عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

الشرعي التكليفي حيث يشترط فيه الاختيار لا محالة ومن هنا متى ما انطبق أحد العناوين المذكورة على متعلق حكم تكليفي تحميلي ارتفع (فمثل الصلاة الذي هو متعلق للوجوب وهو حكم تكليفي يكون العمد والاختيار دخيلا في ترتب الوجوب عليه).

وإمّا من وقوع الفعل موضوعا لا متعلقا إلّا أنّه بنفسه يكون متضمنا للقصد والاختيار كما في الأفعال الإنشائية كالمعاملات (فمثل عقد البيع موضوع لوجوب الوفاء والعقد يكون تابعا للقصد والاختيار كما لا يخفى).

وإمّا من وقوع الفعل موضوعا لحكم تكليفي تحميلي يستظهر من دليل ترتيبه إنّه إنّما رتب عقوبة ومجازاة مما يكون ظاهرا في دخل الاختيار والعمد في ترتيبه كما في ترتيب الكفارة على الإفطار فيرتفع بالإكراه مثلا.

وشيء من ذلك غير صادق على مثل النجاسة بالملاقاة أو الجنابة بموجبها أو الضمان بالإتلاف أو الغسل بمسّ الميت. (١)

ولقد أفاد وأجاد ولكن الإتلاف خارج عن مورد حديث الرفع من جهة كون الحديث للامتنان المعلوم أنّ رفع الضمان ليس كذلك فتدبر جيدا وكيف ما كان فتحصّل إنّ المرفوع هي أحكام أفعال يكون للاختيار والعمد دخل فيها وأما ما لا دخل لهما فيها كالنجاسة بالملاقاة أو الجنابة بموجبها أو الضمان بالإتلاف فلا يشملها حديث الرفع.

وبالجملة إنّ اللازم في تطبيق حديث الرفع أمور!

أحدها : أن يكون المرفوع هو الحكم لا الموضوع والفعل ولا فرق في الحكم بين أن يكون تكليفيا أو وضعيا.

وثانيها : أن يكون لفعل المكلف دخل في ترتب الحكم.

وثالثها : أن يكون للاختيار دخل في موضوع الحكم أو متعلقه فالمرفوع هو حكم فعل أو ترك من الأفعال أو التروك الاختيارية للمكلف لا حكم وجود شيء أو عدمه من دون دخل لفعل المكلف وتركه أو اختياره فيه.

__________________

(١) مباحث الحجج ٢ : ٥٥.

٤٤١

ورابعها : أن يكون رفع الحكم امتنانا على الامة فما لا امتنان فيه بالنسبة إلى الامة كرفع الضمانات عند عروض بعض العناوين المذكورة لا يشمله حديث الرفع.

التنبيه التاسع :

إنّه ذهب شيخ مشايخنا في الدرر فيما إذا شك في مانعية شيء للصلاة إلى التفصيل بين الشبهة الحكمية والموضوعية في الأجزاء وعدمه.

حيث قال لو شك في مانعية شيء للصلاة فالحديث بناء على حمله على تمام الآثار ينفع لصحة صلاته ما دام شاكا وإذا قطع بكونه مانعا يجب عليه إعادة تلك الصلاة في الوقت وقضاؤها في خارجه كما هو مقتضى القاعدة في الأحكام الظاهرية وأما لو شك في انطباق عنوان ما هو مانع على شيء فلا يبعد ان يقال بالاجزاء وإن علم بعد الفعل بالانطباق كما لو صلى مع لباس شك في أنه مأكول اللحم أو غيره مثلا إذ مقتضى رفع الآثار عن هذا المشكوك تخصيص المانع بما علم أنه من غير الماكول ولا يمكن هذا القول في الأول إذ يستحيل تخصيص المانع بما إذا علم مانعيته فتدبر جيدا. (١)

وأجاب عنه سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره بأنّ المستحيل إنّما هو جعل المانعية ابتداء في حق العالم بالمانعية لاستلزامه الدور وأمّا جعلها ابتداء بنحو الإطلاق ثم إخراج ما هو مشكوك مانعيته ببركة حديث الرفع بأن يرفع فعلية مانعيته في ظرف مخصوص فليس بمستحيل بل واقع شائع.

وأمّا الاكتفاء بما أتى به المكلف وسقوط الإعادة والقضاء فقد مرّ بحثه تفصيلا وخلاصته إنّ حكومة الحديث على الأدلة الأولية يقتصر قصر المانعية على غير هذه الصورة التي يوجد فيها إحدى العناوين المذكورة في الحديث وعليه فالآتي بالمأمور به مع المانع آت لما هو تمام المأمور به ولازمه سقوط الأمر وانتفاء القضاء. (٢)

__________________

(١) الدرر : ٤٤٥ ـ ٤٤٦.

(٢) تهذيب الاصول ٢ : ١٧٢.

٤٤٢

ولا يخفى عليك بعد ما عرفت من أنّ حديث الرفع كما يجري في المانعية فكذلك يجري في الشرطية والجزئية انّه لا وجه لتخصيص البحث بالمانعية كما يظهر من تهذيب الاصول بل يجري البحث المذكور في الشرطية والجزئية حرفا بحرف فلا وجه للتفصيل مطلقا سواء كان في المانعية أو غيرها وبقية الكلام في محله.

أمّا من السنّة فبروايات.

٤٤٣

الخلاصة

حديث رفع ما لا يعلمون

منها : صحيحة حريز بن عبد الله عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «رفع عن أمّتى تسعة الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة»

بدعوى أنّ الحديث يدل على رفع الإلزامات المجهولة عن الأمّة في مرحلة الظاهر ومع الرفع والترخيص الظاهري لا مجال لوجوب الاحتياط ومع عدم وجوب الاحتياط لا مورد للمؤاخذة والعقاب.

