عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

٨ ـ الظنّ المطلق

ولا يخفى عليك أن الظن المطلق يكون في مقابل الظن الخاص كخصوص الخبر أو خصوص ظهورات الالفاظ ونحوهما من الظنون الخاصة.

ثم إنّ الادلة التي أقاموها في المقام على حجية الظن المطلق لا تدل على حجية خصوص الظن الخبري وإن كان الخبر مطلقا أو قسم منه متيقن الثبوت من هذه الادلة التي لا تدل إلّا على حجية الظن في الجملة.

وبهذا يظهر الفرق بين الأدلة التي اقيمت في المقام وبين الادلة التي مضت لحجية الخبر من الآيات والروايات ؛ فإنها دلت على حجية خصوص الظن الخبري مثلا ، بخلاف أدلة المقام فانها تقوم على اعتبار الظن المطلق ، ولا نظر لها الى خصوص الظن الخبري ونحوه ، كما هو واضح.

ثمّ إنّ الوجوه التي ذكروها في المقام لاثبات حجية الظن المطلق على قسمين :

الأول : ما لا يختص بزمان الانسداد ، بل يشمل زمان الانفتاح وزمان امكان تحصيل العلم أو العلمي بالأحكام الواقعية.

والثاني : ما يختص بزمان انسداد باب العلم أو العلمي ، وهو الذي يعبر عنه بالظن الانسدادي ، ولذا يقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل :

في الوجوه التي ذكروها لحجية الظن المطلق من دون اختصاص لها بزمان الانسداد ، وهي متعددة :

الوجه الأوّل :

أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنّة للضرر ، وحيث أن دفع الضرر لازم ، فالواجب هو لزوم التبعية عما ظنه من الحكم المذكور ، وهذا هو معنى الحجية.

وهذا الدليل مركب من الصغرى والكبرى :

٣٤١

أما الصغرى وهي أن مخالفة المجتهد لما ظنّه مظنة للضرر فلأنّ الظن بالوجوب ظنّ باستحقاق العقوبة على الترك كما أنّ الظن بالحرمة ظن باستحقاق العقوبة على الفعل أو لأنّ الظنّ بالوجوب ظن بوجود المفسدة في الترك كما أن الظن بالحرمة ظنّ بالمفسدة في الفعل بناء على قول العدلية بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

وأمّا الكبرى وهو وجوب دفع الضرر فهو حكم الزامي عقلي يدركه كل عاقل بحيث لو تخلف عنه استحق العقوبة والمذمة ، ولذا استدل به المتكلمون على وجوب شكر المنعم ووجوب النظر في المعجزة ولزوم استماع دعوى النبي أو الولي ، كما لا يخفى.

أورد عليه الشيخ الأعظم قدس‌سره بأنّ الصغرى ممنوعة سواء كان المراد من الضرر المظنون هو العقوبة أو المفسدة.

أمّا إذا كان المراد من الضرر المظنون هو العقوبة فلانّ استحقاق العقاب على الفعل أو الترك كاستحقاق الثواب عليهما ليس ملازما للوجوب والتحريم الواقعيين ، كيف وقد يتحقق التحريم ونقطع بعدم العقاب في الفعل كما في الحرام والواجب المجهولين جهلا بسيطا أو مركبا ، بل استحقاق الثواب والعقاب إنّما هو على تحقق الاطاعة والمعصية اللتين لا تتحققان إلّا بعد العلم بالوجوب والحرمة أو الظنّ المعتبر بهما. (١)

وبعبارة أخرى : استحقاق العقاب من آثار تنجز التكليف لا من لوازم وجوده الواقعي ، ولا يتنجز التكليف إلّا بالوصول ، ومع عدم العلم الوجداني به أو الحجة المعتبرة لا وصول ، ومع عدم الوصول لا تنجز للتكليف الواقعي ، ومع عدم تنجز التكليف الواقعي لا عقاب على مخالفته ؛ لأنه عقاب بلا بيان بحكم العقل ، كما لا يخفى.

والظن الغير المعتبر لا يوجب تنجيز التكليف الواقعي ؛ لأنه ليس ببيان عند العقلاء ، ولا يصل التكليف بالظن الغير المعتبر كما لا يصل بالشك ، فلا ملازمة بين الظن الغير المعتبر بالتكليف وبين الظن بالعقاب ؛ لما عرفت من أن استحقاق العقاب متفرع على تنجز

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ١٠٨.

٣٤٢

التكليف ، وهو لا يحصل عند العقلاء إلّا بالوصول ، وهو لا يتحقق إلّا بالعلم أو قيام الظن المعتبر عليه ، والمفروض هو العدم.

نعم لو لم نقل باستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان كان احتمال العقوبة في فرض الظن الغير المعتبر بالحكم موجودا ، أو معه تجري قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ؛ ولذا قال الشيخ الأعظم قدس‌سره : نعم لو ادعي أن دفع الضرر المشكوك لازم توجه فيما نحن فيه الحكم بلزوم الاحتراز في صورة الظن بناء على عدم ثبوت الدليل على نفي العقاب عند الظن ، فيصير وجوده محتملا ، فيجب دفعه. (١)

وهكذا قال صاحب الكفاية : إلّا أن يقال : أن العقل وإن لم يستقل بتنجزه بمجرد الظن الغير المعتبر بالحكم بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته ، إلّا أنّه لا يستقل أيضا بعدم استحقاقها معه ، فيتحمل العقوبة حينئذ على المخالفة. ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة جدا لا سيّما اذا كان هو العقوبة الاخروية. (٢)

وعليه فمع ضميمة هذه الصغرى مع الكبرى تفيد وجوب التبعية عما ظنه المجتهد من الحكم.

ولكن دعوى عدم استقلال العقل بعدم استحقاق العقوبة مع وجود الظن الغير المعتبر مع أن التكليف غير واصل بمجرد الظن الغير المعتبر ، كما ترى. ولذا صرح الشيخ الأعظم بعد ما عرفت من عبارته بقوله : لكنه رجوع عن الاعتراف باستقلال العقل وقيام الاجماع على عدم المؤاخذة على الوجوب والتحريم المشكوكين. (٣)

كلام حول حق الطاعة

ربما يقال : إنّ حق الطاعة لله تعالى ثابت على عبيده ، وعلى هذا الاساس يحكم العقل

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٠٩.

