عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

وفيه ما لا يخفى فإنّ تخصيص الخبرة بالامور الحدسية كما ترى لأنّ الطبابة مبتنية على التجربة والحسّيات ولها خبراء يعتمد عليهم. وهكذا علم الرجال يبتني على ما رآه الرجالي من أحوال الأشخاص أو ما سمعه في هذه الناحية ومن المعلوم أنّ المرئيات والمسموعات من الحسّيات ومع ذلك له خبراء يمكن الاعتماد على أقوالهم ، هذا مضافا إلى أنّ علم اللغة لا يخلو عن حدس أيضا إذ اللغوى إذا راى الاستعمالات المتكررة في مثل رغب عنه في الإعراض ورغب فيه في التمايل حصل له الحدس بأنّ كلمة عنه بعد فعل رغب قرينة عامة على إرادة الإعراض. وهكذا كلمة فيه بعد الفعل المذكور قرينة عامة على إرادة التمايل. قال الشهيد الصدر قدس‌سره إنّ خبرة اللغوي كثيرا ما يكون على أساس الحدس وإعمال النظر ، فأنّه وإن كان رأس ما له السماع وتتّبع موارد الاستعمالات إلّا أنّه لا بدّ له أيضا أن يقارن بين موارد الاستعمالات ويجتهد في تخريج وتجريد المعاني التي يستعمل فيها اللفظ والتي تستفاد من مجموع تلك المسموعات (١)

فتحصّل من ذلك جوا الرجوع إلى قول اللغوي فيما يكون خبرة فيه كموارد الاستعمال فإذا أخبر بأنّ المعنى الفلانى لا يكون شائعا أمكن الاعتماد عليه.

قال شيخنا الاستاذ الأراكى قدس‌سره فلو شككنا من جهة موارد الاستعمال كان للرجوع إليهم وجه لانهم خبرة هذا المقام. (٢)

وهكذا يجوز الاعتماد عليه في تعيين المعاني الظاهرة من جهة القيود المختلفة كقيد عنه وفيه في فعل رغب ومن جهات اختلاف الهيئة واللزوم والتعدي والمجرد والمزيد فيه وغيرها وعليه فيجوز الاعتماد على قول اللغوي فيما كان خبرة فيه.

وأيضا يجوز الرجوع الى قول اللغوى فى تعيين الحقيقة والمجاز فيما اذا تصدى لذلك واخبر به لما عرفت من توجيه ذلك وامكانه فلا تغفل.

__________________

(١) مباحث الحجج والاصول العملية : ١ / ٢٩٦.

(٢) اصول الفقه : ١ / ٥٠٨.

١٠١

نعم من كان خبرة في اللغة كبعض الفقهاء لا يجوز له ان يراجع إلى قول اللغوي إلّا فيما إذا لم يعمل خبرويته وإلّا فهو رجوع الخبرة إلى الخبرة ولا حجيّة لقول الخبرة على الخبرة بل يشكل الرجوع إلى قول اللغوي ممن يريد من المراجعة أن يفتى للآخرين فإنّه حينئذ بالنسبة إلى اللغة جاهل والمقلد يرجع إلى العالم لا إلى الجاهل والتقليد هو رجوع الجاهل إلى العالم لا رجوع الجاهل إلى الجاهل وهذا الإشكال يسرى أيضا إلى علم الرجال وسائر مقدمات الاجتهاد فاللازم لمن أراد أن يفتى للآخرين أن يجتهد في مقدمات الاجتهاد. نعم لا مانع من الرجوع إلى قول اللغوي أو الرجالي وغيرهما في عمل نفسه فلا تغفل.

اللهمّ إلّا أن يقال : كثيرا ما يحصل الوثوق الشخصي من مراجعة الكتب اللغوية بالموضوع له أو المعاني الظاهرة وهكذا في علم الرجال وغيره من المقدمات ومع حصول الوثوق فلا مانع من الإفتاء للآخرين وحينئذ يجوز تقليد من حصل له الوثوق بالنسبة إلى معاني الكلمات أو أحوال الرجال. هذا مضافا إلى أنّ كثيرا ما يكون اللغوي أو الرجالي متعددا فمع شهادتهما في المحسوسات أو ما يقرب منها أمكن اعتماد المفتي على البينة الشرعية وعليه فيجوز تقليد من اعتمد على البينة الشرعية ، فتدبر.

١٠٢

الخلاصة

حجيّة قول اللغويين

نسب إلى المشهور حجّيّة قول اللغويّين في تعيين الأوضاع وتشخيص الحقائق عن المجازات وتعيين الظّهورات المفردة والتركيبية واستدلّ له بقيام بناء العقلاء على الرجوع إليهم في استعلام اللغات والاستشهاد بأقوالهم في مقام الاحتجاجات ولم ينكر ذلك أحد على أحد.

ودعوى أنّ القدر المتيقّن من الرجوع إليهم هو ما إذا اجتمع شرائط الشّهادة من العدد والعدالة لا مطلقا.

مندفعة ، بمنع اشتراط ذلك في الرجوع إليهم لوضوح رجوعهم إليهم من دون اعتبار التعدّد أو اعتبار الإخبار عن حسّ وهذا يكشف عن كون الرجوع إليهم من باب أنّهم مهرة الفنّ وأهل الخبرة لا من باب الشهادة.

والقول بأنّ هذا البناء لم يحرز وجوده في زمان الأئمّة عليهم‌السلام حتّى يكون حجّة بعدم الرّدع عنه ولا كتاب لغة في ذلك العصر حتّى يرجع إليه.

ممنوع أوّلا : بأنّ عدم الرّدع عن الكلّي المعمول به وهو رجوع الجاهل إلى العالم في الامور يكفي في إمضاء آحاد الكلّي المذكور ولا حاجة إلى إحراز كون كلّ فرد موجودا في عصر الإمام عليه‌السلام.

وثانيا : يمنع عدم ثبوت رجوع النّاس إلى مهرة اللّغة في صدر الإسلام بل قبله مع شيوع الاستعمالات اللّغوية وتبادل الأدبيّات بين الجوامع ووجود الحاجة في فهم اللّغات والتّراكيب المعمولة إلى ذلك.

