عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

ولقد أفاد وأجاد شيخنا الاستاذ الاراكي قدس‌سره حيث قال : لا شك في استقرار طريقة العقلاء على العمل بالخبر المفيد للاطمئنان ولو لم يكن الناقل ثقة ولكن حصل الوثوق بالصدق من أجل امارة خارجية وجرت عادتهم على ذلك في امورهم العادية ، وهذا ثابت في غير فرق المسلمين من أهل الملل ، بل ومن غيرهم ممن لا يتدين بدين كالدهري ، فانه لو اطمأن الدهري بانّ سفر البحر وركوب السفينة لا يوجب الغرق لنفسه وماله وحصل له هذا الاطمئنان من أخبار المخبرين فهو يقدم على هذا السفر مع أنه محتمل مع ذلك للغرق ولكن لا يعتني به بل يعامل معاملة المعدوم.

وكذلك الحال في معاملة العبيد مع مواليهم ، فلو حصل الاطمئنان للعبد بانّ مولاه أراد الركوب وأراد ركوبه معه في ركابه وحصل له ذلك بنقل ناقل مع وثوق الناقل أو ضميمة أمارة خارجية يركب بمجرد ذلك ويذهب الى مقرّ المولى ، بحيث لو لم يركب وكان المولى مريدا واقعا لم يكن معذورا. وبالجملة فمجبولية العقلاء واقتضاء فطرتهم ذلك في جميع امورهم مما لا يقبل الانكار. (١)

لا يقال : أن الآيات الناهية عن العمل بالظن تصلح للرادعية عن الوثوق النوعي ، وبالجملة فنحن وأن كنّا نسلّم جريان بناء العقلاء على حجية الاطمئنان النوعي من الخبر ، إلّا أن موضوع حجية بناء العقلاء مقيد بعدم ردع الشرع ، فالادلة الناهية عن العمل بغير العلم الواردة من الشرع واردة على بناء العقلاء لكونها ردعا ، فلا يبقى معها موضوع الحجية في بناء العقلاء.

لأنّا نقول ـ كما أفاد شيخنا الاستاذ الاراكي قدس‌سره ـ أن المرتكزات العرفية تكون بحيث يغفل عن كون حجيتها مقيدة بعدم منع الشرع نوع النفوس ، فالارتكاز مانع عن خطور خلافه في ذهن النوع ، فالعبد كما يعامل مع مولاه في أحكامه وأوامره بالعمل فيها على الاطمئنان الحاصل من قول القائل على حسب فطرته كذلك هو باق على مقتضى هذه

__________________

(١) اصول الفقه : ج ١ ص ٦١٦.

٣٠١

الفطرة لو صار عبدا لمولى آخر من دون أن يخطر بباله أن تكون طريقة هذا المولى في امتثال أوامره غير طريقة المولى السابق ، فكذا الحال في معاملة العبيد مع الموالي الحقيقية ، يعني لا يخطر ببال العامة أنه يريد منهم أمرا جديدا وطريقة مخترعة غير ما هم مجبولون عليه ، فلا يرضى بالعمل بالاطمئنان من قول القائل ، بل لا يرضى إلّا بترتيب الأثر على العلم.

وكذلك لا يخطر ببالهم أن حجية هذا الارتكازي موقوف على عدم منع المولى ، فهم غافلون على هذا التقييد صغرى وكبرى ، فالحاصل عندهم هو الحجية التنجيزية الاطلاقية ، فلهذا لو ورد من الشارع النهي عن العمل بالظن ينصرف نظرهم الى غير هذا الاطمئنان ، فيقطعون أنه بمنزلة العلم وإن كان غير علم. بل ويعمّمون الحكم المعلق على العلم بالنسبة الى هذا الاطمئنان ، مثل عدم نقض اليقين إلّا باليقين ، فالنقض بهذا الاطمئنان يكون في نظرهم نقضا باليقين.

وبالجملة : لا يدخل في ذهنهم من دليل مثبت للحكم على الظن هذا الفرد ، ويدخل في ذهنهم من الدليل الدال على الحكم في العلم هذا الفرد ؛ والسبب لذلك هو الارتكاز والمجبولية المانعة عن دخول مضاده في أذهانهم ... الى أن قال : هذا هو الحال في عامة الناس المتصفين بالغفلة عن تصور خلاف مرتكزهم.

وأمّا الملتفتون وهم الشاذ القليل من الناس فهذه الطريقة وإن كان ليست في نفسها حجة لهم ؛ لاحتمالهم الخطأ في حقهم لعدم كونهم معصومين ، ولكن يثبت الحجية عند تحقق الارتكاز عندهم أيضا بالبرهان.

وهو أن يقال : إنّه لو كان للشارع طريقة جديدة غير ما الناس مجبولون عليه ويكون خلافه مغفولا عندهم والنهي عن العمل بالظن على وجه العموم منصرفا عندهم عما ارتكز حجيته عندهم أو مخصصا قطعيا بغيره لكان يجب على الشارع التنصيص على اظهار أنه مريد منهم خلاف هذا الطريق المعمول ، كما هو المشاهد في المرتكزات في الجاهلية التي خطّأها الشارع بالابلاغات الصريحة الاكيدة والايعادات بأنواع العذاب ؛ فان صرف

٣٠٢

الاذهان عن ما ارتكز فيها لا يحصل بغير هذا الوجه. ولا يمكن الاكتفاء في تبليغه بعموم واطلاق ، فيلزم على تقدير الاكتفاء في بيانه بهما اغراء عامة الناس بالقبيح ... الى أن قال : فعدم الرادع في مقام الاثبات يصير دليلا على عدمه في مقام الثبوت. (١)

ودعوى : أن المسلم هو حجية خبر الثقة ، وإلّا فمجرد الوثوق بصدوره إذا كان الراوي غير ثقة غير معلوم الحجية لو لم يكن معلوم العدم ، أترى أنّه إذا حصل الثقة بصدق الخبر من طريق الرؤيا مثلا فهذا الخبر حجة عند العقلاء كلّا! ومن الواضح أنّ موضوع الأخبار هو كون راوي الخبر ثقة ، وجعله طريقا الى الثقة بالصدور لو كان فانما هو بالغاء الخصوصية العقلائية ، ولا يوافق عليها العقلاء هنا ، بل هم يرون خبر الثقة حجة. (٢)

مندفعة : بما عرفت من وجود البناء على حجية الوثوق والاطمئنان النوعي بالصدور من دون حاجة الى الغاء الخصوصية في الأخبار ، ويشهد له صحة الاحتجاجات المذكورة. ولا ملازمة بين وجود البناء على حجية الوثوق النوعي والاطمئنان بالصدور في المرتكزات العرفية وبين حجية الوثوق الحاصل بالرؤيا ؛ لأنّ الحجية تابعة لوجود البناء ، فاذا علمنا به في المرتكزات دون الحاصل بالرؤيا اختصت الحجية بالمرتكزات العرفية دون الرؤيا ، فلا تغفل.