(٢) الكفاية : ج ٢ ص ١١٠ ـ ١١١.

(٣) فرائد الاصول : ص ١٠٩.

٣٤٣

بوجوب اطاعة الله ولو في موارد احتمال التكليف ، فكما أن الانسان اذا علم بتكليف من الله كان من حق الله تعالى أن يمتثله ، فكذلك اذا ظن بالتكليف أو احتمله كان من حق الله تعالى أيضا أن يأتي به ويمتثله حتى يؤدي اليه تعالى حقه. وهذا الادراك العقلي لا يختص بالتكاليف المعلومة ، بل هو موجود في المحتملات والمظنونات ما لم يرخص الشارع في ترك التحفظ والاحتياط. وعليه فالبراءة العقلية لا أصل لها ؛ لانه اذا كان حق الطاعة يشمل التكاليف المشكوكة فهو بيان رفع البيان.

فلا يكون عقاب الله للمكلف اذا خالفها قبيحا ؛ لانّ المخالف يفرط في حق مولاه بالمخالفة فيستحق العقوبة ، ومع عدم جريان قاعدة قبح العقاب فاحتمال العقوبة موجود ، ومع وجود احتمال العقوبة في المظنونات والمشكوكات يجب دفعه ؛ لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل أو المظنون ويتم البرهان.

ويمكن الجواب عنه بانّ المعلوم من طريقه الشارع أنه لم يتخذ في باب الامتثال طريقة غير طريقة العقلاء. ولو لا ذلك لبيّن طريقة اخرى غير طريقتهم في اطاعة الموالي. ولو بينها لشاعت ولبانت في مثل هذه المسألة التي تكون مورد الابتلاء ، والطريق العقلائي في الاطاعة والامتثال هو لزومهما عند احراز موضوعهما ، بخلاف ما اذا لم يثبت موضوعهما ، وعليه فاذا ثبت أن حق الطاعة في الموالي العرفية يختص بالتكاليف المعلومة فحق الطاعة في مورد الله سبحانه وتعالى أيضا كذلك.

ولا يوجب أو سعية حقه تعالى رفع اليد عن الطريقة العقلائية بعد عدم اتخاذ الشارع طريقه اخرى غير طريقة العقلاء في مقام الامتثال ومن المعلوم أن كبرى لزوم اطاعة الله كسائر الكبريات النقلية والشرعية تتوقف على احراز الموضوع ، وبدونه لا تنتج الحكم بلزوم الاتيان بالشيء أو الترك ، فالمحتملات لا يحرز كونها اطاعة للمولى ، ومع عدم الاحراز فلا يجب الاطاعة فيها ، واحتمال العقوبة فيها ينتفي بقاعدة قبح العقاب بلا بيان بعد اختصاص حق الطاعة بالتكاليف المعلومة بالعلم الوجداني أو العلمي عند العقلاء ؛ اذ لا

٣٤٤

مانع من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الموارد المشكوكة ، ومع جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ينتفي احتمال العقوبة ، ومع انتفاء احتمال العقوبة يختل البرهان المذكور.

لا يقال : أن مورد جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان عند العقلاء مختص بما اذا امكن البيان ومع ذلك لم يبين ، وأما اذا لم يمكن البيان كما اذا وضع مثلا شخص يده على فم المولى ومنعه عن التكلم واحتملنا أن المولى أراد بيان وجوب كذا أو حرمة كذا فلا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وجميع الموارد المحتملة للتكاليف تكون من هذا القبيل ، فان المولى مع حدوث الموانع من الظلمة والكذبة لا يتمكن من البيان ، فلا يجوز الأخذ بقاعدة قبح العقاب بلا بيان في تلك الموارد لنفي العقوبة المحتملة عند العقلاء ، ومعه فاحتمال العقوبة موجود ، ويتم البرهان بضميمة كبرى وجوب دفع الضرر المظنون أو المحتمل.

لانا نقول : موارد قاعدة قبح العقاب بلا بيان ثلاثة :

أحدها : الموارد التي أمكن للمولى البيان ولم يبين ففى هذه الصورة يقبح العقوبة من دون فرق في ذلك بين التكاليف الواردة من ناحية المولى الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى وبين التكاليف الواردة من الموالي العرفية.

وثانيها : هى الموارد التي لا اشكال في عدم جريانها فيها وهي الموارد التي فرض العلم بوجود الارادات الحتمية فيها مع عدم تمكن المولى من البيان لوجود مانع يمنعه عن البيان أو لوجود الغفلة أو النوم عن الالتفات اليه حتى يأمر وينهى. وقياس مقامنا بهذه الموارد مع وجود الشك في ارادة المولى وأن علمنا اجمالا بحدوث الموانع من الظلمة والكذبة قياس مع الفارق اذ كل مورد يشك فيه لم يعلم بالارادة الحتميّة حتى تكون الارادة المعلومة بمنزلة البيان.

وثالثها : هى الموارد التي يشك في أنّها من قبيل الموارد الاولى أو الثانية ففي هذه الموارد تجري القاعدة عند العقلاء إلّا في بعض مهام الامور خصوصا مع ما يترتب عليه من اختلال النظام والعسر والحرج.

٣٤٥

وعليه فدعوى عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في جميع الموارد المشكوكة بعد ما عرفت من أن الشارع لم يتخذ طريقة أخرى في الامتثال كما ترى.

فتحصّل : أنّ دعوى استقلال العقل بعدم المؤاخذة على الأحكام المشكوكة كما أفاد شيخنا الأعظم غير بعيدة ، ومعه لا يحرز الصغرى لوجوب دفع الضرر المظنون أو المحتمل.