وثالثا : بأنّ بعض الكتب اللّغوية مدوّن في زمن الإمام الصادق عليه‌السلام ككتاب خليل وفي زمن الإمام الجواد عليه‌السلام ككتاب جمهرة ويرجع إليه ولم يردع عنه.

فيتحصّل أنّ الرجوع إلى قول اللّغويين من باب أنّهم خبراء ومهرة وعليه فقولهم حجّة

١٠٣

فيما أخبروا به ممّا كانوا فيه خبراء من دون فرق بين كون ذلك من موارد الاستعمال أو الحقيقة والمجاز أو الظّهورات المفردة أو التركيبية هذا مضافا إلى إمكان إدراج قوله في خبر الواحد الموثوق به بضميمة أصالة عدم الغفلة.

لا يقال إنّ الرّجوع إلى أهل اللّغة ليس من باب الخبروية لأنّ الرجوع إلى أهل الخبرة إنما هو في الأمور الحدسيّة التي تحتاج إلى إعمال النظر والرأي لا في الامور الحسيّة التي لا دخل للنظر والرأي فيها.

وتعيين معاني الألفاظ من قبيل الامور الحسّية لأنّ اللغوي ينقلها على ما وجده في الاستعمالات والمحاورات وعليه فيدخل إخبار اللغوي في الشهادة التي اعتبر فيها العدالة والتّعدد في مورد القضاء لأنّا نقول إنّ تخصيص الخبرة بالامور الحدسية كما ترى لأنّ الطبابة مبتنية على الحسّ والتجربة ومع ذلك لها خبراء ومهرة يعتمد عليهم وهكذا علم الرجال يبتني على ما رآه وسمع الرجالي من أحوال الأشخاص وهما من حسيّات ومع ذلك له خبراء يعتمد عليهم.

هذا مضافا إلى أنّ علم اللّغة لا يخلو عن حدس أيضا إذ اللغوي إذا رأى الاستعمالات المتكرّرة في مثل رغب عنه في معنى الإعراض ورغب فيه في معنى التّمايل حصل له الحدس بأنّ كلمة عنه بعد فعل رغب قرينة عامّة على إرادة الإعراض وهكذا في كلمة فيه بعد فعل رغب قرينة عامّة على إرادة التّمايل.

بل رأي اللّغوي كثيرا ما يكون على أساس الحدس وإعمال النظر فإنّه وإن كان رأس ماله السّماع وتتبع موارد الاستعمالات إلّا أنّه لا بدّ له أيضا أن يقارن بين موارد الاستعمالات ويجتهد في تخريج وتجريد المعاني التي يستعمل فيها اللفظ والتي تستفاد من مجموع تلك المسموعات.

وبالجملة يجوز الرجوع إلى قول اللغوي فيما يكون فيه ماهرا وخبيرا من دون فرق بين موارد الاستعمالات وتعيين الظّهورات والحقيقة والمجاز.

١٠٤

٢ ـ الإجماع

والإجماع إمّا منقول وهو داخل في الأمارات الظنيّة ، وإمّا محصّل وهو من مصاديق القطع بالحكم ، وذكره في المقام لتوقف اعتبار الإجماع المنقول على معرفة الإجماع المحصّل ، وإلّا لكان المناسب هو ذكر الإجماع المحصّل في القطع وكيف كان فتحقيق الحال يتوقف على ذكر امور :

الأمر الأوّل : في المراد من الإجماع عند العامّة

واعلم أنّ الإجماع عند العامة هو اتفاق الكلّ ، والمراد من الكلّ إما اتفاق الأمّة أو اتفاق أهل الحلّ والعقد أو المجتهدين في عصر واحد. على أمر من الامور. والإجماع على كلّ تقدير عندهم حجّة بنفسه ودليل في مقابل الكتاب والسنّة ، واستدلوا له بما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّ أمّتي لا تجتمع على ضلالة ، فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم (١) ونحوه ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ الله أجاركم من ثلاث خلال : أن لا يدعو عليكم نبيّكم فتهلكوا ... وأن لا تجتمعوا على ضلالة. (٢)

أورد عليه بأنّه لا دليل على حجيّة الإجماع بنفسه ؛ إذ المروي المذكور عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ضعيف ومرسل ؛ لشهادة جملة من علمائهم بضعف أبى خلف الأعمى فى الطريق الأوّل وإرسال الثاني. هذا مضافا إلى أنّ الامّة لا تناسب إلّا اتفاق الأمّة ، فالدليل مختص بالشق الأوّل من معنى الاتفاق ، ولا يشمل غيره من الشقوق ، فتأمّل على أنّ الضلالة تستبطن الإثم والانحراف وهو أخص من الخطأ وعدم الحجيّة. (٣)

ثم لا مجال للتمسك بقوله عليه‌السلام في أخبار الخاصة : فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه. (٤) فإنّه في مقام ترجيح أحد المتعارضين على الآخر ، والمقصود أنّ الخبر الذي يكون مجمعا عليه لا ريب فيه ، ولا نظر فيه إلى نفس الإجماع في قبال الكتاب والسنّة.

__________________

(١) سنن ابن ماجة ٢ : ١٢٠٣

(٢) سنن ابى داود ٤ : ٩٨.

(٣) مباحث الحجج ١ : ٣٠٨.

(٤) الوسائل الباب ٩ من ابواب صفات القاضى ، ح ١.

١٠٥

الأمر الثاني : في المراد من الإجماع عند الخاصّة

ولا يخفي عليك أنّ الإجماع عند الخاصّة قد يطلق على اتفاق علمائنا من القدماء والمتأخرين ، وقد يطلق على اتفاق جماعة منهم كالقدماء أو المتأخرين أو علماء عصر واحد ، والإجماع بأي معنى كان ليس حجّة بنفسه عند الخاصّة ، بل حجيّته لأجل كشفه عن قول المعصوم أو تقريره ، وكلّ واحد منهما يكون من مصاديق السنّة ، وعليه فلا يكون الإجماع عندنا في مقابل الكتاب والسنّة ، بل هو من مصاديق السنّة.

الأمر الثالث : في وجوه استكشاف رأى المعصوم

الوجه الأوّل :

الحسّ ، كما إذا سمع الحكم من الإمام في جملة جماعة لا يعرف أعيانهم ، وهو الذي يسمّى بالإجماع الدخولي والتشرفي ، فيحصل له العلم بقول الإمام ، وهذا الفرض نادر جدّا وعلى فرض وجوده لا إشكال فى حجيّته ؛ لأنّ المعرفة الإجمالية بوجود الإمام تكفي في الحجيّة ، ولا يلزم فى الحجيّة أن تكون المعرفة تفصيلية ، كما لا يخفى.

