عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

وِزْرَ أُخْرى) فإنّ هذا شأن عقوبات الله في الآخرة لا في الدنيا ، ولا منشأ لدعوى النظر المذكور إلّا ورود التعبير بصيغة الماضي في قوله : (وَما كُنَّا) وهذا بنكتة إفادة الشأنيّة والمناسبة ولا يتعيّن أن يكون بلحاظ النظر إلى الزمان الماضي خاصة. (١)

هذا مضافا إلى ما أفاده سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره من أنّه لو فرض أنّ موردها ما ذكر ، غير أنّ التعبير بقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) حاك عن كونه سنّة جارية لله عزّ شأنه من دون فرق بين السلف والخلف ، ولو لم نقل : إنّ ذلك مفاد الآية حسب المنطوق فلا أقلّ يفهم العرف من الآية ولو بإلغاء الخصوصية ومناسبة الحكم والموضوع أن التعذيب قبل البيان لم يقع ولن يقع أبدا. (٢)

وأضف إلى ذلك أنّ العذاب الدنيوي وقع في مقابل الذنوب ، كما يدل عليه قوله تعالى بعد آية العذاب : (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) ومن المعلوم أنّ العذاب الدنيوي أخفّ بالنسبة إلى العذاب الاخروي ، فإذا كان الأخفّ منوطا بالبيان فكيف لا يكون الأشدّ كذلك؟

لا يقال : كما في الكفاية بأنّ نفي التعذيب قبل إتمام الحجة ببعث الرسول لعلّه كان منّة منه تعالى على عباده مع استحقاقهم لذلك. (٣)

ومعنى ذلك أنّ نفي التعذيب من باب المنّة والعفو لا ينافي تنجز التكليف في المشكوك ، نعم لو دلّ قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) على نفي الاستحقاق لأمكن الاستدلال به فيما نحن فيه ، إذ النزاع بين الأخباري والاصولي إنّما هو في استحقاق العقاب على ارتكاب المشكوك وعدمه.

لأنّا نقول أوّلا : إنّ ظاهر هذا التركيب كما أفاد السيّد المحقق الخوئي والشهيد الصدر قدس‌سره أنّ ذلك هو الطريقة العامة للشارع التي لا يناسبه (ولا يليق به) غيرها كما يظهر من مراجعة

__________________

(١) دروس علم الاصول الحلقة الثالثة : ص ٣٨ و ٣٩.

(٢) تهذيب الاصول ٢ ، ص ١٤١.

(٣) الكفاية ٢ ، ص ١٦٧.

٤٠١

أمثال هذا التركيب عرفا ، وهذا يفيد عدم الاستحقاق ويظهر ذلك من استقراء موارد استعمال هذه الجملة ، أي ما كان أو ما كنّا كقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) وقوله عزوجل : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) وقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) إذ جملة الفعل الماضي من هذه المادة منسلخة عن الزمان في هذه الموارد ، فيكون المراد أنّ التعذيب قبل البيان لا يليق به تعالى ومع عدم لياقة التعذيب قبل البيان تدل الآية على عدم كون العبد مستحقّا للعقاب إذ مع فرض استحقاق العبد لا وجه لعدم كونه لائقا به تعالى. (١)

وثانيا : كما أفاده سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره أنّ ذلك أوّل الكلام ، إذ النزاع بين الاصولي والأخباري أنّما هو في ثبوت المؤمّن وعدمه في ارتكاب الشبهات وأنّه هل يلزم الاحتياط أولا؟ وهذا هو مصبّ النزاع بين الطائفتين ، وأمّا البحث عن الاستحقاق وعدمه فهو خارج عمّا يهمّ على كلا الفريقين. (٢)

وأمّا ما أجاب به شيخنا الأعظم قدس‌سره عن الإيراد على الاستدلال بالآية من ناحية أنّ المنفي في الآية هو فعلية العقاب لا استحقاقه من أنّ الخصم وهو الأخباري يعترف بالملازمة بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق ، فنفي الفعلية المستفادة من الآية كاف في إلزامه على نفي الاستحقاق ، فقد أورد عليه في الكفاية بأنّ الاستدلال يكون حينئذ جدليا هذا مع وضوح منع اعتراف الخصم بذلك ، ضرورة أنّ ما شك في وجوبه أو حرمته ليس عند الخصم بأعظم من معلوم الحكم ، ومن الواضح أنّه ربّما تنتفي فعلية العذاب في مورد العصيان اليقيني لإمكان تعقّبه بالتوبة أو الشفاعة أو التكفير مع ثبوت استحقاق العقوبة فلا ملازمة بين نفي العقوبة ونفي الاستحقاق في معلوم الحرمة ، فكيف يمكن اعترافه بالملازمة بين نفي الفعلية ونفي استحقاق العقوبة في مشكوك الحرمة أو الوجوب فتدبر جيدا.

__________________

(١) راجع مصباح الاصول ٢ : ص ٢٥٦ دروس علم الاصول الحلقة الثالثة : ٣٨.

(٢) تهذيب الاصول ٢ : ص ١٤١.

٤٠٢

اللهمّ إلّا أن يقال : بأنّ الاستدلال بالآية الكريمة من جهة تقدّمها على أخبار التثليث ليس استدلالا جدليا ، إذ مع دلالة الآية الكريمة على نفي فعلية العقاب لا تشمله أخبار التثليث الدالة على الوقوع في العقاب ، كما أفاد بعض الأعلام.

بقي شيء وهو أنّ الآية ناظرة إلى نفي العذاب قبل بعث الرسول ولا ينفى العذاب بعد مجيء الرسول وتبيّن الأحكام وعروض اختفاء التكاليف بما لا يرجع إلى الشارع ، وأجاب عنه سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره بأنّ الميزان في العقوبة واستحقاقها (كما عرفت) هو الإبلاغ والإيصال لا الإبلاغ ولو مع عدم الوصول. (١)

حاصله أنّ ملاحظة المعنى في العقوبة يوجب عدم اختصاص الآية بما ذكر من نفي العذاب قبل بعث الرسول ، بل يعمّ المقام أيضا.