قال المحقق العراقي قدس‌سره : إن كان المراد من الضرر المظنون هو الضرر الاخروي أي العقوبة فالصغرى ممنوعة ، لعدم استلزام الظن بالتكليف للظن بالعقوبة على المخالفة مع حكم العقل الجزمي بقبح العقاب بلا بيان. (١)

ومما ذكرنا يظهر الكلام فيما قيل من أنه لو جاء احتمال العقاب ولو لاحتمال انّ العقلاء والعقل يرون الظن بمنزلة الشبهة البدوية قبل الفحص فالعقاب وإن لم يكن مظنونا بل محتملا ، ولا محالة لا تتم صغرى هذا الدليل لانتفاء الظن بالفرض ، إلّا أنّ مجرد احتماله كاف لوجوب دفعه كما في الكفاية.

وذلك لما عرفت من أنّ مع جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو بناء العقلاء على عدم المؤاخذة في المحتملات من التكاليف أو البراءة الشرعية لا مورد لاحتمال العقاب ، ومع عدم احتمال العقوبة لا مورد لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، كما لا يخفى. قال سيدنا الاستاذ المحقق الداماد قدس‌سره : وتنقيحه يستدعى رسم مقدمة هي أن العبد في مقام اطاعة المولى اما أن يشك في التكليف لكنه يعلم انه لو كان ثابتا في الواقع لما امكن ابلاغ المولى اياه المانع عقلى كالخوف وغيره او عادي كالتوهين لمقامه لو اراد طلب العبد واعلامه مقاصده.

او يشك فيه وفي وجود المانع عقليا او عاديا في الابلاغ والاعلام او يشك فيه ويعلم بصدور بعض التكاليف من قبله لكنه عرض الاختفاء لبعض الاسباب الخارجية بحيث لم يكن للمولى في ذلك تقصير.

او يعلم بصدور التكاليف ايضا لكنه يشك فى أن هذا الموضوع هل من مصاديق

__________________

(١) نهاية الافكار : ج ٣ ص ١٤٤.

٣٤٦

موضوع الحكم ام لا او يشك فيه ويعلم انه لو كان ثابتا فى الواقع ليس للمولى مانع عن اعلامه مطلقا.

اذا عرفت ما ذكرنا فنقول لا اشكال فى أن العقلاء بما هم كذلك لا يتوقفون فى محتمل المطلوبية ولا يقتحمون فى محتمل البغوضية فى مقاصدهم واغراضهم فى شيء من الموارد واذا كانوا كذلك فى الامور الراجعة اليهم فبطريق اولى فى الامور الراجعة الى مواليهم لانهم يرون العبد فانيا فى مقاصد المولى وبمنزلة اعضائه وجوارحه بحيث يجب أن يكون مطلوبه مطلوب المولى وغرضه غرضه لا غرض نفسه ومطلوبه فاذا كان العبد فى اموره بحيث ينبعث او يرتدع باحتمال النفع والضرر فيجب عليه بطريق اولى أن يرتدع بمجرد احتمال كون هذا مطلوبا للمولى او كون ذاك مبغوضا له واذا كان هذا حكم العقلاء بما هم فكيف يحكم العقل بقبح العقاب من غير بيان.

نعم لما يؤدى الاعتناء بمجرد الاحتمال في الموارد التى عرفت الى اختلال النظام وعدم نظم المعاش بنوا على الحكم بالعدم فيما لم يكن للمولى مانع لا عقلى ولا عادى عن اعلام مقاصده ولم يكن مانع ايضا عن وصوله الى العبد بعد صدوره عنه وحيث لم يردعهم المولى عن هذا البناء يحتجون عليه فيما اراد المولى ان يعاقبهم على ترك محتمل المطلوبية او فعل محتمل المبغوضية بانك لو اردت لكان عليك الاظهار والاعلام وهذا البناء كبنائهم على حجية الظواهر لتنظيم امور المعاش فانه لولاه لكان الامر مؤديا الى الاختلال والاغتشاش (١)

ولقائل أن يقول لو سلمنا وجود بناء العقلاء على الاحتياط فى جميع الموارد المذكورة حتى مع عدم العلم بالتكليف مجرد احتماله فلا يمكن الاستدلال به للاولوية فى المقام لان بناء الشارع على الاخذ بالسهولة ومع هذا الفرق بين مولى الموالى وسائر العقلاء كيف يمكن التعدى عن مورد البناء الى المقام بالاولوية فلا تغفل.

__________________

(١) المحاضرات ٢ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

٣٤٧

هذا مضافا الى أن وجود البناء على الاحتياط فيما اذا شك فى اصل التكليف وفي وجود المانع عقليا او عاديا في الابلاغ والاعلام او فيما اذا شك في التكليف وعلم أن التكليف له لو كان ثابتا في الواقع لما امكن ابلاغ المولى اياه لمانع عقلى او عادى غير محرز.

كما انه لا بناء على الاحتياط فيما اذا شك في التكليف وعلم انه لو كان ثابتا في الواقع ليس للمولى مانع عن اعلامه مطلقا وسيأتى أن شاء الله تعالى بقية الكلام في الموضعين من البراءة فانتظر

هذا تمام الكلام فيما اذا كان المراد من الضرر المظنون هو العقوبة فقد عرفت أن الصغرى ممنوعة ، فيختل بذلك القياس المذكور لحجية الظن المطلق.

وأما اذا كان المراد من الضرر المظنون هو الظن بالالقاء في المفسدة أو الظن بتفويت المصلحة ففيه أيضا منع الصغرى كما في فرائد الاصول حيث قال : أن الضرر بهذا المعنى وإن كان مظنونا إلّا أن حكم الشارع قطعا أو ظنا بالرجوع في مورد الظن الى البراءة والاستصحاب وترخيصه لترك مراعاة الظن أوجب القطع أو الظن بتدارك ذلك الضرر المظنون ، وإلّا كان ترخيص العمل على الأصل المخالف للظن القاء في المفسدة أو تفويت المصلحة.