ثم لا فرق في حجيّة الوثوق النوعي بالصدور بين أسبابه من عمل المشهور وغيره ؛ فان المعيار هو المسبب ، وهو الوثوق النوعي ، فلا ضير في انّ الشهرة العملية في نفسها ليست بحجة ؛ فانها إذا أوجبت الوثوق النوعي بالصدور كان الوثوق النوعي حجة عقلائية ، فيؤخذ بالوثوق النوعي ، لا بالشهرة العملية ، كما لا يخفى.

التنبيه السادس :

في انجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور :

ولا يذهب عليك أن عمل الاصحاب بالخبر الضعيف يوجب الوثوق بالصدور ، كما أن

__________________

(١) اصول الفقه : ج ١ ص ٦٢٠ ـ ٦٢٣.

(٢) تسديد الاصول : ج ٢ ص ٩٨.

٣٠٣

اعراضهم عن العمل بالخبر يكشف عن اختلاله بشرط أن لا يكون الاعراض اجتهاديا ، وإلّا فلا يكشف عن شيء ، كما لا يخفى.

ولقد أفاد وأجاد المحقق النائيني قدس‌سره فيما حكي عنه من أن الخبر الضعيف المنجبر بعمل المشهور حجة بمقتضى منطوق آية النبأ ؛ إذ مفاده حجية خبر الفاسق مع التبيّن ، وعمل المشهور من التبين. (١)

ودعوى : أن الخبر الضعيف لا يكون حجة في نفسه على الفرض وكذلك عمل او فتوى المشهور غير حجة على الفرض أيضا ، وانضمام غير الحجة الى غير الحجة لا يوجب الحجية ؛ فانّ انضمام العدم الى العدم لا ينتج إلّا العدم.

والقول بانّ عمل المشهور بخبر ضعيف توثيق عملي للمخبر فيثبت به كونه ثقة فيدخل في موضوع الحجية ، مدفوع بانّ العمل مجمل لا يعلم وجهه ، فيحتمل أن يكون عملهم به لما ظهر لهم من صدق الخبر ومطابقته للواقع بحسب نظرهم واجتهادهم لا لكون المخبر ثقة عندهم ، فالعمل بخبر ضعيف لا يدل على توثيق المخبر به ، ولا سيما إذا لم يعملوا بخبر آخر من نفس هذا المخبر. هذا كله من حيث الكبرى وأن عمل المشهور موجب لانجبار ضعف الخبر أم لا.

وأمّا الصغرى ـ وهي استناد المشهور الى الخبر الضعيف في مقام العمل والفتوى ـ فاثباتها اشكل من اثبات الكبرى ؛ لانّ مراد القائلين بالانجبار هو الانجبار بعمل قدماء الأصحاب باعتبار قرب عهدهم بزمان المعصوم ، والقدماء لم يتعرضوا للاستدلال في كتبهم ليعلم استنادهم الى الخبر الضعيف ، وانّما المذكور في كتبهم مجرد الفتوى ، والمتعرض للاستدلال انّما هو الشيخ الطوسي رحمه‌الله في المبسوط وتبعه من تأخّر عنه في ذلك دون من تقدّمه من الأصحاب ، فمن أين يستكشف عمل قدماء الأصحاب بخبر ضعيف واستنادهم اليه؟! غاية الامر أنا نجد فتوى منهم مطابقة لخبر ضعيف ، ومجرد المطابقة لا يدل

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ص ٢٠١.

٣٠٤

على أنّهم استندوا في هذه الفتوى الى هذا الخبر ؛ إذ يحتمل كون الدليل عندهم غيره فتحصّل : أن القول بانجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور غير تام صغرى وكبرى. (١)

مندفعة :

أوّلا : بأنّ انضمام غير الحجّة الى غير الحجّة ربما يكون موجبا للحجية ، كما في الخبر المتواتر ، ألا ترى أنّ كل خبر ليس في نفسه حجة ولكن مع التواتر يوجب الحجية. والوجه في ذلك : أن كل خبر يفيد احتمالا بالنسبة الى المخبر به ، فاذا تراكمت الاحتمالات صارت ظنا ، ومع تراكم الظنون صارت اطمئنانا وعلما ، والعلم حجة ، ولا ينافي ذلك مع أن كل خبر ليس في نفسه حجة.

وهكذا الأمر في المقام ، فالخبر الضعيف لا يكون حجة ، ولكن مع اقترانه بمثل عمل الاصحاب يحصل الاطمئنان بالصدور ؛ إذ الأصحاب لم يعملوا بما ليس بحجة ، فعملهم يكشف عن اقتران الخبر الضعيف بما يطمئن الانسان بصدوره ، وعليه فالمناقشة في الكبرى لا مجال لها.

ثمّ دعوى أن عمل الاصحاب غير محرز ، لاحتمال أن يكون العمل عمل بعض الاعيان مع اتباع الآخرين مناقشة صغروية ، والبحث بعد احراز وجود عمل الاصحاب.

وهكذا احتمال كون عملهم اجتهاديا مناقشة صغروية ؛ اذ البحث بعد احراز وجود عمل الأصحاب بالخبر مع اقترانه بأمور تكون قريبة من الحسّ بحيث لو اطلعنا عليه لوثقنا بالصدور كما وثقوا به.

وثانيا : أنّ الكلام في الموثوق بالصدور لا توثيق المخبر ، فقوله : إنّ العمل بخبر ضعيف لا يدل على توثيق المخبر به ولا سيما أنهم لم يعملوا بخبر آخر لنفس هذا المخبر ، أجنبي عن محل الكلام.

وثالثا : أنّ المتون المفتى بها في عبارات القدماء كعلي بن بابويه والصدوق في الهداية

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ص ٢٠٢.

٣٠٥

والشيخ الطوسي في النهاية وغيرهم روايات وأخبار استندوا اليها في الفتاوى ، ويكفي في الوثوق بصدورها عملهم بها ، والفتوى بها فلا وجه لما يقال من أنّ القدماء لم يتعرضوا للاستدلال بالروايات والأخبار في كتبهم ليعلم استنادهم الى الخبر الضعيف.

