عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

لا سبيل الى انكاره وإنّما انكر مفهوم الوصف من انكره لما رأى من أن غاية ما يمكن استفادته من الكلام دخالة مفهوم الوصف واما انه دخيل في اصل الحكم او في مرتبة من مراتبه فلا ولا طريق الى استظهار المفهوم من هذه الجهة وقد قلنا أن هذا المقال يختص بما اذا كان الحكم ذا مراتب كالوجوب والاستحباب والحرمة والكرامة واما اذا لم يكن كذلك مثل اصل الجواز من الاحكام التكليفيّة ومثل جميع الاحكام الوضعية فلا بد فيه من الالتزام بدخالة الوصف في اصل الحكم وهذا عبارة اخرى عن المفهوم ومن البديهى أن الحجية كانت من الاحكام الوضعية نظير الصحة ونحوها فلا تقبل الشدة والضعف اصلا (١) وذلك لما عرفت من أن المفهوم متفرع على استفادة العلة المنحصرة فما دام لم يعلم بانحصار عليته الوصف لا دلالة على المفهوم ولا فرق فيه بين كون الحكمة ذا مراتب وعدمه.

مانعية التعليل عن انعقاد المفهوم

ثم لا يذهب عليك أنه لو تم ما ذكر من دلالة الآية الكريمة على المفهوم لا يخلو الاستدلال بها عن اشكال آخر ، وهو ـ على ما في فرائد الاصول ـ أن المحكي عن العدة والذريعة والغنية ومجمع البيان والمعارج وغيرها انا لو سلمنا دلالة المفهوم على قبول خبر العادل الغير المفيد للعلم لكن نقول : أن مقتضى عموم التعليل ، وجوب التبين في كل خبر لا يؤمن الوقوع في الندم من العمل به وإن كان المخبر عادلا ، فيعارض المفهوم ، والترجيح مع ظهور التعليل.

لا يقال : أن النسبة بينهما وإن كان عموما من وجه ، فيتعارضان في مادة الاجتماع وهي خبر العادل الغير المفيد للعلم ، ولكن يجب تقديم عموم المفهوم وادخال مادة الاجتماع فيه ؛ إذ لو خرج عنه. وانحصر مورده في خبر العادل المفيد للعلم كان لغوا ، لانّ خبر الفاسق المفيد للعلم أيضا واجب العمل ، بل الخبر المفيد للعلم خارج عن المنطوق والمفهوم معا ، فيكون المفهوم أخص مطلقا من عموم التعليل.

__________________

(١) المحاضرات سيدنا الاستاذ المحقق الداماد قدس‌سره ٢ / ١٣٢.

٢٠١

لانا نقول : ما ذكره اخيرا من أن المفهوم اخص مطلقا من عموم التعليل مسلم إلّا أنا ندعي التعارض بين ظهور عموم التعليل في عدم جواز العمل بخبر العادل الغير العلمي وظهور الجملة الشرطية أو الوصفية في ثبوت المفهوم ، فطرح المفهوم والحكم بخلوّ الجملة الشرطية عن المفهوم أولى من ارتكاب التخصيص في التعليل. (١)

ويمكن الجواب عنه بما افاده في الدرر من أن التعليل لا يدل على عدم جواز الاقدام بغير العلم مطلقا ، بل يدل على عدم الجواز فيما اذا كان الاقدام في معرض حصول الندامة واحتماله منحصر فيما لم يكن الاقدام عن حجة ، فلو دلت الآية بمفهومها على حجية خبر العادل فلا يحتمل أن يكون الاقدام على العمل به مؤديا الى الندم ، فلا منافاة بين التعليل ومفهوم الآية اصلا. (٢)

وتوضيح ذلك : انه لا منافاة بين التعليل ومفهوم الآية الكريمة ؛ لان المراد من الجهالة وعدم العلم هو عدم الحجة ، كما أن المراد من العلم في قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أو قوله عليه‌السلام «كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر» هو الحجة ، وعليه فالتعليل يدل على المنع عن العمل بما يكون في معرض الندامة وهو ما لا حجية فيه. وهذا لا ينافي جواز الاخذ بالحجة ؛ فانه لا يكون في معرض الندامة ، فقوله سبحانه وتعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) يدلّ على عدم حجية خبر الفاسق بذكر لازمه ، وهو لزوم تحصيل العلم والحجة ؛ إذ لا معنى لطلب تحصيل العلم والحجة إلّا مع عدم حجية خبر الفاسق.

وعليه فالمنتفي في طرف المفهوم هو عدم الحجية ، ومن المعلوم أن انتفاء عدم الحجية عن خبر العادل عين حجية خبره ؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين.

وبعبارة أخرى : نفي عدم الحجية هو الحجية ، فالمعلق على خبر الفاسق في الجملة الشرطية هو التبين ، ولكن في الحقيقة أن التبين لازم المعلق وهو عدم الحجية ، وهو ينتفي عند

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٧٢.

(٢) الدرر : ص ٣٨٦.

٢٠٢

انتفاء مجيء الفاسق ، وانتفاء عدم الحجية يساوي الحجية ؛ إذ ليس الليس مساوق للائس ، ولا ينافي المفهوم المذكور مع التعليل الدال على عدم جواز اصابة القوم بلا حجة ؛ لان مورد المفهوم خارج عن مورد التعليل خروجا تخصّصيا ، كما لا يخفى.

ومما ذكر يظهر النظر في ما افاده سيدنا الامام المجاهد قدس‌سره في مانعية التعليل بقوله رحمه‌الله : أن دلالة الشرطية على المفهوم واستفادة ذلك من تلك القضية مبتنية على ظهور الشرط في القضية في كونه علة منحصرة بحيث ينتفي الحكم بانتفائه ، وأما اذا صرح المتكلم بالعلة الحقيقية وكان التعليل اعم من الشرط أو كان غير الشرط فلا معنى لاستفادة العلية فضلا عن انحصارها ، فلو قال : أن جاءك زيد فأكرمه ، ثم صرح أن العلة انما هو علمه فنستكشف أن المجيء ليس علة ولا جزء منها ، وهذا واضح جدا. وهو أيضا من الاشكالات التي لا يمكن الذب عنه ، وقد غفل عنه الاعلام. وعليه فلا وقع لما افادوه في دفعه. (١)

وذلك لان مقتضى ما عرفت من عدم المنافاة بين التعليل والشرط المذكور أن التعليل في الآية مؤكد للشرط المذكور ؛ فان المعرضية للندامة من ناحية عدم الحجية منحصرة في الشرط المذكور وهو نبأ الفاسق ، فليس التعليل مفيدا لامر هو اعم من الشرط أو أمر مغاير للشرط المذكور حتى ينافي علية الشرط أو انحصارها.