ولذا وقع الاجماع على عدم وجوب مراعاة الظن بالوجوب أو الحرمة اذا حصل الظن من القياس وعلى جواز مخالفة الظن في الشبهات الموضوعية حتى يستبين التحريم أو تقوم به البيّنة. (١)

لا يقال : أن تدارك الضرر ممنوع ؛ لامكان أن يكون ملاك جعل الحجية مصلحة عامة أو دفع مفسدة عامة راجعة الى أصل الشريعة لا الى اشخاص المكلفين ، فهنا أيضا ربما كان مصلحة رفع التكليف الغير المعلوم في مثل البراءة الشرعية والاستصحاب هي أن لا تكون الشريعة صعبة مضيقة حرجية لكي لا ينزجر ابناء النوع الانساني عنها ويدخلوا فيها

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ١٠٩ ـ ١١٠.

٣٤٨

أفواجا ، وهي مصلحة رفيعة لازمة الرعاية ، ورعايتها لا تنافي وقوع المكلف في الضرر الدنيوي الذي هو من قبيل الملاكات.

لانا نقول : مع الغمض عن كون المفاسد والمصالح المظنونة أيضا من المصالح والمفاسد العامة إن تدارك الضرر أو المفسدة أو تفويت المصلحة كما يحصل بالمصلحة العائدة الى الشخص لأهمية المصلحة أيضا ، فكذلك يحصل بالمصالح العامة الاجتماعية ؛ لأنّ الشخص من جملة المجتمع وينتفع بتلك المصالح ايضا ، ولذا لا تأبى النفوس عن جعل الجهاد أو الخمس والزكاة ، مع أن هذه الأحكام لا تخلو عن الضرر النفسي أو المالي الشخصي ، ولكن هذه الأضرار متداركة بالمصالح العامة العائدة الى المجتمع الذي يكون الشخص فردا منه ، وهو كاف في خروج الموضوع الضرري عن موضوع الحكم العقلي بوجوب دفعه ، كما لا يخفى.

هذا كله مضافا الى ما في الكفاية من قوله : وأمّا المفسدة فلانها وإن كان الظنّ بالتكليف يوجب الظن بالوقوع فيها لو خالفه ، إلّا أنّها ليست بضرر على كل حال ؛ ضرورة إن كل ما يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم أن يكون من الضرر على فاعله ، بل ربما يوجب حزازة ومنقصة في الفعل بحيث يذمّه عليه فاعله بلا ضرر عليه أصلا. وأمّا تفويت المصلحة فلا شبهة في أنه ليس فيه مضرة ، بل ربما يكون في استيفائها المضرّة كما في الاحسان بالمال. (١)

فمع التدارك أو عدم ملازمة الظن بالتكليف للظن بالضرر فلا مجال لقاعدة دفع الضرر المظنون هاهنا اصلا ؛ لعدم احراز موضوعها كما لا يخفى.

هذا كله مع الغمض عما يرد على الكبرى في هذا المقام فقد ذهب المحقق العراقي في نهاية الأفكار الى أنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر الدنيوي ليس إلّا من باب الارشاد. (٢) ومن المعلوم أنّ معنى كونه ارشادا أنه لا يستتبع حكما شرعيا بحيث يترتب على مخالفته عقوبة

__________________

(١) الكفاية : ج ٢ ص ١١١.

(٢) نهاية الافكار : ج ٢ ص ١٤٤.

٣٤٩

وراء الضرر الذي ارتكبه ووقع فيه. وعليه فلا يصلح للاستدلال بهذه الكبرى على وجوب التبعية عن الظن بحيث يترتب العقوبة على مخالفة الظن.

ولكن يمكن أن يقال : أن حمل حكم العقل في جميع الموارد على الارشاد مع أن بعض المضار ولو كانت دنيوية مما يحكم العقل بقبح ارتكابها كقتل الشخص نفسه محل تأمل ونظر ، ولعل من هذه الموارد المفاسد المظنونة التي تحوط الانسان بسبب مخالفة الأحكام المظنونة الشاملة لجميع أموره وشئونه ، وعليه فلا يصح حصر حكم العقل في الارشاد بالنسبة الى الضرر الدنيوي.

ثمّ إنّ المراد من حكم العقل هو الاذعان بقبح الاقدام على الضرر ، وهذا الاذعان مما نجده بالوجدان بالنسبة الى بعض الظنون.

ودعوى : أنّ ملاك التقبيح هو بناء العقلاء وبناؤهم على مدح فاعل بعض الأفعال من جهة كونه ذا مصلحة عامة موجبة لانحفاظ النظام ، كما أنّ ذم فاعل بعضها الآخر من جهة كونه ذا مفسدة مخلة بالنظام ؛ ولذا توافقت آراء العقلاء الذين على عهدتهم حفظ النظام بايجاد موجباته واعدام موانعه على مدح فاعل ما يحفظ به النظام وذم فاعل ما يخل به. والاقدام على الضرر الشخصي ليس كذلك ، وعليه فلا يكون قاعدة دفع الضرر قاعدة عقلائية.

مندفعة : بأنّ حكم العقل بقبح فعل أو حسنه ليس من باب المشهورات العقلائية ، بل هو حكم عقلي ناش من قبح الظلم وحسن العدل ، ومن المعلوم انهما لا يتوقفان على الاجتماع وآراء العقلاء ، بل هو ثابت ولو في فرض كون الانسان وحيدا ليس معه غيره.

ثمّ أن المحقق الاصفهاني قدس‌سره ذهب الى أن الضرر المظنون مما ينفر عنه كل ذي شعور ، ومجرد ذلك لا يجدي في ترتب العقوبة على مخالفة المظنون. (١)

ولا يخفى ما فيه من أنّ ذلك لا ينافي أن يحكم به العقل أو الشرع أيضا في بعض أقسام الضرر كأكل الخبائث ، فانّ النفوس متنفرة عنها ومع ذلك يحكم العقل أو الشرع بتركه لئلا

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٩٦ و ١٩٢ و ٣٠٤.

٣٥٠

يرتكبه بعض النفوس بدواع أخر. وبالجملة أن العمدة هو منع الصغرى ، وأما الكبرى فهي ثابتة في الجملة.

الوجه الثاني :

أنّه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح ، وعليه فيجب الأخذ بالظن المطلق ، وهذا هو معنى حجية الظن.