ورابعا : أنّ مطابقة فتوى القدماء للخبر الضعيف وأن لم تدل على استنادهم في هذه الفتوى الى خصوص هذا الخبر لاحتمال أن يكون الدليل عندهم غيره ، ولكن تصلح تلك المطابقة للوثوق بصدور مضمون الخبر ؛ لأنّ القدماء لم يفتوا من دون دليل ، فاذا اجمعوا على الفتوى بشيء يكشف ذلك عن وجود دليل تام الدلالة على ذلك سواء كان هو الخبر الضعيف أو غيره مما يكون مطابقا له في المضمون. ومن المعلوم أنه كاف في الوثوق بصدور مضمون الخبر وإن لم يعلم استنادهم بخصوص الخبر الضعيف.

فتحصل : أن القول بانجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور او فتاويهم تام كبرى بل صغرى فيما إذا أحرزنا عملهم بالخبر الضعيف أو فتاواهم بما يطابقه في المضمون ، فان الوثوق بالصدور حاصل في الفرض المزبور فالاستناد الى الخبر عند الاحراز أو مطابقة فتاوى الاصحاب معه يكفيان في جبر الخبر الضعيف ، فلا تغفل.

ثمّ إنه اذا عرفت أنّ ضعف الخبر أو مضمونه يجبر بالاستناد أو المطابقة انقدح أن اعراض الأصحاب أو المشهور عن الخبر مع صحة السند ووضوح الدلالة يوجب وهن الخبر وإن كان في أعلى الدرجة من السند والدلالة ، كما صرحوا بأنه كلما ازداد الخبر صحة ازداد ضعفا ووهنا.

ودعوى : أنّه لا وجه لرفع اليد عن الخبر بمجرد اعراض المشهور عنه بعد كونه صحيحا أو موثقا وموردا لقيام السيرة ومشمولا لاطلاق الادلة اللفظية.

نعم إذا تسالم جميع الفقهاء على حكم مخالف للخبر الصحيح أو الموثق في نفسه يحصل لنا العلم أو الاطمئنان بانّ هذا الخبر لم يصدر من المعصوم عليه‌السلام أو صدر عن تقية فيسقط الخبر المذكور عن الحجية لا محالة ، ولكنه خارج عن محل الكلام.

٣٠٦

وأما اذا اختلف العلماء على قولين وذهب المشهور منهم الى ما يخالف الخبر الصحيح أو الموثق واعرضوا عنه واختار غير المشهور منهم ما هو مطابق للخبر المذكور فلا دليل لرفع اليد عن الخبر الذي يكون حجة في نفسه لمجرد اعراض المشهور عنه. (١)

مندفعة : بانّ الكلام فيما اذا اعرض المشهور عن العمل بالخبر مع وضوح صحته وتماميّة دلالته من دون أن يكون الاعراض اجتهاديا. ومن المعلوم أن مثله يوجب الوهن في الخبر ؛ فانّ الاعراض المذكور يكشف عن اختلال في الرواية من ناحية جهة الصدور ونحوها ، وإلّا فلا وجه لاعراضهم عنها مع صحة السند وتمامية الدلالة ، كما لا يخفى. نعم يصح أن يقال كثيرا ما لم نحرز الاعراض المذكور ، ولكنّه مناقشة في الصغرى ، كما لا يخفى.

التنبيه السابع :

أن الأخبار المنقولة بالواسطة أو الوسائط كالأخبار المنقولة بلا واسطة مشمولة لادلة الاعتبار من السيرة القطعية المتشرعية وبناء العقلاء والأخبار المطلقة الدالة على حجية الخبر الواحد.

وتخصيص الادلة بالأخبار المنقولة بلا واسطة ينافيه السيرة القطعية المتشرعية وبناء العقلاء واطلاق الأخبار.

ودعوى : أن الخبر مع الواسطة خبر عن الموضوع ، والمشهور على أنّ خبر الواحد ليس حجة في الموضوعات بل لا بد فيها من قيام البيّنة ، ولعل ذلك لاستنادهم الى خبر مسعدة بن صدقة الذي فيه : والاشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة (بناء على أن المراد من البيّنة هي البيّنة الاصطلاحية).

وعليه فالخبر عن الخبر لا يكون حجة ؛ لانه خبر عن الموضوع لا الحكم الشرعي الكلي ، وليس في هذه النصوص ما يدل على حجية الخبر عن الواسطة ؛ إذ كلها ظاهرة في حجية الخبر عن الحكم رأسا ، كما لا يخفى.

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ص ٢٠٣.

٣٠٧

وعليه فالخبر الواحد عن الواسطة لا يكون حجة بمقتضى التزام المشهور بعدم حجية خبر الواحد عن الموضوع ، والأخبار التي بأيدينا كلها من هذا القبيل ، فلا تنفع هذه النصوص في اثبات حجيتها لو سلمت دلالتها على الحجية في حد نفسها. (١)

مندفعة :

أوّلا : بأنّ مع الغمض عن ضعف سنده مورد خبر مسعدة بن صدقة هي الموضوعات الصرفة التي لا ارتباط لها مع الحكم بل هي مجرد الموضوع ، وهذا بخلاف المقام فانّ الخبر عن الخبر ينتهي الى نقل الحكم ، وعليه فلا يكون المقام مشمولا لخبر مسعدة بن صدقة ، ولا أقل من الشك ، ومعه فلا يرفع اليد عن عموم الادلة بما هو مشكوك في مفهومه من جهة اختصاصه بمورده أو عدمه.

وثانيا : بأنه لو سلمنا شمول خبر مسعدة بن صدقة للمقام فمقتضى أدلة اعتبار الخبر هو رفع اليد عن خبر مسعدة بن صدقة ؛ لقوة ظهور ادلّة الاعتبار في شمول الخبر مع الواسطة كقوله عليه‌السلام : ائت أبان بن تغلب فانه قد سمع مني حديثا كثيرا ، فما رواه لك فاروه عنّي. (٢) ومن المعلوم أنّ الأمر بالرواية عن الرواية من دون شرط. هذا مضافا الى أن قوله عليه‌السلام «فارده عنى» يدل على الامر بالرواية عن الرواية وهى الرواية مع الواسطة كما لا يخفى.