وقياس الآية الكريمة بمثل قوله : أن جاءك زيد فأكرمه ، ثم التصريح بان العلة انما هو علمه في غير محله ، فان مجيء زيد غير العلم ، بخلاف المقام فان نبأ الفاسق في قوله (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) يشير الى أن العلة هو عدم افادة خبره العلم بمعنى الحجة ، وهو غير مناف لما افاده التعليل في الآية الكريمة من أن الاقدام على ما ليس بحجة يكون في معرض الندامة بل هما متساعدان ، كما لا يخفى.

ولعل منشأ توهم المنافاة بين المفهوم والتعليل هو حمل الجهالة في قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) على عدم العلم بالواقع بقرينة كون الجهالة مقابلة للتبين وهو بمعنى

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ص ١١٣.

٢٠٣

تحصيل العلم واحراز الواقع ، ومعلوم أن الجهالة بهذا المعنى مشتركة بين خبري العادل والفاسق ، وهو يوجب تعميم علة التبين ، فتتنافى مع انحصار علة التبيّن في خبر الفاسق ، وتمنع عن انعقاد ظهور المفهوم.

ولكن لا يخفى عليك أن هذا فيما اذا اريد من الجهالة خصوص عدم العلم بالواقع ومن التبين خصوص تحصيل العلم واحراز الواقع ، واما اذا قلنا أن المرتكز في الاخبارات والانباءات هو الاكتفاء بالحجة ، فالتبين هو التفحص عن حجية الخبر والجهالة في مقابلها وهو عدم التفحص والاقدام مع عدم احراز الحجة ، ومن المعلوم أن الجهالة بهذا المعنى ليست مشتركة بين خبرى العادل والفاسق فمع عدم الاشتراك لا تعميم في علة التبين ومع عدم التعميم لا منافاة بين التعليل وبين انحصار علة التبين في خبر الفاسق ، كما لا يخفى.

وربما يجاب عن مانعية التعليل مع المفهوم بحمل الجهالة على السفاهة وفعل ما لا يجوز فعله عند العقلاء ، لا على ما هو مقابل العلم مستشهدا بقوله عزوجل : (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) فان الندامة لا تكون إلّا على فعل سفهي لا يكون على طريقة العقلاء فلما يعم التعليل المذكور لمثل الاعتماد على خبر العادل فلا اشتراك في التعليل حتى ينافى المفهوم من انحصار العلة في خبر الفاسق ولو كان المراد منه هو الغلط في الاعتقاد ومقابل العلم لما جاز الاعتماد على الشهادة والفتوى. وهو كما ترى.

ولم يستبعده صاحب الكفاية حيث قال : أن دعوى أن الجهالة بمعنى السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل غير بعيدة. (١)

أورد عليه أوّلا : بان حمل الجهالة على السفاهة خلاف الظاهر من لفظ الجهالة وأن استعملت احيانا في ذلك ، ولذا قال شيخنا الأعظم قدس‌سره : وفيه مضافا الى كونه خلاف ظاهر لفظ الجهالة الخ. (٢)

__________________

(١) الكفاية : ج ٢ ص ٨٦.

(٢) فرائد الاصول : ص ٧٢.

٢٠٤

ومما ذكر يظهر ما في مصباح الاصول حيث قال : والظاهر أن المراد من الجهالة هي السفاهة والاتيان بما لا ينبغي صدوره من العاقل ؛ فان الجهالة كما تستعمل بمعنى عدم العلم كذلك تستعمل بمعنى السفاهة أيضا. (١)

لما عرفت من أن حمل الجهالة على السفاهة خلاف الظاهر ، ومجرد الاستعمال في بعض الموارد لا يكفي للاستظهار والحمل المذكور.

وثانيا : أن قوله (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) ، يساعد مع كون الجهالة بمعنى عدم الحجة ، فان العمل بالحجة ممّا لا تترتب عليه الندامة ، بخلاف العمل بما ليس بحجة ، فلا منافاة بين التعليل والمفهوم من الآية ، ولا حاجة الى حمل الجهالة على السفاهة ، كما لا يخفى.

وثالثا : كما في نهاية الدراية أن العمل بخبر العادل مع قطع النظر عن هذه الآية من شأن أرباب البصيرة ؛ لبناء العقلاء على العمل بخبر من يوثق به ، فالآية حينئذ مبنيّة على حجية خبر العادل وكاشفة عنها ، لا انّها مبيّنة للحجية وجاعلة لها ، كما هو المقصود. (٢)

فلو لم يكن الخبر حجة قبل نزول الآية الكريمة فالعمل بخبر العادل يكون ايضا سفاهة وجهالة ؛ لانه عمل بلا حجة ، فيشمله عموم التعليل ، فحمل الجهالة على السفاهة لا يرفع الاشكال ، كما لا يخفى.

اللهمّ إلّا أن يقال : بأن الآية الكريمة امضاء لما عليه العقلاء بما هم عقلاء من العمل بخبر العادل ، ولا تكون متكفلة لبيان حجيته بالتأسيس ، ومع الامضاء المذكور فلا يكون العمل بخبر العادل سفاهة. (٣)

وربما يجاب ايضا عن منافاة التعليل مع المفهوم بأن المفهوم حاكم على التعليل ، فانه يحكم في خبر العادل بانه محرز وكاشف عن الواقع وعلم في عالم التشريع ، فيخرج عن عموم التعليل تعبّدا ، ولا يمكن أن يعارضه اصلا لكي يوجب عدم انعقاده. (٤)

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ص ١٦٣.

(٢) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٧٨.

(٣) راجع منتقى الاصول : ج ٤ ص ٢٦٨.

(٤) فوائد الاصول : ج ٣ ص ١٧٢.

