عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

مع ذلك ضربة فيها اجتياحه؟! قال قتادة : اللهمّ نعم. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : ويحك يا قتادة إن كنت إنّما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت ، وأهلكت وإن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ، ويحك يا قتادة ذلك من خرج من بيته بزاد وراحلة وكراء حلال يروم هذا البيت عارفا بحقنا يهوانا قلبه كما قال الله عزوجل (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) ولم يعن البيت فيقول : إليه ، فنحن والله دعوة إبراهيم عليه‌السلام التي من هو انا قلبه قبلت حجّته ، وإلّا فلا يا قتادة ، فإذا كان كذلك كان آمنا من عذاب جهنم يوم القيامة.

قال قتادة لا جرم والله لا فسرتها إلّا هكذا. فقال ابو جعفر عليه‌السلام : ويحك يا قتادة إنّما يعرف القرآن من خوطب به الاجتياح الإهلاك. (١)

فإنّ هذه الرواية المباركة تدلّ على أنّ محل الكلام بين الإمام عليه‌السلام وبين قتادة هو تفسير البطون ؛ لوضوح أنّ الآيات المذكورة غير مرتبطة بمسألة الحجّ ، بل هي شارحة لقصة سبأ ، فقتادة ادّعى العلم بتفسير البطون ، وفسرها بعنوان البطن بمن يريد بيت الله الحرام ، فأورد عليه الإمام عليه‌السلام بأنّ «كان آمنا» لا يساعد مع حدوث الحوادث في الطرق ، ثم فسّرها الإمام بمن يريد الذهاب إلى أهل البيت وأنّ المراد من قوله «كان آمنا» هو الأمان من عذاب جهنم يوم القيامة ، واستشهد في ذلك بظهور كلمة إليهم في قول (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) في أنّ المقصود من دعاء إبراهيم هو أهل البيت لا بيت الله ، وإلّا فيقول إليه مكان إليهم. فاتضح من هذه الآية أنّ معنى التفسير هو تفسير البطون لا الأخذ بالظهور ، فمنعه الإمام عن هذا النوع من التفسير وارجعه إلى الأخذ بالظهور بقوله : «ولم يعن البيت فيقول إليه»

وكرواية جابر حيث قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن شيء من التفسير فأجابني ثم سألته عنه ثانيا : فأجابني بجواب آخر فقلت : كنت أجبتني في هذه المسألة بجواب غير هذا فقال : يا

__________________

(١) روضة الكافى ، ٣١١ ـ ٣١٢.

٤١

جابر إنّ للقرآن بطنا وله (اي للبطن) ظهر وللظهر ظهر ، يا جابر وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن الحديث. (١)

فإنّ الأجوبة المختلفة وصحة جميعها لا تكون إلّا بعنوان تفسير البطون ، وإلّا فاللازم هو الاقتصار على ما يساعده الظهور.

وكرواية زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام حيث قال : تفسير القرآن على سبعة أوجه : منه ما كان ، ومنه ما لم يكن بعد تعرفه الأئمة عليهم‌السلام (٢)

فإنّ ذكر الوجوه المختلفة أو ذكر المصاديق الخفية ليس إلّا من باب تفسير البطون لا الأخذ بالظهور ، وإلّا لزم الاقتصار على ما يساعده الظهور ، لا التعدي منه إلى الوجوه الأخرى أو المصاديق الخفيّة.

فانقدح من ذلك أنّ موضوع الأخبار الناهية هو التفسير ، والمراد منه هو ذكر البطون أو ذكر المصاديق الخفيّة ، وهو أجنبي عن الأخذ بظهورات الكتاب.

وثانيا : بأنّه لو سلّم أنّ العمل بالظواهر تفسير والأخبار تدلّ على النهي عن التفسير ، فلا يخفى أنّ الممنوع هو التفسير بالرأي ، والرأي على ما أفاده الشيخ هو الاعتبار العقلي الظنّي الراجع إلى الاستحسان الذي لا اعتبار به ، كحمل اللفظ على خلاف ظاهره لمجرد رجحانه بنظره أو حمل المجمل على بعض محتملاته لرجحان ذلك في نظره من دون مساعدة دليل عليه ومن دون فحص عمّا ورد عن الأوصياء المعصومين عليهم‌السلام.

ومن المعلوم أنّ ذلك لا يشمل حمل ظواهر الكتاب على معانيها اللغوية والعرفية بعد الفحص عما ورد عن الأوصياء عليهم‌السلام والعمل بها والاجتناب عن الاعتبارات الظنيّة التي لا دليل عليها. ويرشد إليه المروي عن إسماعيل بن جابر عن الصادق عليه‌السلام حيث قال في حديث طويل : إنّما هلك الناس في المتشابه ؛ لأنّهم لم يفقهوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته ،

__________________

(١) الوسائل الباب ١٣ من ابواب صفات القاضى ، ح ٤١.

(٢) الوسائل الباب ١٣ من ابواب صفات القاضى ، ح ٥٠.

٤٢

فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم ، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء. (١)

او أنّ الممنوع هو التفسير من دون فحص كامل عن القرائن العقلية والنقلية كما هو دأب المخالفين في الاكتفاء بنفس الكتاب ، قال الشيخ الأعظم قدس‌سره : يرشدك إلى هذا ما تقدم في ردّ الإمام على أبي حنيفة حيث إنّه يعمل كتاب الله ، ومن المعلوم أنّه إنّما كان يعمل بظواهره لا أنّه كان يؤوّله بالرأي ؛ إذ لا عبرة بالرأي عندهم مع الكتاب والسنة. ويرشد إلى هذا قول ابي عبد الله عليه‌السلام في ذمّ المخالفين أنّهم ضربوا القرآن بعضه ببعض ، واحتجّوا بالمنسوخ وهم يظنّون أنّه الناسخ ، واحتجّوا بالخاص وهم يظنّون أنّه العامّ ، واحتجّوا بأوّل الآية وتركوا السنّة في تأويلها ولم ينظروا إلى ما يفتتح به الكلام وإلى ما يختمه ، ولم يعرفوا موارده ومصادره ؛ إذ لم يأخذوه عن أهله ، فضلّوا وأضلّوا. (٢)

