كل تكليف يصدر عن المولى واقعا إذا أتمّت عليه الحجة والبيان.

والثانى ميزان الحجية والمنجّزية فقالوا بأنّ البحث في أصل المولوية موضعه علم الكلام وأمّا البحث عن ميزان الحجية فهو وظيفة البحث الأصول.

وفي هذا المجال بيّنوا قاعدتين أحدهما حجية القطع وأنّ كل حجة لا بدّ وأن ترجع إلى القطع والحجية ذاتية للقطع.

والثانية انتفاء الحجية بانتفاء القطع لأنّه من مستلزمات كون الحجية ذاتية للقطع وهذا هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان وترتب على ذلك أنّ الظن بنفسه لا يمكن أن يكون حجة فلا بد لكى يكون حجة من جعل جاعل وعندئذ نواجه حيرة في أنّ جعل الجاعل كيف يجعل الظن حجة ومتنجزا وهل ذلك إلّا تخصيص في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مع أنّ أحكام العقل غير قابلة للتخصيص.

ومن هنا برزت اتجاهات جعل الطريقية والعلمية للحكومة على حكم العقل إلى أن قال إنّ هناك خطأ أساسيا في هذا الطرز من التفكير حيث فصّل بين الحجية والمولوية مع أنّه لا فصل بينهما بل البحث عن الحجية بحيث عن حدود المولوية بحسب الحقيقة لأنّ المولوية عبارة عن حق الطاعة والعقل يدرك حق الطاعة بملاك من الملاكات كملاك شكر المنعم أو

٥٥٢

ملاك الخالقية أو المالكية ولكن حق الطاعة له مراتب وكلما كان الملاك آكد كان حق الطاعة أوسع.

فقد يفرض بعض المراتب من منعمية المنعم لا يترتب عليه حق الطاعة إلّا في بعض التكاليف المهمة لا في كلّها وقد تكون المنعمية أوسع بنحو يترتب من الطاعة في خصوص التكاليف المعلومة وقد تكون مولوية المولى أوسع دائرة من ذلك بأن كانت منعميته بدرجة يترتب عليه حق الطاعة حتى في المشكوكات والمحتملات من التكاليف.

فهذا بحسب الحقيقة سعة في دائرة المولوية إذن فالحجية ليست شيئا منفصلا عن المولوية وحق الطاعة ويرجع البحث في قاعدة قبح العقاب بلا بيان إلى البحث عن أنّ مولوية المولى هل تشمل التكاليف المحتملة أم لا.

ولا شك أنّه في التكاليف العقلائية عادة تكون المولوية ضيقة ومحدودة بموارد العلم بالتكليف وأما في المولى الحقيقي فسعة المولوية وضيقها يرجع فيها إلى حكم العقل تجاه الخالق سبحانه ومظنوني أنّه بعد الالتفات إلى ما بيناه لا يبقى من لا يقول بسعة مولوية المولى الحقيقي بنحو تشمل في التكاليف الموهومة ومن هنا نحن لا نرى جريان البراءة العقلية.

ويمكن أن يقال أوّلا : إنّ الموالي العرفية أيضا مختلفون في سعة المولوية وضيقها إذ بعضهم أوسع حقا من الآخرين ومع ذلك لا يحكم العقلاء بالنسبة إلى ذلك البعض بوجوب مراعاة التكاليف الموهومة بعد الفحص عنها وعدم وجدان حجة عليها.

فكما أنّ العقلاء لا يحكمون بذلك بالنسبة إلى ذلك البعض فكذلك لا يحكمون به إلى طاعة مولى الموالي.

وثانيا : إنّ إيجاب الاحتياط في جميع الامور بمجرد الاحتمال لا يناسبه حكمة الربّ المتعال وأتمية مراتب المولوية في المولى الحقيقي توجب أهمية امتثال أوامره ونواهيه في الخطابات المعلومة لا المحتملة أو الموهومة.

وثالثا : إنّ الاحتمال لا يصلح عند العقلاء للطريقة ولذا يرخصون المكلف في عدم

٥٥٣

الإتيان أو الفعل مع احتمال الوجوب في الأوّل والحرمة في الثاني لأنّ احتمال التكليف عندهم كعدمه نعم لو صرّح المولى بمراعاة الاحتياط في بعض المحتملات كان مراعاته لازما.