وكقوله عليه‌السلام : اصنع كذا فاني كذا أصنع في موثقة معاذ بن مسلم النحوي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : بلغني انك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟ قلت : نعم واردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج ، اني اقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء ، فاذا عرفته بالخلاف لكم اخبرته بما يفعلون ، ويجيء الرجل أعرفه بمودتكم وحبّكم فأخبره بما جاء عنكم ، ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو فأقول جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا ، فادخل قولكم فيما بين ذلك. فقال لي : اصنع كذا فاني كذا أصنع (٣) ؛ لظهور قول السائل

__________________

(١) منتقى الاصول : ج ٤ ص ٢٩٦ ـ ٢٩٧.

(٢) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٠.

(٣) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٦.

٣٠٨

(فأخبره بما جاء عنكم وجاء عن فلان كذا) في الخبر مع الواسطة أيضا ، ومع ذلك أمره بذلك بقوله أصنع كذا ، وأيده بقوله (فاني كذا أصنع) فهو يدل على حجية الرواية مع الواسطة.

وكقول الامام الصادق عليه‌السلام : اذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنا فانظروا الى ما رووه عن علي عليه‌السلام فاعملوا به. (١) ومن المعلوم أنّ ما روته العامة عن مولانا علي عليه‌السلام في زمان الامام الصادق عليه‌السلام لا يكون بدون وسائط.

وكقول مولانا صاحب الزمان عليه‌السلام : وأما الحوادث الواقعة فارجعوا الى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وأنا حجة الله. (٢) ومن المعلوم أن رواية الحديث عن الأئمة عليهم‌السلام في عصر الغيبة لا تكون إلّا مع الوسائط.

وكقول الامام العسكري عليه‌السلام بالنسبة الى كتب بني فضال : خذوا بما رووا وذروا ما رأوا ، مع أنهم كانوا من الفطحية الذين لم ينقلوا عن الامام الصادق أو من قبله من آبائه عليهم‌السلام في زمان الإمام العسكري عليه‌السلام إلّا مع الوسائط.

وكقول ابن أبي ليلى للامام الصادق عليه‌السلام : اقضي بما بلغني عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن علي وعن أبي بكر وعمر. فقال الصادق عليه‌السلام : فبلغك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن عليا أقضاكم؟ قال : نعم. قال : فكيف تقضي بغير قضاء علي عليه‌السلام؟ وقد بلغك هذا ، الحديث. (٣) وغير خفي أن ما بلغه عن علي عليه‌السلام في عصر الامام الصادق عليه‌السلام لم يكن من دون وسائط ، ومع ذلك أمر الامام عليه‌السلام بالقضاء على طبقه.

وكقول الامام الصادق عليه‌السلام لأبي حنيفة : يا أبا حنيفة اذا ورد عليك شيء ليس في كتاب الله ولم تأت به الآثار والسنة كيف تصنع؟ فقال : اصلحك الله أقيس وأعمل برأيي. فقال : يا أبا حنيفة إنّ أول من قاس ابليس. (٤) والمستفاد منه أن العمل بالآثار المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) عدة الاصول : ص ٣٧٩.

(٢) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، ح ٩.

(٣) الوسائل : الباب ٣ من أبواب صفات القاضي : ح ٩.

(٤) الوسائل : الباب ٦ من أبواب صفات القاضي : ح ٢٧.

٣٠٩

في عصر الامام الصادق عليه‌السلام لم يكن موردا للنهي ، مع أن الآثار المذكورة لم تكن من دون وسائط ، الى غير ذلك من الروايات.

وثالثا : بقيام السيرة القطعية من المتشرعة بل غيرهم على عدم الفرق بين الرواية مع الواسطة وبدونها ، وعليه فدعوى انصراف خبر مسعدة بن صدقة عن مثل المقام ليست بمجازفة. والمفروض أنّه لا دليل عام أو مطلق يدل على لزوم قيام البيّنة. نعم ورد في موارد خاصة اعتبار قيام البيّنة ، ولكن التعدي عنها الى مثل المقام مع احتمال الاختصاص بها غير صحيح ، فلا يرفع اليد عن اعتبار الخبر ولو مع الواسطة ، هذا كله تمام الكلام من جهة الاشكال الاثباتي.

وهنا اشكال ثبوتي بالنسبة الى الأخبار مع الواسطة لا بأس بالاشارة اليه ، وهو أن معنى حجية الخبر هو وجوب ترتيب الأثر الشرعي على الخبر.

وعليه فالحكم بحجية الخبر مع الواسطة يتوقف على أمرين : أحدهما احراز نفس الخبر ، وثانيهما وجود أثر شرعي حتى يحكم بترتيبه عليه. ومن المعلوم أن في المقام لا احراز للواسطة ولا لاثرها إلّا بنفس حجية الخبر ، ولازم ذلك هو تقدم المتأخر ، مضافا الى لزوم اتحاد الحكم والموضوع.

وتوضيح ذلك : أن الاشكال الثبوتي في المقام من نواح مختلفة :

الناحية الاولى :

أن فعلية كل حكم متوقفة على فعلية موضوعه ، فلا بد من احراز الموضوع ليحرز فعلية الحكم ، وفي المقام الخبر المحرز لنا بالوجدان هو خبر الكليني رحمه‌الله ، ومع الاحراز الوجداني لذلك يحكم بحجيته بمقتضى أدلة حجية الأخبار.

وأما خبر من يروي عنه الكليني ممن كان متقدما عليه وخبر المتقدم عليه ممن تقدم عليه من الرواة الى أن ينتهي الى الامام المعصوم عليه‌السلام فهو غير محرز لنا بالوجدان واحرازه بنفس الحكم بحجية خبر الكليني ، والحكم عليه بنفس هذه الحجية يستلزم أن يكون الخبر

٣١٠

المحرز من ناحية هذه الحجية متقدما على نفس هذه الحجية مع أنه متأخّر عنها. فالحكم بالحجية في المقام مع هذه الخصوصية يوجب أن يتقدم المتأخر ، وهو محال.

والجواب عنه : أن الاشكال ناش من توهم كون الحكم بالحجية حكما شخصيا والقضية قضية خارجية ، وأما اذا كان الحكم بنحو القضية الحقيقية كما أفاد في الكفاية وغيرها فلا يوجب الاشكال أصلا ؛ فانّ الحكم بحجية خبر الكليني يوجب احراز خبر من يروي عنه الكليني ، فبعد الاحراز يكون شمول القضية الحقيقية لفرد آخر منها ، لا عين الفرد الثابت لخبر الكليني.

