عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

حفظ من امتي اربعين حديثا مما يحتاجون اليه من امر دينهم بعثه الله فقيها عالما. (١)

قال شيخنا البهائي قدس‌سره في أول أربعينه : أن دلالة هذا الخبر على حجية خبر الواحد لا يقصر عن دلالة آية النفر انتهى.

ولكنه لا يخلو عن اشكال ، وهو أن وجه الدلالة هو الملازمة بين النقل والقبول التعبدي ، وهو اول الكلام ، ولعله مشروط بحصول العلم أو اتصاف الراوى بوصف العدالة.

ومثل الأخبار الواردة في الترغيب في الرواية والحث عليها وابلاغ ما في كتب الثقة كقوله عليه‌السلام فيما الفه يونس : هذا ديني ودين آبائي ، وهو الحق كله. (٢) وجه الدلالة هو الملازمة بين كون ما كتبه الثقة حقا وبين القبول التعبدي.

ولكن يرد عليه بأن التصديق المذكور تصديق شخصي بنحو القضية الخارجية. (٣) اللهمّ إلّا أن يقال : بعد الغاء الخصوصية يكون في قوة القضية الحقيقية.

وكقوله عليه‌السلام : اكتب وبث علمك في اخوانك ، فان مت فاورث (فورث) كتبك بنيك ، فانه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون (فيه) إلّا بكتبهم. (٤) وجه الدلالة واضح ؛ لان مورد التوصية هو كتابة الواحد هذا مضافا الى التعبير عنه بالبث بالعلم وانه ارث وموجب للانس به.

وكقوله عليه‌السلام اعرفوا منازل الرجال منا بقدر روايتهم عنا (٥) ودلالته على حجية قول كل ثقة محل تأمل.

وكقوله عليه‌السلام : لكل رجل منا من يكذب عليه.

وقوله : ستكثر بعدي القالة ، وأن من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار.

__________________

(١) جامع الأحاديث : ج ١ ص ٢٤١ ح ٦٨ الى ٧٣.

(٢) جامع الأحاديث : ج ١ ص ٢٢٧.

(٣) مباحث الحجج : ج ١ ص ٢٨٥.

(٤) جامع الأحاديث : ج ١ ص ٢٣٥ ح ٤٧.

(٥) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ح ٤٣.

٢٤١

بدعوى أن بناء المسلمين لو كان على الاقتصار على المتواترات لم يكثر القالة والكذابة اذ الاحتفاف بالقرينة القطعية في غاية القلة.

قال الشيخ : يستفاد من مجموع هذه الأخبار رضا الأئمة عليهم‌السلام بالعمل بالخبر وأن لم يفد القطع ، وادّعى في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة إلّا أن القدر المتيقن منها هو خبر الثقة الذي يضعف فيه احتمال الكذب على وجه لا يعتني به العقلاء ويقبحون التوقف فيه لاجل ذلك الاحتمال ، كما دل عليه الفاظ الثقة والمأمون والصادق وغيرها الواردة في الأخبار المتقدمة ، وهي أيضا منصرف اطلاق غيرها بل ولو لم يكن الاخبار متواترة بالاصطلاح كفى كونها مفيدة للاطمئنان بحجية خبر الثقة ولو لم يكن عادلا.

وأما العدالة فاكثر الأخبار المتقدمة خالية عن اعتبارها ، بل وفي كثير منها التصريح بخلافه مثل رواية كتاب العدّة الآمرة بالاخذ بما روته الثقات عن علي عليه‌السلام وما ورد في كتب بني فضال ومرفوعة الكناسي.

نعم في غير واحد منها حصر المعتمد في أخذ معالم الدين في الشيعة ، لكنه محمول على غير الثقة (أي الحصر محمول على غير الثقة من العامة ، فلا ينافي الاعتماد على ثقاتهم ، فالحصر اضافي بالنسبة الى غير ثقاتهم) أو الحصر محمول على أخذ الفتوى جمعا بينها وبين ما هو أكثر منها.

وفي رواية بني فضال شهادة على هذا الجمع مع أن التعليل للنهي في ذيل الرواية بانهم ممن خانوا الله ورسوله يدل على انتفاء النهي عند انتفاء الخيانة المكشوف عنه بالوثاقة ، فان غير الامامي الثقة مثل ابن فضال وابن بكير ليسوا خائنين في نقل الرواية. (١)

ولا يخفى عليك أن دعوى التواتر بالنسبة الى خبر الثقة المذكورة مع أن جملة منها تدل على اعتبار العدالة أو يحتمل اعتبارها من جهة العدالة. كما ترى.

نعم يمكن تأييد ما ذهب اليه الشيخ قدس‌سره من دعوى التواتر بأن بناء العامة على العمل بخبر

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٨٨.

٢٤٢

الواحد ومع ذلك لم يردعهم الائمة عليهم‌السلام عن ذلك مع انهم عليهم‌السلام ردعوهم عن القياس والاستحسان ، وهو امر ثابت ويدل عليه بعض الأخبار.

منها : مرسلة داود بن فرقد عن رجل عن سعيد بن ابي الخطيب عن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام في حديث انه قال لابن ابي ليلى : فبأي شيء تقضي؟ قال : بما بلغني عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن علي وعن ابي بكر وعمر. قال : فبلغك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن عليا اقضاكم؟! قال : نعم. قال : فكيف تقضي بغير قضاء علي عليه‌السلام وقد بلغك هذا الحديث. (١) وجه الدلالة هو قول ابن ابي ليلى (بما بلغني) حيث أن مراده منه البلوغ بنحو الآحاد ؛ لقلة التواتر جدا ، ولم يردعه الامام عليه‌السلام عن ذلك ، بل نبّهه على خبر آخر وصل اليه. (٢)

نعم لا إطلاق له حيث انه في مقام بيان لزوم القضاء بقضاء علي عليه‌السلام ، إلّا أن احتمال اشتراط العلم في البلوغ في اخبار العامة بعيد جيدا.

