عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

الفعلي بواسطة عدم الاطّلاع أو اغتشاش الذهن وغيره فالظاهر ترتّب آثار هذا الموضوع بل ترتّب آثار الواقع أيضا بنقل التواتر لأنّ كون السبب سببا عاديا لحصول العلم الذي أخبر به المخبر نظير إخباره بأنّ القتل وقع بآلة متعارفة في القتل فإنّ التعارف والعادة من الأمور الحسيّة الغير المحتاجة إلى إعمال الفكر والنّظر وليس مثل تنقيح بعض الامور العادية المحتاجة إلى تصفية الذهن وتخليته وإعمال النّظر والوسع كما هو في تشخيص بعض المفاهيم العرفية للألفاظ وإذن فكما يقبل إخباره بتعارف الآلة القتّالة يقبل إخباره بتعارف حصول القطع مع العدّة القائمة على الأخبار وأمّا إن قلنا إنّ حقيقة التواتر هي أن يحصل من كثرة الأخبار مع قطع النظر عن شيء آخر وراء الكثرة القطع الفعلي بصدق المضمون ووقوعه فهذا المعنى غير متحقّق بالنّسبة إلى السّامع المنقول إليه قطعا فإذا كان الأثر مترتّبا على التواتر عنده بهذا المعنى فلا يترتّب الأثر بخلاف ما إذا كان الأثر مترتّبا على التواتر عند الناقل أو في الجملة فيترتّب الأثر المترتّب على نفس التواتر كما لا يخفى ولكن اعتبار العلم الفعلي للسّامع في تحقّق التواتر لا دليل له.

فتحصّل أنّه لا وجه للقول بعدم ترتّب أثر التّواتر على نقل التواتر ما دام لم يحصل العلم الفعلي للسامع بل الظاهر كفاية بلوغ عدّة الأخبار في الواقع ولو بالانضمام يفيد العلم عادة في ترتّب آثار نفس التواتر ونقل هذا التواتر حجّة مطلقا.

١٤١

٣ ـ الشهرة

والكلام فيها يقع في جهات :

الجهة الاولى :

في أنّ الشهرة على أقسام :

القسم الأوّل :

الشهرة الروائيّة وهي بمعنى كثرة نقلها ، ويقابلها الشذوذ والندرة ، وهذه الشهرة تكون من المرجحات عند تعارض الأخبار بناء على ما ذهب إليه المشهور في هذا الباب.

القسم الثاني :

الشهرة العملية ، وهي بمعنى العمل بالرواية وهو يوجب الوثوق بصدور الرواية إن كان فيها ضعف من جهة السند ، وفي قبالها إعراض المشهور عن الرواية ؛ فإنّه يوجب الوهن فيها وإن كانت الرواية صحيحة أو موثقة من جهة السند ، بل كلما ازدادت صحة ازدادت سقما.

القسم الثالث :

الشهرة الفتوائية ، ومعناها هو اشتهار الفتوى بحكم من الأحكام الشرعية بين معظم الفقهاء المعروفين سواء كان في مقابلها فتوى غيرهم بالخلاف أم لم يعرف الخلاف والوفاق من غيرهم ، وربما تستعمل الشهرة الفتوائية على اتفاق جماعة من المعروفين من العلماء. وكيف كان فمورد البحث في المقام هو القسم الثالث ، لا القسم الأوّل والثاني ؛ فإنّ البحث عن الأوّل مربوط بالبحث عن تعارض الأخبار ، والبحث عن الثاني مربوط بالبحث عن حجيّة خبر الواحد ، وسيأتي البحث فيهما إن شاء الله تعالى.

الجهة الثانية :

أنّ الشهرة الفتوائية إمّا ملحوظة بما هي تكون كاشفة كشفا قطعيا عن النص أو رأي المعصوم عليه‌السلام كالإجماع عندنا وإمّا ملحوظة بما هي تفيد الظن برأي المعصوم عليه‌السلام ، كنفس الخبر الواحد ، وكلاهما مورد البحث.

١٤٢

الجهة الثالثة :

في الاستدلال على حجيّة الشهرة الفتوائية بما هي كاشفة كشفا قطعيّا عن النص :

ولا إشكال في حجيّتها لأنّها مصداق للقطع فإن كانت الشهرة من المتأخرين وكانت المسألة مخالفة للقواعد ولم يستندوا إلى دليل فهي يكشف عن النص ولكن لم يحرز تمامية دلالته بفتوى المشهور به لإمكان أن لا يكون تاما عندنا لو وصل إلينا نعم إذا كانت الشهرة من القدماء واتصلت إلى زمان المعصوم عليه‌السلام صارت الشهرة كالإجماع المتصل إلى زمان اصحاب الأئمة عليهم‌السلام في الكشف عن تقرير المعصوم عليه‌السلام ولا فرق فيه بين الاستناد إلى دليل وعدمه وبين أن تكون المسألة من الاصول المتلقاة أو غيرها اللهمّ إلّا أن يقال : لا يحرز التقرير إلّا في الاصول المتلقاة فإنّ المسألة إذا كانت من المسائل التفريعية واخطأ الأصحاب في فهمها من الاصول المتلقاة لا يجب على الإمام عليه‌السلام إرشادهم مع بيان الاصول المتلقاة فتامّل

نعم لو استندوا في المسألة إلى المتون المأثورة واتصل الاشتهار إلى زمان المعصوم كان وزان المتون المأثورة وزان الأخبار للعلم بصدورها عن المعصوم عليه‌السلام هذا مجمل الكلام وتفصيله أنّ السيد المحقق البروجردي قدس‌سره ذهب في نهاية الاصول إلى أنّ الأظهر القول بحجيّة الشهرة الفتوائيّة من القدماء في المسائل الأصلية المبنيّة على نقلها بألفاظها وكشف الشهرة عن تلقّيها عن الأئمة المعصومين عليهم‌السلام.