٢٠٥

أورد عليه في نهاية الدراية بأنّ حكومة سائر الادلة على هذا التعليل المشترك وجيهة ، واما حكومة المفهوم المعلل منطوقه بنحو يمنع عن اقتضاء المفهوم المثبت لحجية خبر العادل حتى يرتفع به الجهالة تنزيلا فهو دور واضح ، فتدبّر جيدا. (١)

وذلك واضح ؛ لان حكومة المفهوم متفرعة على عدم شمول التعليل للمفهوم ، والمفروض أن عدم شمول التعليل متوقف على حكومة المفهوم ، وهو دور. هذا مع الغمض عما في دعوى دلالة ادلة الاعتبار على أن خبر العادل علم تشريعا.

ومما ذكر يظهر ما في مصباح الاصول أيضا حيث ذهب الى حكومة المفهوم على التعليل لرفع المنافاة بينهما ، واستوجه ذلك ، واطال الكلام ، فراجع. (٢)

وربما يجاب عن المنافاة المذكورة بأن خبر غير الفاسق الذي تدل الآية على حجيته حجة وطريق عند العقلاء ايضا ، والعقلاء يعبّرون عن جميع الطرق المعتبرة عندهم بالعلم سواء في ذلك الظواهر وخبر الثقات وغيرهما ، ويرون مفهوم العلم عاما للقطع الذي لا يحتمل الخلاف ولموارد قيام الطرق المعتبرة ، واذا اعتبروا شيئا طريقا يرون قيام هذا الطريق على شيء وصولا الى الواقع ، لا بمعنى تنزيل شيء منزلة آخر ، بل بمعنى واقع الوصول كما في القطع حرفا بحرف.

وحينئذ فالآية المباركة اذا القيت اليهم فهموا منها بمقتضى الشرطية المذيلة بالتعليل المذكور : أن النبأ اذا لم يأت به الفاسق بل غير الفاسق فهو طريق موصل الى الواقع يعمل به من دون حاجة الى التبين ، فلا يتصور فيه اصابة القوم بجهالة للوصول الى الواقع والعلم به واتّضاحه ، فليس فيه اصابة بجهالة حتى يتصور ويجيء فيه الندم ، فهو خارج عن مورد التعليل ، ويكون المفهوم بلا معارض. (٣)

وفيه ـ مضافا الى انه مبني على اعتبار الخبر من باب بناء العقلاء لا دلالة الادلة التعبدية

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٧٨.

(٢) مصباح الاصول : ج ٢ ص ١٦٣ ـ ١٦٩.

(٣) تسديد الاصول : ج ٢ ص ٧٩ ـ ٨٠.

٢٠٦

والمفروض أن الاستدلال بالآية الكريمة ـ أن قطعية أدلة الاعتبار لا توجب كون المعتبر داخلا في العلم والقطع الحقيقى وأن اطلق عليه العلم بمعنى الحجة ؛ اذ احتمال الخلاف ليس موهونا في جميع موارد الظواهر واخبار الثقات ، خصوصا مع ما فيها من الترجيحات الرجالية والدلالية ، ألا ترى أن احتمال الخلاف في الظواهر بل في الاخبار غير المقرونة بالقرائن القطعية وجداني ، ومع كون احتمال الخلاف وجدانيا كيف يرون قيام هذه الطرق على شيء وصولا واقعيا؟!

والظاهر أن منشأ الاشتباه هو الخلط بين المعتبر وبين ادلة الاعتبار ، فتأمّل.

فالصحيح هو ما مرّ من أن التعليل لا يدل على عدم جواز الاقدام بغير العلم مطلقا ، بل فيما اذا كان في معرض حصول الندامة ، واحتماله منحصر فيما لم يكن الاقدام حجة ، فالآية بمفهومها تدل على حجية خبر العادل وبتعليلها على عدم جواز العمل بغير الحجة ، فلا منافاة بين مفهومها وتعليلها ، كما لا يخفى.

اللهمّ إلّا أن يقال ـ كما في تسديد الاصول ـ بأنّ ظاهر الآية ترتب الندم على اصابة القوم بجهالة بحسب الارتكاز والاغراض العقلائية ، لا بملاحظة انهم في مقام اطاعة إلّا وامر الشرعية ، بل مجرد اصابة القوم بجهالة امر مرغوب عنه عند العقلاء وموجب لحصول الندم على الاقدام بعمل ينتهي اليه.

هذا ، مضافا الى أن ظاهر الآية وتعليلها أن هذا الندم سواء كان ملازما للعقوبة أم لا مترتب على مجرد اصابة القوم بجهالة ، وإذا كان المفروض صدق الجهالة حتى في موارد الطرق الظنية فلا محالة يدل التعليل على ترتب المحذور والندم على العمل بها ، فهي لا يمكن أن تكون حجة سواء في ذلك خبر الفاسق وغيره ، فالتعليل يمنع عن انعقاد المفهوم. (١)

ولكن لقائل أن يقول : أن مع الادلة القطعية الدالة على اعتبار خبر العادل لا تكون اصابة القوم اصابة بجهالة ، كما لا تكون كذلك فيما اذا كانت الاصابة بعلم يخالف الواقع ؛ وذلك لقيام

__________________

(١) تسديد الاصول : ج ٢ ص ٨٢.

٢٠٧

الحجة ، واصابة القوم بجهالة فيما اذا لم يكن مع الحجة.

فمع عدم صدق الجهالة في موارد الطرق الظنية التي تقوم الادلة القطعية على اعتبارها كظاهر الآية الدالة على المفهوم ـ الذي يدل على اعتبار الظواهر ـ لا مجال لترتب الندم على العمل بها ؛ فان موضوعه هو الاصابة بالجهالة ، والمفروض هو عدم صدقها بالعمل بالطرق التي تكون قطعية الاعتبار.

فهذه الآية بالتقريب الذي عرفته تدل على حجية خبر غير الفاسق في خبره بناء على دلالة القضية الشرطية على المفهوم أو قيام القرينة على كون الآية في مقام بيان المنطوق والمفهوم ، قال سيدنا الاستاذ المحقق الداماد قدس‌سره بعد ما افاده في هذه الآية وانقدح بجميع ما ذكر دلالة الآية الشريفة على حجّيّة قول العادل وأن الاصح كونها من ادلتها والله العالم. (١)

ومنها ـ أي من جملة الآيات التي استدل بها لحجية خبر الواحد ـ قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ). (٢)

وتقريبها بوجوه عديدة :

الوجه الأوّل :

ما ذهب اليه السيد المحقق البروجردي قدس‌سره من أن الآية الكريمة تدل على أن المؤمنين ليسوا بأجمعهم أهلا للنفر لتعلّم الدين ، فلو لا نفر من كل فرقة وقبيلة منهم طائفة ، فسياق الآية ينادي باعلى صوت الى مطلوبية الانذار والحذر ووجوبهما ؛ لظهور كلمة «لو لا» في التخصيص. وعليه فلا نحتاج في اثبات ذلك الى بيان مفاد «لعل» وأن المراد بها ليس هو الترجي الحقيقي بل مطلوبية مدخولها ونحو ذلك من التقريبات.