ومنها : مرسلة شبيب بن أنس عن بعض أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث أن أبا عبد الله عليه‌السلام قال لابي حنيفة : يا أبا حنيفة اذا ورد عليك شيء ليس في كتاب الله ولم تأت به الآثار والسنة كيف تصنع؟ فقال : اصلحك الله اقيس واعمل فيه برأيي ، فقال عليه‌السلام : يا أبا حنيفة أن أوّل من قاس ابليس. (٣)

حيث أن قوله ولم تأت به الآثار والسنة يدل على انه عمل بالآثار ولم يردعه الامام ٧ عن العمل به. (٤)

وفيه ما تقدم والجواب الجواب.

هذا مضافا الى امكان تأييد ما ذهب اليه الشيخ من دعوى التواتر أيضا بثبوت بناء اصحابنا على العمل بخبر الواحد ، كما يدل عليه بعض الاخبار.

__________________

(١) الوسائل : الباب ٣ من أبواب صفات القاضي ح ٩.

(٢) راجع نهاية الاصول : ص ٥١٠

(٣) الوسائل : الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ح ٢٧.

(٤) نهاية الاصول : ص ٥١١ ـ ٥١٢.

٢٤٣

منها : مرسلة ابي جميلة البصري قال : كنت مع يونس ببغداد وانا امشي معه في السوق ، ففتح صاحب الفقاع فقاعه فاصاب ثوب يونس ، فرأيته قد اغتم لذلك حتى زالت الشمس ، فقلت له : يا أبا محمّد ألا تصلي. فقال : ليس اريد اصلي حتى ارجع الى البيت فاغسل هذا الخمر من ثوبي. فقلت له : هذا رأي رأيته أو شيء ترويه؟ فقال : أخبرني هشام بن الحكم انه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفقاع فقال : لا تشربه فانه خمر مجهول ، فاذا اصاب ثوبك فاغسله (١) ؛ لدلالته على أن العمل بخبر الواحد كان معمولا عندهم.

ونحوها موثقة اسحاق بن عمار (٢) وخبر علي بن حديد (٣) وخبر معمر بن خلاد (٤) وصحيح زرارة (٥) وخبر سليم بن قيس. (٦)

والى غير ذلك من الاخبار الدالة على أن أصحابنا آخذون بخبر الواحد الثقة ، وعليه فدعوى أن الاخبار الدالة على حجية خبر الواحد الثقة متواترة بالتواتر المعنوي ليست بمجازفة.

قال السيد المحقق البروجردي قدس‌سره ـ بعد نقله كلام شيخنا الأعظم قدس‌سره ـ أن الأخبار التي ذكرها الشيخ لا تبلغ حد التواتر الاجمالي ... الى أن قال : يشكل حصول القطع بصدور واحد منها خصوصا بعد امكان المناقشة في دلالة بعضها ، ولكن الذي يسهّل الخطب عدم انحصار الاخبار فيما ذكره بل هي كثيرة جدا ، ويستفاد من جميعها أن العمل بالخبر الواحد كان مما استقرت عليه سيرة اصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والائمة عليهم‌السلام ، وكان بعضهم يحتج بذلك على غيره. ولا فرق في ذلك بين العامة والخاصة ، بل لم ينكر من العامة احد ذلك سوى المتكلمين

__________________

(١) الكافي : ج ٦ ص ٤٢٣.

(٢) الوسائل : الباب ٤٦ من أبواب القراءة.

(٣) الوسائل : الباب ٢٥ من أبواب صلاة المسافر.

(٤) الوسائل : الباب ١٨ من أبواب المواقيت.

(٥) الوسائل : الباب ٨ من أبواب المواقيت.

(٦) الوسائل : الباب ١٤ من أبواب صفات القاضي.

٢٤٤

منهم كالنظام وغيره ، ولو كان العمل بالخبر أمرا منكرا لكان على الائمة عليهم‌السلام تنبيه أصحابهم وردعهم عنه كما ردعوا عن القياس.

وبالجملة فكثرة الأخبار بحد يحصل القطع منها بكون حجية الخبر امرا مفروغا عنه بين العامة والخاصة في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والائمة عليهم‌السلام ، ثم نقل الأخبار التي اشرنا اليها آنفا. (١)

والظاهر أن لفظ التواتر الاجمالي من سهو القلم ، لانّ المدعى هو التواتر المعنوي لا الاجمالي ، وهو حاصل بمجموع ما ذكره الشيخ قدس‌سره كما اشار اليها في نهاية الاصول وذكرناه بالتفصيل ، كما لا يخفى.

ثم أن دعوى كون المتيقن من الروايات هو العدل لا الثقة ، كما يشهد له الارجاع إلى الاعدل في المتعارضين في المقبولة ، فانه حاك عن كون كل طرف من اطراف التعارض عدلا ، هذا مضافا الى اعتبار عنوان (ثقاتنا) وعنوان (مرضيان) وعنوان (حجتي) وعنوان (من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه) وعنوان (كلّ مسنّ في حبّنا) وعنوان (كل كثير القدم في امرنا) فانها ظاهرة فى اعتبار العدالة وفوقها.

مندفعة بانه يمكن دعوى عدم اعتبار وصف العدالة في الراوي في حجية روايته ، بل المدار هو الوثوق المخبري في نقل الرواية بنحو يضعف فيه احتمال الكذب ، والتعبير بالعدالة ونحوها من العناوين المذكورة من باب خصوصية مورد السؤال أو من باب علاج الأخبار المتعارضة ، لا من باب دخالتها في حجية الخبر الواحد ؛ والدليل على ذلك هو عدم اعتبار الاصحاب في الأخذ أن يكون الراوي من أصحاب السرّ أو ممن يرضى الأئمة عليهم‌السلام عنه أو أن يكون من الشيعة ، كما صرح بذلك الشيخ الطوسي قدس‌سره في العدة من أن الطائفة عملت بما رواه حفص بن غياث وغياث بن كلوب ونوح بن دراج والسكوني وغيره من العامة الذين كانوا ينقلون الأخبار عن ائمتنا عليهم‌السلام.

وهو شاهد على أن المعيار في جواز الرجوع هو الوثوق بالناقل ولو كان عاميا ، نعم

__________________

(١) راجع نهاية الأصول : ص ٥٠٩ ـ ٥١٠.