توضيح ذلك : أنّ مسائل فقهنا على ثلاثة أنواع.

الأوّل : المسائل الأصلية المأثورة عن الأئمة عليهم‌السلام التي ذكرها الأصحاب في كتبهم المعدّة لنقل خصوص هذه المسائل كالمقنع والهداية والمقنعة والنهاية والمراسم والكافي والمهذب ونحوها ، وكان بناء الأصحاب فيها على نقل هذه المسائل بألفاظها المأثورة أو القريبة منها طبقة بعد طبقة واتصلت سلسلتها إلى أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، فيكون وزانها والأخبار المأثورة في كتب الرواية.

١٤٣

الثاني : المسائل التفريعيّة المستنبطة من المسائل الأصلية بإعمال الاجتهاد والنظر.

الثالث : المسائل المتصدية لبيان موضوعات الأحكام وحدودها وقيودها ... إلى أن قال : وإذا عرفت هذا فنقول : الشهرة في النوع الأوّل تكون كاشفة عن تلقّيها عن الأئمة عليهم‌السلام وموجبة للوثوق بصدورها عنهم ، بخلاف النوعين الأخيرين ؛ لابتنائهما على إعمال الاجتهاد والنظر ، فلا تفيد الشهرة فيهما شيئا ، بل الظاهر أنّ الإجماع فيهما ايضا غير مفيد ؛ فإنّ الإجماع فيها على وزان الإجماع في المسائل العقليّة النظريّة ، فتدبر. (١)

حاصله : هو حجيّة الشهرة الفتوائية في المسائل الأصلية من القدماء الذين ذكروا فتاواهم في كتبهم بذكر متون النصوص المأثورة فإنّ إجماعهم على المتون في تلك المسائل يوجب الحدس القطعي القريب بالحسّ بصدور المتون المذكورة عن الأئمة عليهم‌السلام قال سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره : لا إشكال في عدم حجيّة الفتوائيّة في التفريعات الفقهيّة الدائرة بين المتأخرين من زمن شيخ الطائفة إلى زماننا هذا ... إلى أن قال : وإنّما الكلام في الشهرة المتقدمة على الشيخ ، أعني الشهرة الدائرة بين قدماء أصحابنا الذين كانت عادتهم التحفظ على الاصول والإفتاء بمتون الرواية إلى أن ينتهي الأمر إلى أصحاب الفتوى والاجتهاد ، فالظاهر وجود مناط الإجماع فيها وكونها موجبة للحدس القطعي على وجود نص معتبر دائر بينهم أو معروفيّة الحكم من لدن عصر الأئمة عليهم‌السلام ، كما أشرنا إليه ... (٢)

ولا يخفى عليك أنّ الحدس القطعىّ يوجب القطع بصدور المتون المفتى بها في كتب القدماء عن الأئمة عليهم‌السلام ، لا القطع بوجود نص آخر ، وإلّا لورد عليه ما أورد في الإجماع من أنّ النص المذكور وإن كان تاما عندهم سندا ولكن من الممكن أنّه ليس كذلك عندنا ، هذا مضافا إلى أنّ مع وجود المخالف في المشهور كيف يحصل الحدس القطعيّ بوجود نص آخر.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ شذوذ المخالف يوجب عدم اعتناء العقلاء به ، فيحصل معه الحدس المذكور عرفا. لأنّ اقوال النادر كالمعدوم.

__________________

(١) نهاية الاصول : ٥٤٣ ـ ٥٤٤.

(٢) تهذيب الاصول ٢ : ١٠٠ ـ ١٠١.

١٤٤

وأمّا المتون المذكورة في كتب القدماء بعنوان الفتوى فهي قابلة لأن ينظر إليها ، فإذا كانت تامّة من جهة الدلالة يحرز صدورها من ناحية الحدس القطعيّ المذكور ، هذا مضافا إلى أنّ القطع بالنص الآخر وراء المتون المذكورة لا يتصور إلّا إذا كانت الشهرة على خلاف مقتضى القواعد والعمومات والأدلة العقليّة ، وإلّا فلا يحصل الحدس القطعيّ بوجود النصّ الآخر ، كما لا يخفى.

وكيف كان فالشهرة الفتوائية على متون الأخبار في المسائل الأصلية تكشف عن صدور المتون المذكورة عن الأئمة عليهم‌السلام ، ولكن الشهرة بهذا المعنى ترجع إلى الشهرة العمليّة ، فكما أنّ الشهرة العمليّة تجبر ضعف المرسلات من الروايات وتكشف عن صدورها ، فكذلك تكشف عن صدور المتون المذكورة في كتب القدماء ؛ لأنّها في حكم المرسلات ، ولا إشكال فيه بعد فرض ثبوت أنّ القدماء في القرن الرابع بنوا على ذكر المتون في مقام الفتوى وحذف الأسانيد ، كما يشهد له كيفية الكتب مع تصريح بعضهم كسلّار في المراسم ، وذكر بعض الفرعيات فيها لا ينافي أنّهم أفتوا بالمتون وجعلوها الاصول المتلقاة ؛ لأنّ نفس هذا البعض من المرويّات ايضا.

فتحصّل : أنّ الشهرة الفتوائيّة في الكتب المذكورة توجب الحدس القطعيّ بالنسبة إلى صدور المتون المأثورة فيها عن المعصوم عليه‌السلام ، فلا يجوز العدول عنها مع العلم بصدورها عن المعصوم عليه‌السلام. ولكن الشهرة المذكورة ترجع الى الشهرة العمليّة نعم إذا اشتهر الفتوى بين القدماء واتصل إلى زمان المعصوم كشف ذلك كالإجماع المتصل عن تقرير المعصوم ورأيه عليه‌السلام ولا فرق فيه بين الاصول المتلقاة وغيرها اللهمّ إلّا أن يقال : لا يحرز التقرير إلّا في الاصول المتلقاة لإمكان اكتفاء المعصوم في المسائل التفريعيّة ببيان الاصول المتلقاة فلا يجب عليه الإرشاد في المسائل التقريعية إذا اخطأ الاصحاب في فهمها من الاصول المتلقاة فتأمل.