فتحصّل : أنّه يجوز التفسير بعد الفحص والاجتناب عن الاعتبارات التي لا دليل عليها. ولا ينافيه ما ورد في اختصاص التفسير بالائمة عليهم‌السلام ؛ لأنّ المراد منه هو التفسير الكامل لا تفسير بعض القرآن بحمل ظواهره على معانيها اللغوية والعرفية بعد الفحص عن الروايات الواردة حوله مع الاجتناب عن الآراء الشخصيّة ، ولذلك قال الشيخ قدس‌سره : وبالجملة فالانصاف يقتضي عدم الحكم بظهور الأخبار المذكورة في النهي عن العمل بظاهر الكتاب بعد الفحص والتتبع فى سائر الأدلة خصوصا الآثار الواردة عن المعصومين. (٣)

وثالثا : بأنّه لو سلّمنا دلالة الأخبار المذكورة على المنع عن الأخذ بظهور الآيات القرآنية ، فلا بدّ من حملها على ما ذكر ؛ لتعارضها مع أكثر الأخبار الدالّة على جواز التمسك بظواهر القرآن الكريم مثل خبر الثقلين ، والأخبار الدالّة على الأمر بالتمسك بالقرآن والعمل بما فيه ، والروايات الدالّة على عرض الأخبار المتعارضة على القرآن والأخذ بالموافق وطرح المخالف ، والأخبار الدالة على ردّ الشروط المخالفة للكتاب في أبواب المعاملات ، و

__________________

(١) الوسائل الباب ١٣ من ابواب صفات القاضى ، ح ٦٢.

(٢) فرائد الاصول : ٣٦.

(٣) فرائد الاصول : ٣٦.

٤٣

الروايات الدالة على الإرجاع إلى ظواهر الكتاب مثل قوله عليه‌السلام لما قال له زرارة من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس فقال : لمكان الباء. فعرفه مورد استفادة الحكم من ظاهر الكتاب ، وإلى غير ذلك من الموارد الكثيرة التي أشار إليها الشيخ الأعظم قدس‌سره. (١)

فحينئذ يكون مقتضى الجمع بين الأخبار هو حمل الأخبار الناهية على النهي عن التفسير بالرأي أو التفسير من دون فحص وتتبّع ؛ لأنّ جواز التمسك بظواهر القرآن عرض الأخبار المتعارضة على ظاهر القرآن وردّ الشروط المخالفة لظاهر القرآن والإرجاعات إلى ظواهر القرآن وغير ذلك من المسلّمات ، وهو قرينة على أنّ المقصود من الأخبار الناهية غير صورة الأخذ بالظهورات مع مراعاة الفحص والتّتبع والاجتناب عن الرأي الشخصي ، فتدبر جيّدا.

ولذلك قال المحقق الخراساني قدس‌سره : لا محيص عن حمل هذه الروايات الناهية عن التفسير به على ذلك ، ولو سلّم شمولها لحمل اللفظ على ظاهر ضرورة أنّه قضيّة التوفيق بينها وبين ما دلّ على جواز التمسك بالقرآن مثل خبر الثقلين وما دلّ على التمسك به والعمل بما فيه وعرض الأخبار المتعارضة عليه وردّ الشروط المخالفة له وغير ذلك مما لا محيص عن إرادة الإرجاع إلى ظواهره لا خصوص نصوصه ؛ ضرورة أنّ الآيات التي يمكن أن تكون مرجعا في باب تعارض الروايات أو الشروط أو يمكن أن يتمسك بها ويعمل بما فيها ليست إلّا ظاهرة في معانيها ، وليس فيها ما كان نصّا كما لا يخفى. (٢)

لا يقال : إنّ الرجوع إلى الكتاب عند تعارض الأخبار ليس من باب حجيّة الكتاب ، بل من جهة مرجحيّته كما يرجع إلى آراء العامّة من جهة المرجحية لا الحجية لأنا نقول : لحن الأخبار يخالف ذلك التوهم :

فإنّ منها ما يجعل الموافقة للقرآن معيارا للأخذ به وعدم الموافقة معيارا للردّ حيث

__________________

(١) راجع فرائد الاصول : ٣٦ ـ ٣٧.

(٢) الكفاية ٢ : ٦٢ ـ ٦٣.

٤٤

قال عليه‌السلام في حديث جابر : انظروا أمرنا وما جاءكم عنا ، فإن وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا به ، وإن لم تجدوه موافقا فردّوه. (١) ومن المعلوم أنّ هذا التعبير ظاهر في حجيّة الكتاب.

وأيضا من الأخبار ما يجعل القرآن شاهد صدق حيث قال عليه‌السلام : إذا جاءكم عنا حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به ، وإلّا فقفوا عنده ثم ردوه إلينا حتى يستبين لكم. (٢) ومن المعلوم أنّ الشهادة من الحجج ، فالتعبير عن القرآن بالشاهد ظاهر في كونه حجّة.

وأيضا من الأخبار ما يجعل القرآن مرجعا للصحة حيث قال عليه‌السلام : كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة ، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف. (٣) ومن المعلوم أنّ المرجّحيّة لا تتصور بدون الحجيّة.

هذا ، مضافا إلى أنّ التعبير عن الكتاب بالنور والهداية وفصل الخطاب والمصباح ونحوها لا يساعد أن يكون الرجوع إلى الكتاب من باب المرجّحيّة لا الحجيّة ، فلا تغفل. ومما ذكر ينقدح ما في المحكي عن سيدنا الأستاذ المحقق الداماد قدس‌سره حيث قال إنّ كون الظاهر مرجّحا وموجبا لتقديم أحد الخبرين لا يلازم حجّيته ذاتا وفي نفسه (٤)

وذلك لما عرفت من شهادة لحن الأخبار المذكورة على أنّ المقصود هو الحجّيّة لا مجرد المرجّحيّة فلا تغفل.

التنبيهات

التنبيه الأوّل :

أنّه ربّما يتوهم أنّ البحث عن اعتبار ظواهر الكتاب قليل الجدوى ، لأنّه ما من آية من

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من ابواب صفات القاضى ، ح ٣٧.

(٢) الوسائل الباب ٩ من ابواب صفات القاضى ، ح ١٨.

(٣) الوسائل الباب ٩ من ابواب صفات القاضى ، ح ١٤.

(٤) المحاضرات ٢ / ١٠١.

٤٥

الآيات الواردة في الفروع والاصول إلّا ورد فيها خبر موافق أو أخبار موافقة لها ، فلو لم يكن ظواهر الكتاب حجّة كفت الأخبار الموافقة لها. هذا مضافا إلى أنّ جلّ الآيات الواردة في الاصول والفروع مجملة ، فلا يمكن العمل بها إلّا بعد أخذ تفصيلها من الأخبار.