قال السيد المحقق الخوئي قدس‌سره : لا محذور في أن يكون ثبوت الحجية لخبر الكليني موجبا لاحراز خبر من يروي عنه الكليني ، فيترتب عليه فرد آخر من الحجية ، لا عين الحجية الثابتة لخبر الكليني التي بها احرز هذا الخبر ، وهكذا الحال بالنسبة الى آخر سلسلة الرواة. (١)

الناحية الثانية :

أن الحكم بوجوب ترتيب أثر شرعي على المخبر به وهو خبر من يروي عنه الكليني بنفس الحكم في خبر الكليني بوجوب التصديق يستلزم اتحاد الحكم والموضوع ؛ لأنّ كليهما أمر واحد. نعم لو أنشأ هذا الحكم ثانيا فلا بأس في أن يكون بلحاظ نفس هذا الوجوب أيضا حيث إنّه صار أثرا بجعل آخر ، فلا يلزم اتحاد الحكم والموضوع ، بخلاف ما اذا لم يكن هناك إلّا جعل واحد.

والجواب عنه واضح بعد ما عرفت من أن الحكم بالحجية ووجوب ترتيب الأثر وتصديق العادل ليس حكما شخصيا لموضوعات متعددة بنحو القضية الخارجية ، بل هو الحكم بنحو القضية الحقيقية ، ومن المعلوم أن الحكم حينئذ متعدد بتعدد الافراد ، ومع التعدد لا معنى للاتحاد ؛ إذ الحكم بوجوب ترتيب ما للمخبر به وهو خبر من يروي عنه الكليني

__________________

(١) مصباح الأصول : ج ٢ ص ١٨٠.

٣١١

ليس بنفس شخص الحكم في دليل حجية خبر الكليني بوجوب تصديق خبر العدل حتى يلزم منه الاتحاد ، بل يكون بفرد آخر من أفراد القضية الحقيقية.

وبالجملة : فكما أن تعدد الانشاء يكفي في رفع الاشكال ، فكذلك يرتفع الاشكال بالقضية الحقيقية التي تدل على تعدد الحكم بتعدد الموضوع. ألا ترى أن القائل إذا قال كل خبر من صادق يشمل كل خبر صادر منه حتى هذا الخبر وهو كل خبر من صادق ، وليس ذلك إلّا لكون القضية حقيقية ، كما لا يخفى.

الناحية الثالثة :

أن التعبّد بحجيّة الخبر يتوقف على أن يكون المخبر به بنفسه حكما شرعيا أو ذا أثر شرعي مع قطع النظر عن دليل حجية الخبر ليصح التعبّد بالخبر بلحاظه ووجه ذلك : أن التعبد بحجية الخبر فيما لم يكن للمخبر به حكما شرعيا ولا ذا أثر شرعي لغو محض ، ولا ارتباط له بالشرع والشارع. وعليه فدليل الحجية لا يشمل الأخبار مع الواسطة ؛ لأنها ليست إلّا الخبر عن الخبر ، وهذا الاشكال جار في أخبار جميع سلسلة الرواة ، إلّا الخبر المنتهى الى قول المعصوم عليه‌السلام.

ويمكن الجواب عنه كما أفاد في الدرر بانّ جعل الحجية والطريقية ليس معناه ترتيب الأثر على الخبر تعبدا ، بل مفاد الحكم هنا جعل الخبر من حيث إنه مفيد للظن النوعي طريقا الى الواقع ، فعلى هذا لو أخبر العادل بشيء يكون ملازما لشيء له أثر شرعا أما عادة أو عقلا أو بحسب العلم نأخذ به ونرتب على لازم المخبر به الأثر الشرعي المترتب عليه.

والسرّ في ذلك : أن الطريق الى احد المتلازمين طريق الى الآخر وإن لم يكن المخبر ملتفتا الى الملازمة ، فحينئذ نقول : يكفي في حجية خبر العادل انتهاؤه الى أثر شرعي ... الى أن قال : كما أن الطريق الى الحكم الشرعي العملي طريق اليه ويشمله أدلة الحجية ، فكذلك الطريق الى طريق الحكم الشرعي أيضا طريق اليه فيشمله دليل الحجية ، مضافا الى أن قضية (صدق العادل) بعد القطع بعدم كون المراد منها التصديق القلبي يجب أن يحمل على ايجاب العمل في الخارج ، وليس لقول المفيد المخبر بقول الشيخ أثر عملي أصلا ، بل الاثر العملي

٣١٢

منحصر فيما ينتهي اليه هذه الأخبار ، وهو قول الامام عليه‌السلام يجب الصلاة مثلا ، فيجب أن يكون قضية صدق العادل عند تعلقها بقول الشيخ ناظرة الى ذلك الأثر ، وهو لا يصح إلّا بما ذكرناه. (١)

وبعبارة أخرى : معنى الحجية في خبر العادل هو اعتبار الكشف الظني النوعي الحاصل من قول العادل بقول المعصوم عليه‌السلام سواء كان له واسطة أو لم يكن ؛ فان الكشف الظني المذكور من لوازم المخبر به العادل ، فمع اعتبار خبر العادل يكون لوازمه حجة أيضا كلوازم سائر الامارات.

وعليه فنفس خبر العادل كخبر الشيخ الطوسي عن خبر العادل كالشيخ المفيد الى أن ينتهي الى المعصوم عليه‌السلام يكون موجبا للكشف الظني النوعي بقول المعصوم عليه‌السلام ، فيكون حجة ، ولا حاجة في ذلك الى شمول أدلة التعبد للوسائط حتى يقال لا أثر للوسائط. وعليه فمع عدم الحاجة الى شمول أدلة التعبد للوسائط لا يلزم محذور توهم تقدم الشيء المتأخّر أو اتحاد الموضوع والحكم أيضا ؛ لانهما يلزمان على تقدير التسليم لو احتيج الى التعبد بالوسائط ، والمفروض هو عدم الحاجة اليه.

ودعوى منع حصول الظن بقول المعصوم من ناحية خبر العادل عن العادل الى المعصوم ، مندفعة بأنّ الحجية المعتبرة هو الظن النوعي ، وهو حاصل في المقام بلا ريب وأن لم تكن تلك الوسائط ثابتة بالوجدان أو بالتعبد ؛ إذ قيام الخبر على الخبر الى أن ينتهي الى الامام قيام الطريق على الطريق ، وهو استطراق ظني نوعي من قول العادل الى قول الامام عليه‌السلام ، فيشمله الادلة الدالة على حجية الخبر من دون حاجة الى ترتب الآثار الشرعية على الوسائط.