الجهة الرابعة :

فى الاستدلال على الشهرة الفتوائيّة بما هي تفيد الظنّ كنفس الخبر ، وقد استدل لذلك بوجوه :

١٤٥

الوجه الأوّل :

أنّ مرفوعة زرارة ومقبولة عمر بن حنظلة تدلّان على حجيّة الشهرة الفتوائيّة ففي الاولى قال عليه‌السلام في حكم الخبرين المتعارضين : يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذ النادر. فقلت : يا سيدي إنّهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم؟ فقال : خذ بقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك الحديث. (١)

وفي الثانية قال عليه‌السلام بعد فرض اختلاف الحكمين لروايتهما حديثين مختلفين وكون راويهما عدلين مرضيين : ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ؛ فأنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، قلت : فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال : ينظر ، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به الحديث. (٢)

وتقريب الاستدلال ـ كما في نهاية الاصول ـ أنّ المحتملات في قوله «المجمع عليه» بالنظر البدوي أربعة : المتفق عليه عند الجميع ، أو المشهور بين الأصحاب في قبال الشاذ النادر ، وعلى الوجهين الاتفاق أو الشهرة في الرواية أو في الفتوى ، فهذه أربعة.

اما احتمال كون المراد الاتفاق في الرواية فهو باطل قطعا ؛ لعدم وقوع هذا الأمر خارجا ؛ إذ ليس لنا رواية رواها جميع أرباب الاصول والجوامع ، فإنّ أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام على ما قالوا كانوا أربعة آلاف ، ولم يتفق اتفاق جميعهم على نقل رواية واحدة عنه عليه‌السلام. وكذا احتمال كون المراد الاتفاق في الفتوى ، إذ المستفاد من الحديث وجود الشاذ في قباله ، ومقتضى التعليل بكون المجمع عليه لا ريب فيه كون مقابله مما فيه ريب ، ولو كان الفتوى مما اتفق عليه الكل بلا استثناء كان القول بخلافه واضح البطلان لا مما فيه ريب وبعبارة أخري المقصود بالمجمع عليه بقرينة ذكر الشاذ الذي ليس بمشهور في قباله هو المشهور ، لا المتفق عليه.

__________________

(١) جامع الاحاديث : الباب ٦ من ابواب ما يعالج به تعارض الروايات ح ٢.

(٢) الوسائل : الباب ٩ من ابواب صفات القاضي ، ح ١.

١٤٦

وكذا احتمال أن يكون المراد الشهرة الروائية ؛ لوضوح بطلانه وإن أصرّ عليه بعض ، إذ مقتضى إطلاقه على هذا لزوم الأخذ بالرواية التي رواها أكثر الأصحاب وإن أعرضوا عنه وكان فتوى الجميع حتى الرواة لها مخالفة لها ، وهذا مما لا يمكن الالتزام به ، كيف! والرواية على هذا تصير مما فيه كل الريب ، فكيف يحكم بكونها مما لا ريب فيه؟!

فيبقى من الاحتمالات : أن يكون المقصود الشهرة الفتوائية بأن يكون مفاد الرواية مشهورا بين الأصحاب إفتاء وعملا ... إلى أن قال : فإن قلت : حمل الشهرة في الحديث على الشهرة الفتوائية مخالف لفرض الراوي كليهما مشهورين ؛ لعدم تصور الشهرة الفتوائيّة في طرفي المسألة.

قلت : ليس المقصود بالشهرة في الحديث الشهرة بالمعنى الاصطلاحي بين الاصوليين ، أعني ذهاب الأكثر إلى مسألة ، بل يراد بها معناها اللغوي ، أعني الوضوح ، فالمشهور هو الواضح المعروف في قبال الشاذ الذى ينكر ، ومنه قولهم شهر سيفه وسيف شاهر ، وهذا المعنى يتصور في طرفي المسألة إذا فرض كون كليهما ظاهرين بين الاصحاب حتى ولو فرض كون أحدهما أكثر من الآخر إذا لم يبلغ الآخر إلى حدّ الشذوذ والندرة.

وقد تحصّل مما ذكرنا : أنّ الشهرة الفتوائية بين الأصحاب ، أعني افتائهم بمضمون الرواية والأخذ بها في مقام العمل هو المرجح لإحدى الروايتين المتعارضين ويجعلها مما لا ريب فيه ، لا الشهرة الروائية فقط من دون الأخذ بها والاعتماد عليها.

نعم هنا شيء ، وهو أنّ المستفاد من الحديثين أوّلا : وبالذات كون الشهرة الفتوائية والأخذ بالرواية في مقام الفتوى مرجّحة للرواية الواجدة لشرائط الحجية مع قطع النظر عن المعارض. وأمّا كونها بنفسها حجة شرعية مستقلة فهو أمر آخر يجب البحث فيها ، وهو محط النظر هنا. فنقول : يمكن أن يستظهر من الحديثين حجيّتها بإلغاء الخصوصية ؛ إذا الخصوصيّة المتوهم دخلها في المقام أمران :

الأوّل : وجود رواية في قبالها تخالف مضمونها فيكون لخصوصية وجود المعارض دخل في نفي الريب عنها.