ويمكن الجواب عنه بما أفاده شيخنا الأعظم قدس‌سره من أنّ المتوهم قصّر نظره إلى الآيات الواردة في العبادات ؛ فإنّ أغلبها من قبيل ما ذكره ، وإلّا فالإطلاقات الواردة في المعاملات مما يتمسّك بها في الفروع الغير المنصوصة أو المنصوصة بالنصوص المتكافئة كثيرة جدّا ، مثل : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) و (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) و (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) و (لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ* وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) ... إلى أن قال : وبل في العبادات ايضا كثيرة مثل قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) وآيات التيمّم والوضوء والغسل. وهذه العمومات وإن ورد فيها أخبار في الجملة إلّا أنّه ليس كل فرع مما يتمسك فيه بالآية ورد فيه خبر سليم عن المكافئ ، فلاحظ وتتّبع. (١)

وكلامه متين ، ولكن الأخذ بالإطلاق في الاختراعيات فرع إحراز كون المتكلم في مقام بيان تفصيل الأحكام لا في مقام بيان أصل التشريع ، وإحراز ذلك في الموضوعات الاختراعية العبادية كالصلاة محل تأمّل ، وإن كان إحراز ذلك في الإمضائيات أو التأسيسيات التي كان موضوعها من الموضوعات اللغوية كالجهاد والدفاع والإحسان والإصلاح والتعاون والعدل وغير ذلك ممكنا ؛ لمعلومية الموضوع عند العقلاء والعرف ولا حاجة إلى بيانه ، فإذا أمضاه الشارع أو أسّسه ولم يقيّده بقيد وشرط كشف عن أنّ إطلاقه مقبول عنده ؛ إذ لو كان مقيّدا عنده لزم عليه أن يبيّنه. ولا مورد لدعوى كونه في مقام بيان أصل المشروعية بعد وضوح الموضوع عندهم ، كما لا يخفى.

نعم لا بأس بالأخذ بالإطلاق المقامي في العباديّات أيضا في العباديّات أيضا فيما إذا كشف كون المتكلم في مقام الإطلاق من جهة إحراز اكتفاء الشارع بها مع عدم ورود خبر و

__________________

(١) فرائد الاصول : ٣٩ ـ ٤٠.

٤٦

رواية في بيان تفصيلها ؛ فإنّ الاكتفاء بالآية في هذا المقام مع حلول وقت العمل يكشف عن إرادة إطلاقها ، وإلّا لاتخذ سبيلا آخر لبيان مراده ، كما لا يخفى.

التنبيه الثاني :

أنّ اللازم بعد حجيّة ظهورات الكتاب هو إحراز كون الظاهر من الكتاب ، فما اشتبه أنّه من الكتاب أو غيره فليس بحجّة. وعليه فلو اختلفت قراءة القرآن بحيث يوجب الاختلاف في الظهور والأحكام ، مثل : يطهرن بالتشديد والتخفيف ، فإنّ قراءة التشديد ظاهرة في لزوم الاغتسال في جواز المعاشرة ، وقراءة التخفيف ظاهرة في كفاية النقاء عن الحيض في ذلك ، فلا يجوز التمسك بأحدهما لإثبات خصوص ما يكون ظاهرا فيه بعد عدم إحراز كونه من ظاهر القرآن والكتاب ، فاللازم في حجيّة ظاهر المعروفين ، فإن كانت قراءاتهم متواترة فالقرآن متواتر ، وإلّا فلا وإذن فلا محيص من القول بتواتر القراءات.

غير سديد ؛ لأنّ تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات ، إذ الاختلاف في كيفية الكلمة لا ينافي الاتفاق على أصلها ، ولهذا نجد أنّ اختلاف الرواة في بعض ألفاظ قصائد المبتني مثلا لا يصادم تواتر القصيدة عنه وثبوتها له.

على أنّ الواصل إلينا بتوسط القرّاء إنّما هو خصوصيات قراءاتهم ، وأمّا أصل القرآن فهو واصل إلينا بالتواتر بين المسلمين وبنقل الخلف عن السلف وحفظهم لذلك في صدورهم وفي كتاباتهم ، ولا دخل للقرّاء في ذلك أصلا ، ولذلك كان القرآن ثابت التواتر حتى لو فرضنا أنّ هؤلاء القرّاء السبعة أو العشرة لم يكونوا : موجودين أصلا ، عظمة القرآن أرقى من أن يتوقف على نقل اولئك النفر المحصورين ... إلى أن قال : فالمادّة متواترة وإن اختلف في هيئتها أو في إعرابها ، واحدى الكيفيات من القرآن قطعا وإن لم تعلم بخصوصها.

وعلى الجملة تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات وقد اعترف بذلك الزرقانى حيث قال : يبالغ بعضهم في الإشادة (١) بالقراءات السبع ، ويقول من زعم أنّ القراءات السبع لا يلزم فيها التواتر فقوله كفر لأنّه يؤدي إلى عدم تواتر القرآن جملة.

__________________

(١) الاشادة لعله من اشاد بذكره أي رفعه بالثناء عليه.

٤٧

ويعزى هذا الرأي إلى مفتى البلاد الأندلسية الأستاذ أبي سعيد فرج بن لب ، وقد الكتاب هو إحراز كون الظاهر من الكتاب.

ودعوى تواتر القراءات كلها مندفعة بما في الكفاية من أنّها مما لا أصل له ، وإنّما الثابت جواز القراءة بها ، ولا ملازمة بين جواز القراءة وتواترها ، كما لا ملازمة بين جواز القراءة تعبدا وجواز الاستدلال بها.

وإليك تفصيل ذلك : ولقد أفاد واجاد السيد المحقق الخوئي قدس‌سره حيث قال ـ بعد نقل تصريحات عدّة من علماء أهل السنّة بعدم تواتر القراءات ـ تامّل بربّك هل تبقى قيمة لدعوى التواتر في القراءات بعد شهادة هؤلاء الأعلام كلّهم بعدمه؟! وهل يمكن إثبات التواتر بالتقليد وباتباع بعض من ذهب إلى تحققه من غير أن يطالب بدليل؟!

ثم أورد على استدلالاتهم للتواتر بما حاصله :

والاستدلال على تواتر القراءات السبع بقيام الإجماع عليه من السلف إلى الخلف فاسد ؛ لأنّ الإجماع لا يتحقق باتّفاق أهل مذهب واحد عند مخالفة الآخرين.