٢٤٥

لا ينافي ما ذكرناه تقدم الراوي الشيعي الثقة على الراوي العامي الثقة عند التعارض كما روى الشيخ في العدة ذلك عن الامام الصادق عليه‌السلام : انه اذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنا فانظروا الى ما رووه عن علي عليه‌السلام فاعملوا به (١) ، بل يكون ظاهر قوله بعد الرواية المذكورة : ولاجل ما قلنا عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث الخ أن الرواية المذكورة معمولا بها عند الاصحاب.

ويشهد أيضا على أن المعيار هو الوثوق بالراوي قوله عليه‌السلام : خذوا ما رووا وذروا ما رأوا.

وتجويز الامام عليه‌السلام العمل بقول الثقة وأن كان المخبر ممن يضيع الخبر ولا يعمل به كما مرّ.

والتعليل الوارد في صحيحة احمد بن اسحاق بعد قوله العمري ثقتي فانه الثقة المأمون.

فانه يفيد الكبرى الكلي ، وهي أن كل ثقة مأمون يسمع له ، وهو معنى حجية خبر الثقة ، وتطبيق هذا الكلي على مثل العمري الذي كان في مرتبة عالية من الوثاقة لا ينافي كون المعيار هو افادة الوثوق بالمخبر ، ولا دخالة لما زاد عليه من المراتب العالية ، ولا وجه لحمل الكبرى الكلي على أن المراد منه هو خصوص المورد ، كما لا يحمل ذلك في امثاله ونظائره.

ولقد افاد واجاد في نهاية الافكار حيث قال : ولا يخفى أن التواتر المدعى في تلك الاخبار وأن لم يكن لفظيا إلّا أنّه يكون معنويا ؛ لوضوح كون الجميع بصدد بيان معنى واحد ، وهو حجية قول الثقة ووجوب العمل على طبقه ، بل وظاهر بعضها هو كون وجوب العمل بخبر الثقة أمرا مركوزا عندهم بحيث كان من المسلمات عند أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، ولذلك وقع السؤال فيها عن الموضوع ، وهو كون الراوي ثقة أو غير ثقة كما في خبر عبد العزيز المتقدم ، وربما يشهد لذلك أيضا تعليله عليه‌السلام في خبر أحمد بن اسحاق بعد ما أرجع الى العمري وابنه بقوله : انهما الثقتان المأمونان. وحينئذ فلا ينبغي الارتياب في حجية خبر الثقة ووجوب الأخذ به.

ثم أن الثقة في تلك الأخبار وأن كانت ظاهرة في العدالة بل اعلى درجتها ، ولكن يمكن

__________________

(١) عدة الاصول : ص ٣٧٩.

٢٤٦

دعوى عدم اعتبار وصف العدالة في الراوي في حجية روايته وأن مدار الحجية انما كان على حيث الوثوق في نقل الرواية بنحو يضعف فيه احتمال الكذب بحيث لا يعتني به العقلاء ، وأن التعبير بالمأمونية في الدين والدنيا انما هو من جهة كونه ملزوما للوثاقة في الحديث ، لا من جهة مدخلية خصوصية المأمونية في الدين في الراوي في حجية روايته ... الى أن قال : ومن ذلك ترى بناء الاصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ على العمل بالخبر الموثوق به ولو من غير الشيعة اذا علموا بان الراوي سديد في نقل الرواية ومتحرز عن الكذب وكان ممن لا يطعن في روايته وأن كان مخطئا في اعتقاده وسالكا غير الطريقة المستقيمة التي سلكها الشيعة والفرقة المحقة ، كاخذهم بروايات حفص بن غياث وغياث بن كلوب ونوح بن دراج وغيرهم من العامة ، وكذا اخذهم بأخبار جماعة من الفطحية وغيرها كعبد الله بن بكير وسماعة بن مهران وعلي بن ابي حمزة البطائني اللعين الشقي وكتب بني فضال وغيرهم ممن عرف منهم كونهم موثقين في نقل الحديث.

وناهيك في ذلك الحديث النبوي المعروف (على اليد ما اخذت) المستدل بها في أبواب المعاملات ، مع أن من المعلوم انه لم يروه احد من رواتنا الامامية ولا كان موجودا في شيء من جوامعنا ، وانما هو مروي في كتب العامة بطرقهم المنتهية الى سمرة بن جندب الشقي عمن هو مثله ، فان ذلك شاهد صدق لما ذكرنا من أن مدار الحجية عندهم على مجرد كون الخبر موثوق الصدور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الائمة عليهم‌السلام بنحو يضعف فيه احتمال الكذب ضعفا لا يعتني به العقلاء بنحو يعد المعتني به من الوسواسين ، لا أن مدار الحجية عندهم على عدالة الراوي.

وحينئذ فلا اشكال في دلالة تلك الأخبار على حجية خبر الموثوق به صدورا أو مضمونا ، كما يدل على الاول الترجيح بالشهرة والشذوذ وبعدالة الراوي ووثاقته ، وعلى الثاني الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة. (١)

ولا يخفى عليك أن موثوق الصدور وأن كان حجة عند العقلاء ولم يردع عنه فى الشرع ،

__________________

(١) نهاية الافكار : ج ٣ ص ١٣٤ ـ ١٣٦.

٢٤٧

ولكن المعيار المستفاد من الاخبار المذكورة هو أن يكون الراوي ثقة في حديثه ، وهو الذي يعبر عنه بالوثوق المخبري.

تواتر ادلة اعتبار الخبر الواحد

ثم أن الظاهر من كلام صاحب الكفاية انه لم يثبت عنده التواتر المعنوي ، ولذا ذهب الى التواتر الاجمالي حيث قال : تلك الأخبار وإن كانت طوائف كثيرة ، إلّا أنه يشكل الاستدلال بها على حجية الأخبار الآحاد بانها أخبار آحاد ، فانها غير متفقة على لفظ ولا على معنى حتى تكون متواترة لفظا أو معنى ، ولكنه مندفع بأنها وأن كانت كذلك ، إلّا أنها متواترة اجمالا ؛ ضرورة انه يعلم اجمالا بصدور بعضها منهم عليهم‌السلام ، وقضيته وأن كانت حجية خبر دل على حجية اخصّها مضمونا ، إلّا أنه يتعدى عنه فيما اذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصية ، وقد دل على حجية ما كان اعم ، فافهم. (١)

وفيه انه يكفى الأخبار المذكورة في اثبات التواتر المعنوي ، على أن قول الثقة مفروغ الحجية عند السائل والمسئول عنه وسيرة الاصحاب على العمل به ولو كان المخبر من العامة أو الذين أخطئوا في اعتقاداتهم من فرق الشيعة.