وبالجملة ظاهر صدر الآية كون ما امر بالنفر اليه بمثابة من الأهمية بحيث لو لا لزوم مثل

__________________

(١) المحاضرات سيدنا الاستاذ المحقق الداماد ٢ / ١٣٢.

(٢) التوبة / ١٢٢.

٢٠٨

اختلال النظام ونحوه لوجب على الجميع النفر اليه ، ولكن حدوث هذه الامور منع من ايجاب النفر على الجميع ، فعلى هذا لم لا ينفر بعضهم حتى يرشدوا بأنفسهم ويرشدون غيرهم؟! (١)

الوجه الثاني :

أن كلمة «لعل» بعد انسلاخها عن معنى الترجي الحقيقي ـ لعدم امكانه في حقه تعالى ـ تدل على محبوبية التحذر عند الانذار ، فاذا ثبتت محبوبية التحذر ثبت وجوبه شرعا ؛ اذ لا معنى لندب التحذر عن العقاب الاخروي مع قيام المقتضي للعقوبة ، وإن لم يكن للعقاب مقتضى فلا مطلوبية ولا حسن للتحذر ، اذ لا موضوع له ، وهو العقوبة ، والمفروض هو ثبوت المطلوبية.

أورد عليه أوّلا : بأن التحذر يمكن أن يكون لرجاء ادراك الواقع وعدم الوقوع في محذور مخالفته من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة ، والمتحذر حينئذ حسن ، وليس بواجب فيما لم يكن هناك حجة على التكليف.

ويمكن الجواب عن ذلك كما في نهاية الدراية بان الانصاف أن الانذار والتحذر بملاحظة ترتب العقوبة أنسب ، اذ المتعارف من الانذار من المبلغين للاحكام في مقام الحث على العمل بها بيان ما يترتب على الفعل أو الترك من العقوبات الاخروية دون المصالح والمفاسد ، فالتحذر المنبعث عنه تحذر من العقوبة. (٢)

هذا ، مضافا الى أن الانذار لعموم الناس لا للخواص وارباب العقول حتى يصح الانذار باعتبار المصالح والمفاسد.

أورد عليه ثانيا : بأنا لو سلمنا دلالة كلمة «لعل» على المطلوبية فالحذر المطلوب أن كان هو الحذر من العقاب المساوق مع وجوب التحذر بلحاظه ولا بديته فهذا الفرض يساوق

__________________

(١) نهاية الاصول : ص ٥٠٤.

(٢) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٨٦.

٢٠٩

عرفا كون الانذار بلحاظ العقاب ايضا ؛ لان ظاهر الآية أن الحذر من نفس الشيء المخوف المنذر به ، وهو يعني أن الانذار فرض في طول العقاب والمنجزية على ما تقدم من أن التحذر تحذر في مورد الانذار لا الاخبار ، وهو لا يكون إلّا مع تنجيز العقاب في المرتبة السابقة ، ومثله لا يكشف عن الحجية ، بل يستحيل أن يكشف عنها ؛ لانه في طول الحجية والتنجز.

وإن كان المراد الحذر من المخالفة للحكم الواقعي بعنوانها فمطلوبية هذا الحذر لا يلزم منها وجوبه ، بل يمكن أن يكون مستحبا ، كما هو مقتضى حسن الاحتياط دائما. (١)

لا يخفى عليك أن التحذر باعتبار العقاب لا باعتبار المخالفة للحكم الواقعي والمصالح والمفاسد ، ولكن منجزية الامارة اعني قول العادل كمنجزية العلم ، فكما أن العلم بالحكم يوجب التنجز بنفس العلم ويكون حجة على الحكم ، فكذلك اخبار العادل بالوجوب أو الحرمة وترتب العقاب يوجب التنجز لغيره بنفس الاخبار وأن كان الحكم منجزا على نفسه قبل اخباره للعلم به سابقا ، ولا منافاة بين أن يكون الحكم منجزا على المخبر قبل اخباره ولا يكون منجزا على السامع قبل اخباره ويصير منجزا عليه بنفس الاخبار.

وعليه فحيث أن المنجزية تحصل بنفس الاخبار يكشف ذلك عن كون اخبار العادل حجة على السامع ، وبالاخبار يحصل التنجز والانذار معا ، والمستحيل هو تنجز الحكم بنفس الانذار بالنسبة الى المخبر لا السامع ، كما لا يخفى.

ودعوى : أن غاية ما يلزم من الآية لو سلم دلالتها وجوب التحذر في مورد الخبر الدال على الالزام ، وهذا غير الحجية المطلوبة ، وانما هو وجوب الاحتياط ولكن في خصوص الشبهة التي قام فيها خبر على الالزام ؛ لانها تأمر بالتحذر. (٢)

مندفعة : بأن التحذر هو التحفظ والتجنب العملي عن مخالفة ما اخبر به العادل ، وليس معناه هو الاحتياط ، ومن المعلوم أن التحذر بذلك المعنى يساوق حجية خبر العادل.

__________________

(١) مباحث الحجج : ج ١ ص ٣٧٧ و ٣٧٨.

(٢) مباحث الحجج : ج ١ ص ٣٧٧.

٢١٠

لا يقال : أن كلمة لعل لا تدل على أزيد من ابداء الاحتمال ، واما المطلوبية التي استدل بها لوجوب التحذر فلا دلالة لها عليها.

لأنا نقول : هذه الدعوى فاسدة ؛ لدلالة المقام على مطلوبية التحذر ، كيف لا يكون التحذر مطلوبا مع وجوب الانذار بالنسبة الى المتفقهين؟!