كما أنّ الاستدلال عليه باهتمام الصحابة والتابعين بالقرآن يقضي بتواتر قراءاته غير صحيح ؛ لأنّ هذا الدليل إنّما يثبت تواتر نفس القرآن لا تواتر كيفية قراءاته. هذا مضافا إلى أنّه لو كان هذا الدليل كافيا لتواتر القراءات فلا وجه لتخصيصه بالسبع أو العشر ، بل لازمه هو الالتزام بتواتر جميع القراءات من غير تفرقة بينها.

والقول : بأنّ القراءات السبع لو لم تكن متواترة لم يكن القرآن متواترا ، والتالي باطل بالضرورة فالمقدّم مثله. ووجه التلازم : أنّ القرآن إنّما وصل إلينا بتوسط حفّاظه والقرّاء تحمّس (١) لرأيه كثيرا وألف رسالة كبيرة في تأييد مذهبه والردّ على من رد عليه ولكن دليله الذي استند اليه لا يسلم له ؛ فإنّ القول بعدم تواتر القراءات السبع لا يستلزم القول بعدم تواتر القرآن ، كيف وهناك فرق بين القرآن والقراءات السبع بحيث يصح أن يكون

__________________

(١) اى اشتدّ وصلب

٤٨

القرآن متواترا في غير القراءات السبع أو في القدر الذي اتفق عليه القراء جميعا أو في القدر الذي اتفق عليه عدد يؤمن تواطؤهم على الكذب قرّاء كانوا أو غير قرّاء. (١)

ثم حكى السيد المحقق الخوئى قدس‌سره عن بعض علماء العامّة أنّ تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات ، وأنّه لم يقع لأحد من أئمة الاصولين تصريح بتواتر القراءات وتوقف تواتر القرآن على تواترها ، كما وقع لابن الحاجب. (٢)

قال الزركشي في البرهان : القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان ، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله للبيان والإعجاز ، والقراءات اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف وكيفيّتها من تخفيف وتشديد وغيرهما ، والقراءات السبع متواترة عند الجمهور ، وقيل بل هي مشهورة ، وقال أيضا : والتحقيق أنّها متواترة عن الأئمة السبعة ، أمّا تواترها عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ففيه نظر ؛ فإنّ اسنادهم بهذه القراءات السبع موجود في كتب القراءات ، وهي نقل الواحد عن الواحد. (٣)

مسألة نزول القرآن على الاحرف : قال السيد المحقق الخوئى قدس‌سره : قد يتخيّل أنّ الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن هى القراءات السبع ، فيتمسك لإثبات كونها من القرآن بالروايات التي دلّت على أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ... إلى أن قال : منها ما أخرجه القرطبي عن أبى داود عن أبيّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا أبيّ إنّي قرأت القرآن فقيل لي على حرف أو حرفين فقال الملك الذي معي قل : على حرفين فقيل لي : على حرفين أو ثلاثة فقال الملك الذي معى. قل على ثلاثة حتى بلغ سبع أحرف ... الحديث.

ثم قال السيد الخوئي قدس‌سره : هذه أهمّ الروايات الواردة في هذا المعنى ، وكلّها من طرق اهل السنة ، وهي مخالفة لصحيحة زرارة عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد ، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة. وايضا أنّ الصادق عليه‌السلام حكم بكذب الرواية

__________________

(١) مناهل العرفان ، ص ٤٢٨.

(٢) البيان : ص ١٠٥.

(٣) الاتقان النوع ، ٢٢ ـ ٢٧ ، ج ١ ، ص ١٣٨.

٤٩

المشهورة بين الناس (نزل القرآن على سبعة احرف) وقال : ولكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد. (١)

وقد تقدم إجمالا أنّ المرجع بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في امور الدّين إنّما هو كتاب الله وأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ولا قيمة للروايات إذا كانت مخالفة لما يصحّ عنهم ، ولذلك لا يهمّنا أن نتكلم في أسانيد هذه الروايات. وهذا أوّل شيء تسقط بها الرواية عن الاعتبار والحجيّة ، ويضاف إلى ذلك ما بين هذه الروايات من التخالف والتناقض وما في بعضها من عدم التناسب بين السؤال والجواب. ثم أورد تلك الموارد وجعلها موهنة لهذه الروايات. ثم ذكر توجيهات ذكرها العامّة لمعنى هذه الرواية ، ثم أشكل عليها. ولقد أفاد وأجاد وقال في نهاية الأمر : وحاصل ما قدّمناه أنّ نزول القرآن على سبعة أحرف لا يرجع إلى معنى صحيح ، فلا بدّ من طرح الروايات الدالّة عليه ، ولا سيما بعد أن دلّت أحاديث الصادقين عليهم‌السلام على تكذيبها وأنّ القرآن أنّما نزل على حرف واحد وأنّ الاختلاف قد جاء من قبل الرواة. (٢)

والحاصل : أنّ دعوى تواتر القراءات مما لا أصل له ، فإذا لم يثبت تواترها ظهر أنّه لا يجوز الاستدلال بكلّ قراءة لخصوص ما تكون ظاهرة فيه ؛ لعدم إحراز كونه من ظاهر القرآن ومع التخالف يكون من موارد اشتباه الحجّة بغير الحجة إن قلنا بوجود قراءة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فى أحد الطرفين إجمالا ومقتضى القاعدة هو التساقط والرجوع إلى العموم أو الأصل الموافق لأحد مما ليس إلّا كما هو المحكي عن سيدنا الاستاذ المحقق الداماد (٣) ولو سلّمنا تواترها فلا بدّ من الجمع بينها بحمل الظاهر على الأظهر ، ومع عدم الأظهر يحكم بالتوقف والرجوع إلى الأدلّة الأخرى أو الأصول الموجودة في المسألة.

ثم يقع الكلام في أنّه هل يجوز الإتيان بكل قراءة من القراءات في الصلاة أو لا يجوز؟ قال

__________________

(١) الوافى ٥ باب اختلاف القراءات ، ص ٢٧٢.

(٢) البيان : ١١٢ و ١١٩ ـ ١٣٥.

(٣) المحاضرات ٢ ـ ١٠٤

٥٠

السيد المحقق الخوئى قدس‌سره : في وجه الثاني أنّ الذي تقتضيه القاعدة الأوّلية هو عدم جواز القراءة في الصلاة بكلّ قراءة لم تثبت القراءة بها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو من أحد أوصيائه المعصومين عليهم‌السلام لأنّ الواجب في الصلاة هو قراءة القرآن ، فلا يكفي قراءة شيء لم يحرز كونه قرآنا ، وقد استقل العقل بوجوب إحراز الفراغ اليقيني بعد العلم باشتغال الذمة ، وعلى ذلك فلا بدّ من تكرار الصلاة بعدد القراءات المختلفة أو تكرار مورد الاختلاف في الصلاة الواحدة لإحراز الامتثال القطعي.