ولا ينافيه اعتبار الاعدلية في الأخبار العلاجية ؛ لانها في مقام ترجيح احد المتعارضين على الآخر ، فلا وجه للاستدلال بها على اعتبار العدالة في حجية الخبر ، كما لا وجه للاستدلال بالاخبار الدالة على انه لا عذر فيما يرويه ثقاتنا على اعتبار كونه اماميا بعد تعليل الحجية بكونه الثقة المأمون في الأخبار ، هذا مضافا الى أن حجية قول الثقات من العامة مما لا يقبل الانكار.

ومما ذكرناه يظهر ما في مصباح الاصول حيث جعل الأخبار متعارضة وقال : أن النسبة بين العادل والموثوق به هي العموم من وجه ؛ اذ قد يكون الراوي عادلا غير موثوق به لكثرة

__________________

(١) الكفاية : ج ٢ ص ٩٧.

٢٤٨

خطأه وسهوه ، وقد يكون موثقا غير عادل بمعنى انه ضابط حافظ متحرز عن الكذب إلّا أنه فاسق من غير ناحية الكذب كما يوجد كثيرا ، وقد يكون عادلا موثقا. وعليه فالقدر المتيقن منها هو الجامع للعدالة والوثاقة ، فبناء على التواتر الاجمالي لا يستفاد منها إلّا حجية الخبر الصحيح الاعلائي.

نعم ذكر صاحب الكفاية أن المتيقن من هذه الأخبار وأن كان هو خصوص الخبر الصحيح ، إلّا أنه في جملتها خبر صحيح يدل على حجية الخبر الموثق ، فثبت به حجية خبر الثقة وأن لم يكن عادلا. وما ذكره متين ، ولعل مراده من الخبر الصحيح الدال على حجية خبر الثقة قوله عليه‌السلام (نعم) بعد ما قال السائل : افيونس بن عبد الرحمن ثقة ناخذ معالم ديننا عنه ؛ فان ظاهره كون حجية خبر الثقة مفروغا عنها بين الامام والسائل وأن السؤال ناظر الى الصغرى فقط. (١)

وذلك لما عرفت من أن مقتضى الامعان في الأخبار أن المراد من مجموعها هو اعتبار قول الثقة المأمون ، فلا تعارض ولا منافاة بينها حتى نأخذ بالاخصّ مضمونا منها ، لان عدم الدلالة على الاعم فى بعض الاخبار وسكوته لا يعد من المنافاة كما أن خصوصيات المورد لا دخالة لها فى ملاك الاعتبار ولا يوجب تقييد الكبرى الواردة فى حجية خبر الثقات بعنوان التعليل فتدبّر جيدا.

فالأظهر كما ذهب اليه الشيخ قدس‌سره هو ثبوت التواتر المعنوي على اعتبار خبر الثقة المأمون ، وعليه فدعوى منع التواتر المعنوي والأخذ بالتواتر الاجمالي والاخذ بالخبر الصحيح الاعلائي والاستدلال به لحجية خبر كل الثقة المأمون تبعيد المسافة من دون موجب ، كما لا يخفى.

كلام المحقق النائيني قدس‌سره

حكي عن المحقق النائيني قدس‌سره انكار التواتر الاجمالي بدعوى انا لو وضعنا اليد على كل

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ص ١٩٤.

٢٤٩

واحد من تلك الأخبار نراه محتملا للصدق والكذب ، فلا يكون هناك خبر مقطوع الصدور. (١)

ولا يخفى ما فيه فان مع تسليم عدم ثبوت التواتر المعنوي فلا وجه لانكار التواتر الاجمالي ؛ وذلك لان احتمال الصدق والكذب بالنسبة الى كل فرد لا ينافي القطع بصدور الاخص مضمونا باعتبار المجموع ألا ترى أنه اذا اخبر النفرات الكثيرة بدخالة شيء في صحة معاملة أو عبادة أو بحدوث امر مع الاختلاف في النقل لم نعلم بخصوص كل واحد مع قطع النظر عن إخبار الآخرين ، ولكن مع ملاحظة اخبار الآخرين نعلم بدخالة الاخص مضمونا فانه هو الذي اخبر عنه بخصوصه أو في ضمن المطلق ، ففي المقام اذا اعتبر في بعض الأخبار العدالة وفي بعضها الآخر الثقة وفي ثالث الامامي وفي رابع المأمون وهكذا قطعنا باعتبار خبر العدل الامامي المأمون بملاحظة مجموع الأخبار وأن لم نقطع باعتبار كل واحد واحد ، كما لا يخفى.

قال في مصباح الاصول : وبالجملة التواتر الاجمالي مما لا مجال لانكاره ؛ فان كثرة الأخبار المختلفة ربما تصل الى حد يقطع بصدور بعضها وأن لم يتميز بعينه ، والوجدان أقوى شاهد وأوضح دليل عليه ، فانا نعلم وجدانا بصدور جملة من الأخبار الموجودة في كتاب الوسائل ولا نحتمل كذب الجميع. واوضح منه أن نعلم بصدق بعض الاخبار المتحققة في هذه البلدة في يوم وليلة فضلا عن الحكايات المسموعة في ايام وليال عديدة.

فتحصّل : أن التواتر الاجمالي غير قابل للانكار ، ومقتضاه هو الالتزام بحجية الاخص منها المشتمل على جميع الخصوصيات المذكورة في هذه الأخبار ، فيحكم بحجية الخبر الواجد لجميع الخصوصيات باعتبار كونه القدر المتيقن من هذه الاخبار الدالة على الحجية. (٢)

هذا والذى ينبغى أن يقال انه لا معارض لاطلاق ما دل على اعتبار كون الراوى ثقة

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ص ١٩٣.

(٢) مصباح الاصول : ج ٢ ص ١٩٣.