وعليه فلا مجال لاكتفاء الشارع بالاحتمال الذي لا يراه العقلاء طريقا وحجة ويؤكد هذا أنّ الشارع لم يعين طريقة أخرى لامتثال أوامره ونواهيه بل اعتمد على طريقة العقلاء كما قال عزوجل : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)

وبقية الكلام إن شاء الله تعالى عند استدلال القائلين بالاحتياط بالوجه العقلي ومنها أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان على فرض تماميتها محكومة بقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل فإنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي ومعه لا موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان بل البيان موجود ومعه فلا قبح للمؤاخذة.

واجيب عنه بأجوبة :

أحدها أنّ قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل من القواعد الكلية الظاهرية فتدل على العقوبة على مخالفتها وإن لم يكن في موردها تكليف في الواقع وليست العقوبة على التكليف الواقعي المحتمل على فرض وجوده وعليه فلا تصلح هذه القاعدة للورود على قاعدة قبح العقاب بل قاعدة القبح واردة عليها لأنّ قاعدة وجوب رفع الضرر المحتمل فرع احتمال الضرر أعني العقاب لأن الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي ولا احتمال بعد حكم العقل بقبح العقوبة من غير بيان.

وفيه أنّ احتمال التكليف لا يزيد على القطع به ولا تعدّد للعقاب مع القطع بالتكليف فكيف مع احتماله ولازم كون الوجوب في قاعدة دفع الضرر المحتمل وجوبا نفسيا بناء على كونها قاعدة ظاهريّة ولو لم يكن في موردها تكليف في الواقع هو تعدد العقاب عند مصادفة احتمال التكليف للواقع ولا يمكن الالتزام به فدعوى القاعدة الظاهرية لا وقع لها.

وثانيها أنّ وجوب دفع الضرر المحتمل إرشادى بمعنى أنّ العقل يحكم ويرشد إلى تحصيل المؤمن من عقاب مخالفة التكليف الواقعى على تقدير تحققه والفرق بينه وبين

٥٥٤

الوجوب الطريقي أنّ الوجوب الطريقي هو المنشأ لاحتمال العقاب ومولاه لما كان العقاب محتملا بخلاف الإرشادي فإنّه في رتبة لا حقة عن احتمال العقاب إذ لو لا احتمال العقاب لما كان هنا إرشاد من العقل إلى تحصيل المؤمّن.

وبذلك ظهر أنّ مورد كلّ من القاعدتين مغاير لمورد الآخر ولا منافاة بينهما لعدم اجتماعهما في مورد واحد وبعبارة اخرى مورد وجوب دفع الضرر المحتمل من ناحية احتمال التكليف الواقعي فرض وصول التكليف إجمالا بنفسه أو بطريقه كما في أطراف العلم الإجمالي والشبهة قبل الفحص وموارد وجوب الاحتياط الشرعي ومورد قاعدة قبح العقاب بلا بيان هي الشبهة بعد الفحص واليأس عن الحجة على التكليف ومن المعلوم أنّ احتمال التكليف فيه لا يستلزم احتمال العقاب وعليه فلا توارد بين القاعدتين في مورد واحد وفيه أنّ عدم استلزام احتمال العقوبة مع احتمال التكليف أوّل الكلام ومحتاج إلى الإثبات فمع عدم إثبات ذلك احتمال العقوبة باحتمال التكليف موجود ومع وجود الاحتمال المذكور تتوارد القاعدتان على مورد واحد وهو احتمال العقوبة فتأمّل.

وثالثها أنّ موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل إمّا غير محرز أو تكون القاعدة محكومة بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

أمّا الأوّل فلأنّ موضوع قاعدة دفع الضرر المحتمل إن كان احتمال العقوبة لا على تقدير (أي لا على تقدير المراجعة إلى القاعدتين) فاحتمال العقوبة قبل المراجعة إلى القاعدتين في نفسه غير ملازم لاحتمال التكليف لما مر من أنّ الملازمة بين الاحتمالين فرع الملازمة بين العقوبة ومخالفة التكليف الواقعي وقبل المراجعة إلى القاعدتين كما هو المفروض لا ملازمة بين التكليف والعقوبة حتى تورث التلازم بين احتمال العقوبة واحتمال التكليف ومع عدم إحراز الموضوع لا مجال للتمسك بقاعدة وجود دفع الضرر المحتمل.

وأمّا الثاني فلأنّ احتمال العقوبة على تقدير (أي تقدير المراجعة إلى القاعدتين) محكوم بالعدم إذ قاعدة قبح العقاب بلا بيان تنفي الملازمة بين التكليف واستحقاق العقوبة على

٥٥٥

مخالفة بما هو بل تفيد أنّ الملازمة إنّما تكون بين التكليف الذي قامت عليه الحجة واستحقاق العقوبة فالاستدلال بقاعدة قبح العقاب بلا بيان للجزم بعدم العقوبة لا للفراغ عن حكم العقاب المحتمل لا على تقدير إذ المفروض عدم احتمال العقاب لا على تقدير بمجرد احتمال التكليف لأنّه فرع إحراز الملازمة بين المحتملين كما عرفت.