ولكنّ الذي يقتضيه التحقيق أنّه ثبت قطعا تقرير الأئمة عليهم‌السلام شيعتهم على القراءة بأية واحدة من القراءات المعروفة في زمانهم ، فلا شك في كفاية كلّ واحدة منها ، فقد كانت هذه القراءات معروفة في زمانهم ، ولم يرد عنهم أنّهم ردعوا عن بعضها ، ولو ثبت الردع لوصل إلينا بالتواتر ، ولا أقلّ من نقله بالآحاد ، بل ورد عنهم عليهم‌السلام إمضاء هذه القراءات بقولهم : «اقرأ كما يقرأ الناس» وقولهم : «اقرءوا كما تعلّمتم». (١)

وعلى ذلك فلا معنى لتخصيص الجواز بالقراءات السبعة أو العشرة. نعم يعتبر في الجواز أن لا تكون القراءة شاذة ثابتة بنقل الثقات عند علماء أهل السنة ولا موضوعة ؛ أمّا الشاذة فمثالها قراءة (ملك يوم الدين) بصيغة الماضي ونصب يوم. وأمّا الموضوعة فمثالها قراءة (إنّما يخشى الله من عباده العلماء) برفع كلمة الله ونصب كلمة العلماء على قراءة الخزاعي عن ابى حنيفة.

وصفوة القول : أنّه تجوز القراءة في الصلاة بكل قراءة كانت متعارفة في زمان أهل البيت. (٢)

وهنا إشكال يمكن طرحه ، وهو أنّ الروايات الدالة على جواز القراءة بما كان يقرأ الناس ضعيفة ، ومع ضعفها كيف يمكن الاكتفاء بالقراءات المعروفة.

__________________

(١) الوسائل الباب ٧٤ ، من ابواب القراءة في الصلاة.

(٢) البيان : ١١٧ ـ ١١٨.

٥١

ويمكن الجواب عنه بأنّ القراءات الشائعة تكون في مرأى ومنظر الأئمة عليهم‌السلام وحيث أنّهم لم يردعوا عنها ـ إذ لو ردعوا عنها لوصل الردع إلينا ـ جاز الاكتفاء بالقراءات الشائعة المعروفة في عهد الأئمة عليهم‌السلام.

ثم لا وجه لتخصيص القراءات المعروفة بالقراءات الشائعة في زمان الإمام الصادق عليه‌السلام حتى يشكل في قراءة غير هؤلاء أعنى ابن كثير المتوفّى في سنة ١٢٠ وابن عامر المتوفّى في سنة ١١٨ وعاصم المتوفّى في سنة ١٢٨ او ١٢٩ ونافع المتوفّى في سنة ١٦٩ وابن العلاء المتوفّى في سنة ١٥٤ و ١٥٥ وحمزة المتوفّى في سنة ١٥٨ و ١٥٤ والكسائي المتوفّى في سنة ١٨٩ ؛ لعدم ثبوت كون قراءة غير هؤلاء شائعة في زمان الإمام الصادق عليه‌السلام المتوفّى في سنة ١٤٨. لكفاية شيوعها في عهد سائر الأئمة عليهم‌السلام ، مع عدم ردعهم عنها. هذا مضافا إلى دعوى الإجماع عن التبيان ومجمع البيان ، بل السيرة القطعيّة على القراءة بالقراءات المعروفة المتداولة ، واعتبار بعض الأخبار كخبر سفيان بن السمط قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ترتيل القرآن فقال : اقرءوا كما علّمتم (١) ؛ إذ سفيان بن السمط ممن روى عنه ابن أبي عمير والسؤال عن الترتيل لا ينافي عموم الجواب ، كما لا يخفى.

لا يقال : يكفي في الردع موثقة داود بن فرقد المروية عن الكافي عن عدّة من أصحابنا عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن علي بن الحكم عن داود بن فرقد والمعلّى بن خنيس جميعا قالا : كنا عند أبى عبد الله عليه‌السلام فقال : إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضال ، ثم قال : أمّا نحن فنقرؤه على قراءة أبي (٢) ؛ لدلالته على تخطئة غير قراءتهم ، وهي قراءة أبى بضم الهمزة او بفتح الهمزة والمراد قراءة ابيه.

لأنّا نقول : إنّ هذه الرواية محمولة على أنّ عندهم في الواقع ، وهي القراءة الصحيحة ، ولكنّها غير مذكورة للناس ، وإلّا لكانت شائعة. ولا تنافي هذه الرواية مع ما عرفت من تقرير القراءات المعروفة لمصلحة من المصالح وجريان السيرة عليها.

__________________

(١) الوسائل الباب ٧٤ من ابواب القراءة في الصلاة ح ٣.

(٢) الوسائل الباب ٧٤ من ابواب القراءة فى الصلاة ، ح ٤.

٥٢

ومما ذكر يظهر ما في تنقيح الاصول من أنّ الحق أنّه يتعين القراءة بما في أيدينا من القرآن الذي أخذه المسلمون يدا بيد وصدرا بصدر عن آبائهم خلفا عن سلف ، وهو الذي قامت عليه الضرورة القطيعة ، مثل ضرورة كون صلاة المغرب ثلاث ركعات ؛ ولذا ترى أنّ الموجود منه في جميع الأعصار والأمصار هو هذا القرآن بعينه إلى زمان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى من كانت قراءته عنده على خلافه.

فالدليل على تعين القراءة بهذا القرآن هو ما ذكرناه من الضرورة ، والتي يتحقق التواتر من أحد أعشارها ، وأنّه لا يجوز القراءة بغير ذلك من القراءات فإنّه لا يعبأ بها ؛ لاعتمادهم فيها على الاستحسانات أو الاجتهادات اللغوية والنحوية مع أنّ اختلافهم فيها قد يؤدّي إلى الاختلاف في المعنى ، مثل يطهرن بالتخفيف مع يطّهّرن بالتشديد.

وليس الدليل على ما ذكرنا الروايات كي يقال بتجويز القراءة بمالك وملك أو كفوا بالهمزة والواو ، فإنّه لا يجوز القراءة بملك أو بالهمزة في كفوا ؛ لأنّهما ليسا في القرآن. (١)

وذلك لما عرفت من تجويز القراءات الشائعة في عصر الأئمة عليهم‌السلام بالتقرير وقيام السيرة ودلالة بعض الروايات عليه وإن لم يكن جميعها من القرآن.