٢٥٠

لعدم وجود رواية تدل على اعتبار كونه اماميا او تدل على اعتبار العدالة لان ما يستدل به لاعتبار ما يكون مورد العموم التعليل الدال على اعتبار كون الراوى ثقة او يكون مخصوصا بباب علاج الاخبار المتعارضة اذ لا اطلاق له واما كون الراوى مأمونا فهو ملازم مع كونه ثقة فلا وجه لانكار التواتر المعنوى فضلا عن التواتر الاجمالى نعم قال سيدنا الاستاذ المحقق الداماد قدس‌سره فى محكى كلامه ولكن الذى يختلج بالبال أن التواتر الاصطلاحى وهو اخبار جماعة عديدة الذين يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب غير متحقق فى المقام بل فى جميع المقامات لانتهاء الامر بالاخرة الى اشخاص ثلاثة وفى التواتر لا بد من حفظ العدة المذكورة فى جميع المراتب نعم الذى يهون الامر انه وأن ليس هنا التواتر الاصطلاحى لما ذكر ولكن لا اشكال فى حصول الاطمئنان بصدق هؤلاء الاشخاص وعدم اقدام مثل الشيخ والكلينى والصدوق واشباههم على تعمّد الكذب والاطمينان علم عرفى وتتبع على حذو القطع الحقيقى ومجرد ذلك يكفى فى النتيجة المذكورة وأن كان التواتر مفقودا. (١)

ويمكن أن يقال أن الكتب الثلاثة مستندة الى ثلاثة اشخاص مذكورة بالتواتر والكتب الثلاثة تنتهى الى اصول من اصحاب الائمة عليهم‌السلام بالتواتر فلا وجه لانكار التواتر فتدبر.

كلام الشهيد السيّد الصدر قدس‌سره

ومما ذكر يظهر ما في المحكي عن الشهيد السيد الصدر قدس‌سره حيث ذهب الى انكار التواتر رأسا بدعوى عدم دلالة الاخبار على الحجية اصلا ، وما يتبقى منها بعد فرز ذلك لا يكاد يبلغ حدّ التواتر ؛ اذ لا يزيد على خمسة عشر رواية ، وقال : وفيما يلي نشير الى الطوائف المستدل بها على الحجية في مجموع الأخبار :

١ ـ ما ورد بعنوان تصديق الامام لبعض الروايات بعينها على نحو القضية الخارجية مثل كتاب يوم وليلة ليونس بن عبد الرحمن حيث قال الامام العسكري عليه‌السلام بعد نظره فيه وتصفحه كله : هذا ديني ودين آبائي ، وهو الحق كله.

__________________

(١) المحاضرات سيدنا الاستاذ ٢ / ١٥٠.

٢٥١

وواضح أن هذه الطائفة لا تدل على أكثر من التصديق الشخصي بنحو القضية الخارجية لبعض الروايات ، وهذا غير الحجية. (١)

٢ ـ ما ورد بعنوان لزوم التسليم لما ورد عنهم والانقياد له من قبيل رواية الحسن بن جهم قال : قلت للعبد الصالح هل يسعنا فيما ورد منكم إلّا التسليم لكم؟ فقال : لا والله لا يسعكم إلّا التسليم لنا. وواضح عدم دلالتها أيضا ؛ لانها تنظر الى ما هو قول المعصوم وصادر عنه وانه لا بد من التسليم والانقياد لهم وعدم اعمال الذوق والاجتهاد في مقابلهم ، كما كان يفعل العامة. (٢)

٣ ـ ما ورد بعنوان الحث على تحمل الحديث ونقله. ولا تدل هذه الطائفة إلّا من باب الملازمة ، وقد عرفت عدم الملازمة بين الترغيب المذكور ووجوب القبول تعبدا.

٤ ـ ما ورد بعنوان الاحالة على اشخاص معينين. ولا يخفى أنها حوالة على اشخاص معينين ، ولو سلم دلالتها على أن الاحالة اعم من الاحالة على القضية في أخذ الفتوى لا تدل على الحجية ؛ لاحتمال ذلك باعتبار علم الامام عليه‌السلام بان اولئك الاشخاص لا يكذبون لكونهم على مرتبة عظيمة من التقوى. (٣)

٥ ـ ما امر فيها بنقل الحديث وتداوله ، من قبيل رواية ابان بن تغلب عن ابي عبد الله ، عليه‌السلام قال : يا ابان اذا قدمت الكوفة فارو هذا الحديث ، من شهد أن لا إله إلّا الله مخلصا وجب له الجنة. وهي لا تدل إلّا بتوهم الملازمة ، وقد مر تفنيدها.

٦ ـ ما دل على الثناء على المحدثين ورواة أحاديث اهل البيت عليهم‌السلام كقوله عليه‌السلام : اللهمّ

__________________

(١) وفيه أن المشهود من الاصول والكتب هو أنها غير منحصرة فيما روى مؤلفوها بلا واسطة ، وعليه فتصديق الكتاب مع كون جملة منها روايات مع الواسطة تدل على حجية الروايات المنقولة فيها أيضا. اللهمّ إلّا أن يقال : أن النظر في التصديق الى نفس المطالب لا الى ناقليها.

(٢) يرد عليه أن ما يكون مورد نظر السائل والمسئول عنه هو قول المعصوم الذي ورد عنه سواء كان مع الواسطة أو بدونها.

(٣) يمكن أن يقال : أن هذا الاحتمال منفي فيما اذا علل الارجاع بوجه عام ككونه ثقة مأمونا ، كما لا يخفى.

٢٥٢

ارحم خلفائي ثلاثا قيل : يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال : الذين يبلغون حديثي وسنتي ثم يعلّمونها أمتي.

وهي أيضا لا تدل على الحجية إلّا على الملازمة غير الصحيحة.

٧ ـ ما دل على أن انتفاع السامع للحديث قد يكون اكثر من انتفاع راويه. وفيه انها ليست في مقام بيان انه متى يثبت صدور الحديث عن المعصوم ، وانما يتعرّض بعد الفراغ عن ثبوته الى أنه ربما يكون السامع أفضل فهما. وأين هذا من الحجية؟!

٨ ـ ما دلّ من الأحاديث على أن على رأس كل قرن يبعث الله من يحفظ هذا الدين ويحميه. وهي أيضا اجنبية عن الحجية التعبدية ، بل تدل على الحجية الحقيقية والتمييز بين الحق والباطل.