وتوضيح ذلك يتوقّف على تقديم امور :

الأمر الأوّل :

أنّ قاعدة الاشتراك بين العالم والجاهل في الأحكام تصلح للقرينيّة على أنّ المرفوع ليس هو الحكم الواقعي بوجوده الواقعي وإلّا لزم أن يكون الحكم الواقعي مختصّا بالعالمين وهو ينافي قاعدة الاشتراك وحسن الاحتياط.

وعليه فالمرفوع هو الحكم الواقعي في مرتبة الظاهر لا بوجوده الواقعي ومعناه هو الترخيص في تركه وهو لا يساعد مع وجوب الاحتياط.

الأمر الثاني :

أنّ بعد ما عرفت من أنّ الرفع مسند إلى نفس الحكم الواقعي في مرحلة الظاهر لا وجه لإسناد الرفع إلى وجوب الاحتياط كما ذهب إليه الشيخ الأعظم قدس‌سره مع أنّه خلاف الظاهر.

نعم عدم وجوب الاحتياط من لوازم رفع الحكم الواقعي في مرحلة الظاهر.

الأمر الثالث :

أنّ المرفوع إذا عرفت أنّه نفس الحكم المجهول في مرحلة الظاهر فتقدير المؤاخذة أو الأثر المناسب أو جميع الآثار خلاف الظاهر لأنّ التقدير بأحد الأنحاء المذكورة بدلالة الاقتضاء

٤٤٤

متفرّع على عدم إمكان إسناد الرفع إلى نفس ما لا يعلمون وغيره ومع وضوح إمكانه فالمرفوع هو الحكم الواقعي في مرحلة الظاهر شرعا كنفي الضرر في حديث لا ضرر فإنّه أيضا نفي تشريعي بمعنى أنّ الضرر من أيّ جهة كان محكوم بالنفي شرعا ومقتضى رفع الحكم شرعا هو رفع تنجيزه.

والتحقيق أنّ الرفع في المقام لا يحتاج إلى ادّعاء وعناية أصلا فإنّ الرفع رفع عن الأمّة ومعنى رفع الأحكام عن الأمّة رفع ثقلها عنهم وثقلها هو لزومها وتنجيزها وإسناد رفع إلى اللزوم والتنجيز حقيقي ولا يحتاج فيه إلى العناية والادّعاء وهكذا الأمر بالنسبة إلى ساير الفقرات من الرواية أي رفع ما اضطرّوا إليه وما استكرهوا وغيرهما مع قيد عن الأمّة.

إذا عرفت هذه الامور فاتّضح أنّ حديث الرفع يدلّ على أنّ الإلزامات المجهولة الموجودة في الواقع مرفوعة عن الأمّة في مرحلة الظاهر.

ومعنى رفعها هو رفع ثقلها ولا منافاة بين وجود إلزام واقعا وبين الترخيص الظاهري لإمكان الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بذلك ومع رفع الحكم في مرحلة الظاهر لا يجب الاحتياط ومع عدم وجوب الاحتياط لا مجال للعقاب والمؤاخذة.

ثمّ إنّ حديث الرفع لا يختصّ بالشبهات الموضوعية بل يعمّ الشبهات الحكمية لإطلاق الموصول في رفع ما لا يعلمون.

ودعوى أنّ أخوات فقرة رفع ما لا يعلمون يمكن أن تكون قرينة لاختصاص رفع ما لا يعلمون بالشبهات الموضوعيّة لأنّ رفع ما اضطرّوا إليه أو رفع ما استكرهوا عليه لا يشمل غير الشبهات الموضوعية.

مندفعة بأنّ عموم الموصول إنّما يكون بملاحظة سعة متعلقه وضيقه فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «ما اضطرّوا إليه» اريد منه كل ما اضطرّ إليه في الخارج غاية الأمر لم يتحقّق الاضطرار بالنسبة إلى الحكم فيقتضى اتحاد السياق أن يراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «ما لا يعلمون» أيضا كل فرد من أفراد هذا العنوان ألا ترى أنّه إذا قيل ما يؤكل وما يرى في قضية واحدة لا يوجب انحصار الأوّل في بعض الأشياء تخصيص الثاني به.

٤٤٥

تنبيهات حديث الرفع

التنبيه الأوّل :

أنّ الرفع في حديث الرفع حيث إنّه رفع عن الأمّة يكون ظاهرا في رفع الثقل عن الأمّة ومن المعلوم أنّ رفع الثقل عن الأمّة ممّا يصلح للامتنان عليهم.

والسبب في هذا الرفع هي العناوين العارضة المذكورة في الحديث من الجهل والخطأ والنسيان والإكراه والاضطرار وعدم الطاقة والمرفوع هي الأحكام الثابتة في موارد عروض هذه العناوين وأمّا أحكام نفس هذه العناوين كوجوب سجدتى السهو وغيره ممّا يترتب على نفس هذه العناوين فليست مرتفعة أصلا.

وعليه فالمراد من رفع الخطأ والنسيان مثلا هو رفع أحكام ما أخطئوا أو نسوا فيه لا رفع حكم الخطأ والنسيان.