الوجه الثاني :

قاعدة اللطف ، وهذه هي التي ذهب إليها الشيخ الطوسي قدس‌سره في العدة حيث قال في حكم ما إذا اختلفت الإمامية (الأمة خ ل) على قولين يكون أحد القولين قول الإمام على وجه لا يعرف بنفسه والباقون كلهم على خلافه : إنّه متى اتفق ذلك ؛ فإن كان على القول الذي انفرد به الإمام دليل من كتاب أو سنة مقطوع بها لم يجب عليه الظهور ولا الدلالة على ذلك ؛ لأنّ الموجود من الدليل كاف في ازاحة التكليف ، ومتى لم يكن عليه دليل ، وجب عليه الظهور أو إظهار من تبين الحق فى تلك المسألة إلى ... أن قال : وذكر المرتضى علي بن الحسين الموسوى أنّه يجوز أن يكون الحق عند الإمام والأقوال الأخر كلها باطلة ، ولا يجب عليه الظهور ؛ لأنّا إذا كنا نحن السبب في استتاره فكل ما يفوتنا من الانتفاع به وبما يكون معه من الأحكام قد فاتنا من قبل أنفسنا ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به وأدّى إلينا الحق الّذي كان عنده.

١٠٦

قال الشيخ الطوسي : وهذا عندي غير صحيح ؛ لأنّه يؤدي إلى أن لا يصح الاحتجاج بإجماع الطائفة اصلا.

وتبعه فخر الدين والشهيد والمحقق الثاني على المحكي حيث اشترطوا في تحقق الإجماع عدم مخالفة أحد من علماء العصر ، وحيث صرحوا بعدم مانعية قول الميت لانعقاد الإجماع ، وقالوا بأنّه لا قول للميّت بالإجماع ، على أنّ خلاف الفقيه الواحد لسائر أهل عصره يمنع من انعقاد الإجماع اعتدادا بقوله واعتبارا بخلافه ، فإذا مات وانحصر أهل العصر في المخالفين له انعقد وصار قوله غير منظور إليه ولا يعتدّ به.

وعليه فالإجماع الاصطلاحي عندهم هو اتفاق علماء الإمامية في عصر واحد على أمر ، وأنّهم يدّعون كما في المحكي عن المحقق الداماد قدس‌سره أنّ من الرحمة الواجبة في الحكمة الإلهية أن يكون في المجتهدين المختلفين في المسألة المختلف فيها من علماء العصر من يوافق رأيه رأي إمام عصره وصاحب أمره عليه‌السلام.

اورد على الشيخ ومن تبعه بأنّ قاعدة اللطف ليست تامة في باب النبوة ولا في باب الإمامة.

ويمكن أن يقال : إنّ قاعدة اللطف والحكمة الالهية تامّة ، والتخلف فيها يوجب نقض الغرض والخلف في الحكمة الإلهية مع أنّ هداية العباد مما تعلّقت به الإرادة الحتمية الإلهية ، وموارد الهداية الإلهيّة لا تقاس بالموارد التي يصل إليها الإنسان بالتجارب في أموره ومعيشته طيلة حياته. وقد ذكرنا تفصيل الكلام حولها في رسالة منفردة مطبوعة بمناسبة ذكرى الشيخ الانصارى فراجع.

ولكن تماميّة القاعدة في البابين لا تستلزم جواز الاستدلال بها في المقام ؛ لما أشار إليه السيد المرتضى قدس‌سره في المقام من أنّ السبب لاستتار الإمام وذهاب الآثار هو نفس المكلفين ، فاللطف محقق في المقام ولكن هم أنفسهم يمنعون عن انجازه وتحققه وإدامته وإيصاله بالنسبة إليهم : إذ الأئمة عليهم‌السلام قد بينوا الأحكام للرواة المعاصرين بالنحو المتعارف ، فلو لم

١٠٧

تصل إلى الطبقة اللاحقة بسبب تقصيرهم ليس على الإمام رفع الموانع التي تحققت بفعل العباد وعصيانهم أنفسهم ولا إيصال الأحكام إليهم بطريق متعارف فضلا عن غير متعارف بعد كون الضياع بفعلهم أنفسهم.

وما ذكره الشيخ من أنّ عدم حجية الإجماع يؤدي إلى عدم صحة الاحتجاج بإجماع الطائفة أصلا منظور فيه ، كما سيأتي بيانه ، قال في الدرر : وليس هذا الطريق صحيحا ؛ لعدم تماميّة البرهان الذي أقيم عليه ، فانه بعد غيبة الإمام عليه‌السلام بتقصير منا كل ما يفوتنا من الانتفاع بوجوده الشريف وبما يكون عنده من الأحكام الواقعيّة قد فاتنا من قبل أنفسنا فلا يجب عليه عقلا أن يظهر المخالفة عند اتفاق العلماء إذا كان اتفاقهم على خلاف حكم الله الواقعى. (١)

الوجه الثالث :

تقرير المعصوم كما ذهب إليه بعض الأعلام ، وبيان ذلك : أنّ الاجماع إذا كان في غير المسائل التفريعية من الاصول المتلقاة واتصل إلى زمان المعصوم وكان في مرأى ومنظر الإمام ولم يرشدهم إلى خلاف ما اتفقوا عليه فهو تقرير له بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه ، وإلّا لزم عليه مع حضوره وشهوده أن يبيّن خطئهم ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الإجماع المذكور معلوم المدرك أو محتمله وبين أن لا يكون ، بل لا فرق بين أن يكون مدركهم صحيحا أو غير صحيح ؛ نعم اللازم ان يكون المسألة من الاصول المتلقاة لا المسألة التفريعية الفرضية التى لا يكون مع قطع النظر عن الامامة في المرأى ومنظر الامام وان يكون المسألة مورد الابتلاء وشايعة بحيث لو ردّ الامام لبان ووصل الينا لا المسألة النادرة التى لورد الامام فيها لم يصل الينا.