٩ ـ ما دل على الترغيب في حفظ الكتب كقوله عليه‌السلام : احفظوا بكتبكم ، فانكم سوف تحتاجون اليها.

والاستدلال بها مبني على دعوى الملازمة بين وجوب الحفظ ووجوب القبول والحجية ، وقد عرفت تفنيدها.

١٠ ـ ما دل على التحذير من التحريف في نقل الحديث. وهي أيضا أجنبية عن المدعى.

١١ ـ ما دل على جواز نقل الحديث بالمعنى. وهي أيضا لا تدل إلّا على تحديد وظيفة الراوي في مقام النقل وتحمل الحديث.

١٢ ـ ما دل على وجوب السماع عن صادق من قبيل رواية الفضل قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : من دان الله بغير سماع عن صادق الزمه الله التيه الى العناء الحديث. وواضح أن المراد من الصادق فيها الامام لا مطلق الثقة ، ولهذا عبر عنه بمن دان الله ، فالمراد من الصادق الصادق بقول مطلق. (١)

__________________

(١) ويحتمل أن يكون المراد هو ما نقله الثقات عن الامام المعصوم ، وهو يصدق على المنقول مع الواسطة ايضا. وفي بعض النسخ : حديث واحد يأخذه صادق عن صادق. والمراد من الصادق هو الصادق في نقله ، لا الصادق مطلقا.

٢٥٣

١٣ ـ ما دل على حجية نقل ثقات الامام كقوله عليه‌السلام : لا عذر لاحد من موالينا التشكيك فيما روى عنا ثقاتنا قد عرفوا باننا نفاوضهم بسرنا ونحمله (اياه) اليهم ، وعرفنا ما يكون من ذلك أن شاء الله.

وهي أيضا لا تدل على حجية خبر الثقة ؛ لان الوارد فيه عنوان ثقاتنا ، وعنوان ثقتي اخص من عنوان الثقة المطلق. (١)

١٤ ـ ما دل على المنع من رفض الرواية لمجرد رأي وذوق واستحسان.

وهي ايضا اجنبية عن المدعى ؛ لانها تنهى عن اعمال الرأي والاستحسان ، ولا ينافي ذلك مع عدم حجية خبر الواحد.

١٥ ـ ما دل على الترجيح عند التعارض بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ؛ بدعوى أن ذلك دليل على حجية الخبر في نفسه ، وإلّا لما وقع تعارض بين حجتين.

وفيه يمكن ارادة الحجية القطعية كما اذا كان الخبر قطعي السند ، وليست هذه الأخبار في مقام البيان من ناحية حجية اصل الخبر ليتمسك باطلاقها. (٢)

وهكذا يتضح أن هذه الطوائف لا دلالة في شيء منها على المطلوب ، وبعد افرازها لا تبقى لدينا اكثر من خمسة عشر رواية مما قد تتم على الحجية ، وهو عدد لا يبلغ حد التواتر.

ولكن في خصوص المقام هناك بعض القرائن الكيفية التي قد توجب حصول الاطمئنان بصدور بعض هذه الروايات اذا ما لوحظت الى جانب الخصوصية الكمية ، والميزان هو الاطمئنان الشخصي بعدم تعمد شيء من رواتها للكذب فيها لخصائص في سندها ، ولو فرض عدم حصول ذلك منها فلا أقل من حصوله بها مع ضم الروايات الاخرى اليه ، مثل ما روى الكليني عن محمّد بن عبد الله الحميري ومحمّد بن يحيى العطار جميعا عن عبد الله بن

__________________

(١) ولكن يتعدى عنه بعموم التعليل الوارد في ذيله أو غيره بمثل قوله : فانه الثقة المأمون.

(٢) حمل الاخبار المتعارضة على قطعي الصدور حمل على فرد نادر ، وهذه الأخبار وأن لم تكن في مقام البيان ولكن تدل على مفروغية حجية الخبر ، فتدبّر.

٢٥٤

جعفر الحميري قال : اجتمعت انا والشيخ ابو عمرو عثمان بن سعيد عند احمد بن اسحاق ، فغمزني أحمد بن اسحاق أن أسأله عن الخلف أي الحجة. فقلت له : يا أبا عمرو اني اريد أن أسألك عن شيء وما انا بشاك فيما اريد أن اسألك عنه ... الى أن قال الحميري : وقد أخبرني ابو علي احمد بن اسحاق عن ابي الحسن عليه‌السلام قال : سألته وقلت : من اعامل أو عمن آخذ وقول من اقبل؟ فقال له : العمري ثقة ، فما أدى اليك عني فعنّي يؤدي ، وما قال لك عني فعنّي يقول ، فاسمع له واطع ، فانه الثقة المأمون.

وقال الحميري أيضا : وأخبرني أبو علي انه سئل أبا محمّد عن مثل ذلك ، فقال : العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا اليك عنّي فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما واطعهما ، فانهما الثقتان المأمونان الحديث.

الى أن قال : اما من حيث السند فهي مظنونة الصدق ظنّا شخصيا اطمئنانيا من ناحية عدم تعمد الكذب على الاقل بحيث نحتاج فقط الى ضمّ اصالة عدم الغفلة العقلائية ، ولو فرض عدم حصول الظن الاطمئناني المذكور من تلك القرائن الخاصة لأمكن تكميل الظن المذكور بضم الروايات الاخرى.

وأن فرض التشكيك في كل ذلك وعدم حصول اطمئنان شخصي فلا اشكال في ان هذا السند من اعلى الاسانيد الذي أفراده كلهم اصحاء بالوجدان لا التعبد ، فيكون هو القدر المتيقن من السيرة العقلائية الدالة على الحجية ، وبذلك تثبت حجية تمام مفاده ، فاذا كان مفاده حجية مطلق خبر الثقة اثبتنا به حجية مطلق خبر الثقة.

واما من حيث الدلالة ففيها فقرتان يمكن الاستدلال بكل منهما :

الأولى : ما صدر من الامام أبي الحسن الثالث عليه‌السلام : العمري ثقة ، فما ادى اليك فعني يؤدي ، وما قال لك فعنّي يقول ، فاسمع له واطع ، فانه الثقة المأمون.