ولقد أفاد وأجاد سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال ومما ذكرنا يظهر أنّ الآية أسدّ الأدلّة التي استدل بها للبراءة وأنّ ما أورد عليه من الإيرادات غير خال عن الضعف ، نعم لا يستفاد من الآية أكثر مما يستفاد من حكم العقل الحاكم على قبح العقاب بلا بيان ، فلو دلّ الدليل على لزوم الاحتياط أو التوقف لصار ذلك نفسه بيانا فيكون ذاك الدليل واردا على العقل ، وما تضمّنته الآية. (٢)

ومنها : قوله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)(٣)

بدعوى أنّ اسم الموصول في قوله : (ما آتيها) يشمل ذات التكليف بالإطلاق كما يشمل المال ، فتدل الآية على أنّه تعالى لا يؤاخذ ولا يطلب عن العباد شيئا إلّا إذا آتاه والإيتاء بالتكليف بإيصاله إلى المكلف ، كما أنّ الإيتاء في المال بإعطائه وإقداره ، وعليه فتدل الآية على نفي المؤاخذة بالنسبة إلى التكاليف إذا لم تكن واصلة ، وهو المطلوب ، وليس المراد من

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ص ١٤٦.

(٢) تهذيب الاصول ج ٢ ، ص ١٤١ ـ ١٤٢.

(٣) الطلاق / ٧.

٤٠٣

التكليف المشمول لإطلاق الموصول هو التكليف بمعناه المصدري حتى يكون المراد تكليف العباد بالتكليف بنحو المفعول المطلق ، بل المراد من التكليف الذي يشمله الموصول هو ذات الحكم الشرعي كالواجب والحرام ونحوهما ، وعليه فذات التكليف هو كالمال مفعول به لا مفعول مطلق فيصير التكليف بالمعنى المذكور موضوعا للطلب والمؤاخذة كما أنّ المال موضوع لذلك ، ومما ذكرناه يظهر أنّه لا يرد عليه ما أورده شيخنا الأعظم قدس‌سره من أنّه لو اريد من الموصول نفس الحكم والتكليف كان إيتائه عبارة عن الإعلام به ، لكن إرادته بالخصوص ينافي مورد الآية وإرادة الأعمّ منه ومن المورد تستلزم استعمال الموصول في معنيين إذ لا جامع بين تعلّق التكليف بنفس الحكم والفعل المحكوم عليه فافهم. (١)

ومراده كما أفاد سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره أنّ إرادة الأعمّ من الموصول مع إسناد فعل واحد إليه غير ممكن في المقام ، إذ لو اريد من الموصول نفس التكليف يكون بمنزلة المفعول المطلق ، ولو اريد مع ذلك الأمر الخارجي الذي يقع عليه التكليف يصير مفعولا به ، وتعلّق الفعل بالمفعول المطلق سواء كان نوعيّا أم غيره يباين نحو تعلّقه بالمفعول به لعدم الجامع بين التكليف والمكلف به بنحو يتعلق التكليف بهما على وزان واحد وإن شئت قلت المفعول المطلق هو المصدر أو ما في معناه المأخوذ من نفس الفعل ، والمفعول به ما يقع عليه الفعل المباين معه ولا جامع بين الأمرين حتى يصح الإسناد. (٢)

وذلك لما عرفت من أنّ المراد من الموصول هو مفعول به لا الجامع بين المفعول به والمفعول المطلق حتى يقال : لا جامع بينهما ؛ لعدم الحاجة إليه ، إذ الموصول الذي يكون مفعولا به يشمل ذات الحكم الشرعي ، والحكم الشرعي يكون حينئذ مفعولا به ، والآية الكريمة تدلّ على نفي الطلب والمؤاخذة إلّا بالنسبة إلى ما آتاه وهو بإطلاقه يشمل المال وذات الحكم والتكليف ، وليس المراد هو التكليف بالتكليف بالمعنى المصدري حتى يكون مفعولا

__________________

(١) فرائد الاصول ، ص ١٩٣.

(٢) تهذيب الاصول ٢ ، ص ١٤٣.

٤٠٤

مطلقا ولعلّ إليه يؤول ما في دروس علم الاصول حيث قال : وهذا هو الجواب الصحيح ، وحاصله أنّ مادة الفعل في الآية هي الكلفة بمعنى الإدانة ولا يراد بإطلاق اسم الموصول شموله لذلك ، بل لذات الحكم الشرعي الذي هو موضوع للإدانة ، فهو إذن مفعول به ، فلا إشكال. (١)

هذا مضافا إلى إمكان أن يقال اللازم هو ملاحظة نفس معنى الموصول وهو الشيء ، وعليه فلا يوجب استعمال الموصول في معنيين ، بل هو معنى واحد وهو الشيء وليس تطبيقه على المصاديق من باب استعماله في المصاديق حتى يلزم باعتبار ذلك استعمال لفظ الموصول في معنيين.

وأجاب عن إشكال الشيخ قدس‌سره في نهاية الأفكار أيضا بأنّ إرادة الحكم من الموصول أنّما يقتضي كونه المفعول المطلق لو كان المراد من التكليف في الآية أيضا هو الحكم وإلّا ففي فرض كونه بمعناه اللغوي أعني الكلفة والمشقة فلا يتعيّن ذلك ، فإنّه من الممكن حينئذ جعل الموصول عبارة عن المفعول به أو المفعول النشوي المعبر عنه في كلام بعض بالمفعول منه ، وإرجاع النسبتين إلى نسبة واحدة إذ بذلك يتم الاستدلال بالآية على المطلوب ، فإنّ معنى الآية على الأول أنّه سبحانه لا يوقع عباده في كلفة حكم إلّا الحكم الذي أوصله إليهم بخطابه ، وعلى الثاني أنّه لا يوقع عباده في كلفة إلّا من قبل حكم أعلمه إيّاهم وأوصله إليهم بخطابه.