وعليه فالإجماع الاصطلاحي هو إجماع القدماء المتصل بإجماع أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، ولا يضر به اختلاف المتأخرين أو إجماعهم على الخلاف بعد ما عرفت من كشف تقرير الإمام

__________________

(١) الدرر : ٣٧٢.

١٠٨

لما ذهب اليه أصحابنا المتقدمون وإن لم يكن ما استدلوا به تامّا من جهة السند أو الدلالة ، وعليه فيشكل الحكم بخلاف رأي المتقدمين في الصورة المذكورة بل لا يضرّ به مخالفة نادر في زمان القدماء مع الإجماع المذكور فإنّ ارجاع الناس نحو ما ذهب إليه الجلّ والاكتفاء بالنادر يعدّ تقريرا للخطإ كما لا يخفى.

وبالجملة لا اشكال فيه بحسب مقام الثبوت ، وإنّما الإشكال في كيفية إحراز ذلك ؛ إذ لا وسيلة لإحراز آراء الاصحاب إلّا بالحدس ، كما إذا رأينا القدماء أجمعوا على خلاف العامة فحصل الحدس حينئذ بتوافق آراء الأصحاب وعليه فيؤول هذا الوجه إلى الوجه الرابع في النهاية كما سيأتى إن شاء الله تعالى.

نعم الحدس هنا تعلق بإجماع الأصحاب ، بخلاف الوجه الرابع فإنّ الحدس هناك تعلق بالنص ، إلّا أن يكتفى بشهادة بعض القدماء على الإجماع المحصّل بينهم فتدبر جيدا.

الوجه الرابع :

هو الحدس كما ذهب إليه جماعة من المتأخرين ، وهو على أقسام : أحدها : أن يحصل لنا العلم برأي المعصوم بالحدس الضروري الحاصل من مبادئ محسوسة بحيث يكون الخطأ فيه من قبيل الخطأ في الحس ، والمراد من المبادئ المحسوسة هي رؤية الفتاوى أو استماع الأقوال.

وثانيها : أن يحصل لنا العلم المذكور بالحدس الاتفاقي من فتوى جماعة وإن لم تكن كذلك بحسب العادة ، كما حكي ذلك عن بعض الفحول بالنسبة إلى اتفاق الشيخين والفاضلين والمحققين في الفتاوى مع عدم استنادهم إلى دليل ، للعلم بعدم اجتماعهم على الخطأ.

وثالثها : أن يحصل لنا العلم المذكور بالحدس من مقدمات نظرية وعقلية ، كما إذا رأينا اتفاقهم في بعض المسائل الأصولية أو القواعد الفقهية وزعمنا أنّ مورد الكلام والبحث من موارد هذه المسائل والقواعد حصل لنا الحدس بأنّ رأي الآخرين في هذا المورد يكون كذا وكذا مع أنّا لم نر آراءهم ولم نسمع اقوالهم.

١٠٩

ثم لا يخفى عليك أنّه لا مجال للأخير من أقسام الحدس ؛ لعدم صحة نسبة الآراء والأقوال إليهم بمجرد اتفاقهم على بعض القواعد والاصول مع احتمال الخطأ في التطبيق وعدم كون المورد من مواردهما هذا مضافا إلى احتمال كون رأيهم على خلافها من جهة احتمال ورود دليل خاصّ فيه.

كما أنّه لا مجال للقسم الثاني ؛ لندرة حصول العلم بدليل تامّ من رأي جماعة معدودة من العلماء.

فانحصر الأمر في القسم الأوّل ، وله تقاريب :

منها : ما مرّ في ثالث الوجوه من أنّ اجماع القدماء إذا كان متصلا بإجماع أصحاب الأئمة عليهم‌السلام حصل لنا العلم بتقرير المعصوم بالنسبة إلى آرائهم ، ولعلّ ذلك يحرز في موارد كان رأي علماء الإمامية على خلاف العامّة ولا يرد على هذا التقريب الإشكالات الواردة على التقريب الآتي.

ومنها : أنّ الإجماع المحصل سواء كان من القدماء أو المتاخرين يكشف عن وجود النص إذا كان مورد الاجماع مخالفا للقواعد والاصول ولم يستندوا إلى دليل ؛ لأنّ العلماء مع كثرة اختلافاتهم واختلاف مبانيهم ومشاربهم إذا فرض اتفاقهم في مسألة من المسائل ، فلا محالة يحصل بذلك الحدس القطعي أو الاطمئناني بتلقّيهم ذلك ممن يكون قوله حجة عند الجميع ، كما في نهاية الاصول. (١)

وبعبارة أخرى : أنّ الإجماع حجّة ؛ لرجوعه إلى وجود السنة بينهم ، وهي غير واصلة إلى المتأخرين عنهم وكأن ذلك الدليل نقي الدلالة والسند وتاما من جهة الصدور بحيث إذا وصل إلى المتأخرين عنهم لنا لوا منه ما نالوا منه. (٢) ولعلّ هذا الحدس لا يتوقف على الاتفاق ، بل يحصل بإجماع جلّ الأصحاب.

__________________

(١) نهاية الاصول : ٥٣٣.

(٢) فوائد الاصول ٣ : ١٥٣ ـ نهاية الافكار ٣ : ٩٨.

١١٠

ولكن يرد على التقريب الأخير :

أوّلا : أنّه ليس تاما بنحو الكلية ؛ لعدم العلم بالملازمة العادية بين إجماع العلماء على أمر وبين العلم بتلقيهم ذلك من المعصوم عليه‌السلام مع وجود الأدلة العقلية في المسألة أو مع كون المسألة من المسائل التفريعية الّتي استنبطها الفقهاء من الاصول المتلقاة والقواعد الكلية باعمال النظر والاجتهاد ، فإجماع العلماء في أمثالها لا يكشف عن تلقّيهم عن المعصومين عليهم‌السلام بل غايته أنّه يكون من باب التوافق في الفهم والنظر. نعم لو كانت المسألة من المسائل النقليّة المحضة واتفق عليها الفقهاء الذين لا يتعبدون إلّا بالنقل طبقة بعد طبقة إلى عصر المعصومين علم منه قهرا أنّهم تلقوها منهم بعد ما أحرزنا أنّهم لم يكونوا ممن يفتي بالقياس والاستحسانات العقلية والاعتبارات الظنية. (١)

ويمكن أن يقال : إنّ مورد كلام القائلين بالحدس بالتقريب الثاني هو ما إذا كانت المسألة من المسائل النقليّة المحضة وكانت خلاف القاعدة فاتفاقهم حينئذ يكشف عن وجود النصّ بينهم وإن لم يصل إلينا ، ولكن لا يلزم من التقريب المذكور أن يتصل الاجماع إلى عصر المعصومين ، بل يكون إجماع المتأخرين أيضا كذلك.