١٤٧

الثاني : وجود رواية حاكية لقول الإمام عليه‌السلام في موردها على وفقها. أمّا الأوّل فمعلوم عدم دخله ... إلى أن قال : وأمّا الثاني فيمكن أيضا أن يقال بعدم دخله في الحكم وإنّ الذي لا ريب فيه هو نفس الشهرة بإطلاقها ؛ إذ تعليق الحكم على وصف مشعر بعلّيته له ... إلى أن قال : ولكن لأحد منع إلغاء الخصوصية الثانية ؛ لاحتمال أن يكون لوجود الرواية الموافقة لمضمون الشهرة دخل في حجيّتها ونفي الريب عنها باعتبار تأيّد إحداهما بالأخرى. (١)

وعليه فلا دليل على حجيّة الشهرة الفتوائيّة بما هى مفيدة للظن مستقلة كالخبر ؛ لاحتمال أن يكون الحجة مركّبة من الرواية والشهرة.

نعم يمكن أن يقال : إنّ التعليل بقوله عليه‌السلام (فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه) يغنينا عن إلغاء الخصوصية ؛ فإنّ المراد من المجمع عليه في الموضعين هو المشهور بقرينة إطلاق المشهور عليه فى قوله عليه‌السلام (ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور) وعليه فقوله عليه‌السلام (فإنّ المجمع عليه الخ) يدلّ على أنّ المشهور مطلقا مما يجب العمل به وإن كان مورد التعليل مورد الترجيح بين الروايتين ؛ لأنّ العبرة بعموم الوارد لا بخصوصيّة المورد.

هذا غاية التقريب لحجّية الشهرة من باب كونها ظنّا خاصا كالخبر.

ولكن يرد عليه : أوّلا : عدم تمامية كل من المرفوعة والمقبولة من حيث السند.

أمّا المرفوعة فلما أفاد في مصباح الاصول من كونها من المراسيل التي لا يصح الاعتماد عليها ؛ فإنّها مروية في كتاب عوالى اللثالي لابن أبي جمهور الأحسائي عن العلامة مرفوعة إلى زرارة ، مضافا إلى أنّها لم توجد في كتب العلامة رحمة الله ولم يثبت توثيق راويها ، بل طعن فيه وفي كتابه من ليس دأبه الخدشة في سند الرواية كالمحدث البحراني فى الحدائق.

ودعوى : انجبارها بعمل المشهور ممنوعة صغرى وكبرى :

أمّا من حيث الصغرى فلأنه لم يثبت استناد المشهور إليها ، بل لم نجد عاملا بما في ذيلها من الأمر بالاحتياط ... إلى أن قال :

__________________

(١) نهاية الاصول : ٥٤١ ـ ٥٤٣.

١٤٨

وأمّا المقبولة فلعدم ثبوت وثاقة عمر بن حنظلة ، ولم يذكر له توثيق في كتب الرجال ، نعم وردت رواية في باب الوقت تدل على توثيق الإمام عليه‌السلام له ونعم التوثيق ؛ فإنّ توثيق الإمام إمام التوثيقات ، وهي ما نقله في الوسائل عن الكافي عن علي بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس عن يزيد بن خليفة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت؟ فقال عليه‌السلام : إذا لا يكذب علينا : إلّا أنّ هذه الرواية بنفسها ضعيفة من حيث السند ، فلا يمكن إثبات وثاقة عمر بن حنظلة بها. (١)

ويمكن أن يقال : إنّ ما ذكر في وجه ضعف المرفوعة صحيح ، ولكن يشكل ما ذكره بالنسبة الى المقبولة ، فإنّ عمر بن حنظلة ممن روى عنه الأجلّاء كابن مسكان وزرارة وعبد الله بن بكير وهشام بن سالم وعلي بن رئاب ومنصور بن حازم وأبى أيوب الخزاز ، هذا مضافا إلى نقل صفوان عنه ، وهو ممن لا يروي إلّا عمّن يوثق به ، وأيضا روى صفوان عن يزيد بن خليفة ، وعليه فلا تكون الرواية الواردة في توثيق عمر بن حنظلة ضعيفة ، فلا تغفل.

ويرد عليه ثانيا : أنّا نمنع أن يكون المراد من الشهرة هي الشهرة الفتوائيّة بعد إمكان إرادة الشهرة الروائية ، كما يقتضيه ظاهر الروايتين.

ودعوى : بطلان ذلك من جهة أنّ إطلاق اعتبار الشهرة الروائية يقضي لزوم الأخذ بالرواية التي رواها أكثر الأصحاب وإن أعرضوا عنه وكان فتوى الجميع حتى الرواة لها ، مخالفة لها وهذا مما لا يمكن الالتزام به ، كيف والرواية على هذا تصير مما فيه كل الريب؟! فكيف يحكم بكونها مما لا ريب فيه؟!.

مندفعة : بأنّ الإطلاق الذاتي لا ينافي تقديم المقابل للعمل به والإعراض عما رواه الأكثر ، وعليه فلا مانع من إرادة الشهرة الروائيّة ، فلا تغفل.

ومما ذكر يظهر أنّه لا وجه لحمل الروايتين على الشهرة الفتوائية مع ظهورهما في الشهرة الروائية ، فالمراد من قوله عليه‌السلام (خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر) في المرفوعة و

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ١٤٢.

١٤٩

قوله عليه‌السلام (ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذى حكما به المجمع عليه عند اصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذى ليس بمشهور عند أصحابك فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه) في المقبولة هو خصوص الرواية المشهورة من الروايتين ، ولا يشمل الشهرة الفتوائية ، كما أفاده الشيخ الانصاري قدس‌سره حيث قال : إنّ المراد بالموصول في المرفوعة هو خصوص الرواية المشهورة من الروايتين دون مطلق الحكم المشهور ، ألا ترى أنّك لو سألت عن أنّ أي مسجد أحبّ إليك؟ قلت : ما كان الاجتماع فيه أكثر ، لم يحسن للمخاطب أن ينسب إليك محبوبية كل مكان يكون الاجتماع فيه أكثر بيتا كان أو خانا أو سوقا ... إلى أن قال : ومن هنا يعلم الجواب عن التمسك بالمقبولة.