الثانية : ما صدر عن الامام العسكري في حق عثمان بن سعيد : العمري وابنه ثقتان ، فما ادّيا اليك عني فعنّي يؤديان ، وما قالا لك فعني يقولان ، فاسمع لهما واطعهما ، فانهما الثقتان المأمونان.

٢٥٥

وصدر هذا الحديث وأن كان حوالة شخصية على العمري ، فتكون نظير الحوالة على السيد عبد العظيم الحسني ، ولا دلالة له على المطلوب ، إلّا أن الاستدلال بذيلها حيث انه ورد فيه التعليل ، وهو بمثابة كبرى كلية ، وهي أن كل ثقة مأمون يسمع له ، وهو معنى حجية خبر الثقة.

ثم تفريع التعليل على الصدر لا يضر بعموم التعليل المشير الى قاعدة كلية.

والقول بأن اللام تدل على الكمال كما في قولك انه الفقيه العالم فغاية ما يقتضيه التعليل هو التعدي الى الثقة المطلق اي من كان في غاية الوثاقة غير سديد ؛ لان اللام للجنس والعهد ، بل الجنس أيضا نوع عهد ذهني ومنشأ استفادة الكمال مناسبة حمل اسم الجنس المعرف باللام على الشخص فانه حيث لا معهودية لشخص معين ووضوح عدم كونه الجنس بما هو جنس معهود ذهنا ، فيشعر ذلك بوجود عناية ملحوظة في هذا الحمل ، ولكن يمكن أن يكون العناية وضوح المصداقية للجنس وانطباقه عليه اثباتا ، بل هذا هو المناسب في مقام التعيين.

وهكذا لا مجال لدعوى أن هذه الحوالة يحتمل في حقها أن تكون من باب الارجاع الى المقلد في مقام اخذ الفتوى لا الارجاع الى الراوي بقرينة قوله : واطع.

لان وجوب الاطاعة لا يناسب عرفا بالنسبة الى المفتي أيضا وانما يناسب الحاكمية والولاية ، فلا بد وأن يحمل على الاطاعة في استماع الاخبار التي ينقلها عن الامام ولزوم تصديقه فيها ، ومما يدل على ذلك أن المأمور هو احمد بن اسحاق الذي لم يكن من العوام بل من الخواص ، فلا يناسب ارجاعه الى العمري في التقليد.

ثم ذكر في ختام البحث صحيحة عبد الله بن ابي يعفور قال : قلت لابي عبد الله عليه‌السلام : انه ليس كل ساعة القاك يمكن القدوم ويجيء الرجل من اصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه؟ قال : فما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي ، فانه قد سمع أبي ، وكان عنده مرضيا وجيها.

٢٥٦

وهي من حيث السند صحيحة ومن حيث الدلالة فالاستدلال بها لمكان قوله : (فما يمنعك) المشعر بالمفروغية عن كبرى مركوزة ، وليست هي إلّا حجية خبر الثقة. وهذه الاحالة ليست من الارجاع الى التقليد ، لوضوح أن ابن أبي يعفور كان من أجلة الاصحاب ، فليس الارجاع إلّا بملاك الإرجاع الى الأحاديث ، كما أن المراد من التعليل بالوجاهة يراد به الوجاهة الدينية المساوقة مع الوثاقة في النقل.

وذكر أيضا صحيحة يونس بن يعقوب قال : كنا عند أبي عبد الله عليه‌السلام فقال : أما لكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟! ما يمنعكم من الحرث بن المغيرة.

وذكر أيضا أن هناك روايات اخرى لا بأس بدلالتها أيضا على الحجية من قبيل رواية محمّد بن عيسى عن الرضا عليه‌السلام قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : جعلت فداك اني لا أكاد أصل اليك أسألك عن كل ما احتاج اليه من معالم ديني ، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة أخذ عنه ما أحتاج اليه من معالم ديني؟! قال : نعم.

فانّ ظاهرها أن السائل يشير فيها الى الكبرى المركوزة ويطبقها على يونس بن عبد الرحمن والامام يمضي ذلك ويأمره باتباعه وقبول قوله ، إلّا أنّ هذه الرواية وغيرها مما يمكن أن يستدل بها على الحجية غير صحيحة السند ، فتصلح لان تكون مؤيدة مكملة للرواية التي جعلناها محور كلامنا. (١)

وفيه مواقع للنظر :

أحدها : أنّ حصر طوائف الأخبار في المذكورات مع وجود أخبار أخرى ليس بصحيح ، منها مثل ما ورد عن ابن أبي الجهم عن الرضا عليه‌السلام قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحق؟ قال : فاذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت. (٢) ولا يخفى أنّ هذا ظاهر الدلالة على حجية خبر الثقة في نفسه عند عدم ابتلائه بالمعارض وأن حجيته

__________________

(١) مباحث الحجج : ج ١ ص ٣٨٤ ـ ٣٩٥.

(٢) الوسائل : الباب ٩ من أبواب صفات القاضي : ح ٤٠.

٢٥٧

مفروغ عنها بين السائل والمسئول عنه ومحل الكلام يختصّ بصورة التعارض.

ومنها مثل ما ورد في كتب بني فضال عن الامام العسكري عليه‌السلام خذوا بما رووا ، وذروا ما رأوا. (١) ومن المعلوم أنّ بني فضّال ليسوا بعادلين ، لانحرافهم في العقيدة ، ومع ذلك أمر بأخذ رواياتهم. وعليه فليس معنى الامر المذكور إلّا وجوب الأخذ برواياتهم عند احراز كونهم من الثقات.

ومنها مثل ما ورد في تعليل النهي عن قبول روايات غير الشيعة من أنّ النهي من جهة الخيانة ، ومقتضاه هو جواز القبول اذا انتفت الخيانة بالوثاقة.

روى علي بن سويد السائي قال : كتب اليّ أبو الحسن عليه‌السلام وهو في السجن : وأماما ما ذكرت يا علي ممن تأخذ معالم دينك ، لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا ، فانك أن تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا اماناتهم ، أنهم ائتمنوا على كتاب الله فحرفوه وبدلوه ، فعليهم لعنة الله الحديث. (٢) فانّ الرواية تدل على انتفاء النهي عند انتفاء الخيانة المكشوف عنه بالوثاقة.