وثانيا : أنّ هذه الطريقة موهونة بدعوى أنّ من البعيد جدا أن يقف الكليني أو الصدوق أو الشيخ ومن بعده على رواية متقنة دالة على المقصود ومع ذلك تركوا نقلها وهي تصير مكشوفة بالإجماع في عصر الكليني أو الصدوق أو الشيخ او بعده.

ويمكن أن يقال ربّما لم يكن مورد فتاوى القدماء مرويّا بالأسناد بل كان من المسلمات بينهم ولعله لذا لم يرووها في كتبهم وعليه فيصح أن يقال : إنّ الشهرة الفتوائية بشيء عند قدماء الأصحاب يكشف عن كون الحكم مشهورا في زمن الائمة بحيث صار الحكم في الاشتهار بمنزلة أوجبت عدم الاحتياج إلى السؤال عنهم ، كما نشاهده في بعض المسائل الفقيهة. وبالجملة ان اشتهار حكم بين الأصحاب يكشف عن ثبوت الحكم في الشريعة المطهرة ومعروفيته من لدن عصر الأئمة عليهم‌السلام. (٢)

__________________

(١) نهاية الاصول : ٥٣٤.

(٢) تهذيب الاصول ٢ : ١٠٠.

١١١

وثالثا : أنّ دعوى الملازمة العادية بين الاجماع وقول المعصوم عليه‌السلام بدعوى أنّ العادة تحكم بأنّ اتفاق المرءوسين على أمر لا ينفك عن رأي الرئيس إنّما تتم فيما إذا كان المرءوسون ملازمين لمحضر رئيسهم ، وأنّى ذلك في زمان الغيبة؟!

نعم الملازمة الاتفاقية بمعنى كون الاتفاق كاشفا عن قول المعصوم أحيانا من باب الاتفاق مما لا سبيل إلى إنكارها ، إلّا أنّه لا يثبت بها حجيّة الإجماع بنحو الإطلاق. (١)

ويمكن الجواب عنه بأنّ إجماع الفقهاء المعاصرين لعصر الغيبة الصغرى بل بعدها بقليل مما يوجب الكشف عن كون الحكم إجماعيا عند أصحاب الأئمة عليهم‌السلام أيضا ، فالملازمة المذكورة حاصلة في هذا الفرض ، وأمّا في فرض عدم اتصال إجماع العلماء بإجماع الاصحاب فالإجماع يكشف عن النص فيما إذا كان الحكم مخالفا للقواعد والاصول ، ولا موجب لاعتبار ملازمة المرءوسين للحضور عند الرئيس في هذا الفرض ، كما لا يخفى.

ورابعا : أنّ غاية ما يقتضيه الإجماع على التقريب المذكور أنّ الفقهاء لعدالتهم لا يفتون بدون المستند ، وأمّا أنّه تامّ سندا ودلالة فلا دليل له ، بل يمكن أن يكون عندنا غير تام من جهتين. (٢)

واجيب عنه بأنّ اتفاق الأصحاب مع اختلاف مشاربهم يكفي في إحراز أنّ السند تام والدلالة ظاهرة ، قال في تحريرات في الاصول : فالمناقشة في هذا المسلك تارة باختلاف نظر المجمعين مع غيرهم في حجيّة السند ، وأخرى بأن من المحتمل كون الخبر غير تام الدلالة ، قابلة للدفع ؛ ضرورة أنّ من اتفاقهم في الحكم يتبيّن أنّ السند مورد وثاقتهم الخاصّة ، ومن اتفاق القدماء وأرباب الحديث الأوّلين الذين هم لا يعملون الاجتهادات الدقيقة في فتاويهم يحصل الوثوق والاطمينان بأنّ الخبر الموجود عندهم ظاهر (٣) ولكن الانصاف : أنّ حصول الاطمينان بتمامية الدليل سندا ودلالة عندنا مشكل بعد ما رأينا من وقوع الخلاف بين المتأخرين والمتقدمين في مسألة منزوحات البئر.

__________________

(١) راجع مصباح الاصول ٢ : ١٤٠.

(٢) نهاية الدراية ٢ : ٦٨.

(٣) تحريرات في الاصول ٦ ، ٣٦٠.

١١٢

ربّما يقال في الجواب عن هذا الاشكال : إنّ المأخذ ليس هو استكشاف مدرك روائي وصلهم ولم يصلنا ليلاحظ عليه بالملاحظتين ، بل استكشاف ما هو أقوى من الرواية ، وهو الارتكاز الكاشف تكوينا وقطعا عن رأي المعصوم بالنحو المتقدم شرحه. (١)

ولا يخفى ما فيه : فإنّ الكلام في الإجماعات لا السيرة والارتكازات الشرعية ، ولعله خلط بين الإجماع والسيرة ، هذا مضافا إلى أنّ هذا الجواب لا يدفع الإشكال عن الإجماعات غير المتصلة.

وكيف كان فالإجماع المحصّل المبتني على مباد محسوسة يكشف عن وجود النصّ عند تمامية الخصوصيات اللازمة للكشف المذكور ، ولكن تمامية الدليل من جهة الدلالة والسند عندنا غير محرزة ، فالأولى هو العدول عن هذا التقريب إلى التقريب السابق من أنّ الإجماع المتصل بإجماع الأصحاب حيث كان في مرأى ومسمع الإمام ولم يردع عنه يكشف عن كون ما ذهب إليه الأصحاب مرضيا عنده عليه‌السلام ، ولا فرق في ذلك التقريب بين أن يكون له المستند أو لا يكون ، وبين أن يكون المستند تامّ الدلالة أو لا يكون ، وبين أن يكون المسألة موافقة للقاعدة أو لا تكون إذ الإجماع المحصّل في هذا التقريب يكشف على جميع التقادير عن تقرير الإمام المعصوم عليه‌السلام نعم اللازم ان تكون المسألة من الاصول المتلقاة لا التفريعية الفرضية وان تكون من المسائل الشائعة لا النادرة كما اشرنا اليه آنفا.