وحينئذ لو اريد من الموصول معناه الكلّي العام مع إفادة الخصوصيات المزبورة بتوسيط دال آخر خارجي لا يتوجّه على الاستدلال المزبور محذور من جهة كيفية تعلّق الفعل بالموصول لما عرفت من أنّ تعلّقه به حينئذ تعلّق واحد ، وهو تعلّق الفعل بالمفعول به أو المفعول منه. (٢)

أورد عليه في تسديد الاصول بأنّ هيئة المفعول به دالة على وقوع الفعل المتعدي عليه ،

__________________

(١) دروس في علم الاصول الحلقة الثالثة : ص ٣٧.

(٢) نهاية الأفكار ج ٣ : ص ٢٠٣.

٤٠٥

فلا بد وأن يكون معنى الفعل بحيث يطلب المفعول به ، فتفسير مادة التكليف بالإيقاع في المشقة لا ينطبق على معناه الحقيقي ؛ لأنّه لا يصح تعديته إلى الفعل المكلّف به بلا واسطة ، بل بواسطة «من» ولأجله عبّر عنه بالمفعول منه مع أنّ مادة التكليف لا ريب في تعديتها إلى ذاك الفعل بلا واسطة ، فلا محالة يكون التكليف مرادفا لمعنى التحميل بمشقة ، فإنّه يصح أن يقال : إنّ الفعل مما حمل بمشقة على المكلف ، وحينئذ فلا يصح إرادة المفعول به حقيقة من الموصول إلّا في خصوص الأفعال ، ولا يعم الأحكام والتكاليف ، اللهمّ إلّا بالإسناد المجازي الذي مرّ ذكره. (١) هنا إشكال وهو أنّ مجرد إمكان إرادة الأعمّ من الموصول والإيتاء لا ينفع لإثبات الظهور لو لم نقل بأنّ الظاهر حسب السياق هو أنّ المراد من الموصول هو الأمر الخارجي ومن الإيتاء هو الإقدار والإعطاء ، فلا مجال للتمسّك بالآية لشمول المقام ، فإنّه فرع إثبات ظهور الموصول في الأعم وظهور الإيتاء في المعنى الجامع بين الإقدار والإعلام ، وهو غير ثابت.

ويمكن الجواب عنه اوّلا : بأنّ الإطلاق يكفي في إثبات عدم تقيد الموصول والإيتاء بأحد الأمرين ومعه لا وجه لاستعمال الموصول أو الإيتاء في بعض مصاديقه ، بل الموصول والإيتاء مستعملان في معناهما ، وحيث لم يقيّدا بمصداق يشمل كل واحد من الأمرين فلا تغفل. هذا مضافا إلى إمكان الاعتضاد بخبر عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أصلحك الله ، هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟ قال : لا (فقال) ، قلت : فهل كلفوا المعرفة؟ قال : لا ، على الله البيان لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، ولا يكلف الله نفسا إلّا ما آتاها الحديث. (٢) لدلالته على أنّ الموصول في قوله عزوجل (ما آتيها) يعمّ التكليف بالمعرفة أيضا ، وعليه فالإيتاء أيضا أعم من الإقدار والإعلام بقرينة هذه الرواية ، ومن المعلوم أنّ إرادة الأعم لا تنافي سياق الآية كما لا يخفى ، ودعوى أنّ نفس

__________________

(١) تسديد الاصول ج ٢ ، ص ١٢٦.

(٢) والطريق إلى عبد الأعلى صحيح ونفس عبد الأعلى لم يوثق ولكن نقل الأجلّة يكفي للوثوق به. جامع الأحاديث ، أبواب المقدمات ، الباب الثامن ، ح ١٠.

٤٠٦

المعرفة بالله غير مقدور قبل تعريف الله سبحانه وتعالى ، فلا حاجة في دخولها في الآية الكريمة إلى إرادة الإعلام من الإيتاء في الآية ، بل كانت المعرفة بالله داخلة في الآية ؛ لأنّها بدون تعريفه تعالى غير مقدورة ومحتاجة إلى الإقدار. (١)

مندفعة بأنّ قوله عليه‌السلام : لا ، على الله البيان يدلّ على أنّ المراد من قوله (ما آتيها) هو معنى يشمل البيان والإعلام أيضا ، ولا ينافي ذلك كون نفس البيان التفصيلي منه تعالى إقدارا ، ويندرج فيه بهذا الاعتبار أيضا فتدبر.

فتحصل أنّ الآية الكريمة تدل بإطلاقها على أنّه تعالى لا يكلف نفسا إلّا بما اتاه وما لم يؤته لا تكلف به ، ومقتضى هذا الإطلاق أنّ ذوات الأحكام التي لم تعطها الشارع من الأحكام المسكوت عنها أو المختفية عنّا وغير الواصلة إلينا أيضا لا تكون موردا لتكليفه.

والمراد من نفي التكليف بالنسبة إليها هو نفي تنجيزها علينا ، وعليه فلا منافاة بين نفيها ووجودها بحسب الواقع كما لا يخفى ، ثم إنّ الآية الكريمة بناء على تماميّة دلالتها على أنّ الله تعالى لا يكلف أحدا إلّا بما اتاه المكلفين تكون معارضة مع أدلة الاحتياط الدالة على وجوب الاحتياط بالنسبة إلى الحكم الواقعي غير الواصل ، كما لا يخفى.

قال الشهيد الصدر قدس‌سره : ثم إنّ البراءة التي تستفاد من هذه الآية الكريمة إن كانت بمعنى نفي الكلفة بسبب التكليف غير المأتي فلا ينافيها ثبوت الكلفة بسبب وجوب الاحتياط ، إذا لم يدل الدليل عليه ، فلا تنفع في معارضة أدلة وجوب الاحتياط.