هذا ، مضافا الى أن احتمال ترتب العقوبة مع أن المورد مما يجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان مساوق لوجوب التحذر. (١)

الوجه الثالث :

أن التحذر غاية للانذار الواجب ؛ لكونه غاية للنفر الواجب كما تشهد له كلمة «لو لا» التحصيصية. وعليه فاذا وجب الانذار وجب التحذر ؛ اذ الغاية المترتبة على فعل الواجب مما لا يرضى الآمر بانتفائه سواء كان من الافعال المتعلقة للتكليف أم لا ، كما في قولك توضأ لتصلي ، واسلم لعلك تدخل الجنة ، وقوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى).

أورد عليه في الكفاية بعدم انحصار فائدة الانذار بالتحذر تعبّدا ؛ لعدم اطلاق يقتضي وجوبه على الاطلاق ، ضرورة أن الآية مسوقة لبيان وجوب النفر لا لبيان غائية التحذر ، ولعل وجوبه كان مشروطا بما اذا افاد العلم ... الى أن قال : وقضيّته انما هو وجوب الحذر عند احراز أن الانذار بمعالم الدين. (٢)

ويمكن الجواب عنه كما في نهاية الدراية ، بأن التحذر وإن لم يكن له في نفسه اطلاق نظرا الى أن الآية غير مسوقة لبيان غائية الحذر ليستدل باطلاقه بل لا يجاب النفر للتفقه ، إلّا أن اطلاقه يستكشف باطلاق وجوب الانذار ؛ ضرورة أن الانذار واجب مطلقا من كل متفقه سواء افاد العلم للمنذر أم لا ، فلو كانت الفائدة منحصرة في التحذر كان التحذر واجبا مطلقا ، وإلّا لزم اللغوية احيانا.

ودعوى : أن الفائدة غير منحصرة في التحذر ، بل لافشاء الحق وظهوره بكثرة انذار

__________________

(١) تسديد الاصول ٢ : ٩٠.

(٢) الكفاية : ج ٢ ص ٩٣.

٢١١

المنذرين ، فالغاية قهرا تلازم العلم بما انذروا به.

مندفعة : بأن ظاهر الآية أن الغاية المترتبة على الانذار والفائدة المترقبة منه هي التحذر ، لا افشاء الحق وظهوره.

فالمراد والله العالم لعلهم يحذرون بالانذار لا بافشاء الحق بالانذار ، كما أن ظاهرها التحذر بما انذروا لا بالعلم بما انذروا به ، بل نقول : أن نفس وجوب الانذار كاشف عن أن الاخبار بالعقاب المجعول انذار ، ولا يكون ذلك إلّا اذا كان حجة ، وإلّا فالاخبار المحض لا يحدث الخوف ولو اقتضاء حتى يكون مصداقا للانذار حتى يجب شرعا. (١)

لا يقال : احتمال وجود المانع في ايجاب الغاية على الغير يمنع عن الجزم بوجوب الغاية وهي التحذر. (٢)

لانا نقول : هذا الاحتمال غير سديد لوهنه بعد كون التحذر مقصدا لوجوب ذي الغاية ، وعدم وجود مانع معقول فيه.

ثم اذا كانت الملازمة العرفية بين وجوب شيء ووجوب غايته كما اذا قيل لا تشرب الخمر لإسكارها أو قيل اذهب الى المسجد لكي تصلي فلا فرق فيه بين ما اذا كان الخطاب موجها الى مكلف واحد أو أكثر كما في المقام ، فان الانذار فعل المنذر والتحذر فعل المنذر ؛ وذلك لان الامر بالانذار وسيلة لامر المنذرين ، بالتحذر.

لا يقال : أن التحذر ليس فعل المنذرين ، بل هو فعل المنذرين ، وفعل الغير ليس مقدورا للمنذرين ، فلا يكون الامر بالانذار ظاهرا في كونه طريقيا الى أمرهم بالتحذر. (٣)

لانا نقول : أن المقدور بالواسطة مقدور ، وعليه فلا مانع من ملازمة وجوب ذي الغاية لوجوب الغاية ولو كانت الغاية فعل مكلف آخر ، ألا ترى أنه يقال يجب عليك تعليم القوم لان يكونوا عالمين ، بل الخطابات الاجتماعية غالبا طرق الى امر غيرهم ببعض الامور ، فلا تغفل.

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٨٦ ـ ٨٧.

(٢) تسديد الاصول : ج ٢ ص ٩٠.

(٣) مباحث الحجج : ج ١ ص ٣٧٨.

٢١٢

أورد عليه الشيخ قدس‌سره أيضا بانه لا يستفاد من الكلام إلّا مطلوبية الحذر عقيب الانذار بما يتفقهون في الجملة لكن ليس فيها اطلاق وجوب الحذر ، بل يمكن أن يتوقف وجوبه على حصول العلم ، فالمعنى : لعله يحصل لهم العلم فيحذروا ، فالآية مسوقة لبيان مطلوبية الانذار بما يتفقهون ومطلوبية العمل من المنذرين بما انذروا ، وهذا لا ينافي اعتبار العلم في العمل ، ولهذا صح ذلك فيما يطلب فيه العلم ، فليس في هذه الآية تخصيص للادلة الناهية عن العمل بما لم يعلم ، ولذا استشهد الامام عليه‌السلام فيما سمعت من الاخبار المتقدمة على وجوب النفر في معرفة الامام وانذار النافرين للمتخلفين مع أن الامامة لا تثبت إلّا بالعلم. (١)

ويمكن الجواب عنه كما في مصباح الاصول :

أوّلا : بان الاصل في كل كلام أن يكون في مقام البيان ؛ لاستقرار بناء العقلاء على ذلك ما لم تظهر قرينة على خلافه.

وثانيا : بأن ظاهر الآية المباركة كونها واردة لبيان وظيفة جميع المسلمين المكلفين وانه يجب على طائفة منهم التفقه والانذار وعلى غيرهم الحذر والقبول ، فكما أن اطلاقها يقتضي وجوب الانذار ولو مع عدم حصول العلم للمنذر بمطابقة كلام المنذر للواقع ، فكذلك يقتضي وجوب الحذر ايضا في هذا الفرض.

