عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

١
٢

٣
٤

٥
٦

تتمة

المقصد السادس

فى الامارات والحجج المعتبرة

شرعا او عقلا

٧
٨

الباب الثّاني : في الظنّ

الفصل الخامس

في الأمارات التي ثبتت حجّيتها بالأدلّة أو قيل بثبوتها

واعلم أنّ مقتضى الأصل هو عدم طريقيّة الظن وعدم حجيّته وحرمة اسناده الى المولى والتعبد به ولكن يخرج عن هذا الأصل ظنون من جهة قيام الأدلة على حجيتها وهي :

١ ـ الظّهورات اللفظيّة

ولا يخفى أنّ الظّهورات الكلاميّة المرادة حجّة عند العقلاء ، ولذا يحكمون بوجوب اتّباعها في تعيين مراداتهم ، ويحتج بها كل متكلم وسامع على الآخر فإذا كان شيء مستفادا من الكلام أخذ به المتكلم وجعله حجة على مراده وتمسك به السامع وجعله حجّة على مراد المتكلم.

وهذا هو معنى الحجّة ، فالظهورات حجّة المتكلم وحجّة السامع عند العقلاء

واستقر بناؤهم على العمل بها في جميع مخاطباتهم من الدعاوى والأقارير والوصايا والشهادات والمكاتبات والإنشاءات والإخبارات وغيرها. ولا اشكال ولا خلاف في ذلك ، نعم سيأتي الخلاف في اعتبار بعض القيود وعدمه في الحجيّة ان شاء الله تعالى.

ثم إنّ طريقة الشارع في إفادة مراداته ليست مغايرة لطريقة العقلاء في محاوراتهم ؛ لأنّ الشارع لم يخترع طريقة أخرى ، بل كان يتكلم مع الناس بلسانهم وطريقتهم وهذا

٩

واضح لا سترة فيه ، ويشهد له إرجاعات الشارع إلى الظهورات والاحتجاجات بها ، قال الشيخ الأعظم قدس‌سره : ومن المعلوم بديهة أنّ طريق محاورات الشارع في تفهيم مقاصده للمخاطبين لم يكن طريقا مخترعا مغايرا لطريق محاورات أهل اللسان في تفهيم مقاصدهم. (١)

ثم إنّ الظهورات الكلامية تتحقق من ظهور المفردات والهيئات التركيبة في معانيها سواء كان ذلك بالوضع أو بالقرائن المتصلة المذكورة في الكلام أو بالقرائن الحالية المقرونة مع الكلام ، فكلّ مورد يعلم ذلك فلا كلام.

ولو شك في أنّ كلمة مستعملة في معناها الوضعى أم لا فمقتضى أصالة الحقيقة هو استعمالها فيه ، فيتحقق الظهور في المعنى الموضوع له بأصالة الحقيقة. ولو شك في وجود القرينة على خلافه وعدمه ، فمقتضى أصالة عدم القرينة هو العدم ، فهنا يتحقق الظهور في المعنى الموضوع بأصالة عدم وجود القرينة على إرادة الخلاف.

ولو شك في حدود المعاني المفردة والمركبة من تخصيصها أو تقييدها فمقتضى أصالة العموم أو الاطلاق أو أصالة عدم التخصيص والتقييد هو العموم والاطلاق فيتحقق الظهور في العموم والاطلاق بتلك الاصول.

ولو احتمل الخطأ والاشتباه والسهو والنسيان فمقتضى أصالة عدم هذه الامور هو تحقق الظهور.

ولكن بعد وجود هذه الظهورات سواء حصلت بالقرائن أو الاصول المذكورة وكونها مرادة بالإرادة الاستعمالية يقع السؤال عن كونها مرادة بالإرادة الجدّية وعدمه؟ ومقتضى أصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدّية هي إرادتها جدا ، وهي أصل عقلائى يعتمد عليه العقلاء في محاوراتهم.

فتحصّل : أنّ أصالة الحقيقة وأصالة عدم القرينة وأصالة الإطلاق والعموم وأصالة

__________________

(١) فرائد الاصول : ٣٦.