ثم مع جواز القراءة بكلّ واحدة من القراءات الشائعة لا حاجة إلى الاحتياط بتكرار الصلاة مع كل قراءة أو بالجمع بين القراءات في صلاة واحدة بنية القراءة في واحدة منها بحسب الواقع وبنية الثناء في غيرها حتى لا يلزم الزيادة في الصلاة ، كما حكي ذلك عن المحقّق اليزدي الحاج الشيخ عبد الكريم الحائرى قدس‌سره في الجمع بين مالك وملك في قراءة (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).

ثم إنّك عرفت أنّ جواز القراءة بكل واحدة من القراءات لا يستلزم جواز الاستدلال بها. ولو سلّمنا جواز الاستدلال بكلّ واحدة منها أيضا ففي موارد التعارض يحمل الظاهر على الأظهر ، ومع التكافؤ لا بدّ من الحكم بسقوطهما عن الحجيّة في مورد التعارض والرجوع إلى غيرهما من الأدلّة والأصول بحسب اختلاف المقامات.

__________________

(١) تنقيح الاصول ٣ / ١٣٤.

٥٣

ولا مجال لملاحظة المرجحات الواردة في الأخبار العلاجية ؛ لاختصاصها بالأخبار المتعارضة. نعم يؤخذ بالقدر المتيقن من القراءات أو القراءتين لو كان كما يؤخذ بها أو بهما في نفي الثالث ، كما لا يخفى.

التنبيه الثالث :

أنّه قد يتوهم وقوع التحريف في الكتاب حسب ما ورد في بعض الأخبار ، ومعه يحتمل وجود القرينة على إرادة خلاف الظاهر فيما سقط منه بالتحريف ، وهو يوجب عروض الإجمال المانع من التمسك به ؛ لأنّه يكون من باب احتمال قرينيّة الموجود ، لا من باب احتمال وجود القرينة ليدفع بأصالة عدم وجود القرينة.

واجيب عن ذلك أوّلا : بأنّ تلك المزعمة أمر موهوم لا حقيقة له ، بل هو محال وقوعا ؛ إذ القرآن قد بلغ من الأهميّة عند المسلمين في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده إلى مرتبة حفظته الصدور زائدة على الكتابة بحيث لا يمكن تحريفه حتى عن الصدور الحافظة له.

ولقد أفاد وأجاد في آلاء الرحمن حيث قال : لم يزل القرآن الكريم بحسب حكمة الوحي والتشريع والمصالح المقتضيات المتجددة آناً فآنا يتدرج في نزوله نجوما الآية والآيتان والأكثر والسورة ، وكلّما نزل هفت إليه قلوب المسلمين وانشرحت له صدورهم وذهبوا إلى حفظه بأحسن الرغبة والشوق وأكمل الإقبال وأشدّ الارتياح ، فتلقوه بالابتهاج وتلقوه بالاغتنام من تلاوة الرسول العظيم الصادع بأمر الله والمسارع إلى التبليغ والدعوة إلى الله وقرآنه ، وتناوله حفظهم ؛ بما امتازت به العرب وعرفوا به من قوة الحافظة الفطرية وأثبتوه في قلوبهم كالنقش في الحجر ، وكان شعار الإسلام وسمة المسلم حينئذ هو التجمّل والتكمّل بحفظ ما ينزل من القرآن الكريم لكي يتبصّر بحججه ويتنوّر بمعارفه وشرائعه وأخلاقه الفاضلة وتاريخه المجيد وحكمته الباهرة وأدبه العربي الفائق المعجز ، فاتخذ المسلمون تلاوته لهم حجة الدعوة ومعجز البلاغة ولسان العبادة لله ولهجة ذكره وترجمان مناجاته وأنيس الخلوة وترويج النفس ودرسا للكمال وتمرينا في التهذيب وسلّما للترقي وتدربا في

٥٤

التمدن وآية الموعظة وشعار الإسلام وسام الايمان والتقدم في الفضيلة ، واستمر المسلمون على ذلك حتى صاروا في زمان الرسول يعدّون بالألوف وعشراتها ومئاتها ، وكلهم من حملة القرآن وحفاظها وإن تفاوتوا في ذلك بحسب السابقة والفضيلة ... (١)

فاستمرّ القرآن الكريم على هذا الاحتفاء العظيم بين المسلمين جيلا بعد جيل ، ترى له في كل آن الوفاء مؤلفة من المصاحف والوفاء من الحفّاظ ، ولا تزال المصاحف ينسخ بعضها على بعض ، والمسلمون يقرأ بعضهم على بعض ، ويسمع بعضهم من بعض ، تكون الوف المصاحف رقيبة على الحفّاظ ، والوف الحفّاظ رقباء على المصاحف ، وتكون الالوف من كلا القسمين رقيبة على المتجدّد منهما ، نقول الألوف ولكنّها مئات الألوف والوف الالوف ، فلم يتفق لأمر تاريخي من التواتر وبداهة البقاء مثل ما اتفق للقرآن الكريم كما وعد الله جلّت آلاؤه بقوله في سورة الحجر (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) وقوله في سورة القيامة (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) ولئن سمعت في الروايات الشاذة شيئا في تحريف القرآن وضياع بعضه فلا تقم لتلك الروايات وزنا ، وقل ما يشاء العلم في اضطرابها ووهنها وضعف رواتها ومخالفتها للمسلمين وفيما جاءت به في مروياتها الواهية من الوهن الخ. (٢)

وقال الفاضل الشعراني قدس‌سره في كتابه (طريق السعادة) المطبوع بالفارسية : أنّ القرآن الكريم نزل على النبيّ في غضون وأثناء ٢٣ عاما ، وكان كلّما نزل شيء منه قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقراءته على المؤمنين ، وكانت تلك هي طريقته لدعوة الناس إلى الإسلام ، ولم يكن أبدا ليخفيه في الزوايا والخبايا وإذا سمعه منه المسلمون وكتبوه أو حفظوه عن ظهر قلب حملوا

__________________

(١) وزاد البلاغي قدس‌سره في ذيل الصفحة بقوله : أخرج ابن سعد وابن عساكر والطبراني وغيرهم أنّه ممن جمع القرآن اى حفظا في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبى بن كعب وأبو ايوب الانصاري وأبو الدرداء وزيد بن ثابت وسعد بن عبيد وأبو زيد وممن ختم القرآن ورسول الله حي عثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب وعبد الله بن مسعود وقرأ القرآن على عهد رسول الله معاذ وأبي وسعد وأبو زيد ، وأخرج الحاكم عن زيد بن ثابت قال : كنّا عند رسول الله نؤلّف القرآن من الرقاع.