ثمّ إنّ الرفع حيث يختصّ برفع كلّ حكم ثقيل على الأمّة لا يشمل ما لا يكون رفعه رفع الثقيل وهذا هو وجه الفرق بين فعل حرام اضطرّ إليه وبين معاملة اضطرّ إليها فإنّ حديث الرفع يجري في الأوّل دون الثاني لأنّ رفع الحرمة في الاوّل امتنانى دون رفع الصحّة في الثاني لأنّ صحّة الثاني ليست بثقيلة بل الأمر بالعكس بخلاف بيع المكره فإنّ صحّته ثقيلة عليه ورفع صحته يكون امتنانيا لا يقال : إنّ الامتنان نكتة الحكم لا علّته وعليه فلم لم يؤخذ بإطلاق حديث الرفع في غير موارد الامتنان.

لأنّا نقول إنّ تقييد رفع التسعة بقوله عن الأمة ظاهر في رفع الثقل عنهم وهو امتنان بظاهر الكلام ولذلك لا يشمل حديث الرفع غير موارد الامتنان.

هذا بخلاف حديث لا ضرر فإنّ الامتنان فيه من باب نكتة الحكم لا الظهور اللفظي ولذا يقع البحث عن شموله بالنسبة إلى موارد الامتنان فيها وعدم شموله.

ويتضرّع عليه اختصاص المرفوع بالآثار التى لا يلزم من رفعها خلاف الإرفاق والامتنان على المكلّف وعليه فلا يجرى إذا شكّ في شرط في أصل التكليف كالاستطاعة في

٤٤٦

الحج لأنّ رفعه يقتضي وضع التكليف الثقيل على المكلّف وهو خلاف الإرفاق بخلاف إذا شكّ في شرائط الواجب فإنّ رفعه فيها يوجب الإرفاق كما لا يخفى.

التنبيه الثاني :

أنّ الرفع في حديث الرفع ظاهر في معناه وهو إزالة الشيء عن صفحة الوجود بعد حصوله وتفسيره بالدفع خلاف الظاهر وحيث إنّ الحكم مع قاعدة الاشتراك بين العالم والجاهل لا يمكن رفعه فالرفع متعلّق بإلزامه في مرحلة الظاهر وهكذا الأمر في سائر الفقرات فإنّ الرفع متعلّق بإلزام أحكام مواردها.

لا يقال : إنّ الخطاب لا يشمل الناسي والعاجز ونحوهما فلا بدّ أن يكون الرفع بالنسبة إليهم بمعنى الدفع لا الرفع.

لأنا نقول : نمنع ذلك بل الرفع في الموارد المذكورة بمعنى الرفع أيضا لأنّ الخطابات شاملة لهم بحسب الإرادة الاستعمالية وهذه الخطابات قابلة للرفع وإن كان الرفع بالنسبة إلى الإرادة الجديّة دفعا.

لا يقال : إنّ الحسد والطيرة والوسوسة لا حكم لها حتى يكون الرفع بالنسبة إليها مستعملا في معناه بل اللازم أن يكون الرفع فيها ، بمعنى الدفع.

لأنا نقول : نمنع ذلك بل الرفع في الموارد المذكورة بمعنى الرفع ايضا لأنّ الخطابات شاملة لهم بحسب الإرادة الاستعمالية وهذه الخطابات قابلة للرفع وإن كان الرفع بالنسبة إلى الإرادة الجديّة دفعا.

لا يقال : إنّ الحسد والطيرة والوسوسة لا حكم لها حتى يكون الرفع بالنسبة إليها مستعملا في معناه بل اللازم أن يكون الرفع فيها بمعنى الدفع.

لأنّا نقول إنّ الفقرات الثلاثة من الأفعال القلبية وبهذا الاعتبار يمكن تعلّق الحرمة بها فالحسد بمعنى تمنّي زوال النعمة عن الغير فعل من الأفعال القلبية ويمكن الحكم بحرمته وهكذا الوسوسة والطيرة والشاهد عليه كون هذه الأفعال محكومة بالأحكام في الشرائع

٤٤٧

السابقة ومقتضى عمومها بحسب الزمان أن يكون حكمها باقيا في عامة الأزمنة وبحسب هذا الاعتبار يكون الرفع بالنسبة إليها بمعناه الحقيقي أي الإزالة.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ مع وجود الإطلاقي والاستعمالي لا حاجة إلى اعتبار الوجود سابقا ليكون الرفع بمعناه الحقيقي كما لا يخفى.

لا يقال : إنّ الحسد والطيرة والوسوسة في التفكر في الخلق ليست اختيارية حتى يكون لها أحكام.

لأنّا نقول إنّ هذه الامور وإن كانت بنفسها غير اختيارية ولكنّها باعتبار مباديها كانت تحت الاختيار لإمكان التحرّز عنها باختيار مبادي أضدادها فلا مانع من أن يتعلّق بها أحكام بهذا الاعتبار.

التنبيه الثالث :

أنّه لا إشكال في قبح مؤاخذة الناسي والعاجز والمخطي بحكم العقل وعلى هذا يرد على الرواية أمران أحدهما أنّ هذا لا يختصّ بالأمة المرحومة لأنّ الحكم العقلي لا يختصّ بزمان دون زمان.

وثانيهما أنّ الرواية ظاهرة في الامتنان مع أنّه لا منّة في رفع ما هو قبيح عند العقل.

يمكن أن يقال : إنّا نمنع استقلال العقل بقبح المؤاخذة في الناسي والمخطي مع كون مبادي أضدادهما تحت الاختيار فإنّ مع شرك التحفظ لا يقبح المؤاخذة فإذا لم تكن المؤاخذة قبيحة أمكن تصور الامتنان عند رفع الإلزام والمؤاخذة عند النسيان والخطأ.

وهكذا العقل لا يستقلّ بقبح المؤاخذة فيما لا يتحمل عادة لا فيما لا يقدر عليه أصلا فرفع المؤاخذة فيما لا يتحمّل عادة ممكن ويكون امتنانيا.