ربما يجاب عنه بمنع الكبرى بدعوى أنه ليس ترجيح المرجوح على الراجح قبيحا ؛ لأنّ المرجوح قد يوافق الاحتياط ، فالأخذ بالمرجوح حينئذ حسن عقلا ، وليس بقبيح.

أجاب عنه شيخنا الأعظم قدس‌سره بأنّ المرجوح المطابق للاحتياط ليس العمل به ترجيحا للمرجوح ، بل هو جمع في العمل بين الراجح والمرجوح ، مثلا إذا ظنّ عدم وجوب شيء وكان وجوبه مرجوحا فحينئذ الاتيان به من باب الاحتياط ليس طرحا للراجح في العمل ؛ لأنّ الاتيان لا ينافي عدم الوجوب. (١)

فالأولى هو أن يجاب عنه بمنع الصغرى ؛ إذ كبرى قبح ترجيح المرجوح على الراجح واضحة ولا مجال لإنكارها.

فنقول : انّ الاستدلال بذلك إن كان في صورة الانفتاح كما هو محلّ الكلام في هذا المقام فلا دوران حينئذ ؛ لأنّ بعد قيام العلم أو العلمي بالنسبة الى الأحكام الواقعية ينحل العلم الاجمالي بالأحكام في موارد العلم والعلمي ، ولا علم بوجودها بين مورد الظن وبين طرفه من الشك والوهم حتى يقال لزم الأخذ بالظن لئلا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وحينئذ فمع عدم العلم بوجود الأحكام الشرعية بين الظن وطرفه من الشك والوهم يرجع الى البراءة العقلية أو الشرعية في جميع الاطراف ، ولا يلزم منه ترجيح المرجوح على الراجح ؛ لان نسبة البراءة الى جميع الاطراف متساوية.

وإن كان الاستدلال بذلك في صورة الانسداد ولزوم الأخذ بالظن أو طرفه من الشك والوهم دار الأمر بين ترجيح الظن وترجيح طرفه ، ولكنه يتوقف على تمامية مقدمات

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ١١٠.

٣٥١

الانسداد ، وهي فيما اذا ثبت التكليف ولم ينحل العلم الاجمالي ولم يمكن الاحتياط عقلا كصورة استلزام الاحتياط باختلال النظام أو شرعا كصورة استلزام الاحتياط للعسر والحرج ، وإلّا فمع الانحلال أو إمكان الاحتياط فلا تصل النوبة الى الدوران بين ترجيح الراجح وترجيح المرجوح ؛ لأنّ اللازم عليه أن يعمل بموارد الانحلال أو يعمل بالاحتياط في جميع الاطراف لقاعدة الاشتغال.

وبالجملة فاثبات الصغرى يحتاج الى تمامية مقدمات الانسداد ، وهو خارج عن هذا المقام ؛ لأنّ محل البحث هو ملاحظة الدليل لاثبات حجية الظن من دون الاختصاص بحال الانسداد.

ولقد أفاد وأجاد شيخنا الأعظم قدس‌سره حيث قال في مقام تحليل الجواب وتوضيحه : أن تسليم القبيح فيما اذا كان التكليف وغرض الشارع متعلقا بالواقع ولم يمكن الاحتياط ، فانّ العقل قاطع بأنّ الغرض إذا تعلق بالذهاب الى بغداد وتردد الأمر بين الطرفين أحدهما مظنون الايصال والآخر موهومه فترجيح الموهوم قبيح ؛ لأنّه نقض للغرض.

وأمّا إذا لم يتعلق التكليف بالواقع أو تعلق به مع إمكان الاحتياط فلا يجب الأخذ بالراجح بل اللازم في الأول هو الأخذ بمقتضى البراءة وفي الثاني الأخذ بمقتضى الاحتياط ، فاثبات القبح موقوف على ابطال الرجوع الى البراءة في موارد الظن وعدم وجوب الاحتياط فيها ، ومعلوم أنّ العقل قاض حينئذ يقبح ترجيح المرجوح بل ترك ترجيح الراجح ، فلا بد من ارجاع هذا الدليل الى دليل الانسداد الآتي المركب من بقاء التكليف وعدم جواز الرجوع الى البراءة وعدم لزوم الاحتياط وغير ذلك من المقدمات التي لا يتردد الأمر بين الأخذ بالراجح والأخذ بالمرجوح إلّا بعد ابطالها. (١)

وتبعه في الكفاية حيث قال : لا يكاد يلزم من عدم الأخذ بالظن ترجيح المرجوح على الراجح إلّا فيما اذا كان الأخذ بالظن أو بطرفه لازما مع عدم امكان الجمع بينهما عقلا وعدم

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ١١١.

٣٥٢

وجوبه شرعا ليدور الأمر بين ترجيحه وترجيح طرفه ، ولا يكاد يدور الامر بينهما إلّا بمقدمات دليل الانسداد ، وإلّا كان اللازم هو الرجوع الى العلم أو العلمي أو الاحتياط أو البراءة أو غيرهما على حسب اختلاف الأشخاص أو الأحوال في اختلاف المقدمات. (١) فتحصّل : أنه لا دليل على حجية الظن المطلق في حال الانفتاح.

المقام الثاني :

في دليل الانسداد وهذا الدليل الذي استدل به على حجية الظن المطلق في زمان الانسداد مؤلف من عدة مقدمات يستقل العقل مع ثبوتها بكفاية الاطاعة الظنية أو يستكشف بها مشروعية التبعية عن الظن في مقام الامتثال ، وهذه المقدمات خمسة :

المقدمة الأولى :

أنه يعلم اجمالا بثبوت تكاليف كثيرة في الشريعة الاسلامية بالنسبة الينا ، وأطراف هذا العلم الإجمالي لا تختص بموارد الأخبار.

المقدمة الثانية :

أنه ينسد باب العلم أو العلمي بالنسبة الى معظم الأحكام الشرعية المعلومة بالاجمال لعدم كونهما بمقدارها.

المقدمة الثالثة :

أنه لا يجوز اهمال التكاليف المعلومة بالاجمال وترك التعرض لامتثالها لتنجز التكاليف بالعلم الاجمالي.