(٢) آلاء الرحمن ١ : ١٧ ـ ١٨.

٥٥

معهم بضع سور من القرآن وذهبوا بها إلى قبائل المشركين ليدعوهم ، وعند ما هاجر المسلمون إلى الحبشة أخذوا معهم السور القرآنية التي كانت قد نزلت إلى ذلك الحين ، ومنها سورة مريم التي تلوها على مسامع النجاشى ملك الحبشة ، وعلى هذا المنوال انتشرت سور القرآن الكريم في جزيرة العرب في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وانتشر الإسلام والقرآن في تلك المنطقة (السعودية اليوم) خلال حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لقد كان من الواجب على كل مسلم أن يقرأ في الصلاة سورة فاتحة الكتاب بالإضافة إلى سورة أخرى عن ظهر قلب ، وقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (ليؤمّكم أقرأكم) ومعناه أنّ إمام كل قوم هى الذي يحفظ من القرآن أكثر من الباقين ، وبهذا الأسلوب كان النبيّ يشجّع الناس على حفظ القرآن ، ونتيجة لذلك فإنّ أي سورة في سور القرآن كان يحفظها او يدوّنها عدد غير محصور من المسلمين في الجزيرة ، مثلا سورة يس يحفظها عشرة آلاف وسورة الرحمن عشرون الف وسورة الحمد بضعة ملايين كما ان السور الكبيرة كالبقرة كان لها حفاظ أيضا ولم تكن هناك سورة إلّا ويحفظها عدد غير قليل من الناس وقد تولّي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه وبأمر عن جانب الله عزوجل مهمّة تشخيص الآيات التي تتركب منها السور وأنّ السورة تتألف من كم آية ، وان هذه الآية او تلك تابعة لأية سورة ، وكان لكلّ سورة اسم خاص في زمان النبيّ تعرف به ، وعند ما كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول سورة طه أو سورة مريم أو سورة هود فإنّ الناس كانوا صلى‌الله‌عليه‌وآله يعرفون أيّة سورة يقصد ، مثلا روي عن النبي انه كان يقول شيبتنى سورة هود) وكان الناس يعلمون عن أي سورة يتحدث وذلك لأنّ آلاف الأشخاص كانوا قد حفظوا هذه السورة أو كتبوها في الرقاع التي عندهم. كل هذه الامور ثابتة بالتواتر ولا مجال للشك فيها.

وحينما كان المسلمون يحفظون القرآن على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كانوا يتسامحون في ألفاظه ، مثلا لم يكونوا يجوّزون لأنفسهم الإتيان بكلمة دنت بدلا من كلمة (اقتربت) لمكان الترادف بين اللفظين ، وقد ظهر علم النحو إلى الوجود فى القرن الأول الهجري من أجل ضبط حركات القرآن ، وأنّ الدقّة التي تميّز بها الصحابة والتابعون والقرّاء السبعة في أداء

٥٦

الكلمات لم تكن وليدة ساعتها بل هي استمرار لذاك المنهج الذي كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يتّبعه في التدقيق بضبط الحروف ، والدليل الواضح على هذا المطلب هو الحروف المقطّعة أوائل السور ، مثلا توجد (الر) في عدة مكانات و (المر) في مكان و (المص) في مكان وطس في مكان و (طسم) في مكان و (حم) في عدة أماكن و (حمعسق) في مكان ، وهو ممّا يدلّ على عناية فائقة بالحروف بحيث لم يكونوا يجوزون تغييرها ولا حتى تقديمها وتأخيرها ... لقد حفظوا إلينا القرآن حرفا بحرف وكلمة بكلمة إلى عهدنا هذا وقد حتم الباري تبارك وتعالى حفظ كتابه على نفسه (وإنّ علينا جمعه وقرآنه) وقد أنجز الله وعده. وقد بلغ حرص المسلمين على توفّي الدقة في ضبط القرآن أنّهم إذا عثروا في المصاحف القديمة للمصدر الأوّل على كلمة مكتوبة على خلاف القواعد المعروفة للإملاء فإنّهم يبقونها على حالها في المصاحف الجديدة ولا يتجرّءون على تغييرها ، مثلا تكتب واو الجماعة بزيادة ألف بعدها وقد روعيت هذه القاعدة الاجلائية حتى في مصاحف عصر الصحابة فيما عدا كلمة (جاؤ) و (فاؤ) و (باؤ) و (سعو في آياتنا) في سورة سبأ (عتو عتوا) في الفرقان و (الذين تبوّءوا الدار) في سورة الحشر حيث لم ترد فيها ألف بعد الواو ، وقد أبقاها المتأخرون على حالها ولم يضيفوا لها ألفا لكي يتبين لنا مدى أمانتهم ودقتهم في ضبط القرآن والخوف من تحريفه ، ومثل ذلك أنّهم كتبوا بالواو ما حقّه ـ حسب القواعد ـ أن يكتب بالألف مثل (بلاء مبين) في سورة الدخان ، كما أنّ التاء في آخر الكلمة تكتب عادة على هيئة (هاء) نظير (سنة) و (رحمة) ولكن في مصاحف عهد الصحابة كتبت بعض التاءات من هذا القبيل على هيئة (ت) طويلة خلافا للمعهود ومع ذلك أبقي عليها كما هي في المصاحف المتأخرة ذلك مثل كلمة (رحمت) بالتاء الطويلة في سورة البقرة والأعراف وهود ومريم والروم والزخرف وكلمة (نعمت) في البقرة وآل عمران والمائدة وابراهيم والنحل ولقمان وفاطر والطور وكلمة (سنت) في الأنفال وفاطر وغافر ، بينما كتبت على هيئة (ة) في سائر الأمكنة. وكذلك (كلمت ربّك بالحسنى) و (فنجعل لعنت الله) و (الخامسة أن لعنت الله) و (شجرت الزقوم) و (قرت عين) و

٥٧

(جنت نعيم) و (بقيت الله خير) و (امرأت) كلما جاءت مع زوج مثل (وامرأت فرعون) و (معصيت الرسول) الواردة في قد سمع (سورة المجادلة) حيث كتبت بالتاء الطويلة ايضا.