التنبيه الرابع :

أنّه لا فرق بين أن يكون متعلّق الحكم هو الفعل أو الترك اذ أيّ واحد منهما فله حكم وأثر ثقيل يكون قابلا للرفع وعليه فلو نذر شرب ماء الفرات فأكره على الترك فالإكراه

٤٤٨

موجب لرفع حكم الترك وهو الحنث من الكفارة فلا وجه لتخصيص المرفوع بآثار الأمور الوجودية لأنّ حكم الترك كحكم الفعل حكم حقيقي ثقيل وقابل للرفع ثمّ إنّ المرفوع في مثل رفع النسيان والخطأ نفس النسيان ونفس الخطأ ويؤول نفيهما مع أنّهما قد يقعان كثيرا كناية عن فرض عدم صدورهما وجعل خطأه ونسيانه بمنزلة العدم فكأنّه فرضه أتيا بالواجب وتاركا للمحرم فيما إذا اترك الواجب أو أتى نسيان أو خطأ وعلى هذا نقول وإن كان ظاهر الرفع في قبال الدفع هو جعل الموجود بمنزلة المعدوم إلّا أنّ المرفوع يكون نفس صفة النسيان والخطأ الموجودين إدّعاء باعتبار رفع الفعل أو الشرك الصادر عن المكلف عن نسيان وخطأ وجعله بمنزلة العدم.

وعليه فكما يستفاد من الحديث الرفع في بعض الأحيان فكذلك يستفاد منه الوضع في بعضها الآخر فلا موجب لاختصاص الحديث برفع الأمور الوجودية.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه لا وجه لجعل المرفوع بنفس المنسي بعد عدم إمكان أن يكون المرفوع هو نفس النسيان لشمول نفي النسيان لكلّ ما يكون ناشئا عن النسيان ولو لم يكن بنفسه منسيّا.

فمن هذا يعلم أنّه لا يختصّ المرفوع بالحكم المتعلق بالشيء أو الحكم الترتب على الشيء بل يشمل ما يكون ناشئا عن الخطأ والنسيان ومرتبطا بهما بنحو من الأنحاء لأنّ ذلك هو مقتضى فرض النسيان أو الخطأ الموجود بمنزلة العدم من دون تقييد وتخصيص فلو فرض أحد يضطر أو يكره على التكلم في الصلاة فحرمة القطع مرفوعة بالاضطرار أو الإكراه بل يرتفع لازم التكلم من الإعادة والفضاء المترتبين على عدم الإتيان بالمأمور به أيضا لأنّ منشأهما هو الاضطرار أو الإكراه فإذا ارتفع الاضطرار أو الإكراه ارتفع لوازمهما أيضا لأنّ منشأهما هو الاضطرار أو الإكراه فإذا ارتفع الاضطرار أو الإكراه ارتفع لوازمهما أيضا.

التنبيه الخامس :

أنّه لو نسي شرطا أو جزءا من المأمور به هل يمكن تصحيح المأتي به بحديث الرفع أولا : ذهب بعض الأعاظم إلى الثاني مستدلّا بأنّ الحديث لا يشمل الامور العدمية يمكن الجواب

٤٤٩

عنه كما مرّ بأنّه لا وجه لتخصيص المرفوع بآثار الامور الوجودية لأنّ حكم الترك كحكم الفعل ثقيل وقابل للرفع فإعادة الواجب أو قضائه من ناحية نسيان الجزء أو الشرط ثقيل ويكون مرفوعا.

وعليه فحديث الرفع حاكم على أدلّة المركّبات أو على أدلّة اعتبار الأجزاء والشرائط ومقتضاه هو اختصاص الأجزاء والشرائط بغير حال النسيان ويكون تمام الأمور به في حق المكلّف عامة الأجزاء والشرائط غير المنسية وعليه فالمأتى به حال النسيان موافق للمأمور به ومع المطابقة يصح المأتي به كما لا يخفى.

ثمّ إنّ مقتضى ما عرفت من إمكان تصحيح المأتي به بحديث الرفع هو عدم الفرق بين كون النسيان مستوعبا لجميع الوقت وعدمه إذ مع شمول حديث الرفع يكون المأتي به موافقا للمأمور به ونتيجة ذلك هو سقوط الأمر المتعلق بالمأمور به فلا يبقى أمر حتى يجب إعادته فضلا عن قضائه نعم لو دلّ دليل خاصّ على لزوم الإعادة لزم تخصيص حديث الرفع. هذا كلّه بالنسبة إلى العبادات وأمّا المعاملات فيمكن أن يقال : إنّ النسيان مثلا إن تعلّق بالسبب المقوّم أو الشرط المقوّم ممّا يكون قوام العقد به عرفا كإرادة تحقّق معناه فلا ريب في بطلان المعاملة إذ ليس هنا عقد عرفا حتى يتّصف بالصحّة ظاهرا.

وإن تعلّق بشرط من الشرائط الشرعيّة لكون العقد عربيا فلا إشكال في إمكان تصحيحه بحديث الرفع فإنّ العقد محقّق قطعا في نظر العرف فمع حكومة حديث الرفع وسقوط الشرط المذكور عن الشرطية يصير العقد الصادر عقدا مؤثّرا فلا تغفل.