هذا مضافا إلى أنّ الشهرة الفتوائيّة مما لا يقبل أن يكون في طرفي المسألة وعليه فقوله (يا سيدي إنّهما مشهوران مأثوران) أوضح شاهد على أنّ المراد من الشهرة في الرواية هي الشهرة الروائية الحاصلة مما اتفق الكل على روايته أو تدوينه ، لأنّ هذا مما يمكن اتصاف الروايتين المتعارضتين به لجواز صدورهما معا وإن لم يتم جهة الصدور إلّا في أحدهما على أنّ إطلاق الشهرة في مقابل الإجماع إطلاق حادث مختص بالاصوليين ، والمراد من المشهور في الرواية هو الإجماع الواضح المعروف ، ومنه شهر فلان سيفه وسيف شاهر ، فالمراد من الرواية حينئذ أنّه يؤخذ بالرواية التي يعرفها جميع أصحابك ولا ينكرها أحد منهم ، ويترك ما لا يعرفه إلّا الشاذ ولا يعرفها الباقي ، فالشاذ مشارك للمشهور في معرفة الرواية المشهورة ، والمشهور لا يشارك الشاذ في معرفة الرواية الشاذة ؛ ولهذا كانت الرواية المشهورة من قبيل بيّن الرشد والشاذ من قبيل المشكل الذي يرد علمه إلى أهله ، وإلّا فلا معنى للاستشهاد بحديث التثليث (١) وقال سيدنا الاستاذ المحقق الداماد قدس‌سره في محكى كلامه إنّ الشهرة ربّما تكون من حيث الفتوى فقط وأخرى من حيث الرواية كذلك وثالثة تكون على العمل بالرواية والاولى خارجة عن مفاد الروايتين فإنّ ظهورهما بل كاد أن يكون صريحهما كون

__________________

(١) فرائد الاصول : ٦٦.

١٥٠

الكلام في جميع الأسئلة الواقعة فيها راجعة إلى تعارض الخبرين فالمراد بالموصول هو الخبر لا محالة وحينئذ كان الاشتهار راجعا إليه لكن الانصاف ان مجرد الاشتهار من حيث الرواية مع إعراض الأصحاب أو عدم إفتائهم بمضمونه أيضا خارج عن مفاد الخبرين ولا أقل من كون منصرفهما غيره فإنّ الظاهر أنّ المراد من قوله خذ بما اشتهر بين أصحابك أو الجمع عليه بين أصحابك هو شيوع العمل بمضمون الرواية واشتهاره لا مجرد الاشتهاد من حيث النقل والرواية ولعمرى أنّه واضح على من اعطى النظر حقه وعلى هذا كانت الروايتان ناظرتين إلى القسم الثالث من أقسام الشهرة فلا تدلان على حجيّة الشهرة الفتوائية وإنّما تدلان على وجوب ترجيح أحد الخبرين المتعارضين الموافق لفتوى المشهور المعمول به بين الأصحاب على الآخر الذى لم يعمل به وبالجملة غاية ما يمكن استفادته من المشهورة والمقبولة لزوم الأخذ بالخبر الذى اشتهر العمل به وجبر ضعف السند بذلك إن كان فيه ضعف وتقدمه على معارضه المتروك من حيث العمل. (١)

فتحصّل : أنّه لا دليل للشهرة الفتوائية ؛ بما هى تفيد الظن كالخبر لما عرفت من اختصاص المرفوعة والمقبولة بالشهرة الروائيّة ، هذا مضافا أنّ الشهرة تكون بمعنى الواضحة ، وهي أنّ الاشتهار بين الأصحاب في تلك الأزمنة بحيث يكون الطرف المقابل معرضا عنه بينهم ولا يكون مضرا بإجماعهم ، وهذا غير الشهرة الاصطلاحية الظنية ، فالرواية لا تدل على التعبد بحجيّة الشهرة الفتوائية المفيدة للظن وهى محل الكلام ومحتاجة إلى التعبد.

لا يقال : إنّ عموم التعليل وهو قوله عليه‌السلام (فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه) يكفي لجواز التعدي عن المورد ، فاختصاص المورد بالشهرة الروائية لا يمنع عن الأخذ به في الشهرة الفتوائية.

لأنّا نقول :

أوّلا : إنّ عموم التعليل غير ثابت ؛ لأنّ المراد من المجمع عليه هو الخبر الذي أجمع على

__________________

(١) المحاضرات سيدنا الاستاذ المحقق الداماد ٢ / ١١٧ ـ ١١٨.

١٥١

صدوره من المعصوم ، كما يشهد له تطبيقه عليه في قوله عليه‌السلام (ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك حكما به الجمع عليه عند اصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك.

وعليه فاللام في المجمع عليه لام العهد وإشارة إلى الخبر المجمع عليه ، فلا يشمل غير الخبر ، وإلغاء الخصوصية مع احتمال دخالة الرواية لا مجال له.

وثانيا : إنّه لو سلمنا عموم التعليل وعدم اختصاصه بالخبر فهو لا يدل على حجيّة الشهرة الفتوائية الظنية ، بل تدل على حجيّة الشهرة الفتوائية التي تكشف عن رأي المعصوم كشفا قطعيا لشذوذ المخالف بحيث لا يضر بالإجماع ؛ لعدم اعتناء العقلاء به كما أنّ اشتهار الرواية بين الاصحاب بحيث يكون الطرف المقابل شاذا معرضا عنهم يكشف عن صدوره عن المعصوم كشفا قطعيا ، وهذا هو المناسب لنفي الريب حقيقة.