وثالثا : بأن ظاهر الآية ترتب وجوب الحذر على الانذار ، وتخصيص وجوب الحذر بما اذا حصل العلم بالواقع موجب لالغاء عنوان الانذار ؛ اذ العمل حينئذ انما هو بالعلم من دون دخل للانذار فيه غاية الامر كون الانذار من جملة المقدمات التكوينية لحصول العلم لا موضوعا لوجوب الحذر ، فاعتبار حصول العلم في وجوب الحذر يوجب الغاء عنوان الانذار لا تقييده بصورة حصول العلم ، مع أن ظاهر الآية كون وجوب الحذر مترتبا على الانذار ترتب الحكم على موضوعه.

ورابعا : انه على تقدير تسليم أن اعتبار العلم في وجوب الحذر يوجب التقييد لا الغاء

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٨٠.

٢١٣

عنوان الانذار لا يمكن الالتزام بهذا التقييد ؛ فانه تقييد بفرد نادر ، وهو مستهجن. (١)

والحاصل : أن الاصل في الكلام في غير المخترعات الشرعية التي لا يكون المتكلم احيانا في مقام بيانها هو الحمل على الاطلاق كما عليه بناء العقلاء ، فلا وجه لعدم الاطلاق في المقام ؛ لانه ليس من المخترعات الشرعية كالصلاة والحج ونحوهما.

لا يقال : أن هذه الآية مربوطة بباب الجهاد من جهة السياق ؛ فان سورة براءة مرتبطة بالمشركين والجهاد معهم ، ومن المعلوم أن النفر الى الجهاد ليس للتفقه والانذار ، نعم ربما يترتبان عليه بعنوان الفائدة بناء على ما قيل من أن المراد حصول البصيرة في الدين من مشاهدة آيات الله وظهور أوليائه وغلبتهم على اعدائه وسائر ما يتفق في حرب المسلمين مع الكفار من آيات عظمة الله وحكمته فيخبروا بتلك الامور عند رجوعهم الى الفرقة المتخلفة الباقية في المدينة. وعليه فالانذار ليس غاية للنفر الواجب حتى تجب الغاية بوجوب ذيها وهو النفر ، بل الانذار من قبيل الفائدة المترتبة على النفر الى الجهاد احيانا.

لانا نقول : لا معيّن لكون النفر للجهاد ؛ اذ مجرد السياق لا يدل على ذلك ، قال الشيخ الأعظم قدس‌سره ليس في صدر الآية دلالة على أن المراد النفر الى الجهاد ، ومجرد ذكر الآية في آيات الجهاد لا يدل على ذلك.

هذا ، مضافا الى انه لو سلم أن المراد النفر الى الجهاد لكن لا يتعين أن يكون النافر من كل قوم طائفة لاجل مجرد الجهاد ، بل لو كان لمحض الجهاد لم يتعين أن ينفر من كل قوم طائفة ، فيمكن أن يكون التفقه غاية لا يجاب النفر على طائفة من كل قوم ، لا لا يجاب اصل النفر. (حاصله : أن المطلوب متعدد ، أي اصل النفر لاصل الجهاد ونفر الطائفة للتفقه. وعليه فالتفقه غاية لايجاب النفر على الطائفة).

على أنه قد فسر الآية بأن المراد نهي المؤمنين عن نفر جميعهم الى الجهاد ، كما يظهر من قوله (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) وامر بعضهم بأن يتخلفوا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يخلوه

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ص ١٨٤ ـ ١٨٥.

٢١٤

وحده فيتعلموا مسائل حلالهم وحرامهم حتى ينذروا قومهم النافرين اذا رجعوا اليهم. (١)

يمكن أن يقال : أن تعدد المطلوب بالنحو المذكور وأن امكن ، ولكنه خلاف الظاهر ، هذا مضافا الى بعد اختصاص النفر في الخير كلامه بالنافرين للجهاد ورجوع الضمير في قوله (لِيَتَفَقَّهُوا) الى الفرقة الباقية في البلد ، مع أن الطائفة اقرب منها.

قال المحقق الاصفهاني : أن التحقيق كما يساعده بعض الاخبار ويشهد له الاعتبار أن الآية ليست في مقام المنع عن النفر الى الجهاد كافة في قبال تخلف جماعة ، بل في مقام المنع عن قصر النفر على الجهاد نظرا الى انه كما أن الجهاد مهمّ كذلك التفقه ، فليكن نفر جماعة الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للتفقه ونفر الباقين الى الجهاد ، وهو المستفاد من رواية العلل عن الصادق عليه‌السلام قيل له : أن قوما يروون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال اختلاف امتي رحمة؟ فقال : صدقوا. فقلت : أن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب. قال : ليس حيث تذهب وذهبوا ، انما اراد قول الله عزوجل : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) الى آخر الآية ، فامرهم أن ينفروا الى رسول الله ليتعلموا ثم يرجعوا الى قومهم فيعلّموهم ، انما اراد اختلافهم من البلدان الحديث. ويوافقه الاعتبار أيضا ؛ فان النافرين الى الجهاد من المدينة كان رجوعهم الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيتعلمون منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما كان كذلك في زمان حضوره من دون حاجة الى تخلف جماعة لهذه الغاية ، بخلاف النافرين من الاطراف ؛ فانهم محتاجون الى تعلم الاحكام اذا رجعوا الى بلادهم ، والله أعلم. (٢)

وما ذهب اليه المحقق الاصفهاني اولى مما ذهب اليه الشيخ الأعظم قدس‌سره ، ولكن حمل كلمة «ما» في صدر الآية على النهي مع أن كلمة «ما» للنفي واللام في قوله لينفروا لتأكيد النفي خلاف الظاهر.

والحاصل : أن ما ذهب اليه الشيخ قدس‌سره من أن المراد هو تخلف جمع للتفقه واختصاص النفر

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٧٨ ـ ٧٩.

(٢) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٨٨.

٢١٥

بالجهاد خلاف الظاهر ؛ فان الضمير في قوله (لِيَتَفَقَّهُوا) راجع الى ما هو الاقرب اليه وهو الطائفة لا الى الفرقة ، ومقتضاه هو كون النافرين متفقهين لا الفرقة الباقية. وهكذا ما ذهب اليه المحقق الاصفهاني لا يخلو عن بعد ؛ لان الآية في مقام بيان النفر للتفقه.

وبالجملة هنا ثلاثة احتمالات :

احدها : هو اختصاص الآية بالجهاد ، وقد عرفت انه لا معين له ، بل الظاهر من التفقه والانذار ، مضافا الى بعض الروايات هو أن النفر ليس للجهاد.