التنبيه السادس :

أنّه لا اختصاص لحديث الرفع بالأحكام التكليفية بل يعمّ الأحكام الوضعيّة فكما أنّ حديث الرفع يرفع الحرمة والوجوب فكذلك يرفع المفطريّة ونحوهما وعليه فلو أكره على إيجاد المفطر فلا يوجب بطلان الصوم وذلك لأنّ المفطريّة من الأحكام المجعولة لمثل الأكل ومقتضى إطلاق رفع ما استكرهوا عليه هو رفع المفطرية بالإكراه وحيث إنّ حديث الرفع

٤٥٠

حاكم بالنسبة إلى الأدلة الاوّلية يوجب ذلك تخصيص المفطرية بحال غير الإكراه وعليه فلا يسقط الأمر المتعلّق بالمجموع من التروك في باب الصوم ومع عدم السقوط فالمأتي به موافق للمأمور به ومع الموافقة لا مجال لدعوى الملازمة بين ترك المأمور به ولزوم القضاء لعدم تحقّق موضوعه وهو ترك المأمور به.

لا يقال : إنّ الموافقة والمخالفة والصحّة والفساد ليست من الأمور الجعليّة حتى تكونا قابلتين للرفع والوضع.

لأنّا نقول إنّ الموافقة والمخالفة للمأمور به وإن لم تكونا مجعولتين ولكنّهما قابلتان للرفع والوضع بسبب إمكان وضع منشأهما ورفعه.

ودعوى أنّ الإكراه في العبادات كالإكراه في المعاملات فكما أنّ الإكراه في المعاملات في الأجزاء أو الشرائط يوجب البطلان فكذلك في العبادات.

مندفعة بوضوح الفرق بينهما فإنّ مقتضى كون حديث الرفع مختصّا بموارد الامتنان هو رفع ثقل لزوم المعاملة ونفوذها بسبب الإكراه لأنّ اللزوم خلاف الامتنان ولذا يحكم ببطلان المعاملات إذا أكره عليها. هذا بخلاف باب العبادات فإنّ الحكم بلزوم الإعادة أو القضاء عند الإكراه خلاف الامتنان فالفارق هو اختلاف الموارد في الامتنان وعدمه.

فتحصّل أنّه يجوز الأخذ بعموم الحديث في الأحكام الوضعية أيضا ما لم تكن قرينة على الاختصاص أو التخصيص ولكنه محلّ تأمّل لعدم ثبوت العمل بإطلاق حديث الرفع.

التنبيه السابع :

أنّه ربّما يفصل بين الإكراه على إيجاد المانع الشرعي وبين الإكراه على ترك الجزء أو الشرط بأنّه لو تعلّق الإكراه على إيجاد مانع شرعي فإن كان العاقد مضطرا اضطرارا عاديا أو شرعيا لإيجاد العقد والمكره يكرهه على إيجاد المانع فالظاهر جواز التمسّك به لرفع مانعية المانع في هذا الظرف وإن لم يكن مضطرا للعقد فالظاهر عدم صحّة التمسّك لعدم صدق الإكراه مع إمكان التفصّي عنه.

٤٥١

ولو تعلّق الإكراه على ترك الجزء والشرط فإن كان مضطرا في أصل العقد عادة أو شرعا فمحصّل المختار فيه عدم جريان الحديث لرفعهما في هذه الحالة لأنّ الإكراه قد تعلّق بترك الجزء أو الشرط وليس للترك بما هو أثر شرعي قابل للرفع غير البطلان ووجوب الإعادة وهو ليس أثرا شرعيا بل من الامور العقليّة فإنّ ما يرجع إلى الشارع ليس إلّا جعل الجزئية أو الشرطية تبعا أو استقلالا وأمّا إيجاب الإعادة والقضاء بعد عدم انطباق المأمور به على المأتي به فإنّما هو أمر عقلي يدركه هو عند التطبيق وعدمه.

ويمكن الجواب بأنّ منشأ هذا التفصيل هو زعم لزوم تقدير الأثر في حديث الرفع وأمّا على ما عرفت من عدم الحاجة إلى التقدير فلا وجه له لأنّ مفاد حديث الرفع أنّ الإلزامات المجهولة أو المنسية أو المكره عليها أو المضطر إليها رفعت ثقلها بعروض هذه الطواري ومن المعلوم أنّ التدارك والإعادة ثقيل على المكلّفين وهما من لوازم بقاء الإلزامات المذكورة ومقتضى حديث الرفع هو رفع ثقل هذه الإلزامات به منها بقاء ومعنى ذلك عدم وجوب التدارك والإعادة من دون فرق بين النسيان والإكراه ومن دون تفاوت بين كون الإكراه على ترك الجزء أو الشرط وبين الإكراه على إيجاد المانع إذ الحديث يعمّ الجميع.

ولا حاجة إلى تقدير الأثر الشرعي حتى يقال إنّ وجوب الإعادة ليس أثرا شرعيّا في حدّ نفسه ولا أثرا مجعولا لبقاء الأمر الأوّل بل هو أمر عقلي منتزع يحكم به إذا أدرك مناط حكمه وإن أمكن الجواب عنه بكفاية كون وضع منشئه ورفعه بيد الشارع فالأقوى هو عموم حديث الرفع وعدم صحة التفصيل المذكور فلا تغفل.

التنبيه الثامن :

أنّ المرفوع في حديث الرفع هي أحكام الأفعال التى يكون للاختيار والعمد دخل فيها وأمّا ما لا دخل لهما فيها فلا يشمله حديث الرفع.

وعليه فلا يرفع حديث الرفع مثل النجاسة الحاصلة بالملاقاة حال الجهل أو الإكراه أو الاضطرار وإن قلنا بأنّ التنجّس من الأحكام لعدم مدخلية الاختيار والعمد في الحكم

٤٥٢

بالنجاسة بل هي حاصلة بالملاقاة وهي من الأمور الواقعية الخارجية التكوينية ولا دخل لفعل الانسان فيها.