وما اشتهر من أنّ الإجماع المعلوم المدرك أو محتمله لا يكشف عن شيء لا يجري في هذا التقريب ، بل هو مربوط بالإجماع غير المتصل إلى زمان المعصوم كإجماع المتأخرين ، ويلحق بذلك أيضا حجيّة فهم الأصحاب لأنّه هم الاتصال إلى زمان المعصوم كان حجّة لتقرير الإمام المعصوم ذلك الفهم فلا تغفل.

الأمر الرّابع : في الإجماع المنقول بحسب مقام الثبوت

واعلم أنّ الإجماع المنقول إمّا إخبار عن السبب وهي الفتاوى ، فإن كان إخبار الناقل

__________________

(١) مباحث الحجج ١ : ٣١٤.

١١٣

بها اخبارا عن الحسّ كما إذا رأى الناقل فتاويهم في كتبهم أو استمع منهم أو بواسطة المشايخ فلا إشكال في حجيّته قضاء لأدلّة حجية الخبر الواحد ؛ لأنّ الخبر حسّي ، والخبر الحسّي حجة ببناء العقلاء وإمضاء الشارع ، فحينئذ إن كان المقدار الذي أخبر به الناقل كافيا عند المنقول إليه للكشف عن رأي المعصوم أو تقريره فهو كالمحصّل ، ولا يضر بذلك كون الكشف المذكور حدسيا بعد كونه من لوازم الإخبار الحسّي ؛ فإنّ لوازم الأمارات ولو كانت برهانيّة أو حدسية تثبت بثبوت الأمارات ، والمفروض أنّ الإخبار عن الامر الحسي أمارة على الفتاوى بمقدار يلزم منه الحدس ، فكما أنّ الأمارة حجّة بالنسبة إلى السبب وهو نفس الفتاوى فكذلك تكون حجة بالنسبة إلى لوازمها من الحدس والكشف عن قول الإمام أو تقريره عليه‌السلام. نعم لا يحرز كون الإخبار عن الحسّ ورؤية الكلمات أو استماع الأقوال إلّا إذا كان الناقل ممن يكون مشرفا على الأقوال والآراء ومطلعا عليها كصاحب مفتاح الكرامة والعلامة في المتأخرين وكالشيخين في المتقدمين فيما إذا نقلا رأي الأصحاب بالحسّ ؛ فإنّ الفتاوى تكون عند أمثالهم محسوسة أو قريبة من الحسّ ، كما لا يخفى.

ولو شك في كون الإخبار عن حسّ أو حدس ، فإن قامت قرينة على أحدهما فهو ، وإلّا فقد يقال : إنّ بناء العقلاء على حمله على الإخبار عن الحسّ كما إذا شك في الشهادة كذلك يحمل عليه :

ولكن لا يبعد أن يكون ذلك فيما إذا لا يكون النقل باعتقاد الملازمة عقلا كما هو المفروض وإلّا فلا بناء للعقلاء ، لأنّهم لا يرون بينهما ملازمة فلا تغفل. وايضا لا يكون هذا البناء فيما إذا كان الاحتمال المذكور أى الإخبار عن الحس احتمالا بعيدا في حق الناقل.

وإن كان المقدار الذي أخبر به الناقل عن الحسّ غير كاف للحدس المذكور ولكن يوجب الحدس بضميمة أقوال أو أمارات اخرى فهو أيضا حجة فيما إذا أمكن تحصيل الضميمة ؛ فان الإخبار بالمقدار المذكور ينتهي بالآخرة إلى حكم شرعي أو موضوع شرعي فيكون مرتبطا به ، وهو يكفي في شمول أدلة اعتبار الخبر الواحد ؛ ولذلك قال في الكفاية : و

١١٤

لا تفاوت في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمام السبب أو ما للمخبر به دخل في السبب وبه قوام السبب ، كما يشهد به حجية الخبر بلا ريب في تعيين حال السائل أو خصوصية القضية الواقعة المسئول عنها ، وغير ذلك مما له دخل في تعيين مرامه عليه‌السلام من كلامه. (١)

اورد عليه بأنّ في موارد نقل جزء السبب إن اريد اثبات الحجيّة له بلحاظ الحكم الشرعى أو موضوع شرعي يكون مدلولا التزاميا له ، فالمفروض هو عدم ملازمة المقدار المذكور لذلك ليكون له مدلولا التزاميا ، وإن اريد ذلك بلحاظ مدلوله المطابقي فليس حكما شرعيا ولا موضوعا له أيضا.

ويمكن أن يقال : يكفي في الاعتبار أن ينتهي الإخبار المذكور إلى حكم أو موضوع شرعي ولو بالوسائط والضمائم ، ولا موجب لاعتبار الأثر لنفس المنقول ، وحينئذ إن لم يصدق العادل دار الامر بين تكذيب العادل وهو ينافي أدلّة الاعتبار ، وبين عدم القول بالملازمة بعد ضم الضميمة وهو خلف في اعتقاد المنقول إليه بالملازمة بين السبب التام ولو بضم الضميمة وبين رأي المعصوم أو تقريره عليه‌السلام.

هذا ، مضافا إلى إمكان أن يقال : إنّ في مثله أيضا يوجد مدلول التزامي ، وهو قضية شرطية أنّه إذا ما توفر الجزء الآخر ـ المفروض توفره ـ كان ذلك مطابقا مع قول المعصوم ، وحجيّة هذا المدلول الالتزامي كاف لنا ، كما لا يخفى. (٢)

وإن كان إخبار الناقل عن الحدس كأن يرى المورد من موارد قاعدة أو أصل أجمع عليها كما لعله كثير في الاجماعات المنقولة فلا دليل على حجيّته ؛ لاختصاص أدلة حجيّة الإخبار بالأمور الحسية أو القريبة بها لا الحدسية ، كما لا يخفى.

هذا كله بالنسبة إلى الإخبار عن السبب وهو فتاوى العلماء والأصحاب ، وقد عرفت حجيّته إذا كان الإخبار مستندا إلى الحسّ أو ما يقرب منه وهكذا يكون حجة إذا كان نقله

__________________

(١) الكفاية ٢ : ٧٤.