المقدمة الرابعة :

أنّه لا مجال للرجوع الى الوظائف المقررة للجاهل بالأحكام من الاحتياط التام في جميع الاطراف ؛ للزوم الاختلال أو العسر والحرج ، ومن الرجوع الى فتوى الغير الذي يعتقد الانفتاح ؛ لمنافاته مع العلم بالانسداد ، ومن الرجوع الى القرعة ؛ لعدم جواز الأخذ بها في

__________________

(١) الكفاية : ج ٢ ص ١١٢.

٣٥٣

الشبهات الحكمية ، ومن الرجوع الى الاصول العملية المختلفة بحسب اختلاف المسائل كقاعدة الاشتغال والاستصحاب والتخيير والبراءة.

المقدمة الخامسة : انّ ترجيح المرجوح على الراجح قبيح ، كما هو واضح.

فاذا تمت المقدمات المذكورة ودار الأمر بين الامتثال الظني وغيره من الشكي والوهمي لا يجوز التنازل الى الامتثال الشكي والوهمي في مقام الامتثال ؛ لانه ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح ، بل اللازم هو الأخذ بالامتثال الظني.

هذا تمام الكلام في الاستدلال الذي اقاموه على حجية الظن المطلق في زمان الانسداد ، ولكن الاستدلال المذكور لا يتم لعدم ثبوت بعض مقدماتها.

ملاحظات حول دليل الانسداد

أمّا المقدمة الاولى فهي وإن كانت بديهية إلّا أنّ العلم الاجمالي في الدائرة الكبيرة ينحل بالعلم الاجمالي في الدائرة الصغيرة وهي الأخبار ، ومعه لا موجب للاحتياط إلّا في خصوص دائرة الأخبار ، ومع اختصاص موارد الاحتياط بموارد الروايات فلو تمت المقدمات الأخرى لم يثبت إلّا وجوب العمل بالروايات لا حجية الظنّ المطلق ، مع أن غرض الاستدلال بتلك المقدمات هو حجية الظن المطلق ولو لم يستفد من الأخبار ، فلا تغفل.

وأمّا المقدمة الثانية ففيها منع عدم وفاء العلمي بمعظم الأحكام وأن انسدّ باب العلم ؛ وذلك لما يحكم به الوجدان من عدم بقاء العلم الاجمالي بالأحكام بعد الأخذ بأخبار الثقات وغيرها من اليقينيات والمعلومات التفصيلية ، وقد مرّ أن أخبار الثقات حجة وإن لم تفد الوثوق النوعي ، وهكذا عرفت حجية الخبر الموثوق الصدور وإن لم يكن رواتها ثقات. ومن المعلوم أن أخبار الثقات مع الأخبار الموثوق بها مع ضميمة اليقينيات والمعلومات التفصيلية كانت وافية بمعظم الفقه ، ومعها ينحل العلم الاجمالي ، ولا مجال معها لدعوى الانسداد ، كما لا يخفى.

٣٥٤

نعم من ذهب الى حجية خصوص أخبار العدول أو خصوص ما يفيد الوثوق الفعلي أو الوثوق النوعي ـ كما ذهب اليه في الفرائد ـ لا يتمكن من دعوى الانفتاح ؛ لعدم كونها بمقدار معظم الأحكام.

ولعله لذا لم يجزم الشيخ في الفرائد بمنع هذه المقدمة حيث جعل ثبوتها معلقا على عدم ثبوت حجية الأدلة المتقدمة لحجية الخبر الواحد بمقدار يفي بضميمة الأدلة العلمية وباقي الظنون الخاصة باثبات معظم الأحكام الشرعية. (١)

ولقد أفاد وأجاد في الكفاية حيث قال : وأمّا المقدمة الثانية أمّا بالنسبة الى العلم فهي بالنسبة الى أمثال زماننا بيّنة وجدانية يعرف الانسداد كل من تعرض للاستنباط والاجتهاد ، وأمّا بالنسبة الى العلمي فالظاهر أنّها غير ثابتة ؛ لما عرفت من نهوض الادلة على حجية خبر يوثق بصدقه وهو بحمد الله واف بمعظم الفقه لا سيّما بضميمة ما علم تفصيلا منها ، كما لا يخفى. (٢)

وعليه فيختل دليل الانسداد بمنع هذه المقدمة ، ولا ثمرة للبحث عن سائر المقدمات إلّا في المشابهات للمقام مع ثبوت المقدمة الثانية فيها.

كدعوى الانسداد في ترجمة الرجال بعد وجود العلم الاجمالي بوجوب الأخذ برواياتهم وانسداد باب العلم والعلمي في ذلك ، فيمكن الاعتماد على الظن الحاصل من التراجم باحوال الرجال ، فتدبّر.

وأمّا المقدّمة الثالثة فلا اشكال في تماميتها لوضوح أنّ عدم التعرّض لامتثال معظم الأحكام المعلومة بالإجمال مما يقطع بعدم رضى الشارع به بالضرورة.

وليس وجه ذلك كون العلم الاجمالي منجزا ، وإلّا لزم جواز منع هذه المقدمة ممن لم يقل بكون العلم الاجمالي منجزا مطلقا أو في صورة جواز ارتكاب بعض الاطراف لكون

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١١٢.

(٢) الكفاية : ج ٢ ص ١١٦.

٣٥٥

الاحتياط عسريا أو في صورة وجوب الاقتحام لكون الاحتياط موجبا للاختلال ، مع أنّه لم يتفوّه بذلك أحد.

فالوجه هو ما اشار إليه الشيخ قدس‌سره من أنّ المقتصر على التدين بالمعلومات التارك للأحكام المجهولة جاعلا لها كالمعدومة يكاد يعدّ خارجا عن الدين ، لقلة المعلومات التي أخذها وكثرة المجهولات التي أعرض عنها ، وهذا أمر يقطع ببطلانه كل أحد بعد الالتفات الى كثرة المجهولات. (١)

وأمّا المقدمة الرابعة فهي بالنسبة الى الاحتياط الذي يوجب اختلال النظام تامة ؛ إذ لا ريب في عدم وجوبه لعدم رضا الشارع بذلك ، كما هو واضح.