ثم لا يخفى عليك أنّه لو تم الاستدلال بالرواية على التعبد بالشهرة الظنية الاصطلاحية لما دلت الرواية على حجيّة الشهرة الفتوائية بالذات ولو لم تكن طريقا إلى رأي المعصوم ، بل غايتها هو كون الشهرة كالخبر في حجية الظن برأي المعصوم ، وعليه فالشهرة الحاصلة من آراء المتأخرين لا حجيّة لها ؛ لعدم كونها كاشفة عن رأي المعصوم فضلا عن شهرة متأخر المتاخرين ، قال في تحريرات في الاصول : إنّ مصب التعليل في مورد تكون الشهرة ـ سواء كانت روائية او فتوائية ـ والإجماع كاشفين عن أمر مفروغ منه صادر عنهم عليهم‌السلام ؛ لقول عمر بن حنظلة (وكلاهما اختلفا في حديثكم الحديث) فان المعلوم منه هو الارجاع الى الشهرة لأنّها الطريق ، وهكذا الإجماع ، فما هو الإجماع القابل لأن يكون طريقا يكون حجة ، وهكذا الشهرة ، وعندئذ ينحصر بالشهرة القديمة ، ولا يشمل الشهرة الحديثة الحادثة بين المتأخرين فلا ، فلاحظ. (١) فتحصّل أنّه لا دليل على حجيّة الشهرة الفتوائية الظنية هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل.

__________________

(١) تحريرات في الاصول ٦ : ٣٨٣.

١٥٢

الوجه الثاني :

أنّه يظهر من بعض الكلمات أنّ أدلة حجيّة خبر الواحد تدلّ على حجيّة الشهرة المصطلحة الظنية بمفهوم الموافقة ؛ لأنّه ربّما يحصل منها الظن الأقوى من الحاصل من خبر العادل.

ويمكن الجواب عنه ـ كما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس‌سره ـ بأنّ هذا خيال ضعيف تخيّله بعض في رسائله ، ووقع نظيره من الشهيد الثاني في المسالك حيث وجّه حجيّة الشياع الظني بكون الظن الحاصل منه أقوى من الحاصل من شهادة العدلين.

ووجه الضعف : أنّ الأولوية الظنية أوهن بمراتب من الشهرة ، فكيف يتمسك بها في حجيّتها؟! مع أنّ الأولوية ممنوعة رأسا للظن بل العلم بأنّ المناط والعلة في حجيّة الأصل (خبر الواحد) ليس مجرد إفادة الظن ؛

وأضعف من ذلك تسمية هذه الأولوية في كلام ذلك البعض مفهوم الموافقة ، مع أنّه ما كان استفادة حكم الفرع من الدليل اللفظى الدال على حكم الأصل مثل قوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ)(١)

مقصوده قدس‌سره من قوله (بل العلم بأنّ المناط والعلة في حجيّة خبر الواحد ليس مجرد إفادة الظن) : أنّ المناط لو كان هو ذلك لزم حجيّة رأي فقيه لفقيه آخر فيما إذا حصل له منه الظن ، مع أنّه ليس بحجيّة قطعا ، فيعلم منه أنّ مجرد إفادة الظن ليس هو المناط.

ولعل ملاك حجيّة الخبر ـ كما أفاد السيد المحقق الخوئي قدس‌سره ـ هو كونه غالب الإصابة باعتبار كونه إخبارا عن حسّ ، واحتمال الخطأ في الحسّ بعيد ، بخلاف الإخبار عن حدس كما في الفتوى ؛ فإنّ احتمال الخطأ في الحدس غير بعيد ، ويحتمل أيضا دخل خصوصية اخرى في ملاك حجيّة الخبر ، ومجرد احتمال ذلك كاف في منع الأولوية المذكورة ؛ لأنّ الحكم بالاولوية يحتاج إلى القطع بالملاك وكل ما له دخل فيه. (٢)

__________________

(١) فرائد الاصول : ٦٥.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ١٤٤ ـ ١٤٥.

١٥٣

فتحصّل : أنّه لا دليل على حجّية الشهرة الفتوائية من حيث إفادتها الظنّ برأي المعصوم عليه‌السلام ، فلا تقاس بالخبر. نعم لو حصل من الشهرة كشف قطعي بالنسبة إلى رأي المعصوم فلا إشكال فى حجّيته لأنّ القطع حجة كما لا يخفى ومما ذكرنا يظهر حكم نقل الشهرة فإن كانت قطعية يترتب عليه ما يترتب على نقل الاجماع وإن كانت الظنيّة فلا اعتبار له لعدم حجيّة الشهرة الظنية فتحصّل أنّ الشهرة الظنية لا حجيّة لها سواء كانت محصلة او منقولة.

١٥٤

الخلاصة

٣ ـ الشهرة

والكلام فيها يقع في جهات :

الجهة الأولى :

في أنّ الشّهرة على أقسام :

الأوّل : الشّهرة الرّوائيّة وهي بمعنى كثرة نقلها ويقابلها الشّذوذ والنّدرة والشّهرة بهذا المعنى تكون من المرجّحات عند تعارض الأخبار.

الثّاني : الشّهرة العمليّة وهي بمعنى العمل بالرّواية وهو يوجب الوثوق بصدور الرّواية إن كان فيها ضعف وفي قبالها إعراض المشهور عن الرّواية فإنّه يكشف عن الخلل فيها بحيث يوهن سندها وإن كان صحيحا.

الثّالث : الشّهرة الفتوائيّة ومعناها هو اشتهار الفتوى بحكم من الأحكام الشّرعية بين معظم الفقهاء سواء يعرف في قبالها فتوى الخلاف أو لم يعرف وربّما تستعمل الشّهرة الفتوائيّة على اتفاق جماعة من المعروفين من العلماء.

ثمّ مورد البحث هو القسم الثّالث لا الأوّل والثّاني فإنّ البحث عن الأوّل مناسب لباب تعارض الأخبار والبحث عن الثّاني سيأتي في البحث عن حجّيّة خبر الواحد إن شاء الله تعالى.