وإن كان موضوع قاعدة دفع المحتمل أعم من الاحتمال على تقدير ولا على تقدير لان ملاكه أعم كما هو واضح فاحتمال التكليف ملازم لاحتمال العقوبة لاحتمال الملازمة واقعا بين مخالفة التكليف واستحقاق العقوبة فالموضوع محرز قبل المراجعة إلى القاعدتين.

وحينئذ فتقديم قاعدة قبح العقاب بلا بيان على قاعدة دفع الضرر المحتمل لأجل أنّ قاعدة دفع الضرر المحتمل حكم في فرض الاحتمال وقاعدة قبح العقاب بلا بيان حيث تنفي الملازمة بين مخالفة التكليف الواقعي واستحقاق العقوبة فهى رافعة للاحتمال بتّا بحيث لا يحتمل العقوبة على تقدير لإبطال التقدير بقاعدة قبح العقاب فهي واردة على قاعدة دفع الضرر المحتمل.

وبالجملة إنّ القياس في قاعدة قبح العقاب بلا بيان مركّب من صغرى وجدانية وكبرى برهانية فالنتيجة المتحصّلة منهما قطعيّة بتيّة وأمّا القياس في قاعدة وجوب دفع الضرر ليس كذلك فإنّ الصغرى فيه ليس أمرا وجدانيا فعليّا بل صحة صغراه يتوقف على امور إمّا تقصير العبد في الفحص عن تكاليفه أو كون المولى غير حكيم أو غير عادل أو كون العقاب بلا بيان أمرا غير قبيح فلأجل واحد من هذه الامور يصير العقاب محتملا والمفروض عدم تحقّق واحد منهما فظهر أنّ الصغرى في قاعدة قبح العقاب وجدانية قطعية فعلية أمّا الصغرى في قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل معلّقة على تحقّق واحد من هذه الامور والمفروض عدم تحققها ولا شك عندئذ في حكومة القياس المنظم من المقدمات الفعلية على المتوقف على امور لم يحصل واحد منها بمعنى أنّ قياس قاعدة قبح العقاب بلا بيان دافع لصغرى قياس وجوب دفع الضرر المحتمل.

٥٥٦

هذا كله فيما إذا كان المراد من الضرر في قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل هو العقوبة الأخروية وأمّا إذا أريد من الضرر غير العقاب الاخروى من الضرر الدنيوي فلا حاكم حينئذ على قاعدة دفع الضرر المحتمل لاختصاص قاعدة قبح العقاب إلّا بالضرر الأخروي وهو العقوبة فمقتضى وجوب الدفع هو الاحتياط أن يقال : إنّ الشبهة من هذه الجهة موضوعية فلا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين هذا مضافا إلى إمكان منع وجوب الدفع فيما إذا كان مقرونا بفرض عقلائى فتدبر جيدا.

٥٥٧

ادلة القائلين بالاحتياط في الشك في التكليف

واستدل للقول بوجوب الاحتياط في الشك في التكليف عند عدم قيام الحجة عليه بالأدلة الثلاثة :

أما الكتاب فبالآيات المتعددة منها التي تنهى عن القول بغير العلم مثل قوله عزوجل : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ... وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(١)

بتقريب أن الحكم بترخيص الشارع في المحتمل الحرمة قول عليه بغير علم وافتراء حيث إنه لم يؤذن فيه ويمكن الجواب عنه بما أفاده الشيخ الأعظم قدس‌سره بأن فعل الشيء المشتبه حكمه اتكالا على قبح العقاب من غير بيان المتفق عليه بين المجتهدين والأخباريين ليس من القول بغير علم. (٢)

لا يقال : بأن الحكم بالحلية في نفس الأمر في الواقعة المشكوكة قول بغير علم.

لأنا نقول : كما أفاد في الدرر ليس ذلك قولنا حتى يكون قولا بغير علم بل نقول بأن إتيان محتمل الحرمة بعد الفحص عن الدليل لا يوجب عقابا فكذا ترك محتمل الوجوب وهذا ليس قولا بغير علم بل هو مقتضى حكم العقل القطعي بقبح العقاب من دون بيان (٣) ولا يكفي هذا الجواب إلّا مع ضميمة أن المراد من الحكم بالحلية هي الحلية الظاهرية لا الحلية الواقعية.