ثم لا يخفى عليك أن المحقق الاصفهاني قرّر مقالة الدرر بقوله : وهو أن بين الخبر من حيث انّه مفيد للظن نوعا والمخبر به ملازمة نوعية واقعية ، والطريق الى أحد المتلازمين طريق الى الآخر ، فالخبر مع الواسطة كما أنه طريق الى الخبر بلا واسطة فكذلك طريق الى لازمه وهو

__________________

(١) الدرر : ص ٣٨٨ ـ ٣٨٩.

٣١٣

الأثر الشرعي أو الموضوع المرتب عليه الأثر ، فيكون حال الخبر مع الواسطة من حيث الكشف عن الحكم الشرعي الذي هو لازم واقعي نوعي للخبر بلا واسطة كالخبر بلا واسطة من حيث الكشف المزبور ، والشارع جعل هذه الملازمة النوعية بمنزلة الملازمة القطعية ، لا أنه جعل أصل الملازمة ليكون دليل التعبد مثبتا لهذه الملازمة ، بل حال هذه الملازمة النوعية حال الملازمة العقلية والعادية من حيث عدم النظر لدليل التعبد إليها ، وانّما شأن دليل التعبد تنزيل هذه الملازمة النوعية منزلة القطعية ، وجعل الطريق الظني الى الأثر الشرعي بمنزلة الطريق القطعي.

ثم أورد عليه بأنّ التلازم بين شيئين لا يكون إلّا بعلية ومعلولية أو المعلولية لثالث. ومن البديهي أنّ الخبر ليس من مبادئ وجود المخبر به ولا المخبر به من مبادئ وجود الخبر ولا هما معلومان لعلة واحدة ، بل لكل منهما علة مباينة لعلة الآخر ، فلا ملازمة واقعية بين الخبر والمخبر به.

ثم أجاب عنه بقوله : والتحقيق أنّ الخبر بما هو خبر لا يكون له كشف تصديقي قطعي ولا ظني عن ثبوت المخبر به بالذات ... الى أن قال : فلا محالة إذا كان للخبر في مورد كشف تصديقي قطعي أو ظني فمن أجل ثبوت الملازمة العقلية أو العادية هناك.

فنقول : إذا فرض في المخبر عصمة أو ملكة رادعة فعلية تكون تلك العصمة أو الملكة علة لعدم التعمد بالكذب ، وربما تكون فيه حالة مقتضية لعدم تعمد الكذب مع قبول المانع. فاذا فرض عدم المانع وجد المعلول وإلّا فاقتضاء ، فالملازمة الفعلية بين تلك الحالة مع فرض عدم المانع وبين عدم تعمّد الكذب موجودة وإلّا فالملازمة الاقتضائية ثابتة بينهما.

وعليه فالخبر الصادق الموجود بوجود علته وهي الارادة لأصل الخبر ، وتلك الصفة المانعة عن الكذب لجهة صدقه تكشف من باب تضايف المضمون المطابق مع ما في اعتقاد المخبر عن ثبوت المخبر به في اعتقاد المخبر ، وهذا هو الصدق المخبري ، وبضميمة عدم الخطأ الموجود بوجود علته ينكشف مطابقة معتقد المخبر لما في متن الواقع وهو الصدق الخبري.

٣١٤

ومنه تعرف أنّ الملازمة في مرتبة الكشف لاجل الملازمة الواقعية الحقيقية في مرتبة المنكشف وأن الخبر بأية ملاحظة يتصف بالكشف عن ثبوت المخبر به في اعتقاد المخبر.

فاذا قطع بالخبر الصادق للقطع بوجود علته فلا محالة يقطع من باب التضايف بثبوت المخبر به في اعتقاد المخبر.

وإذا ظنّ بوجود العلة للخبر الصادق سواء كانت العلة بجميع أجزائها مظنونة أو ببعضها فلا محالة يظن بالمعلول ، فيظن بثبوت الحكم في اعتقاد المخبر. وعليه فاذا ظن من خبر محقق بصدور خبر متكفل للحكم مع احراز الحالة المقتضية لعدم الكذب وظن بعدم المانع فلا محالة يظن بثبوت الحكم في اعتقاد المخبر. فهذا الخبر المحقق حيث إنه مفيد للظن بثبوت الحكم لمكان الظن بعلّته يعمّه دليل التعبّد من دون حاجة الى شموله للواسطة ، فانه كنفس الواسطة مفيد للظن بالحكم غاية الامر أن الحكم هناك مطابق للمدلول المطابقي وهنا مدلول التزامي.

هذه غاية التقريب للجواب المزبور ، انتهى.

حاصله : أن الطريق الى الطريق الى الحكم كنفس الطريق الى الحكم في كونه مشمولا لدليل التعبد بعد وجود الملازمة ، وعليه فخبر محمّد بن مسلم عن خبر زرارة عن قول الامام كنفس خبر زرارة في كونه مشمولا لأدلّة التعبّد.

ولكن بعد اللتيا والتي أورد عليه بقوله بانّ لزوم قول الامام عليه‌السلام لخبر زرارة عنه غير مفروض في خبر محمّد بن مسلم عن إخبار زرارة بقول الامام عليه‌السلام ؛ إذ خبر زرارة غير محقق وجدانا وهو واضح ، ولا تعبدا ؛ اذ المفروض عدم ترتب وجوب التصديق إلّا على الخبر بالالتزام عن قول الامام ، وأصالة عدم الخطأ في خبر زرارة فرع تحققه ، ففي الحقيقة ليس خبر محمّد بن مسلم خبرا عن قول الامام عليه‌السلام إلّا على تقدير ؛ فانّه خبر عن لازم أمر غير مفروض الثبوت لا وجدانا ولا تعبدا ، ولا معنى لوجوب تصديق الخبر تحقيقا عن لازم على تقدير. (١)

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٨٢ ـ ٨٣.