وأمّا بالنسبة الى الاحتياط الذي يوجب العسر والحرج فقد منع عدم وجوبه في الكفاية بدعوى عدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط ؛ لأنّ مفاد القاعدة المذكورة عنده هو نفي الحكم الشرعي العسري بلسان نفي الموضوع العسري ، كما أنّ مفادها عند الشيخ هو نفي الحكم الشرعي العسري من أول الأمر ، وعليه فلا حكومة لها على الاحتياط العسري إذا كان الاحتياط بحكم العقل ؛ لعدم العسر في متعلق الحكم الشرعي من الصلاة أو الصوم أو الوضوء ، كما لا عسر في نفس الحكم الشرعي ، وانّما العسر من ناحية الجمع بين محتملات التكليف من باب الاحتياط ، ومن المعلوم أنّ الجمع المذكور لا يجب إلّا بحكم العقل ، والمفروض أنّه غير منفي بالقاعدة المذكورة.

وفيه :

أوّلا : أنّ المنفي في قاعدة لا حرج وقاعدة لا ضرر ليس هو متعلق الحكم الشرعي أي الضار أو الموجب للحرج حتى يقال إنّ المنفي هو المتعلقات الشرعية فلا يرتبط بالاحتياط العقلي ، وأيضا ليس المنفي هو الحكم العسري أو الضرري حتى يقال إنّ المنفي هو الحكم الشرعي فلا يرتبط بالاحتياط العقلي.

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ١١٣.

٣٥٦

بل المنفي فيما هو نفس الحرج أو الضرر من أي سبب حصل سواء كان منشأهما هو الحكم الشرعي أو موضوعه أو الحكم العقلي الاقتضائي كوجوب الاحتياط ، وهذا هو الظاهر من تعلق النفي بنفس الحرج أو الضرر ؛ إذ جعل المنفي وهو الضرر او الحرج عنوانا مشيرا الى الضار أو الموجب للحرج أو الحكم الشرعي خلاف الظاهر ، لأنّ لفظ الضرر أو الحرج اسم مصدر ، وليس عنوانا لغيره كالضار أو الحكم الشرعي العسري أو الضرري حتى يكون النفي راجعا الى الفعل الضرري أو الحرجي أو الحكم الشرعي.

ثم إنّ النفي هو نفي تشريعي بالنسبة الى نفس الضرر أو الحرج ، وليس اخبارا عن عدمهما ، وإلّا فهو خلاف الواقع ، والمقصود من نفيهما هو نفي أسبابهما من تجويز الضرر والاضرار والحرج والاحراج والحكم الضرري والحرجي والاحتياط الضرري أو الحرجي ، ففي الحقيقة هو نفي أسباب الضرر أو الحرج شرعا بنفي نفس الضرر والحرج شرعا.

لا يقال : إنّه لو كان المراد من نفي الضرر أو الحرج هو نفي نفس الضرر أو الحرج تشريعا لكان مفاد لا ضرر ولا حرج هو نفي حرمة الضرر ، كما هو الحال في مثل قوله عليه‌السلام : «لا ربا بين الوالد والولد» ؛ فانّ المراد نفي حرمة الربا بينهما ، فلو كان المراد من قوله عليه‌السلام : «لا ضرر أو لا حرج» نفي الضرر تشريعا لكان معناه نفي حرمة الاضرار بالنفس لا الغير ، وهذا مما لم يلتزم به أحد ؛ فانّ حرمة الاضرار بالغير أو بالنفس في الجملة مما لا كلام فيه ، فهذا المعنى مما لا يمكن الالتزام به في أدلة نفي الحرج والضرر.

فيدور الأمر بين أن يكون المراد من النفي هو النهي عن الاضرار والضرر بالغير أو النفس ، كما هو الحال في مثل قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ) فانّ المراد منه هو نهي المحرم عن هذه الأمور.

أو أن يكون المراد من النفي هو النفي التشريعي ، بمعنى نفي الحكم الضرري أو الحرجي في الشريعة ، كما ذهب اليه الشيخ الأعظم قدس‌سره ، وهو الظاهر من أدلة نفي الحرج والضرر بقرينة ما

٣٥٧

في بعض الروايات من أنّه لا ضرر في الاسلام أو في الدين ؛ فانه ظاهر في نفي تشريع الحكم الضرري في دين الاسلام ، وكذا قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ظاهر في نفي تشريع الحكم الحرجي. (١)

لانا نقول : أن دليل لا ضرر أو لا حرج بقرينة كونهما في مقام الامتنان وافادة سهولة الاسلام والدين لا ينفيان الحرمة ، بل المنفي فيهما هو التجويز ، ومعناه أن الضرر أو الحرج لا يجوزه الشارع لا بالنسبة الى الغير ولا بالنسبة الى النفس ، وبهذا الاعتبار يفيد نفي نفس الضرر أو الحرج نفي تشريعهما وتجويزهما ، ونفي تشريع الضرر أو الحرج من أي جهة كانت يستلزم نفي الموضوع الضرري أو الحكم الشرعي بل الاحتياط العقلي أيضا ؛ لانّ الحكم العقلي في أطراف العلم الاجمالي اقتضائي ، والحكم الاقتضائي يصلح لان يرفعه الشارع ، وعليه فلا يجوز الشارع الموافقة القطعية الموجبة للضرر أو الحرج.

ثم قوله (في الاسلام) أو (في الدين) في بعض الأخبار أو في الآية الكريمة لا يوجب تخصيص النفي بالأحكام الشرعية ؛ لانّ الدين أو الاسلام هو ظرف النفي لا المنفي ، والمقصود أنّ في دائرة الاسلام أو الدين لم يشرع الضرر أو الحرج من أي سبب كان.

هذا مضافا الى أنّ هذا القيد بالنسبة الى لا ضرر لم يرد في الروايات المعتبرة ، كما لا يخفى.