(٢) مباحث الحجج ١ : ٣١٨.

١١٥

متضمنا لنقل السبب أو المسبب مستندا إلى الحسّ بخلاف ما إذا لم يكن مستندا إلى الحسّ بل إلى الحدس ؛ فإنّه لا يكون حجّة هذا كله بحسب مقام الثبوت.

الأمر الخامس : في كيفية الإجماعات المنقولة بحسب مقام الإثبات

ولا يخفى عليك أنّ الاجماعات المنقولة بحسب مقام الإثبات قد تكون مستندة إلى الحس أو ما يقرب منه ، وتكون حينئذ كاشفة عن رأي الإمام أو تقريره عليه‌السلام ، ولا كلام فيها عند إحرازها ، ولكنها نادرة وقد تكون مبتنية على الحدس ولي الغالب قال في الكفاية :

الإجماعات المنقولة في ألسنة الأصحاب غالبا مبنية على حدس الناقل أو اعتقاد الملازمة عقلا ، فلا اعتبار لها ما لم ينكشف أنّ نقل السبب كان مستندا إلى الحس. (١)

وعليه فلا فائدة لنقل هذا الغالب ولو مع انضمام الأمارات الاخرى ، نعم جملة من الإجماعات تكون مبتنية على الحسّ ولكن تحتاج إلى ضمّ الضمائم في الاستكشاف والاستلزام المذكور ، ولا إشكال في حجيّتها عند انضمامها مع ما يتم الكشف المذكور عن النص التام الدلالة أو تقرير الإمام عليه‌السلام ، قال الشيخ الأعظم قدس‌سره : إنّ الناقل للاجماع إن احتمل في حقه تتبع فتاوى من ادعى اتفاقهم حتى الإمام الذي هو داخل في المجمعين فلا إشكال في حجيّته وفي الحاقه بالخبر الواحد ؛ إذ لا يشترط في حجيّته معرفة الامام عليه‌السلام تفصيلا حين السماع منه ، لكن هذا الفرض ممّا يعلم بعدم وقوعه وأنّ المدّعي للإجماع لا يدّعيه على هذا الوجه.

وبعد هذا ، فإن احتمل في حقه تتّبع فتاوى جميع المجمعين ، والمفروض أنّ الظاهر من كلامه هو اتفاق الكلّ المستلزم عادة لموافقة قول الإمام فالظاهر حجيّة خبره للمنقول إليه سواء جعلنا المناط في حجيّته تعلق خبره بنفس الكاشف الذي هو من الامور المحسوسة المستلزمة ضرورة لأمر حدسي وهو قول الإمام عليه‌السلام ، أو جعلنا المناط تعلق خبره بالمنكشف وهو قول الإمام عليه‌السلام ؛ لما عرفت من أنّ الخبر الحدسي المستند إلى إحساس ما هو ملزوم للمخبر به عادة كالخبر الحسّي في وجوب القبول. إلى أن قال : لكنّك خبير بأنّ هذه

__________________

(١) الكفاية ٢ : ٧٣.

١١٦

الفائدة للإجماع المنقول كالمعدومة ؛ لأنّ القدر الثابت من الاتفاق بإخبار الناقل المستند إلى حسّه ... ليس مما يستلزم عادة وجود الدليل المعتبر حتى بالنسبة إلينا ، لأنّ استناد كل بعض منهم إلى ما لا نراه دليلا ليس أمرا مخالفا للعادة ، ألا ترى أنّه ليس من البعيد أن يكون القدماء القائلون بنجاسة البئر بعضهم قد استند إلى دلالة الأخبار الظاهرة في ذلك مع عدم الظفر بما يعارضها ، وبعضهم قد ظفر بالمعارض ولم يعمل به لقصور سنده أو لكونه من الآحاد عنده أو لقصور دلالته أو لمعارضته لأخبار النجاسة وترجيحها عليه بضرب من الترجيح ، فإذا ترجح في نظر المجتهد المتأخر أخبار الطهارة فلا يضره اتفاق القدماء على النجاسة المستند إلى الامور المختلفة المذكورة.

وبالجملة فالانصاف بعد التأمّل ... إلى أن قال : إنّ اتفاق من يمكن تحصيل فتاويهم على أمر كما لا يستلزم عادة موافقة الإمام عليه‌السلام كذلك لا يستلزم وجود دليل معتبر عند الكل من جهة أو جهات شتّى ، فلم يبق في المقام إلّا أن يحصّل المجتهد أمارات أخر من أقوال باقي العلماء وغيرها ليضيفها إلى ذلك ، فيحصل من مجموع المحصّل له والمنقول إليه الذي فرض بحكم المحصّل من حيث وجوب العمل به تعبّدا القطع في مرحلة الظاهر باللازم وهو قول الإمام عليه‌السلام أو وجود دليل معتبر الذي هو أيضا يرجع إلى حكم الإمام عليه‌السلام بهذا الحكم الظاهري والمضمون لذلك الدليل.

ولكنّه أيضا مبنيّ على كون مجموع المنقول من الأقوال والمحصّل من الأمارات ملزوما عاديا لقول الإمام أو وجود الدليل المعتبر ، وإلّا فلا معنى لتنزيل المنقول منزلة المحصّل بأدلّة حجيّة خبر الواحد (١)

حاصله : هو منع الإجماع المنقول المبتني على الحسّ ودخول الإمام في المجمعين ؛ لندرته ، بل العلم بعدمه ، ومنع استلزام الإجماع المنقول على الحسّ للنصّ التام الدلالة عندنا بحسب العادة ، وهو صحيح وإن كان التعليل لعدم الاستلزام بقوله (لأنّ استناد كل بعض منهم إلى

__________________

(١) فرائد الاصول : ٦٣ ـ ٦٤.

١١٧

ما لا نراه دليلا ليس أمرا مخالفا للعادة ألا ترى الخ) لا يخلو عن النظر ؛ لأنّ الكلام في الاجماعات التى لم تكن مستندة إلى مدرك ومستند ، فالإجماع المدّعى في نجاسة البئر معلوم المدرك وخارج عن محل البحث ؛ لأنّه لا يكشف عن نصّ آخر.