وان كانت البراءة بمعنى نفي الكلفة في مورد التكليف غير المأتي فهي تنفي وجوب الاحتياط وتعارض مع ما يدعى من أدلته.

والظاهر هو الحمل على الموردية لا السببية ؛ لأنّ هذا هو المناسب بلحاظ الفعل والمال أيضا ، فالاستدلال بالآية جيّد. (٢)

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ١٩٣.

(٢) دروس في علم الاصول ، الحلقة الثالثة : ٣٧.

٤٠٧

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ التكليف بالاحتياط ليس تكليفا نفسيّا ، بل تكليف طريقي بالنسبة إلى الواقع ، وعليه ينافي نفي الكلفة ، سبب التكليف غير المأتي مع وجوب الاحتياط ، ولو على الوجه الأول فلا تغفل. ثمّ إنّ المراد من الإيتاء هو الإيتاء التكويني كما هو المناسب مع المال والفعل. لا إيتاء الشارع بما هو الشارع ، وعليه فلا يبعد دعوى شمول الآية للشبهات الموضوعية أيضا كما أفاد الشهيد الصدر قدس‌سره حيث قال : فالآية الكريمة لا تختص بالشبهات الحكمية من الوجوبية والتحريمية ، بل تعم الشبهات الموضوعية لأنّ المراد من الإيتاء ليس هو إيتاء الشارع بما هو شارع ليختص بالشبهات الحكمية. (١)

__________________

(١) دروس في علم الاصول الحلقة الثالثة : ٣٧ ـ ٣٨.

٤٠٨

الخلاصة

المقصد السابع في الاصول العملية

ولا يخفى أنّ مواضع الاصول العمليّة هي موارد الاشتباه سواء كان الاشتباه من ناحية فقدان النصّ أو تعارض النصوص أو إجمال الدليل أو من ناحية الامور الخارجية.

ثمّ إمّا يكون اليقين السابق في تلك الموارد ملحوظا وإمّا لا يكون كذلك والأوّل مجرى الاستصحاب مطلقا والثاني إمّا يكون الشكّ فيه في أصل التكليف وإمّا أن يكون الشكّ في المكلّف به مع العلم بأصل التكليف فالأوّل مورد البراءة والثاني إن أمكن الاحتياط فيه فهو مجرى قاعدة الاحتياط وإن لم يمكن الاحتياط فيه كدوران الأمر بين المحذورين فهو مجرى قاعدة التخيير.

فتحصّل أنّ الكلام في الأصول العمليّة ليعمّ الاستصحاب والبراءة والاحتياط والتخيير.

ويقع الكلام في مقامين أحدهما في حكم الشكّ في الحكم الواقعي من دون ملاحظة الحالة السابقة وهذا يعمّ البراءة والاحتياط والتخيير.

وثانيهما في حكم الشكّ بملاحظة الحالة السابقة وهو منحصر في الاستصحاب.

المقام الأوّل :

قال الشيخ الأعظم قدس‌سره : إنّ الشكّ في المقام الأوّل إمّا في نوع التكليف مع العلم بجنسه كما إذا تردّد شيء بين الوجوب والتحريم.

وإمّا في متعلّق التكليف مع العلم بنفسه كما إذا علم الوجوب وتردّد بين الظهر والجمعة.

والأول وهو التكليف المشكوك فيه إمّا تحريم مشتبه بغير الوجوب وإمّا وجوب مشتبه بغير التحريم وإمّا تحريم مشتبه بالوجوب ، هذه عمدة الصور وإلّا فصور الاشتباه كثيرة.

أقسام الشكّ في التكليف

جعل الشيخ الشكّ في التكليف على أقسام ثمانية لأنّ الشبهة التكليفية تارة وجوبية و

٤٠٩

اخرى تحريمية ومنشأ الشكّ فيهما إمّا فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه والشبهة تارة موضوعية وهي إمّا وجوبيّة وإمّا تحريميّة ومنشأ الشكّ فيهما هي الامور الخارجيّة وعليه فصارت الأقسام ثمانية.

ثمّ إنّه إن زدنا طرفا آخر كالإباحة ودار الأمر بين الوجوب والحرمة والإباحة كانت الأقسام اثنى عشر لا ثمانية لأنّ منشأ الشكّ في المزيد أي الإباحة أربعة وهي فقدان النص أو إجماله أو تعارضه أو الامور الخارجيّة ثمّ إنّ البحث عن كلّ قسم مستقلا غير لازم لوحدة الملاك في جميع الأقسام وهو عدم وصول التكليف وهو يقتضي البراءة ولذا نقتفي طريق الكفاية فإنّه عمّ البحث لمطلق الشكّ في التكليف وعده عمّا ذهب إليه الشيخ الأعظم قدس‌سره من البحث عن كلّ واحد من الأقسام المذكورة فتدبّر.

أصالة البراءة

الفصل الأوّل أنّه إذا شكّ في وجوب شيء ولا حجّة عليه جاز له الترك وإذا شكّ في حرمة شيء ولا حجّة عليها جاز له ارتكابه وذلك لقيام الأدلّة العقليّة والشرعيّة على جواز الترك والفعل فيهما.

ولا فرق فيما ذكر بين أن يكون عدم قيام الحجّة من جهة فقدان النصّ أو إجماله أو تعارض النصين بناء على التوقف والتساقط في تعارض النصّين فيما لم يكن بينهما ترجيح.

وأمّا مع القول بالتخيير عند تعارض النصّين فلا مجال للبراءة لتماميّة البيان وهو الدليل الدالّ على التخيير.