وثانيا : أنّه لو سلمنا أنّ مفاد لا ضرر أو لا حرج هو نفي الموضوع الضرري أو الحرجي كما ذهب اليه في الكفاية ، لا نفي نفس الضرر أو الحرج كما قويناه فلا وجه لدعوى أنّه لا يشمل الاحتياط العقلي ؛ لأنّه أيضا من الموضوعات ، وحيث أن الحكم العقلي في أطراف المعلوم بالاجمال حكم اقتضائي وقابل لان يرفعه الشارع وليس علة تامة كالعلم التفصيلي ، فلا مانع من أن تشمله أدلة نفي الضرر أو الحرج لنفي وجوب الموافقة القطعية الموجبة للحرج أو الضرر بلسان نفي الموضوع الضرري أو الحرجي.

وثالثا : أنّه لو سلمنا أنّ مفاد لا ضرر أو لا حرج هو نفي الحكم الشرعي الضرري أو

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ص ٢٣٠.

٣٥٨

الحرجي كما ذهب اليه الشيخ الأعظم قدس‌سره لا نفي نفس الضرر أو الحرج ولا نفي الموضوع الضرري أو الحرجي فلا وجه لدعوى أنه لا يشمل الاحتياط العقلي أيضا ؛ لانّ مفاد أدلة لا ضرر أو لا حرج هو نفي الحكم الموجب للضرر أو الحرج ، ولا اشكال في أن وجوب الاحتياط وهو الجمع بين المحتملات وإن كان عقليا ناش من بقاء الحكم الشرعي الواقعي على حاله ، فهو المنشأ للحرج أو الضرر ؛ إذ الشيء يسند الى اسبق العلل ، فيكون المرتفع بادلة نفي الحرج والضرر هو الحكم الشرعي الواقعي ، فيرتفع وجوب الاحتياط بارتفاع موضوعه. (١)

ويشكل ذلك بانّ شمول لا ضرر ولا حرج بالاحتياط التام لا يوجب اشكالا بناء على أنّ المنفي هو نفس الضرر أو الحرج أو الموضوع الضرري أو الحرجي ؛ لانّ المنفي حينئذ هو بعض موارد الضرر والحرج أو الموضوع الضرري والحرجي ، هذا بخلاف ما اذا كان المنفي هو نفس الحكم الشرعي الذي يكون منشأ للاحتياط العقلي ؛ فانه يوجب الاشكال والايراد ، وهو أن مقتضى أدلة نفي الحرج حينئذ هو رفع أصل التكليف الواقعي لا خصوص الاحتياط في بعض اطراف احتماله ، فاذا رفع أصل التكليف ، فلا يكون وجه لرعاية التكليف في شيء من أطراف احتماله ، فمرجع نفي العسر والحرج حينئذ الى اهمال التكاليف الواقعية وعدم وجوبها ، وهو مناف للمقدمة الثالثة.

وأجاب عنه في تسديد الأصول بأنّ الحق في الجواب أن يقال : إنّ التكليف والحكم الواقعي هنا ليس حكما واحدا يجب بحكم العقل الاوّلي الاحتياط في أطراف احتماله ، بل لا ريب أن هنا أحكاما متعددة ، ثم أن من المعلوم أنّه لو كان في البين تكاليف متعددة يوجب امتثال جميعها عسرا وحرجا ، فانّما يحكم بارتفاع عدة منها بمقدار يرتفع به العسر والحرج.

غاية الأمر أنّه لو كان بينها ما يتعين رفعه عند دوران الامر بينه وبين غيره يحكم برفع هذا بخصوصه ، وإلّا تخيّر المكلّف بين المعاملة مع كل منها شاء برفعه.

__________________

(١) راجع مصباح الاصول : ج ٢ ص ٢٢٩.

٣٥٩

ففي ما نحن فيه لما كان لا يجوز العقل في مقام الامتثال رفع اليد عن التكاليف المظنونة والأخذ بغيرها فلا محالة يحكم برفع التكاليف الموجودة في الموارد المشكوكة والموهومة ، وتبقى الموارد المظنونة على ما هي عليها من القوة والتنجز ، فيجب الاحتياط فيها.

فإن قلت : أن الحكم بنفي التكليف عن بعض أطراف العلم مع أن موجبه موجود مقارنا مع العلم بأصل التكليف يوجب عدم تنجز التكليف من رأس ، كما قرر في مبحث العلم الاجمالي وحدوث الاضطرار مثلا الى طرف معين مقارنا لحصول العلم بالتكليف ، فمآل أدلة نفي العسر والحرج الى اهمال التكاليف وعدم التعرض لامتثالها من رأس ، وهو باطل.

قلت : أن الاتكال في نفي التكليف في موارد الشك والوهم الى أدلة نفي العسر والحرج لا يتوقف على العلم بوجود تكليف في مواردهما ، فانه يصح ويكفي أن يقال إنّه لو لم يكن بينها تكليف فلا ريب في أنّ المكلف لا يؤخذ بشيء ، ولو كان فلمكان ايجابه العسر والحرج كان منفيا ، وأما موارد الظن بالتكليف فلا يبعد دعوى العلم الاجمالي بوجود تكاليف عديدة بينها ، فيجب القيام مقام امتثالها.

فما في كلمات بعض أهل التحقيق من انهدام اساس منجزية العلم الاجمالي بعد جريان أدلة نفي العسر والحرج ممنوع. (١)

يرد عليه أيضا أنّ نفي التكليف فيما فرض وجوده في موارد الشك والوهم لكونه موجبا للعسر والحرج يستلزم عود الاشكال ؛ فانّ مع نفي التكليف في موارد الشك والوهم ينتفي العلم ، فيتنجز التكليف من رأس ؛ فانّ التكليف على فرض وجوده في موارد الشك والوهم ينتفي مع كون موارد الشك والوهم طرفا للعلم الاجمالي.

نعم لو فرض مع قطع النظر عن موارد الشك والوهم حصول العلم الاجمالي بالتكليف في موارد الظن ، فلا وجه لعدم تنجز التكليف في هذه الدائرة.

ولكنه لا يحتاج حينئذ في نفي التكليف في موارد الشك والوهم الى ادلة نفي الحرج ؛ فانّ

__________________

(١) تسديد الاصول : ج ٢ ص ١١٤ ـ ١١٥.

٣٦٠