ومثل ذلك كلمة شيء كتبت بشين بعدها ياء في جميع الموارد ما عدا سورة الكهف في قوله تعالى (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ) حيث توسطت الالف بين الشين والياء ، وقد حافظوا على هيئتها ايضا وكذلك كلمة لا في (لأاذبحنه) و (ولا واضعوا) و (لا الى الجحيم) حيث زيدت ألف بدون ضرورة إلّا لمتابعة الأوّلين وأيضا أوردت (ياء) زائدة في قوله (نباى المرسلين) وفي (آناى الليل) في سورة طه و (تلقاى نفسى) في سورة يونس و (من وراى حجاب) في الشورى و (ايتاى ذي القربى) في النحل و (بلقاى ربهم ولقاى الآخرة) في سورة الروم ، في حين أنّ (الياء) هذه لم ترد في نظائر هذه العبارات ومن المدهش أنّ عبارتي (بأييكم المفتون) و (بنيناها بأييد) كتبت فيها الياء بركزتين بدلا في ركزة واحدة ومع ذلك فقد حافظوا عليها فى النسخ الجديدة من المصاحف على حدّ ما كانت عليه في المصاحف القديمة وموارد ذلك كثيرة جدا ليس هنا محل تفصيلها.

ومن المؤسف جدا أنّ جملة من المصاحف المطبوعة فى إيران لا تراعى فيها هذه النكات جهلا أو مسامحة ، غير أنّ سائر المسلمين يحملون ذلك على العمد والعناد ـ نعوذ بالله ـ ثم إنّ هنا الضبط والدقة لم تكن مقتصرة على الكلمات بل تشمل ايضا أداء الحروف والحركات فمثلا قرأ حفص قوله تعالى (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) من سورة الفرقان بإشباع الهاء المسكورة في (فيه) في حين لم يشبع في أمثالها ، بينما قرأها ابن كثير بالإشباع جميعا وفي مقابل ذلك قرأ (عليه الله) فى سورة الفتح و (انسانيه الشيطان) في سورة الكهف بضم الهاء فيما كان من حقّهما الكسر كنظائرهما ، والحاصل أنّ هذه الموارد كثيرة في علم القراءة مما يدلّ على مدى عناية الناس بضبط القرآن الكريم من زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يومنا هذا ، فيكون من المحال احتمال أن يقطرف إليه التغيير أو التحريف أو الزيادة والنقصان. (١)

__________________

(١) راه سعادت : ١٣٦ ـ ١٣٣

٥٨

وقال السيد المحقق البروجردي قدس‌سره : من الواضحات أنّ المسلمين كانوا يهتمّون بحفظ القرآن وكان من أهمّ الامور عندهم حفظه وتلاوته. وقد ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبار في ثواب تلاوة جميعه أو بعض سوره وفي بيان خواصها. وقد روي حكاية قراءة «معاذ» حين إمامته سورة البقرة في صلاته فيظهر من ذلك أنّه كان في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله منظّمة مسوّرة محفوظة للمسلمين فكيف يمكن وقوع التحريف فيه بمرآهم ومنظرهم مع كمال عنايتهم به بكثرتهم.

نعم لو كان القرآن مكتوبا في أوراق خاصة من دون أن يكون للمسلمين اطلاع تفصيلي عليه لأمكن تضييعه. هذا مع أنّه ورد في الخطب والروايات لا سيّما خطب نهج البلاغة التحريص والترغيب على العمل بالقرآن وحفظه وتعظيمه وبيان شأنه فلو كان محرّفا لما صدرت عنهم هذه الأخبار الكثيرة في شأنه. (١)

ولذلك صرح أعاظم الأصحاب من السلف إلى الخلف بأنّ القرآن محفوظ من دون نقص وزيادة.

منهم الصدوق شيخ المحدثين المعتني بالروايات حيث قال في كتاب الاعتقاد ، اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله الله على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله هو ما بين الدفّتين وليس بأكثر من ذلك ومن نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب.

ومنهم السيد المرتضى حيث قال إنّ من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم فإنّ الخلاف فى ذلك مضاف إلى قوم من اصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنّوا صحتها.

ومنهم الشيخ الطوسي قدس‌سره حيث قال في أوّل التبيان أمّا الكلام في زيادته ونقصه فممّا لا يليق به أيضا لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها والنقصان فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا وهو الّذي نصره المرتضى وهو الظاهر

__________________

(١) نهاية الاصول : ١ / ٤٨٢.

٥٩

في الروايات غير أنّه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شيء منه من موضع إلى موضع طريقها الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا والأولى والأعراض عنها.

ومنهم الطبرسى في مجمع البيان.

ومنهم السيد القاضي نور الله في كتابه مصائب النواصب حيث قال ما نسب إلى الشيعة الإمامية من وقوع التغيير في القرآن ليس مما قال به جمهور الإمامية إنّما قال به شرذمة قليلة منهم لا اعتداد بهم فيما بينهم إلى غير ذلك من التصريحات. (١)

ثانيا : بأنّ الأخبار المروية المستدل بها لتلك المزعمة لا اعتبار بها إعراض الأصحاب عنها وضعفها سندا ودلالة وتناقض مضمونها ولقد أفاد وأجاد الشيخ البلاغي قدس‌سره حيث قال حول تلك الروايات التي استدل بها على النقيصة كثر أعداد مسانيدها بأعداد المراسيل عن الأئمة صلى‌الله‌عليه‌وآله في الكتب كمراسيل العياشي وفرات وغيرها مع أنّ المتتبع المحقّق يجزم بأنّ هذه المراسيل مأخوذة من تلك المسانيد وفي جملة من الروايات ما لا يتيسّر احتمال صدقها.

ومنها ما هو مختلف باختلاف يئول به إلى التنافي والتعارض وهذا المختصر لا يسع بيان النحوين الأخيرين. هذا مع أنّ القسم الوافر من الروايات ترجع أسانيده إلى بضعة أنفار وقد وصف علماء الرجال كلّا منهم إمّا بأنّه ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفو (٢) الرواية وإمّا بأنّه مضطرب الحديث والمذهب يعرف حديثه وينكر ويروى عن الضعفاء وإمّا بأنّه كذّاب متّهم لا استحلّ أن اروى من تفسيره حديثا واحدا وأنّه معروف بالوقف وأشدّ الناس عداوة ، للرضا عليه‌السلام وإمّا بأنّه كان غاليا كذّابا وإمّا بأنّه ضعيف لا يلتفت اليه ولا يعوّل عليه ومن الكذّابين وإمّا بأنّه فاسد الرواية يرمى بالغلوّ ومن الواضع أنّ أمثال هؤلاء لا تجدى كثرتهم شيئا.

__________________

(١) آلاء الرحمن : ١ ، ٢٦ ـ ٢٥.

(٢) اى مطرود

٦٠