ومنها مثل خبر الكناسي عن الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله عزّ ذكره (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) قال : هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء ، وليس عندهم ما يتحملون به الينا ، فيسمعون حديثنا ويقتبسون من علمنا ، فيرحل قوم فوقهم وينفقون اموالهم ويتعبون ابدانهم حتى يدخلوا علينا فيسمعوا حديثنا فينقلوه إليهم فيعيه هؤلاء ويضيّعه هؤلاء ، فاولئك الذين يجعل الله عزّ ذكره لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون. (٣) بدعوى دلالته على جواز العمل بالخبر وأن نقله من يضيّعه ولا يعمل به. ومن المعلوم أنّ الوجه في جواز العمل بمثل روايته ليس إلّا كونه من الثقات.

ومنها مثل ما ورد في تأييد وترغيب نقل الاخبار مع الواسطة أو بدونها للآخرين مع

__________________

(١) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي : ح ١٣.

(٢) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي : ح ٤٢.

(٣) جامع الأحاديث : ج ١ ص ٢٣٨.

٢٥٨

معلومية اكتفائهم بالنقل من دون تقييد ذلك بالعلم أو العدالة ، كما ورد في موثقة معاذ بن مسلم النحوي عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : بلغني انك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟ قلت : نعم ، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج اني اقعد في المسجد فيجيئني الرجل فيسألني عن الشيء فاذا عرفته بالخلاف لكم اخبرته بما يفعلون ، ويجيء الرجل اعرفه بمودتكم وحبّكم فأخبره بما جاء عنكم ، ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو فأقول جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا فادخل قولكم فيما بين ذلك؟ فقال لي : اصنع كذا ، فاني كذا أصنع. (١) ومن المعلوم أنّ قوله (ما جاء عنكم) يشمل الاخبار مع الواسطة وبدونها ، وليس مقيدا بالعلم. والظاهر من الرواية أن السامع اكتفى به أيضا كما اكتفى به ناقله ، ولا يضر بذلك التعبير بالافتاء مع أن المقصود منه هو نقل الخبر ، كما لا يخفى.

منها مثل ما ورد في أنّ وسائط النقل بمنزلة القرى الظاهرة في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) كموثقة محمّد بن صالح الهمداني قال : كتبت الى صاحب الزمان عليه‌السلام : أن أهل بيتي يقرعوني بالحديث الذي روي عن آبائك عليهم‌السلام أنهم قالوا خدّامنا وقوامنا شرار خلق الله ، فكتب ويحكم ما تقرءون ما قال الله تعالى : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) ، فنحن والله القرى التي بارك فيها ، وانتم القرى الظاهرة. (٢)

ويؤيده ما رواه الطبرسي عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث أنه قال للحسن البصري : نحن القرى التي بارك الله فيها ، وذلك قول الله عزوجل لمن اقر بفضلنا حيث أمرهم الله أن يأتونا فقال : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) ، والقرى الظاهرة الرسل والنقلة عنا الى شيعتنا و (فقهاء) شيعتنا الى شيعتنا الحديث. (٣) والمستفاد منه هو التشويق والترغيب الى ما هو الشائع عند الشيعة من نقل الأخبار عن الأئمة عليهم‌السلام والاعتماد عليها والاكتفاء بها عند كون الرواة من ثقات الشيعة.

__________________

(١) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي : ح ٣٦.

(٢) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ح ٤٦.

(٣) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي : ح ٤٧.

٢٥٩

ومنها مثل ما ورد في أن الاصحاب اعتمدوا على نقل الثقات ولم ينهوا عنه كخبر علي بن حديد قال : سألت الرضا عليه‌السلام فقلت : أن أصحابنا اختلفوا في الحرمين ، فبعضهم يقصر وبعضهم يتمّ ، وانا ممن يتمّ على رواية قد رواها أصحابنا في التمام وذكرت عبد الله بن جندب أنه كان يتمّ؟ فقال : رحم الله ابن جندب ، ثم قال لي : لا يكون الاتمام إلّا أن تجمع على اقامة عشرة أيام ، وصل النوافل ما شئت. قال ابن حديد : وكان محبّتي أن تأمرني بالاتمام. (١) ومن المعلوم أن الاعتماد على الرواية مع أنهم مختلفون في العمل لا يكون إلّا الاعتماد على نقل الثقات.

وكخبر اسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام : أن رجلين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اختلفا في صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكتبا الى أبي بن كعب كم كانت لرسول الله من سكتة؟ قال : كانت له سكتتان اذا فرغ من أمّ الكتاب (القرآن) واذا فرغ من السورة. (٢) ومن المعلوم أن الرجوع الى ابي بن كعب رجوع الى من كانا وثقا به.

وكصحيحة زرارة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن وقت صلاة الظهر في القيظ ، فلم يجبني ، فلما أن كان بعد ذلك قال لعمر بن سعيد بن هلال : أن زرارة سألني عن وقت صلاة الظهر في القيظ فلم أخبره فحرجت من ذلك ، فاقرأه مني السلام ، وقل له : اذا كان ظلك مثلك فصل الظهر ، واذا كان ظلك مثليك فصل العصر. (٣)

وليس عمر بن سعيد بن هلال من الاجلاء والمعاريف ، بل هو من الثقات ، ومع ذلك اكتفى الامام عليه‌السلام بنقله واعتمد زرارة عليه أيضا ، وهو دليل على أن المعتبر هو نقل الثقات في جواز الاعتماد. والى غير ذلك من الروايات من هذا القبيل.

ومنها مثل ما ورد في مذمّة من لم يحفظ شيئا في نقل الحديث كخبر القاسم بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ذكر أبو الخطّاب فلعنه ، ثم قال : انه لم يكن يحفظ شيئا حدثته أن

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢٥ من أبواب صلاة المسافر : ح ٣٣.

(٢) الوسائل : الباب ٤٦ من أبواب القراءة في الصلاة : ح ٢.

(٣) الوسائل : الباب ٨ من أبواب المواقيت ح ١٣.

٢٦٠