٣١٥

وفيه : أنّه أن أراد بقوله (أنّ لزوم قول الامام عليه‌السلام لخبر زرارة عنه غير مفروض في خبر محمّد بن مسلم) أن خبر محمّد بن مسلم عن خبر زرارة عن الامام لا يكشف عن قول الامام من باب التضايف ففيه منع ؛ لما عرفت من وجود الكشف من باب التضايف في اعتقاد المخبر عن خبر زرارة. فمع خبر محمّد بن مسلم عن خبر زرارة عن قول الامام يكشف في اعتقاد المخبر عنه وهو محمّد بن مسلم عن وجود المخبر به وهو قول الامام وهذا الكشف فعلى وحاصل من خبر العادل ويشمله ادلة التعبد. وأن اراد بذلك أن نفس اللازم مترتب على خبر زرارة وليس هو مخبر به بنفسه فهو صحيح ولكن لا يضرّ ذلك بعد كون اللازم مكشوفا بنفس المخبر به وهو خبر زرارة وهذا الكشف فعلى ومعه يشمله ادلة التعبد ومسألة ترتيب الاثر الشرعي لا تكون من مقوّمات معنى الحجية والطريقية بل المعيار هو الكشف عما يكون له اثر شرعي وهو حاصل في الخبر عن الخبر عن قول الامام ، فتدبر.

ولقد أفاد وأجاد في توضيح ذلك في تسديد الاصول حيث قال : ليس في باب الطرق عند العقلاء سوى الطريقية بمعنى أن العقلاء كما يرون الشخص إذا قطع وعلم بالواقع واصلا الى الواقع فهكذا إذا قام عنده طريق معتبر يرونه واصلا إليه ، وطريقية الطريق ورسالته تنتهي وتختتم بمحض هذا الايصال ، ومسألة ترتيب الأثر ليست من مقومات معنى الطريقية ، بل لما كان الشخص بعد اداء الطريق ورسالته مثل ما اذا حصل له علم قطعي بالواقع واصلا للواقع فلا محالة إذا كان للواقع أثر شرعي يرتّبه عليه وإذا كان ذو الطريق أيضا طريقا فبعد الوصول اليه يتطرق به أيضا الى ما يخبر به ويصل الى ما أخبر به وهكذا الى أن يصل الى الواقع الذي هو حكم الله أو موضوعه. (١)

ودعوى : أنّ الملازمة ليست عقلية ولا عادية ، والملازمة الشرعية تحتاج الى الجعل ، وليس بين الادلة ما يتكفل ذلك. (٢)

__________________

(١) تسديد الاصول : ج ٢ ص ٨٥.

(٢) تهذيب الأصول : ج ٢ ص ١٢٥.

٣١٦

مندفعة : بما مر من أن الملازمة في مرتبة الكشف لأجل الملازمة الواقعية الحقيقية في مرتبة المنكشف ، فمع القطع يحصل القطع بها ، ومع الظن يحصل الظن بها ، والشارع امضاها كما اعتبرها العقلاء ، فلا وجه لنفي الدليل لذلك ، فكما أن الكشف حاصل في الخبر بلا واسطة فكذلك حاصل بالخبر مع الواسطة ، والكشف معتبر مطلقا.

لا يقال : أن خبر الشيخ لا عمل له ولا أثر عملي له وليس جزء موضوع للعمل ، نعم له أثر عملي بما هو موضوع من الموضوعات ، وهو جواز انتساب الخبر الى المفيد ، وهو يتوقف على تعدد المخبر كسائر الموضوعات ، وأما وجوب صلاة الجمعة فليس مفاد خبر الشيخ حتى يكون اقامة الصلاة ترتيبا عمليا له ؛ فانّ الشيخ لم يخبر عن وجوبها وإنّما أخبر عن إخبار المفيد ، ولأجل ذلك يدور صدق قوله أو كذبه مدار إخبار المفيد له وعدم اخباره سواء كانت الصلاة واجبة أم لا. (١)

لأنا نقول : لا مجال لما ذكر بعد أن كان المفروض هو كون مفاد جعل الحجية هو جعل الخبر من حيث إنه مفيد للظن النوعي طريقا الى الواقع لا ترتيب الأثر تعبدا ، ولم يدل دليل من آية أو رواية على لزوم كون مؤدى الامارة حكما شرعيا أو ذا أثر شرعي.

وعليه فلا منافاة بين جعل الحجية والطريقية وعدم كون خبر الشيخ لا عمل له ولا أثر عملي له وليس جزء موضوع للعمل ؛ لكفاية الاستطراق في جعل الحجية وهو موجود ، ولا دليل على اعتبار اثر عملي في جعل الحجية. نعم يعتبر عدم لغوية حجية الاستطراق ، وهو حاصل بسبب انتهاء ذلك الى الحكم الشرعي ، كما لا يخفى.

التنبيه الثامن :

أنه ربما يستدل على حجية الأخبار بالوجوه العقلية.

منها : ما اعتمد عليه الشيخ الأنصاري سابقا ، وهو انا نعلم اجمالا بصدور أكثر الأخبار أو كثير منها ، واحتمال الجعل لا يكون في جميع الأخبار ، والعلم بوجود الأخبار المكذوبة انّما

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ص ١٢٥.

٣١٧

ينافي دعوى القطع بصدور الكل أو دعوى الظن بصدور جميعها ، ولا ينافي ذلك دعوى العلم الاجمالي بصدور أكثر الأخبار أو كثير منها خصوصا بعد تهذيب الأخبار ، وعليه فدعوى العلم الاجمالي المذكور دعوى بديهية. فاذا ثبت العلم الاجمالي بوجود الاخبار الصادرة فيجب بحكم العقل الاحتياط بالعمل بكل خبر مع عدم المعارض والعمل بمظنون الصدور أو مظنون المطابقة للواقع مع وجود المعارض. (١)

ثم عدل الشيخ عما اعتمد عليه سابقا وأجاب عن ذلك بوجوه : أحسنها أنّ مقتضى هذا الدليل وجوب العمل بالخبر المقتضي للتكليف ؛ لانه الذي يجب العمل به. وأمّا الأخبار الصادرة النافية للتكليف فلا يجب العمل بها. (٢) نعم يجب الاذعان بمضمونها وإن لم تعرف بعينها. وكذلك لا يثبت به حجية الأخبار على وجه ينهض لصرف ظواهر الكتاب والسنة القطعية.

والحاصل : أن معنى حجية الخبر كونه دليلا متّبعا في مخالفة الأصول العملية والاصول اللفظية مطلقا ، وهذا المعنى لا يثبت بالدليل المذكور كما لا يثبت باكثر ما سيأتي من الوجوه العقلية بل كلها ، فانتظر. (٣)

ولا يخفى عليك أن التحقيق كما ذهب اليه في مصباح الاصول هو التفصيل في الأصول اللفظية بين ما اذا كان مفاد العام أو المطلق حكما الزاميا ومفاد الخبر غير الزامي وبين عكسه ، فان في الأول يحكم بتعين العمل بالعام أو المطلق وعدم جواز العمل بالخاص ؛ إذ لا أثر للعلم الاجمالي فيما اذا لم يكن متعلقا بحكم الزامي ، وعليه فيجب الأخذ بالعموم أو المطلق.