أدلّة القائلين بالبراءة في الشكّ في التكليف

واستدل لها في الشكّ في التكليف بالأدلّة الأربعة :

أمّا من الكتاب فبآيات :

٤١٠

منها قوله تعالى (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١)

وتقريب الاستدلال بالآية الكريمة أنّ قوله تعالى (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) نزيه للحق المتعال وهو يريد بهذا البيان أنّ التعذيب قبل البيان مناف لمقامه الربوبي وأنّ شأنه تعالى أجلّ من أن يرتكب هذا الأمر لأن التعذيب في هذه الصورة قبيح مستنكر يستحيل صدوره منه.

وظاهر هذا التركيب أي وما كنّا معذّبين أنّ ذلك هو الطريقة العامّة للشارع التى لا يناسبه ولا يليق به غيرها كما يظهر من مراجعة أمثال هذا التركيب عرفا وهو يفيد عدم الاستحقاق ويظهر ذلك من استقراء موارد استعمال هذه الجملة أي «ما كان» أو «ما كنّا» كقوله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٢) وقوله عزوجل (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) وقوله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ). (٣)

إذ جملة الفعل الماضي من هذه المادة منسلخة عن الزمان في هذه الموارد فيكون المراد أنّ التعذيب قبل البيان لا يليق به ومع عدم لياقة التعذيب قبل البيان تدلّ الآية في المقام على عدم كون العبد مستحقا للعقاب إذ مع فرض استحقاق العبد لا وجه لعدم كونه لائقا به تعالى.

وهنا إشكالات حول الاستدلال بالآية ولكنّها مندفعة نعم لا يستفاد من الآية أكثر ممّا

__________________

(١) الاسراء / ١٥.

(٢) توبه / ١١٥.

(٣) انفال / ٣٣.

٤١١

يستفاد من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان فلو دلّ الدليل على لزوم الاحتياط أو التوقّف لصار ذلك نفسه بيانا وواردا على الآية كما على الحكم العقلي فتدبر جيدا.

ومنها : قوله تعالى (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً). (١)

بدعوى أن اسم الموصول في قوله عزوجل (ما آتاها) يشمل ذات التكليف بالإطلاق كما يشمل ذات المال وعليه فتدل الآية على أنّه تعالى لا يؤاخذ ولا يطالب شيئا إلّا إذا آتاه والإيتاء في التكليف بإيصاله إلى المكلّف كما أنّ الإيتاء في المال بإعطائه وإقداره فالآية الكريمة تنفي المؤاخذة بالنسبة إلى التكاليف إذا لم تكن واصلة وهذا هو المطلوب وبعبارة اخرى أنّ إطلاق الموصول يكفي في إثبات عدم تقيّده بالأمر الخارجي كما أنّ إطلاق الإيتاء يمنع عن تخصيصه بالإعطاء فالموصول يشمل ذات الحكم الاعتبارى كما يشمل الأمر الخارجي والإيتاء يشمل الإعلام كما يشمل الإعطاء ويشهد على ذلك خبر عبد الأعلى مولى آل سام عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال قلت لأبى عبد الله عليه‌السلام أصلحك الله هل جعل في الناس أداه ينالون بها المعرفة قال لا (فقال) قلت فهل كلّفوا المعرفة قال لا على الله البيان لا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها ولا يكلّف الله نفسا إلّا ما آتاها الحديث فإنّه يدلّ على أنّ الموصول في قوله تعالى ما آتاها يعمّ التكليف بالمعرفة أيضا وعليه فالإيتاء أعمّ من الإقدار والإعلام بقرينة هذه الرواية لأنّ قوله عليه‌السلام لا على الله البيان يدلّ على أنّ المراد. من قوله (ما آتاها) هو معنى يشمل البيان والإعلام أيضا. والحاصل أنّ مع إطلاق الموصول والإيتاء ينطبق الآية الكريمة على المقام بلا كلام.

__________________

(١) الطلاق / ٧.

٤١٢

حديث الرفع

أمّا من السنة فبروايات :

منها ما رواه الصدوق في الخصال : حدثنا محمّد بن أحمد بن يحيى العطار رحمهم‌الله قال :

حدثنا سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز بن عبد الله ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع عن أمتي تسعة : الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة. (١)

ولا يخفى عليك أنّ هذه الرواية رواها الصدوق في التوحيد عن أحمد بن محمّد بن يحيى العطار رحمة الله. (٢)

أورد عليه في مباحث الحجج بأنّ صاحب الوسائل نقل في كتاب الجهاد الحديث المشتمل على هذه الفقرة (ما لا يعلمون) عن كتابي الخصال والتوحيد للصدوق عن أحمد بن محمّد بن يحيى ، عن سعد بن عبد الله ، عن يعقوب بن يزيد ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع عن امتي تسعة ... الخ وأحد التسعة ما لا يعلمون ونقطة الضعف في هذا السند هو أحمد بن محمّد بن يحيى العطار ، فبالرغم من أنّه شيخ الصدوق لم يثبت توثيقه. (٣)

وفيه أوّلا : أنّ الظاهر أنّه لم يلتفت إلى أنّ الصدوق نقل الحديث بتمامه في الخصال عن محمّد بن يحيى العطار ، وهو موثّق.

وثانيا : أنّ كونه من شيوخ الصدوق يكفي في وثاقته ؛ لأن جلالة مثل الصدوق تمنع عن التلمّذ عند غير الثقة لتعلّم معالم الدين ، هذا مضافا إلى الترحمة عليه فإنّه حاك عن حسن حاله عنده.

__________________

(١) الخصال ، باب التسعة ، ح ٩ ـ جامع الأحاديث ، أبواب المقدمات ، الباب الثامن ، ح ٣.

(٢) التوحيد : ٣٥٣ ، باب ٥٦ ، باب الاستطاعة ، ح ٢٤.

(٣) مباحث الحجج ٢ : ٥٨.

٤١٣

وثالثا : أنّ وثاقته يؤيد بتصحيح بعض طرق الشيخ في الكتابين كطريق الحسين بن سعيد ومحمّد بن على بن محبوب وعلي بن جعفر عن مثل العلامة مع أنّه فيها.