اللهم إلّا أن يكون مقصوده بيان ما يكون في الواقع مدركا للمجمعين وإن لم يكن الإجماع مدركيا عندنا ؛ إذ من المحتمل أنّهم استندوا في آرائهم في الواقع بما لا نراه دليلا لو وصل إلينا ، والتنظير بمنزوحات البئر من هذه الناحية ، وهذا الاحتمال لا يكون أمر مخالفا للعادة.

وعليه تسقط الإجماعات سواء كانت محصّلة أو منقولة عن الحجيّة ؛ لعدم كشفها عن الدليل التام عندنا ، ومع عدم كشفها عن الدليل التامّ لا تكون مشمولة لأدلّة حجيّة الأخبار ، ولا فرق في الإجماعات بين أن تكون بمقدار يكفي للكشف عن النّص وبين أن لا تكون كذلك ؛ لعدم كونها سببا للنص التامّ عندنا. نعم تتم الإجماعات المنقولة في المسائل الاصلية المبتنية على الحسّ المتصلة بإجماعات أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ؛ فإنّها تكشف كما عرفت عن تقرير المعصوم عليه‌السلام وإن علمنا بكونها مستندة إلى المدارك التي لا تكون تامّة عندنا ، وذلك لتقرير الامام عليه‌السلام بالنسبة إلى ما ذهبوا إليه ، فلا يمكن التقرير مع خطئهم في ذلك ، فلا تغفل.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه : عدم حجيّة الإجماع إلّا الإجماع المتّصل بإجماع الاصحاب الكاشف عن تقرير المعصوم من دون فرق بين المحصّل والمنقول إذا كان المنقول عن حسّ ؛ لكونه مشمولا لأدلة حجيّة الخبر الواحد ولا تفاوت أيضا في كون المنقول تمام السبب أو جزء السبب فيما إذا أمكن تتميمه بسائر الآراء والأمارات بحيث يتّصل بإجماع أصحاب الائمة عليهم‌السلام ويكشف عن تقرير المعصوم عليه‌السلام.

١١٨

الخلاصة

٢ ـ الإجماع

والإجماع إمّا منقول وهو داخل في الأمارات الظّنيّة وإمّا محصّل وهو لهذا السبب من مصاديق القطع هو ذكره في القطع لا في المقام ولعلّ ذكره من باب توقف معرفة المنقول عليه وكيف كان فتحقيق الحال في الإجماع يتوقف على ذكر امور.

الأمر الأوّل :

في المراد من الإجماع عند العامّة.

واعلم أنّ المراد منه عندهم هو اتفاق الكلّ ويقصدون منه إمّا اتفاق الأمّة أو اتفاق أهل الحلّ والعقد أو اتفاق المجتهدين في عصر واحد على أمر من الامور.

وعلى كلّ تقدير يكون الإجماع عندهم حجّة بنفسه ودليل في قبال الكتاب والسّنة.

واستدلّوا له بالنبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسّواد الأعظم.

أو أنّ الله أجاركم من ثلاث خلال أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا ... وأن لا تجتمعوا على ضلالة.

اورد عليه بضعف السّند والإرسال واختصاص الدّليل بالشقّ الأوّل من معنى الاتفاق هذا مضافا إلى أنّ الضّلالة تستبطن الإثم والانحراف وهو أخصّ من الخطأ وعدم الحجّيّة.

الأمر الثّاني :

في المراد من الإجماع عند الخاصّة.

ولا يخفى أنّ الإجماع عندهم قد يطلق على اتفاق العلماء من القدماء والمتأخّرين وقد يطلق على جماعة من العلماء كالقدماء أو المتأخّرين أو علماء عصر واحد.

والإجماع بأيّ معنى كان لا يكون حجّة بنفسه وإنّما حجيّته من ناحية كشفه عن قول المعصوم أو تقريره ومن المعلوم أنّ المكشوف من مصاديق السنّة وعليه فلا يكون الإجماع عند الخاصّة شيئا مستقلا في قبال الكتاب والسنّة.

١١٩

الأمر الثّالث :

في وجوه الكشف

الوجه الأوّل : الحسّ كما إذا سمع الحكم من الإمام في جملة جماعة لا يعرف أعيانهم وهو الذي يسمّى بالإجماع الدّخولي والتشرّفي وهذا نادر وعلى فرض وجوده لا إشكال في حجّيّته.

الوجه الثّاني : قاعدة اللطف ذهب جماعة إلى أنّ الإجماع الاصطلاحي وهو اتفاق علماء الإماميّة في عصر واحد على أمر حجّة وكاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام إذ من الرحمة الواجبة في الحكمة الإلهية أن يكون في المجتهدين من علماء العصر من يكون رأيه موافقا لرأي إمام عصره وصاحب أمره ومع عدم ذلك لزم أن يكون الآراء كلّها باطلة وهو ينافي الحكمة المذكورة فإذا اتّفقوا على أمر علم بقاعدة اللطف أنّه رأى المعصوم وهو حجّة ولكن المحكي عن السّيد المرتضى وأنّه يجوز أن يكون الحق عند الإمام والأقوال الأخر كلّها باطلة ولا يجب عليه الظّهور لأنّا إذا كنّا نحن السّبب في استتاره فكلّ ما يفوتنا من الانتفاع به وبما يكون معه من الأحكام قد فاتنا من قبل أنفسنا ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر الانتفاء وانتفعنا به وأدّى إلينا الحق الذي كان عنده.

وربّما يؤيّد ذلك بأنّ قاعدة اللطف ليست تامّة في باب النبوّة ولا في باب الإمامة.

ويمكن أن يقال إنّ قاعدة اللطف والحكمة الإلهية تامّة والتخلّف عنهما يوجب نقض الغرض أو الخلف في الحكمة الإلهية مع أنّ هداية العباد ممّا تعلّقت به الإرادة الحتميّة الإلهيّة ولكن تماميّتها في البابين لا تستلزم جواز الاستدلال بها في المقام لما أشار إليه السيّد المرتضى فلا تغفل.

الوجه الثّالث : تقرير المعصوم كما أفاده بعض الأعلام وبيانه أنّ الإجماع إذا كان في الاصول المتلقاة واتّصل إلى زمان المعصوم وكان بمرأى وبمنظر الإمام عليه‌السلام ولم يرشدهم إلى خلاف ما اتفقوا عليه فهو تقرير له بالنّسبة إلى ما اتفقوا عليه.

١٢٠