وإنّما حديث الرفع يرفع أحكام أفعال النجاسة ما دامت العناوين المذكورة موجودة ولذا لو صلى في النجس خطأ أو نسيانا أو جهلا أو اضطرارا أو إكراها فحديث الرفع يدلّ على رفع حكمه وثقله فيحكم بصحّة صلاته فيه لا رفع تنجس الملاقي كما لا يخفى.

وقد أورد عليه بأنّ ما ذكروا إن كان تامّا بالنسبة إلى مثل النجاسة ولكن لا يتم بالنسبة إلى إتلاف مال الغير نسيانا فإنّ الإتلاف فعل للمكلّف ومقتضى ما ذكر أن يكون الحكم بالضمان مرفوعا عند النسيان ومع ذلك محكوم بالضمان وهكذا مسّ الميّت فإنّه فعل للمكلّف وليس كالملاقاة التى تقع بين شيئين من دون استناد إلى المكلّف ومقتضى شمول حديث الرفع هو عدم وجوب الغسل مع أنّ المعلوم خلافه.

اللهمّ إلّا أن يقال : بالتخصيص او التخصّص حيث أنّ في مثل الضمان بالإتلاف أو الغسل بمسّ الميت لم يعتبر فيه الاختيار والعمد والكلام فيما إذا اعتبرا فيه فتدبّر جيّدا.

فتحصّل إلى حدّ الآن انّ اللازم في تطبيق حديث الرفع أمور :

أحدها : أن يكون المرفوع هو الحكم لا الموضوع والفعل ولا فرق في الحكم بين أن يكون تكليفيا أو وضعيّا

وثانيها : أن يكون لفعل المكلف دخل في ترتّب الحكم.

وثالثها : أن يكون للاختيار دخل في موضوع الحكم أو متعلقه فالمرفوع هو حكم فعل أو ترك من الأفعال أو التروك الاختيارية للمكلّف لا حكم وجود شيء أو عدمه من دون دخل لفعل المكلف وتركه أو اختياره فيه.

ورابعها : أن يكون رفع الحكم امتنانا على الأمّة فما لا امتنان فيه بالنسبة إلى الأمة كرفع الضمانات عند عروض بعض هذه العناوين لا يشمله حديث الرفع.

التنبيه التاسع :

انّه ربما يفصل في الشكّ في المانعية بين الشبهة الحكمية والموضوعية في الإجزاء وعدمه

٤٥٣

فلو شك في مانعية شيء للصلاة فحديث الرفع يدل على صحة صلاته ما دام شاكّا وأمّا إذا قطع بكونه مانعا وجب عليه إعادتها في الوقت وقضاؤها في خارجه كما هو مقتضى القاعدة في الأحكام الظاهرية.

هذا بخلاف الشكّ في انطباق عنوان ما هو مانع على شيء فإنّه لا يبعد أن يقال بالإجزاء وإن علم بعد العمل بالانطباق كما لو صلّى مع لباس شك في أنّه مأكول اللحم صحّ صلاته لأنّ مقتضى رفع الآثار عن هذا المشكوك هو تخصيص المانع بصورة العلم ولا يمكن هذا القول في الشبهة الحكمية لاستحالة تخصيص المانع بصورة العلم بالمانعية.

وأجيب عنه بأنّ المستحيل إنّما هو جعل المانعية ابتداء في حق العالم بها لاستلزامه الدور وأمّا جعلها ابتداء بنحو الإطلاق ثمّ إخراج ما هو مشكوك المانعية بضميمة حديث الرفع بأن يرفع فعلته مانعية في حال من الأحوال فليس بمستحيل فمع حكومة حديث الرفع تخصيص المانعية على غير هذه الصورة التى يوجد فيها إحدى العناوين المذكورة في الحديث وعليه فالآتي بالمأمور به مع المانع آت لما هو موافق للمأمور به ولازمه سقوط الأمّة وانتفاء الإعادة والقضاء وهكذا الكلام في الشرطية والجزئية إذ لا وجه لتخصيص البحث بالمانعية.

٤٥٤

حديث الحجب

ومنها : أي من السنة التى استدل بها على البراءة هو حديث الحجب.

رواه الصدوق بسند صحيح في التوحيد عن أبى زكريا بن يحيى عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ورواه الكلينى بهذا السند في الكافي عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال ما حجب الله عن العباد فهو موضوع عنهم.

بدعوى أنّ ظاهر الحديث هو ثبوت الحكم في الواقع وأنّ الحجب يتعلّق بالعلم به وعليه فيدل قوله عليه‌السلام فهو موضوع عنهم على رفع التكليف بالنسبة إلى ما في الواقع ممّا لم يعلم به إرفاقا وتسهيلا مع أنّه لو لا الحجب لوجب الاحتياط.

فالحجب وعدم العلم والمعرفة بالأحكام الواقعية يوجب على تأثير التكاليف المجهولة في صحة الاحتجاج بها وجواز العقوبة بالنسبة إليها ولا فرق في رفع التكليف بين أن بيّنها الله تعالى ولم يصل إلينا أو سكت عن بيانه لأنّ كل ذلك حجب علمها عن العباد.

ودعوى اختصاص الحجب بخصوص ما سكت عنه مندفعة لأنّ الحجب يصدق على ما بيّنها ولم يصل لإمكان تجديد البيان ولم يفعل.