ورابعا : أنّ المحكي عن الوجيزة أنّه من مشايخ الإجازة وحكم الأصحاب بصحّة حديثه فإنه يحكي عن وثاقته.

وخامسا : أنّ المحكي عن الشهيد والشيخ البهائي في المشرق وصاحب المنتقى والمحقق الداماد انّه ثقة وهذه الأقوال تصلح لتأييد وثاقته.

هذا مضافا إلى أنّ تلك الفقرة معمول بها عند الأصحاب فلا وجه للتشكيك السندي في الرواية.

ثم إنّ تقريب الاستدلال بالرواية أنّ الحديث يدل على رفع الإلزامات المجهولة عن الأمة في مرحلة الظاهر ، ومع رفع هذه الإلزامات والترخيص الظاهري لا مجال لوجوب الاحتياط ومع عدم وجوب الاحتياط لا مجال للمؤاخذة والعقاب.

وتوضيح ذلك يتوقف على تقديم امور :

الأمر الأول :

أنّ قاعدة الاشتراك بين العالم والجاهل في الأحكام الشرعية من ضروريات مذهب الإمامية ، وهي تصلح للقرينية على أنّ المرفوع ليس هو الحكم الواقعي بوجوده الواقعي وإلّا لزم أن يكون الحكم الواقعي مختصا بالعالمين وهو ينافي قاعدة الاشتراك وحسن الاحتياط إذ مع رفع الحكم الواقعي بمجرد الجهل به لا واقع حتى يحسن الاحتياط للنيل إليه فاذا عرفت ذلك فالمرفوع هو الحكم الواقعي في مرتبة الظاهر لا بوجوده الواقعي وعليه فالحكم الواقعي بوجوده الواقعي ليس بمرفوع بل هو باق على ما هو عليه ولكن في مرحلة الظاهر هو مرفوع والرفع المذكور لا ينافي مع قاعدة الاشتراك وحسن الاحتياط.

والحاصل أنّ رفع الحكم هو رفع الحكم الواقعي الإلزامي المجهول في مرتبة الظاهر ومعناه هو الترخيص في تركه ولذا ينافيه وجوب الاحتياط بالنسبة إلى الحكم المجهول بعد هذا الترخيص كما لا يخفى.

٤١٤

الأمر الثاني :

أنّ بعد ما عرفت من صحّة إسناد الرفع إلى نفس الحكم الواقعي في مرحلة الظاهر لا وجه لإسناد الرفع إلى وجوب الاحتياط كما يظهر من كلام الشيخ الأعظم قدس‌سره حيث قال معنى رفع أثر التحريم فيما لا يعلمون عدم إيجاب الاحتياط والتحفّظ فيه حتى يلزمه ترتب العقاب إذا أفضى ترك التحفظ إلى الوقوع في الحرام الواقعي إلى أن قال والحاصل أنّ المرتفع فيما لا يعلمون وأشباهه مما لا يشمله أدلة التكليف هو إيجاب التحفظ على وجه لا يقع في مخالفة الحرام الواقعي ويلزمه ارتفاع العقاب واستحقاقه فالمرتفع أولا وبالذات أمر مجعول فيرتب عليه ارتفاع أمر غير مجعول. (١)

ولذلك قال السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره : انّ قول الشيخ الأعظم من أنّ المرفوع هو وجوب الاحتياط خلاف ظاهر الحديث فإنّ ظاهره أنّ المرفوع هو نفس ما لا يعلم وهو الحكم الواقعي لا وجوب الاحتياط وبعد كون الحكم بنفسه قابلا للرفع في مرحلة الظاهر لا وجه لارتكاب خلاف الظاهر وحمل الحديث على رفع إيجاب الاحتياط.

نعم عدم وجوب الاحتياط من لوازم رفع الحكم الواقعي في مرحلة الظاهر لأنّ الأحكام كما أنّها متضادّة في الواقع كذلك متضادّة في مقام الظاهر فكما أنّ عدم الإلزام في الواقع يستلزم الترخيص بالمعنى الأعم كذلك رفع الإلزام في الظاهر يستلزم الترخيص ظاهرا ولا يعقل وجوب الاحتياط بعد فرض الترخيص. (٢)

الأمر الثالث :

أنّ المرفوع كما عرفت هو نفس الحكم المجهول في مرحلة الظاهر وعليه فتقدير المؤاخذة أو الأثر المناسب أو جميع الآثار خلاف الظاهر ولكن ذهب جماعة إلى أنّ التقديرات المذكورة من جهة دلالة الاقتضاء بدعوى أنّ مع عدم إمكان نسبة الرفع إلى نفس ما

__________________

(١) فرائد الاصول : ١٩٧.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ٢٥٨.

٤١٥

لا يعلمون وما لا يطيقون وما استكرهوا وما اضطروا إليه إلخ ... لكونها من الأمور الواقعية والتكوينية. لا بد من أن يكون المرفوع إمّا جميع الآثار في كل واحد من التسعة وهو الأقرب اعتبار إلى المعنى الحقيقي لأنّ نفي جميع الآثار أقرب المجازات إلى نفي الحقيقة الممتنع بالفرض وإما أن يكون في كل منها ما هو الأثر المناسب أو أن يكون هو المؤاخذة في الكل وقال الشيخ الأعظم قدس‌سره عند ذكر تقدير المؤاخذة وهذا أقرب عرفا من الأوّل وأظهر من الثاني أيضا لأنّ الظاهر أنّ نسبة الرفع إلى مجموع التسعة على نسق واحد فإذا أريد من الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما اضطروا المؤاخذة على أنفسها كان الظاهر فيما لا يعلمون ذلك أيضا.