ومن المعلوم ان ارتكاب الشبهة لا يحتاج إلى أزيد من القطع بعدم العقوبة والحلية الظاهرية وهو حاصل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان وأدلة البراءة والحكم بالحلية الواقعية غير محتاج إليه حتى يقال أدلة البراءة لا تدل على الحلية الواقعية بل مفادها رفع العقوبة والثقل والحلية الظاهرية.

ومنها : التي تدل على النهي عن الإلقاء في التهلكة مثل قوله عزوجل تعالى : (وَلا تُلْقُوا

__________________

(١) الأعراف / ٣٣.

(٢) فرائد الاصول : ٢٠٥.

(٣) الدرر : ٤٢٩.

٥٥٨

بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). (١) بتقريب أنّ الآية الكريمة تدل على حرمة إلقاء النفس في التهلكة وحيث إنّ العقاب الأخروي هلاكة فلا يجوز ارتكاب الشبهات فإنها مظان الهلكات ويمكن الجواب عنه بما أفاده الشيخ الأعظم قدس‌سره من أن الهلاك بمعنى العقاب معلوم العدم بأدلة البراءة عقلية كانت أو شرعية فلا موضوع للآية الكريمة في المقام.

ومنها : التي تدل على الأمر بالتقوى مثل قوله تبارك وتعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(٢) ، (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ). (٣) بتقريب أنهما يدلان على وجوب الاحتياط والاتقاء بنحو الأتم والجواب عنه ظاهر فإن المراد من التقوى كما أفاد في مصباح الاصول إن كان هو التحفظ عن ارتكاب ما يوجب استحقاق العقاب ففيه أن ارتكاب الشبهة استنادا إلى ما يدل على الترخيص شرعا وعقلا ليس منافيا للتقوى وإن كان المراد بها التحفظ عن الوقوع في المفاسد الواقعية فهو غير واجب قطعا (٤) فالأمر بالاتقاء في الآيتين المذكورتين كالأمر بالإطاعة إرشادي فيختلف إيجابا واستحبابا بحسب اختلاف ما يرشد إليه.

وأما الأخبار فبطوائف :

الطائفة الأولى :

هي التي آمرة بالتوقف عند الشبهة وعدم العلم معللا فيها بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة كصحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة إنّ على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه (٥)

__________________

(١) البقرة / ١٩٥.

(٢) التغابن / ١٦.

(٣) الحج / ٧٨.

(٤) راجع مصباح الأصول ٢ : ٢٩٨.

(٥) الوسائل الباب ٩ من ابواب صفات القاضي ح ٣٥.

٥٥٩

وكمقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ... قلت فان وافق حكّامهم الخبرين جميعا قال إذا كان ذلك فارجئه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات. (١)

وكموثقة مسعدة بن زياد عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة يقول إذا بلغك إنك قد رضعت من لبنها وإنّها لك محرم وما أشبه ذلك فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة. (٢) وغير ذلك من الأخبار الدالة على التوقف عند الشبهات.

وتقريب الاستدلال بهذه الأخبار إنّها تدل على التوقف المطلق وعدم الإقدام على فعل ما احتمل حرمته وإلّا فالإقدام فيه يوجب الاقتحام في العقاب على تقدير كونه محرما في الواقع.

وأجيب عنه أوّلا : بأن موضوع هذه الأخبار هو ما إذا كان المضيّ في الشبهة اقتحاما في الهلكة.

ولا هلكة في الشبهة الحكمية بعد الفحص لحكومة أدلة البراءة من العقل والنقل على مثلها وبعبارة أخرى لا يبقى موضوع لأدلة التوقف مع جريان أدلة البراءة ولذا قال في الكفاية والجواب عنه إنّه لا مهلكة في الشبهة البدوية مع دلالة النقل وحكم العقل بالبراءة. (٣)

وبالجملة فمع تسليم كون الأمر بالوقوف مولويا والموضوع أي الشبهة عاما فالجواب عنه إنّ أدلة البراءة عقلية كانت أو شرعية تكون حاكمة بالنسبة إلى موضوع أدلة الوقوف في الشبهات وثانيا : بما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من اختصاص موضوع أدلة التوقف بما إذا كان المضي في الشبهة اقتحاما في الهلكة ولا يكون ذلك إلّا مع عدم معذورية الفاعل لأجل

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ١.

(٢) الوسائل الباب ١٥٧ من أبواب مقدمات النكاح ح ٢.

(٣) الكفاية ٢ : ١٨٣ ـ ١٨٤.

٥٦٠