كما لا وجه لتخصيصه بالشبهات الحكمية دون الموضوعية لأنّ الله تعالى قادر على إعطائه مقدمات العلم الوجداني لعباده فمع عدم الإعطاء صحّ إسناد الحجب إليه تعالى لا يقال : إنّ الرواية ضعيفة من ناحية أنّ أبا الحسن زكريا بن يحيى المذكور في سندها مشترك بين التميمي والواسطي الثقتين اللذين لهما كتابان كما نص عليه النجاشي وبين غيرهما من الحضرمي والكلابي والنهدى المجهولين ومن المعلوم أنّ مع الاشتراك لا يثبت وثاقة الراوي لأنّا نقول إنّ ذلك ليس بشيء مع نقل مثل داود بن فرقد عنه مع أنّه بلغ من الجلالة إلى أن روى عنه صفوان والبزنظي وابن أبي عمير فنقله قرينة على أنّ المراد منه هو الثقة الذى له الكتاب وبذلك يتميز عن غيره ممن ليس له الكتاب ومن المعلوم أنّ وجود الكتاب ونقل جماعة عنه من شواهد الوثاقة هذا مضافا إلى ما قيل من عدم تكنية غير الثقتين بأبي الحسن اللهمّ

٤٥٥

إلّا أن يقال : إنّ التميمي والواسطي أيضا لم يثبت تكنيتهما بأبى الحسن ومعه يحتمل أن يكون المكنّى غير المذكورين مطلقا أو مردّدا بين المذكورين فيبقى الاشتراك والجهالة فتأمّل. هذا مضافا إلى أنّ مضمون الخبر معتضد بالروايات المتعدّدة الدالة على رفع التكليف الفعلي عند عدم المعرفة بها منها معتبرة بريد بن معاوية عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ليس لله على خلقه أن يعرفوا وللخلق على الله أن يعرفهم ولله على الخلق إذا عرفهم أن يقبلوا. لدلالته على رفع التكليف بالنسبة إلى الأحكام الواقعية الفعلية التى لم يعرفها الله تعالى

ومنها : معتبرة عبد الأعلى بن أعين قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام من لم يعرف شيئا هل عليه شيء قال لا وهي تدل على عدم وجوب الاحتياط لرفع الحكم الفعلي فيعارض ما يدل على وجوب الاحتياط وإلى غير ذلك من الأخبار الدالة على أنّ الجهل بالأحكام الواقعية العقلية وعدم معرفتها يوجب رفعها وعدم التكليف بها فعلا.

٤٥٦

الخلاصة

حديث الحجب

ومنها : أي من السنة التي استدل بها على البراءة حديث الحجب.

روى الصدوق عليه الرحمة في التوحيد قال حدثنا أحمد بن محمّد بن يحيى العطار (رضي الله عنه) عن أبيه عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن ابن فضال عن داود بن فرقد عن أبي الحسن زكريا بن يحيى عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم. (١)

ورواه في الكافي عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن ابن فضال عن داود بن فرقد عن أبي الحسن زكريا بن يحيى عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما حجب الله عن العباد فهو موضوع عنهم. (٢)

وقد أورد عليه من جهة السند من أنّ أبا الحسن زكريا بن يحيى المذكور في السند مشترك بين التميمي والواسطي الثقتين وبين الحضرمي والكلابي والنهدي والنصراني الأب المجهولين وإن ذكر صاحب جامع الرواة هذه الرواية ذيل ترجمة الواسطي الثقة إلّا أنّه لا حجة فيه فالرواية ليس فيها حجة. (٣)

يمكن أن يقال إنّ زكريا بن يحيى المكنى بأبي الحسن غير النصراني والحضرمي والكلابي والنهدي لعدم تكنيتهم بأبي الحسن وعليه فليس المكنى بأبي الحسن غير التميمي والواسطي والمفروض أنّهما ثقتان.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الثقتين أيضا لم يثبت تكنيتهما بأبي الحسن أيضا ومعه إمّا هو غير المذكورين مطلقا أو محتمل بينهم فيبقى الاشتراك والجهالة.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنه ذكّار بن يحيى وذكره النجاشي مع كنيته وهو ثقة فتأمّل هذا

__________________

(١) كتاب التوحيد باب ٦٤ باب التعريف والبيان والحجة والهداية ، ح ٩.

(٢) الكافي ١ : ١٦٤ باب حجج الله على خلقه ح ٣.

(٣) تسديد الاصول ٢ : ١٤٢.

٤٥٧

مضافا إلى أنّ التميمى والواسطي لهما كتابان كما نص عليه النجاشي وغيرهما ليس له كتاب ولعلّ هذا قرينة على أنّ من روى عنه مثل داود بن فرقد الذي بلغ من الجلالة إلى أن روى عنه صفوان وأحمد بن أبي نصر البزنطي وابن أبي عمير هو من له كتاب وهو كما نص النجاشي عليه هو التميمي والواسطي الثقتين وعليه فيتميّزان عن غيرهما بنقل مثل داود بن فرقد فتدبر.

هذا مضافا إلى أنّ مضمون الخبر المذكور معتضد بالروايات المتعددة الأخرى.

منها : معتبرة بريد بن معاوية عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ليس لله على خلقه أن يعرفوا وللخلق على الله أن يعرفهم ولله على الخلق إذا عرفهم ان يقبلوا (١) بدعوى دلالتها على رفع التكليف بالنسبة إلى الأحكام الواقعية فالتكليف بالقبول يتوقف على المعرفة فإذا كان المكلف جاهلا بالأحكام الواقعية فلا تكليف فيعارض ما يدل على وجوب الاحتياط ومنها معتبرة عبد الأعلى بن أعين قال سالت أبا عبد الله عليه‌السلام من لم يعرف شيئا هل عليه شيء قال لا. (٢) بدعوى شموله الجاهل المركب والبسيط كما يشمل الغافل فنفي العقوبة والكلفة من ناحيته ما لم يعرفه من الأحكام الواقعية بقوله «لا» يدل على عدم وجوب الاحتياط ويتعدى منه إلى الجاهل ببعض الأحكام بعد الفحص لعدم الفصل بينهما فتعارض ما يدل على وجوب الاحتياط.