وثانيها : هو أن النفر مختص بالجهاد ، ولكن امر في الآية ايضا بتخلف جمع ليتفقهوا وينذروا النافرين اذا رجعوا اليهم من الجهاد ، وهذا ايضا خلاف ظاهر الضمير في قوله (لِيَتَفَقَّهُوا) فانه راجع الى النافرين لا الى الفرقة الباقية.

وثالثها : هو اختصاص الآية بالنفر للتفقه ، وهذا هو الظاهر. والمعنى كما افاد في نهاية الاصول : أن المؤمنين ليسوا بأجمعهم اهلا للنفر ، فلو لا نفر من كل فرقة وقبيلة منهم طائفة. والمستفاد من ذلك أن المقتضي لنفر الجميع موجود بحيث لو لم يكن مانع عنه لامروا جميعا بالنفر والتفقه ، ولكنهم ليسوا اهلا لذلك لاختلال نظامهم وتفرق أمر معاشهم ، وحينئذ فلم لا يجعلون الاحتياج الى المطالب الدينية في عرض سائر احتياجاتهم فيوجّهون طائفة منهم الى تحصيلها كما يتوجه كل طائفة منهم الى جهة من الجهات الاخرى المربوطة بأمر المعاش كالزراعة والتجارة ونحوها ... الى أن قال : وبالجملة فهذه الآية على ما ذكرنا تدل على انه لو لا مخافة اختلال النظام لامر الجميع بالنفر في تحصيل الفقاهة ، ولكنه بعد ما يلزم من نفر الجميع الاختلال فلم لا ينفر بعضهم ليرشدوا أنفسهم ويرشدون ويصير ذلك سببا لاطلاع جميع الناس على احكام الله تعالى وحلاله وحرامه ، فسياق الآية ينادي باعلى صوته الى مطلوبية الانذار والحذر ووجوبهما ، فلا نحتاج في اثبات ذلك الى بيان مفاد «لعل» وأن المراد بها ليس هو الترجي الحقيقي بل مطلوبية مدخولها ونحو ذلك من التقريبات ، والتعبير ب ـ «لعل» انما هو من جهة أن الانذار ليس مستتبعا لحذر القوم دائما ؛ اذ ربما لا يؤثر كلام

٢١٦

المنذرين فيهم كما هو المحسوس بين الانبياء واقوامهم ايضا ، فالمراد أن المنذر يجب عليه العمل بوظيفته ، ولا يعوقه عن ذلك احتمال عدم تأثير كلامه ؛ فان في التبليغ مظنة التأثير.

هذا هو المعنى المستفاد بالتأمل في ظاهر الآية ، وتشهد لهذا الوجه اخبار كثيرة حيث استشهد الائمة عليهم‌السلام بالآية لوجوب النفر للتفقه والتعليم والتعلم. (١)

أن قلت : أن مقتضى ما ذكر هو اختصاص الآية بالنفر للتفقه والانذار المحقق بقول العادل وأن لم يوجب اليقين والعلم ، وهذا لا يتناسب مع الروايات الواردة في استشهاد الامام بالآية الكريمة على وجوب معرفة الامام وانذار النافرين للمتخلفين ؛ لان الامامة مما لا تثبت إلّا بالعلم ، وعليه فالاستناد بالآية لحجية الدليل الذي لا يفيد العلم كما ترى.

قلت : لا مانع من شمول اطلاق التفقه والانذار للمعرفة بالحقائق الاعتقادية والانذار بها ايضا ؛ لان اعتقاد المنذر بها تفقه ، ويكفي ذلك في وجوب الانذار به ، وهو يكفي في وجوب التحذر من مخالفة هذا الاعتقاد وأن لم يحصل له بنفس الانذار قطع بها ؛ اذ مع الانذار يلزم عليه أن يسمع انذار الآخرين حتى يحصل له العلم به أو بخلافه ، فالتحذر في الفقه بالعمل وهو محقق بنفس انذار عدل واحد ، والتحذر في الاعتقاديات بالاعتقاد وهو يحتاج الى تكرر الانذار والاستماع حتى يحصل العلم. نعم لو حصل له العلم بانذار جماعة دفعة فلا حاجة الى تكرار الاستماع ، لان العلم حاصل. وبالجملة يختلف التحذر باختلاف موارد الانذار ، وجميع الموارد مشمول للآية الكريمة.

هذا ، مضافا الى ما في تسديد الاصول من أن الآية بظاهرها مختصة بتعلم احكام الدين والانذار بها ، واستفادة حكم غيرها انما هو بالغاء الخصوصية ؛ لانها ارشاد الى طريقة عقلائية : هي نفر جمع بالمقدار اللازم في كل مورد والاخذ بمقتضى قولهم ، فلا ينافي أن يعتبر في غير موردها حصول العلم ... الى أن قال : فصح الاستناد بالآية في كلا الامرين ، والمقتضى

__________________

(١) نهاية الاصول : ص ٤٩٩ ـ ٥٠٠.

٢١٧

العرفي في احدهما القطع المطلوب ، وفي الآخر الطريقة العقلائية. والحمد لله ربّ العالمين. (١)

وغير خفي أن الغاء الخصوصية ينتهي الى الاطلاق.

وكيف ما كان فاطلاق الآية يمنع عن حملها على خصوص التفقه في الاحكام ، هذا مضافا الى أن تطبيق الآية الكريمة على التفقه في الاحكام والتفقه في المعارف يشهد على اطلاق الآية ، كما لا يخفى.

لا يقال : أن الآية لو سلم دلالتها على وجوب الحذر مطلقا فلا دلالة لها على حجية الخبر بما هو خبر حيث انه ليس شأن الراوي إلّا الاخبار بما تحمله لا التخويف والانذار. بل الانذار وظيفة المفتي أو الواعظ ، لا الراوي الذي ربما ينقل مجرد الفاظ الرواية من دون أن يفهم معانيها لينذر بها ؛ ولذا ورد عنهم عليهم‌السلام رب حامل فقه الى من هو افقه منه.