الجهة الثانية أنّ الشّهرة الفتوائيّة إمّا ملحوظة بما هي تكون كاشفة كشفا قطعيا عن النصّ أو رأي المعصوم عليه‌السلام وإمّا ملحوظة بما هي تفيد الظنّ برأي المعصوم عليه‌السلام كالخبر الواحد.

الجهة الثالثة في الاستدلال على حجّيّة الشهرة الفتوائية الكاشفة كشفا قطعيّا عن النصّ ولا إشكال في حجّيّتها من ناحية كونها مصداقا للقطع كسائر موارد القطع ويتحقّق ذلك في فتوى العلماء بشيء من دون استناد إلى دليل ويكون فتواهم مخالفا للقاعدة ولكنّه ليس بكثير هذا مضافا إلى النصّ المكشوف وإن تمّ عند المشهور إلّا أنّه لم يحرّز تماميّته عندنا.

١٥٥

نعم إذا اشتهر الفتوى بين القدماء واتّصل إلى زمان المعصوم كالإجماع المتصل كشف ذلك عن تقرير المعصوم عليه‌السلام وهو حجّة ولا فرق فيه بين أن يكون المسألة من الاصول المتلقاة أو غيرها اللهمّ إلّا أن يقال : لا يحرز التقرير إلّا في الاصول المتلقّاة فإنّ المسألة إذا كانت من المسائل التفريعيّة وأخطأ الأصحاب في فهمها من الاصول المتلقاة لا يجب إرشادهم مع بيان الاصول المتلقاة فتأمّل.

نعم لو كان الاشتهار بالنّسبة إلى المسائل الأصلية المأثورة واتّصل الاشتهار إلى زمان المعصوم عليه‌السلام كان وزان المتون المأثورة وزان الأخبار للعلم بصدورها عن المعصوم عليه‌السلام وترجع الشهرة الفتوائيّة حينئذ إلى الشهرة العملية بالنّسبة إلى الأخبار كما لا يخفى.

الجهة الرّابعة في الاستدلال على الشهرة الفتوائيّة بما هي تفيد الظنّ كالخبر الواحد المفيد للظنّ.

قد استدلّ لذلك بوجوه :

الوجه الأوّل : قوله عليه‌السلام في مرفوعة زرارة في حكم الخبرين المتعارضين : «يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشّاذ النّادر».

وقوله عليه‌السلام في مقبولة عمر بن حنظلة بعد فرض اختلاف الحكمين لروايتهما حديثين مختلفين وكون راويهما عدلين مرضيين : «ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشّاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه قلت : فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثّقات عنكم قال ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به».

بدعوى أنّ المحتملات في قوله عليه‌السلام المجمع عليه بالنّظر البدوي أربعة المتّفق عليه عند الجميع أو المشهور بين الأصحاب في قبال الشّاذ النّادر وعلى الوجهين في الرّواية أو الفتوى فهذه أربعة.

١٥٦

والاتفاق في الرّواية باطل قطعا لعدم وقوعه في الخارج إذ ليس لنا رواية رواها جميع أصحاب الأصول والجوامع.

والاتّفاق في الفتوى لا يساعد مع التعليل بكون المجمع عليه لا ريب فيه فإنّ المستفاد منه وجود الرّيب في مقابله ولو كان الفتوى ممّا اتّفق عليه الكلّ بلا استثناء كان القول بخلافه واضح البطلان لا ممّا فيه ريب.

والشّهرة في الرّواية ليست بمراد لوضوح أنّ مقتضى إطلاق الخبر هو لزوم الأخذ بالرواية التي رواها أكثر الأصحاب. وإن أعرضوا عنه وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به كيف والرّواية على هذا تصير ممّا فيه كل الريب فكيف يحكم بكونها ممّا لا ريب فيه.

فانحصر الأمر في أن يكون المراد الشهرة الفتوائيّة بأن يكون مفاد الخبر مشهورا بين الأصحاب إفتاء.

لا يقال : حمل الشهرة في الحديث على الشّهرة الفتوائيّة مخالف لغرض الرّاوي كليهما مشهورين لعدم تصوّر الشّهرة الفتوائيّة في طرفي المسألة لأنّا نقول ليس المقصود بالشهرة في الحديث الشهرة بالمعنى الاصطلاحي أعني ذهاب الأكثر إلى طرف بل يراد بها معناها اللّغوي أي الوضوح فالمشهور هو الواضح المعروف في قبال الشّاذ الذي ينكر وهذا المعنى يتصوّر في طرفي المسألة كما إذا فرض كون كليهما ظاهرين بين الأصحاب ولو فرض كون أحدهما أكثر من الأخر إذا لم يبلغ الأخر إلى حدّ الشّذوذ والنّدرة.

يرد على ذلك أنّ المستفاد من الحديثين أنّ الشهرة الفتوائية مرجّحة للرواية الواجدة لشرائط الحجّيّة مع قطع النظر عن المعارض وهذا أجنبي عمّا نحن بصدده وهو حجّيّة الشهرة بنفسها.

إلّا أن يقال : بإلغاء الخصوصيّة بأن يدعى لا خصوصيّة لوجود رواية تكون موافقة للشهرة كما لا خصوصيّة لوجود رواية يخالف مضمونها لها وهو كما ترى لإمكان منع إلغاء الخصوصيّة لاحتمال خصوصية الرّواية الموافقة لمضمون الشهرة في حجيّتها.

١٥٧

وعليه فلا دليل على حجّيّة الشّهرة الفتوائيّة بما هي مفيدة للظنّ لاحتمال كون الحجّة أمرا مركّبا من الرّواية والشهرة.

ودعوى أنّ التعليل بقوله عليه‌السلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» يغنينا عن إلغاء الخصوصيّة فإنّ المراد من المجمع عليه في الموضعين هو المشهور بقرينة إطلاق المشهور عليه في قوله عليه‌السلام ويترك الشّاذّ الذي ليس بمشهور وعليه فقوله عليه‌السلام فإنّ المجمع عليه الخ يدلّ على أنّ المشهور مطلقا ممّا يجب العمل به وإن كان مورد التّعليل مورد الترجيح بين الخبرين لأنّ العبرة لعموم الموارد لا بخصوصية المورد.