ومنها : معتبرة حمزة بن الطيار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال لي أكتب فأملى عليّ انّ من قولنا انّ الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرّفهم ، الحديث (٣) بدعوى أنّه يدل على نفي العقوبة على مخالفة الأحكام المجهولة غير الواصلة إلى المكلف بناء على ظهوره في إيتاء الأحكام الواقعية بعناوينها الأولية ومعرفتها كذلك فيعارض حينئذ ما دلّ على وجوب الاحتياط وإلّا فإن كان الإيتاء أعمّ من الأحكام الظاهرية فلا تقاوم أدلة الاحتياط وممّا ذكر يظهر وجه الاستدلال بالأخبار الآتية أيضا.

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٤ باب حجج الله على خلقه ، ح ١.

(٢) الكافي ١ : ١٦٤ باب حجج الله على خلقه ح ٢.

(٣) الكافي ١ : ١٦٤ باب حجج الله على خلقه ح ٤.

٤٥٨

ومنها : معتبرة حمزة بن محمّد الطيار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١) قال حتى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه وقال (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها)(٢) قال بيّن لها ما تأتي وما تترك وقال (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)(٣) قال عرّفناه إما آخذ وإمّا تارك وعن قوله (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٤) قال عرّفناهم فاستحبّوا العمى على الهدى وهم يعرفون ـ وفي رواية بيّنا لهم ـ (٥)

ومنها : معتبرة عبد الأعلى قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أصلحك الله هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة قال فقال لا قلت فهل كلّفوا المعرفة قال لا ، على الله البيان (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(٦) ولا يكلّف نفسا إلّا ما أتاها قال وسألته عن قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) قال حتى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه (٧) وإلى غير ذلك من الأخبار الدالة على أنّ الجهل بالأحكام الواقعية وعدم معرفتها يوجب وضعها ورفعها وعدم التكليف بها.

وغير خفي إنّ من لم يعرف الأحكام الواقعية كان محجوبا عنها إنّ الله الذي لم يبينها لهم حجب تلك الأحكام عنهم وهذه الروايات تدل على أنّ التكليف بالأحكام الواقعية متفرع على المعرفة بها ولا يصح الاحتجاج إلّا بالتعريف والمعرفة والبيان ولا تكليف

__________________

(١) توبه / ١١٥.

(٢) الشمس / ٨.

(٣) انسان / ٣.

(٤) فصلت / ١٧.

(٥) الكافي ١ : ١٦٣ باب البيان والتعريف ح ٣.

(٦) بقرة / ٢٨٦.

(٧) الكافي ١ : ١٦٣ البيان والتعريف ح ٥.

٤٥٩

بالنسبة إلى أصل المعرفة بل التكليف متفرع على المعرفة ويجب عليهم أن يقبلوا ما عرفوه من الأحكام الواقعية ويمتثلوها ولا عذاب ولا إضلال بالنسبة إلى ما لم يعرفوا وحجبوا عن علمها فالحجب أو عدم العلم والمعرفة بالأحكام الواقعية يوجب عدم تأثير التكاليف المجهولة ووضعها ورفعها وبعبارة أخرى انّ الظاهر من هذه الأحاديث هو رفع التكليف وعدم الاحتجاج والعقوبة بالنسبة إلى ما لم يتمكنوا من المعرفة به من الأحكام الواقعية لا ما تمكنوا من المعرفة. وقصّروا فيه من جهة عدم الفحص وعدم تعلّمه ولا فرق في رفع التكليف بعدم المعرفة والحجب بين أن بيّنه الله تعالى ولم يصل إلينا أو سكت عن بيانه إلى زمان ظهور الإمام الثاني عشر أرواحنا فداه لأنّ كل ذلك ممّا حجب علمه عن العباد ومما لم يعرفه الناس فهذه الأحاديث تشمل كل حجب وعدم المعرفة.

ودعوى اختصاص الحجب وعدم المعرفة بخصوص ما سكت عنه فلا تشمل ما حجب بواسطة الحوادث والنوازل كضياع الكتب أو كتمان الروايات فيكون تلك الروايات مساوقة لما ورد من أنّ الله سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا ، كما في فرائد الاصول. (١)

مندفعة بأنّ الحجب وعدم التعريف يصدقان أيضا فيما إذا أمكن تجديد البيان ولم يفعل فإنّه تعالى بعد حدوث النوازل وإخفاء الأحكام وإمكان تجديد البيان إذا سكت عنها صدق انه حجب علمه عن من لم يطلع عليها وصدق عدم المعرفة به بالنسبة إلى من لم يصل التكليف إليه ولم يكن مقصرا في ذلك نعم لا يصدقان بالنسبة إلى من عرف وكتم عن تقصير في حفظه كما لا يخفى.

ولقد أفاد وأجاد السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره في جواب الإشكال المذكور حيث قال إنّ الموجب لخفاء الأحكام التي بيّنها الله تعالى بلسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله اوصيائه عليهم‌السلام وإن كان هو الظالمين إلّا أنه تعالى قادر على بيانها بأن يأمر المهدي عليه‌السلام بالظهور وبيان تلك الأحكام

__________________

(١) فرائد الاصول : ١٩٩.

٤٦٠