لا يقال : أن العلم الاجمالي بورود التخصيص في بعض العمومات يوجب سقوط اصالة العموم أو الاطلاق عن الحجية.

__________________

(١) راجع فرائد الاصول : ص ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٢) وذلك لعدم الاثر للعلم الاجمالي فيما اذا لم يتعلق بحكم الزامي ، مع عدم وجوب العمل في الأخبار النافية كيف يمكن أن يقال بانّ الاحتياط بالعمل بالأخبار واجب بحكم العقل.

(٣) فرائد الاصول : ص ١٠٤.

٣١٨

لانا نقول : نعم ، ولكن العلم الاجمالي بارادة العموم أو الاطلاق في بعضها يقتضي وجوب الاحتياط والعمل بجميع العمومات والمطلقات الدالة على التكاليف الالزامية ، والخاص المذكور لا يكون حجة ليكون موجبا لانحلال العلم الاجمالي المذكور ، ففي هذا الفرض تظهر الثمرة بين القول بحجية الخبر فانه مقدم على العام أو المطلق وبين القول بوجوب العمل به من باب الاحتياط فانه غير مقدم عليهما ، بل يجب العمل بالعموم أو المطلق ، كما لا يخفى.

ويلحق به في ظهور الثمرة ما اذا كان مفاد كل من العام والخاص حكما الزاميا بأن يكون مفاد العام وجوب اكرام العلماء ومفاد الخاص حرمة اكرام العالم الفاسق مثلا ، فعلى القول بحجية الاخبار لا اشكال في تقديم الخاص على العمومات وتخصيصها به ، وأما على القول بوجوب العمل بالأخبار الدالة على الخاص من باب الاحتياط فلا يمكن الاحتياط ؛ فان العلم الاجمالي بارادة العموم من بعض العمومات يقتضي الاحتياط بالفعل والعلم الاجمالي بصدور جملة من المخصصات يقتضي الترك ، فيكون المقام حينئذ نظير دوران الامر بين المحذورين ، والعقل حينئذ يحكم بالتخيير بين الفعل والترك ، فيتضح الفرق بين القول بحجية الخبر وبين القول بوجوب العمل بالخبر من باب الاحتياط.

وأما إذا كان مفاد العام أو المطلق حكما ترخيصيا ومفاد الخاص حكما الزاميا وهو عكس الاول فلا فرق بين القول بحجيّة الخبر وبين القول بوجوب العمل بالخبر من باب الاحتياط ؛ وذلك لتعين العمل بالخاص في جميع الاطراف ولو كان العمل به من باب الاحتياط ؛ إذ العلم الاجمالي بصدور جملة من المخصصات المشتملة على أحكام الزامية يوجب سقوط الاصول اللفظية عن الحجية ، كما هو الحال في الاصول العملية ؛ فانّ إجراءها في جميع الاطراف يستلزم المخالفة العملية القطعية وفي بعضها ترجيح بلا مرجح ، فلا مجال للقول بانّ العموم أو الاطلاق حجة في مدلوله ولا يرفع اليد عنهما إلّا بحجّة أقوى ، والعلم الاجمالي بارادة العموم في بعض الموارد مما لا اثر له ؛ اذ المفروض كون مفاد العموم حكما ترخيصيا ، وقد تقدم أنه لا أثر للعلم الاجمالي فيما اذا لم يكن متعلقا بحكم الزامي. ففي هذا

٣١٩

الفرض لا تظهر ثمرة بين القول بحجية الخبر والقول بوجوب العمل به من باب الاحتياط. (١)

وعليه فما ذكره الشيخ من عدم جواز مخالفة الاصول اللفظية بالخبر بناء على الدليل المذكور صحيح بالنسبة الى غير الصورة الاخيرة من الصورتين المتقدمتين ، وأما بالنسبة الى الصورة الاخيرة فلا يصحّ ؛ لما عرفت من وجوب الاتباع عن الخبر الدال على الحكم الالزامي وتقديمه على العام أو المطلق الدال على الحكم الترخيصي ، وليس هذا إلّا هو معنى الحجية ، ولا فرق في هذه الصورة بين القول بلزوم العمل بالخبر بالدليل النقلي وبين حجيته بالدليل العقلي ؛ للزوم العمل به على كلا التقديرين في الصورة الأخيرة. هذا كلّه هو حكم الخبر بناء على لزوم العمل به بالدليل العقلي في قبال الاصول اللفظية.

وأما حكم الخبر في قبال الاصول العملية بناء على لزوم العمل بالخبر بالدليل العقلي. فيمكن أن يقال : إن كانت الأخبار نافية والاصول مثبتة فلا اشكال حينئذ في تقديم الاصول المثبتة ؛ لوجود موضوعها وهو الشك بعد عدم حجية الخبر ، هذا مضافا الى أنه لا يلزم عن جريان الاصول المثبتة مخالفة عملية ، وأما اذا قلنا بحجية الاخبار فلا ريب في أن مع الاخبار لا يبقى موضوع الاصول المذكورة ، كما لا يخفى.

وإن كانت الأخبار مثبتة أيضا في الفرض المذكور وكانا متوافقين فلا اشكال أيضا في جريان الأصول المذكورة على القول بوجوب الخبر من باب الاحتياط ؛ لأنّ المانع من جريان الأصول أمران ، وكلاهما مفقودان : أحدهما ارتفاع موضوع الأصل وهو الشك وهو مفقود لعدم العلم الوجداني ولعدم حجية الخبر على الفرض ، وثانيهما لزوم المخالفة العملية القطعية والمفروض كون الاصول مثبتة للتكليف كالأخبار ، فلا يلزم من جريان الاصول المذكورة مخالفة عملية ، فلا مانع من جريانها ، هذا بخلاف ما اذا قلنا بحجية الخبر لارتفاع موضوع الاصول حينئذ ، كما لا يخفى.

وأما إذا لم يكونا متوافقين كأن يكون مفاد الأخبار حرمة الجمعة أو وجوب الدعاء عند

__________________

(١) راجع مصباح الاصول : ج ٢ ص ٢١٠ ـ ٢١٣.

٣٢٠