نعم يظهر من بعض الأخبار الصحيحة عدم اختصاص الموضوع عن الأمة بخصوص المؤاخذة فعن المحاسن عن أبيه عن صفوان بن يحيى والبزنطي جميعا عن أبي الحسن في الرجل يستحلف (أي يستكره) على الدين فحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك فقال عليه‌السلام : لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطئوا الخبر ... فإنّ الحلف بالطلاق والعتق والصدقة وإن كان باطلا عندنا مع الاختيار إلّا أنّ استشهاد الإمام عليه‌السلام على عدم لزومها مع الإكراه على الحلف بها بحديث الرفع شاهد على عدم اختصاصه برفع خصوص المؤاخذة لكنّ النبوي المحكي في كلام الإمام مختص بثلاثة من التسعة فلعلّ نفي جميع الآثار مختص بها فتأمل الخ. (١)

ويمكن أن يقال : إنّ لزوم التقدير بنحو من الأنحاء المذكورة بدلالة الاقتضاء متفرع على عدم إمكان إسناد الرفع إلى نفس ما لا يعلمون وما لا يطيقون وما استكرهوا وغيره والمفروض هو إمكان الإسناد إلى نفس هذه الامور لأنّ المقصود من الرفع ليس هو الإخبار عن عدم وجوده فإنّه خلاف الوجدان ضرورة وجود ما لا يعلمون وما لا يطيقون وما استكرهوا وغير ذلك هذا مضافا إلى أنّ قاعدة الاشتراك تمنع رفع ما لا يعلمون من الأحكام واقعا.

__________________

(١) فرائد الاصول : ١٩٥ ـ ١٩٦.

٤١٦

بل المراد من الرفع هو الرفع التشريعي كالنفي التشريعي فكما أنّ نفس الضرر في مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ضرر ولا ضرار منفي بالنفي التشريعي بمعنى أنّ الضرر من أي جهة وسبب كان محكوم بالنفي شرعا وهو يرجع في الحقيقة إلى نفي أسباب الضرر من الحكم الضرري أو تجويز الضرر أو غير ذلك مما يرتبط بنحو بالشارع.

فكذلك الرفع التشريعي يدل على أنّ نفس ما لا يعلمون وما لا يطيقون وما استكرهوا وغيره محكوم بالرفع شرعا وهو يرجع إلى رفع تنجيز الأحكام الموجودة المجهولة وأحكام ما ينطبق عليه العناوين الأخر مما لا يطيقون وما استكرهوا وغير ذلك وبالجملة معنى الرفع التشريعي عبارة عن عدم اعتبار الشارع شيئا من مصاديق ما لا يعلمون وغيره تكوينا في عالم التشريع ومقتضاه هو رفع تنجيز أحكام هذه الأمور.

قال السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره : وأمّا إن أريد بالرفع الرفع التشريعي بمعنى عدم كون الفعل موردا للاعتبار الشرعي وبعبارة أخرى الرفع التشريعي عبارة عن عدم اعتبار الشارع شيئا من مصاديق ما هو من مصاديقه تكوينا كما في جملة من موارد الحكومة كقوله لا ربا بين الوالد والولد فكان إسناد الرفع إلى التسعة حقيقيا بلا فرق بين أن يراد من الموصول في ما لا يعلمون الحكم أو الفعل الخارجي. (١)

لا يقال : إنّ التقدير وإن كان منفيا بأصالة عدم التقدير ومحتاجا إلى عناية ولكن لا ترجيح لتوجيه الرفع إلى الوجود التشريعي أيضا لأنه أيضا يحتاج إلى عناية.

لأنّا نقول كما أفاد السيّد الشهيد الصدر قدس‌سره بأنّ هذه عناية يقتضيها نفس ظهور حال الشارع في أنّ الرفع صادر منه بما هو شارع وبما هو إنشاء لا إخبار بخلاف عناية التقدير فإنّها خلاف الأصل حتى في كلام الشارع بما هو مستعمل. (٢)

والتحقيق أنّ الرفع في المقام لا يحتاج إلى ادعاء وعناية أصلا فإنّ الرفع رفع عن الامّة

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٢٦١.

(٢) دروس في علم الاصول ، الحلقة الثالثة : ٤٤ ـ ٤٥.

٤١٧

كما يدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصدر رفع عن أمّتي التسعة إلخ ... لا الرفع المطلق ولعله هو منشأ الفرق بين الرفع التشريعي في المقام والنفي التشريعي في لا ضرر ولا ضرار فإنّ النفي في الثاني مطلق بخلاف الرفع في المقام فإنّه رفع عن الأمة وعليه فما يتوجه إلى الأمة والأشخاص هو الأحكام سواء كانت تلك الأحكام أحكام مجهولة أو أحكام ما استكرهوا عليه أو ما اضطروا إليه أو ما لا يطيقون أو أحكام موارد الخطأ والنسيان وحديث الرفع يدل على رفع ثقل هذه الأحكام عن الأمّة وهو لزومها وتنجيزها.

ولقد أفاد وأجاد في تسديد الاصول حيث قال إنّ تعبير الحديث هو رفع التسعة عن الامة ورفع شيء عن الأشخاص ظاهر عرفا في نفي الإلزام به عنه وهو معناه العرفي بلا أيّ تأويل وخلاف ظاهر إلى أن قال وقد ظهر ممّا ذكرناه أنّه لا مجال للجواب عن الإشكال بأنّ نسبة الرفع إلى التسعة مبنية على الادّعاء ومن قبيل المجاز العقلي ولا حاجة إلى التقدير وذلك أنّ الظاهر عرفا من قولنا (رفع عنك كذا) هو نفي الإلزام به عنك ونفي تحميله عنك وهو لا يحتاج إلى تقدير إلى أن قال وبالجملة فرق بين الرفع أو النفي المطلق وبين الرفع عن الاشخاص. (١)

فتحصّل أنّ إسناد الرفع إلى ما لا يعلمون وسائر الفقرات إسناد حقيقي ومعه فلا حاجة إلى عناية وتقدير لأنّ المرفوع في جميع الفقرات هو الإلزام الشرعي في مرحلة الجهل والإكراه والاضطرار والنسيان والخطأ ونحوها وتقدير المؤاخذة أو الأثر المناسب أو جميع الآثار مخالف لأصالة عدم التقدير ولا موجب للذهاب إليه مع إمكان إسناد الرفع إلى نفس ما لا يعلمون وما لا يطيقون وغيرهما من الإلزامات عن الامة المرحومة في مرحلة الظاهر فتدبر جيدا.