لانا نقول ـ كما افاد في الكفاية ومصباح الاصول ـ أن نقل رواية دالة على وجوب شيء أو على حرمة شيء انذار ضمني بالعقاب على الترك أو الفعل ، كما أن في افتاء المفتي بوجوب شيء أو حرمة شيء انذار ضمني بالعقاب على الترك أو الفعل ، ويكون الانذار الضمني كالانذار المطابقي مشمولا للآية الكريمة ، وتثبت حجية غيره من الاخبار التي لا انذار فيها ؛ لكون الراوي عاميا أو كان مفاد الرواية حكما غير الزامي بعدم القول بالفصل ، وحال الرواة في الصدر الاول في نقل ما تحملوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والامام عليه‌السلام حال نقلة الفتاوى الى العوام ، فكما لا شبهة في انه يصدق الانذار في مقام الابلاغ على ما نقلوا من المجتهدين فكذلك حال الرواة. (٢)

هذا ، مضافا الى أن فتاويهم في الصدر الاول منقولة بنفس متون الروايات كما في الهداية ونحوها ، فلا وقع لذلك الاشكال ، كما لا يخفى.

ودعوى : أن المأخوذ في الآية الكريمة عنوان التفقه ، وعليه فالواجب هو التحذر عند

__________________

(١) تسديد الاصول : ج ٤ ص ٩٢.

(٢) راجع الكفاية : ج ٢ ص ٩٤ ومصباح الاصول : ج ٢ ص ١٨٥ ـ ١٨٦.

٢١٨

انذار الفقيه بما هو فقيه ، فلا يشمل انذار الراوي بما هو راو ، فيختص مفاد الآية بحجية فتوى الفقيه للعامي لا حجية خبر العادل ، ولا مجال للتمسك بعدم القول بالفصل في المقام مع وجود القول بالفصل بين حجيتهما كما لا يخفى.

مندفعة : بان المراد من عنوان التفقه في المقام ليس هو عنوان التفقه الاصطلاحي ، بل المراد هو التفقه بمعناه اللغوي ، وهو الفهم والعلم ، وهو معلوم الحصول باستماع الروايات مع المعرفة بمفادها وأن كانت المعرفة مشككة وتختلف الرواة فيها بحسب اختلاف استعداداتهم ، فاذا كان اخبار العادل في المنذرات حجة يتعدى منها الى غيرها بالغاء الخصوصية.

لا يقال : ليس المقصود أن الآية اخص من المدعى ، بل المقصود انّها أجنبية عنه ؛ لانها حتى في الراوي المستبصر تدل الآية على حجية رأيه ودرايته لا شهادته وروايته ، فلا معنى للتعدي في حقه ، فما ظنك بغيره؟! إذ الآية غير ناظرة الى مسألة الإخبار وحجيته ، بل تنظر الى مسألة اخرى وهي لزوم وجود طائفة بين الامة تتحمل مسئولية الجهاد العقائدي والفكري في سبيل الله عن طريق التفقه في الدين وحمله الى الاطراف والاجيال. وهذه المسألة اجنبية عن حجية خبر الواحد المبحوث عنه في علم الاصول. (١)

لأنا نقول : أوّلا : أن المراد من التفقه هو التفقه اللغوي لا الاصطلاحي ، وحمله على صاحب الرأي والدراية لا شاهد له. ومن المعلوم أن المتفقه اللغوي يصدق على الراوي ومن اخبر بما سمع من شيء وعرفه ونقله.

وثانيا : أن مسئولية الجهاد الفكري لا تختص بتحمل العقائد والمعارف ، بل تشمل تحمل الاخبار وايصالها ، فبذلك يشمل مسألتنا ، وهو حجية خبر الواحد المبحوث عنه في علم الاصول ، فلا تغفل.

ومما ذكر ينقدح الجواب عما وقع فيه السيد المحقق البروجردي قدس‌سره من الاشكال وهو أن حيثية التحديث غير حيثية الفقاهة ، وكانت الحيثيتان منفكتين بحسب الخارج ايضا ، فقد

__________________

(١) مباحث الحجج والاصول : ج ١ ص ٣٨١.

٢١٩

كثر المحدثون الذين كان من شأنهم ضبط ما سمعوا وحكايته فقط من غير أن يعملوا النظر في استفادة حكم الله عنه ؛ فان ذلك كان متوقفا على مقدمات من لحاظ المقيدات والمخصصات وسائر الجهات وأن كان تحصيل المقدمات في اعصارهم في غاية السهولة بالنسبة الى زماننا ... الى أن قال : وبالجملة فالاستدلال بالآية على حجية الرواية بما هي رواية مشكل. (١)

وذلك لما عرفت من أن المراد من التفقه هو معناه اللغوي وهو الفهم والعلم ، وهذا المعنى يصدق على الراوي العالم بمداليل الاخبار وأن لم يكن فقيها اصطلاحا. نعم هذا المعنى له عرض عريض يشمل الفقيه الاصطلاحي ايضا اذا انذر بما اجتهد كما يشمل المحدث اذا انذر بما دل عليه الخبر ، ولا مانع من ذلك. وبالجملة فالآية تدل على حجية قول العالم بمفاد الخبر سواء كان مجتهدا أو لم يكن ، فتدبّر جيّدا.

لا يقال : أن الآية الكريمة ليست ظاهرة في وجوب النفر حتى يترتب عليه وجوب التحذر ؛ فان صدر الآية اعني قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) يعطي أن الغرض المسوق له الكلام هو النهي عن النفر العمومي وانه لا يسوغ للمؤمنين أن ينفروا كافة وابقاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحيدا فريدا ، وعلى ذلك فيصير المآل من الآية هو النهي عن النفر العام لا ايجاب النفر للبعض ، فالحث انما هو على لزوم التجزية وعدم النفر العام لا على نفر طائفة من كل فرقة للتفقه ... الى أن قال : وعدم الاكتفاء على الجملة الاولى يمكن أن يكون لدفع ما ربما ينقدح في الاذهان من بقاء سائر الطوائف على جهالتهم وعدم تفقههم في الدين ، فقال عزّ شأنه : يكفي لذلك تفقه طائفة ، فليست الآية في مقام بيان وجوب النفر ، بل في مقام بيان لزوم التفرقة بين الطوائف ، وقوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ) اخبار في مقام الانشاء ولو بقرينة شأن نزولها كما قال المفسرون ، وليس المراد بيان امر واضح ؛ [إذ] لم يختلج ببال احد لزوم نفر جميع الناس في جميع الادوار الى طلب العلم والتفقه حتى لزم التنبيه به ، إلّا أن يحمل

__________________

(١) نهاية الاصول : ص ٥٠٣ ـ ٥٠٤.

٢٢٠