مندفعة بأنّ المراد من الموصول في المرفوعة هو خصوص الرّواية المشهورة من الروايتين دون مطلق الحكم المشهور وهكذا المجمع عليه يراد به الخبر المجمع عليه فلا تشمل الروايتان للشهرة الفتوائيّة بما هي تفيد الظنّ كالخبر وإلغاء الخصوصيّة مع احتمال دخالة الرّواية لا مجال له.

ثمّ لو سلّمنا تماميّة دلالة الرّوايتين على حجّيّة الشهرة الفتوائية.

فلا تدلّان إلّا على حجّيّة الشّهرة الفتوائيّة من جهة كشفها عن رأي المعصوم عليه‌السلام فحينئذ تكون الشهرة كالخبر في حجيّته بالنّسبة إلى إفادة الظنّ برأى المعصوم عليه‌السلام ولذا لا تكون الشهرة بين المتأخّرين حجّة لعدم كونها كاشفة عن رأي المعصوم فضلا عن شهرة متأخّر المتأخّرين بل غايته هو الكشف عن النصّ وقد مرّ مرارا أنّ النصّ وإن كان تماما عندهم ولكن من الممكن أن لا يكون كذلك عندنا.

الوجه الثّاني : هو أدلّة حجّيّة خبر الواحد فإنّها تدلّ بالفحوى على حجّيّة الشهرة الظنيّة بمفهوم الموافقة لأنّ الظنّ الحاصل من الشّهرة ربّما يكون أقوى من الظنّ الحاصل من خبر العادل.

واجيب عنه أنّ الأوّلية الظّنية أوهن بمراتب من الشّهرة فكيف يتمسّك بها في حجيّتها مع أنّ الأوّليّة ممنوعة رأسا للظنّ بل العلم بأنّ المناط في حجّيّة الخبر الواحد ليس مجرد إفادة

١٥٨

الظنّ وإلّا لزم القول بحجّيّة كلّ ظنّ مساو للخبر أو أقوى منه وهو كما ترى.

على أنّ تسمية الأولويّة الظنيّة بمفهوم الموافقة لا تساعد الاصطلاح.

وملاك حجّيّة الخبر هو كونه غالب الإصابة باعتبار كونه إخبار عن حسّ واحتمال الخطأ في الحسّ بعيد بخلاف الإخبار عن حدس كما في الفتوى فإنّ احتمال الخطأ فيه غير بعيد ويحتمل أيضا دخل شيء آخر في ملاك حجّيّة الخبر ومجرّد الاحتمال فضلا عن الظنّ يكفي في منع الأولويّة المذكورة. فتحصّل أنّه لا دليل على حجّيّة الشّهرة الفتوائيّة الظنيّة ولا مجال لإلحاق الظنّ الحاصل منها بالظنّ الحاصل من الخبر.

ثمّ إنّ حكم نقل الشهرة الظنّية إذا كان عن حسّ لا يزيد على الشهرة المحصّلة الظنّيّة فإذا عرفت عدم حجّيّة الشهرة المحصّلة الظنيّة فالشهرة المنقولة أيضا كذلك وبالجملة لا تكون الشّهرة الظنيّة حجّة سواء كانت منقولة أو محصّلة وأمّا حكم الشّهرة القطعية فقد مرّ مفصّلا في الجهة الثّانية وحكم نقلها كحكم نقل الاجماع فلا تغفل.

١٥٩

٤ ـ العرف

والكلام فيه يقع في مقامات :

المقام الأوّل :

في أنّ العرف على قسمين : العرف العامّ والعرف الخاصّ ، والأوّل هو الذي لا يختص بقوم وجمع خاص بل يعمّ جميع الأقوام والملل ، والثاني هو عرف جمع خاصّ كعرف الأطباء أو عرف الاقتصاديّين أو عرف الاصوليين.

فإذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الشارع جعل موضوعات أحكامه على طبق ما يفهمه العرف العامّ ، ولا يكون العرف الخاصّ مخاطبا بالخصوص في أحكامه ؛ ولذا يشكل الاكتفاء بصدق الموضوعات عند عرف خاصّ مع عدم وضوح صدقه عند عموم الناس ، كالموت فإنّه يصدق عند الأطباء بعروض الموت السريري أو الدماغي ، ولا يصدق عند الناس إلّا بوقفة القلب ولو مع اطلاعهم على صدقه عند الأطباء ، فلا يترتب أحكام الموت بصدقه عند الأطباء ، كما لا يخفى.

نعم لو كان صدقه عند قوم خاصّ موجبا لاطلاع عموم الناس عليه وصدقه عندهم أيضا كفى ذلك في تحقق الموضوع ، ولعلّ منه إخبار بعض الأخصّائيين عن وجود الفلس في بعض أنواع الحيتان ، فإذا أخبر بعض المتخصّصين عن وجود الفلس فيه بحيث لو نظر الناس إلى موضع الفلس رأوه فيه وصدقوه كفى ذلك في ترتب أحكام ذات الفلس ، فلا تغفل.

المقام الثاني :

أنّه لا إشكال في ثبوت مرجعية العرف العامّ في ناحية الموضوعات والدلالات والاستظهارات والبناءات والاعتباريات ، وهي كثيرة.

منها : تشخيص حدود المفاهيم ومنها : تطبيق المفاهيم على المصاديق.

ومنها تعيين بقاء الموضوعات بعد تغيير أحوالها وعدمه ، فإذا حكم ببقائها جرى استصحاب بقاء حكمها ، وإن لم يبق الموضوع الدليلي كما قرّر في محله.

١٦٠