ومما ذكر يظهر ما في الكفاية حيث فصّل بين ما لا يعلمون وغيره من الفقرات حيث قال لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ولا غيرها من الآثار الشرعية فيما لا يعلمون

__________________

(١) تسديد الاصول ٢ ، ١٣٠.

٤١٨

فإنّ ما لا يعلم من التكليف مطلقا كان في الشبهة الحكمية أو الموضوعية بنفسه قابل للرفع والوضع شرعا وإن كان في غيره لا بد من تقدير الآثار أو المجاز في إسناد الرفع إليه فإنّه ليس ما اضطروا وما استكرهوا إلى آخر التسعة بمرفوع حقيقة. (١)

وذلك لما عرفت من أنّ الظاهر من رفع ما اضطروا أو ما استكرهوا وغيرهما بقيد عن الامة هو رفع الإلزام عنهم في هذه الموارد. هذا مقتضي اضافة الرفع إلى ذمّة الأمّة ففي هذه الموارد أيضا رفع الإلزام والتنجيز وعليه فلا حاجة إلى تقدير الآثار كما لا حاجة إلى المجاز في الإسناد بعد دلالة المقام على أنّ المرفوع في جميع الموارد المذكورة هو نفس الإلزامات والأحكام فتدبر جيدا.

إذا عرفت هذه الأمور فقد اتضح دلالة الحديث الشريف على أنّ الإلزامات المجهولة الموجودة في الواقع مرفوعة عن الامّة المرحومة في مرحلة الظاهر والموارد المذكورة وإن كانت موجودة في الواقع ومعنى رفعها هو رفع ثقلها عنهم في مرحلة الظاهر ولا منافاة بين الإلزام الواقعي والترخيص الظاهري لما تقدم من إمكان الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ولازم رفع الحكم الواقعي في مرحلة الظاهر هو عدم وجوب الاحتياط فمع عدم وجوب الاحتياط لا مجال للعقاب والمؤاخذة وعليه فحديث الرفع ينافي وجوب الاحتياط.

ثم إنّ ما لا يعلمون لا يختص بالشبهات الموضوعية بل يعم الشبهات الحكمية لإطلاق الموصول كما لا يخفى. وقد أورد عليه شيخنا الأعظم قدس‌سره بأنّ الظاهر من الموصول فيما لا يعلمون بقرينة أخواتها هو الموضوع أعني فعل المكلف الغير المعلوم كالفعل الذي لا يعلم أنّه شرب الخمر أو شرب الخلّ وغير ذلك من الشبهات الموضوعية فلا يشمل الحكم الغير المعلوم. (٢)

ويمكن الجواب عنه كما أفاد في الدّرر بأنّ عدم تحقق الاضطرار في الأحكام وكذا الإكراه لا يوجب التخصيص في قوله عليه‌السلام «ما لا يعلمون» ولا يقتضي السياق ذلك فإنّ عموم

__________________

(١) الكفاية ٢ : ١٧٤.

(٢) فرائد الاصول : ١٩٥.

٤١٩

الموصول إنّما يكون بملاحظة سعة متعلقه وضيقه فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما اضطروا إليه» اريد منه كل ما اضطر إليه في الخارج غاية الأمر لم يتحقق الاضطرار بالنسبة إلى الحكم فيقتضي اتّحاد السياق أن يراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «ما لا يعلمون» أيضا كل فرد من أفراد هذا العنوان ألا ترى أنّه إذا قيل «ما يؤكل وما يرى» في قضية واحدة لا يوجب انحصار أفراد الأوّل في الخارج ببعض الأشياء تخصيص الثاني أيضا بذلك البعض وهذا واضح جدا. (١)

وقال شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره : إنّ الموصول بمقدار عموم صلته قد عمّ ولم يشذ عنه شيء من أفراد الصلة وعلى هذا فقضيّة وحدة السياق ان يكون الحال في ما لا يعلمون أيضا كذلك. (٢)

وأوضح ذلك السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره حيث قال إنّ الموصول في جميع الفقرات مستعمل في معنى واحد وهو معناه الحقيقي المبهم المرادف للشيء ولذا يقال إنّ الموصول من المبهمات وتعريفه إنّما بالصلة فكأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال رفع الشيء الذي لا يعلم والشيء الذي لا يطيقون والشيء المضطر إليه وهكذا فلم يستعمل الموصول في جميع الفقرات إلّا في معنى واحد غاية الأمر أنّ الشيء المضطر إليه لا ينطبق خارجا إلّا على الأفعال الخارجية وكذا الشيء المكره عليه بخلاف الشيء المجهول فإنّه ينطبق على الحكم أيضا والاختلاف في الانطباق من باب الاتفاق من جهة اختلاف الصلة لا يوجب اختلاف المعنى الذي استعمل فيه الموصول كي يضرّ بوحدة السياق فإنّ المستعمل فيه في قولنا ما ترك زيد فهو لوارثه وما ترك عمرو فهو لوارثه وما ترك خالد فهو لوارثه شيء واحد فوحدة السياق محفوظة ولو كان هذا المفهوم منطبقا على الدار في الجملة الأولى وعلى العقار في الثانية وعلى الأشجار في الثالثة فلا شهادة لوحدة السياق على أنّ متروكات الجميع منطبقة على جنس واحد والمقام من هذا القبيل بعينه. (٣)

__________________

(١) الدرر : ٤٤١.

(٢) اصول الفقه ٣ : ٦٠٢.

(٣) مصباح الاصول ٢ : ٢٦٠.

٤٢٠