١٠

عدم السهو والنسيان والخطأ والاشتباه كلها من محققات الظهورات في الموارد المشكوكة. وهذه الظهورات الحاصلة بالاصول المذكورة أو الظهورات الحاصلة بالقرائن بضميمة أصالة التطابق تكون مرادة بالإرادة الجدّية وحجّة ؛ إذا العقلاء بنوا على العمل بالظهورات المرادة بالإرادة الجدّية والاحتجاج بها. وهذا هو معنى حجية الظهورات الكلامية المرادة.

ومما ذكرنا يظهر أنّ إسناد الحجية إلى أصالة الحقيقة أو أصالة عدم القرينة أو أصالة عدم الكذب أو أصالة عدم التخصيص أو أصالة عدم التقييد أو أصالة عدم السهو والنسيان والاشتباه والخطأ أو أصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدّية مسامحة ؛ لأنّ هذه الاصول من محقّقات الظهورات المرادة ، وموضوع الحجة هو الظهورات المحقّقة المرادة سواء كانت حاصلة بالاصول المذكورة أو بقيام القرائن المتصلة أو المنفصلة ، فما هو الحجّة هو الظهورات المذكورة نعم مباني تلك الظهورات هي القرائن أو الاصول المذكورة. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ بعض الاصول المذكورة لا يفيد الظن والظهور كأصالة عدم التخصيص لأنّ ما من عام إلّا وقد خصّ فالحجيّة في مثله تكون راجعة إلى حجيّة بناء العقلاء على عدم التخصيص فلا تغفل ، ثم لا يخفى أنّه لا تختص الحجيّة بالمعانى الحقيقية ، بل المعانى المجازيّة التي تدلّ عليها الكلام بالقرائن أيضا حجّة ، كما لا يخفى.

ثم لا يخفى عليك أنّه لا فرق في حجيّة الظهورات الكلامية بين من قصد إفهامه وغيره ما لم يقم قرينة على اختصاص الحكم بمن قصد إفهامه.

وهكذا لا فرق في حجيّة الظهورات الكلامية بين أن يحصل الظن الشخصي بالوفاق وبين أن لا يحصل ذلك أو يحصل الظن الشخصي بالخلاف ما دام الكلام أفاد ظنا نوعيا ؛ وذلك لوجود بناء العقلاء على حجّية الظهورات الكلامية من دون فرق بين الموارد المذكورة.

وايضا لا تفاوت في حجيّة الظهورات الكلامية بين أن تكون من المحاورات العرفية أو النصوص الشرعيّة.

كما لا فرق في النصوص الشرعيّة بين أن تكون من الروايات أو القرآن الكريم ؛ لما عرفت

١١

من أنّ الشارع اكتفى في إفادة مراداته بما اكتفى العقلاء به من الظهورات الكلامية ولم يخترع طريقا آخر.

ولكن مع ذلك وقد وقع الخلاف في بعض الامور المذكورة ، فالأولى أن نذكر كلماتهم والجواب عنها ونقول بعون الله وتوفيقه يقع الكلام في امور :

الأمر الأوّل :

أنّ المحكي عن المحقق القمي قدس‌سره هو اختصاص حجيّة الظهورات الكلامية بمن قصد إفهامه ، وهذه الظهورات على قسمين :

أحدهما الخطابات الشفاهية الّتي كان المقصود منها إفهام المخاطبين بها.

وثانيهما الكتب المصنّفة لرجوع كل ناظر.

وأمّا غيرهما من الروايات الواردة في مقام الجواب عن الأسئلة والكتاب العزيز بناء على أنّه خطاب للنبي والائمة عليهم‌السلام فليس على حجيّته دليل إلّا دليل الانسداد وذلك للفرق بين من قصد إفهامه بالكلام فالظواهر حجّة بالنسبة إليه من باب الظن الخاص سواء كان مخاطبا كما في الخطابات الشفاهية أم لا كما في الناظر في الكتب المصنّفة لرجوع كل من ينظر إليها وبين من لم يقصد إفهامه بالخطاب كأمثالنا بالنسبة إلى أخبار الائمة الصادرة عنهم في مقام الجواب عن سؤال السائلين وبالنسبة إلى الكتاب العزيز بناء على عدم كون خطاباته موجهة إلينا وعدم كونه من باب التأليف للمصنفين ، فالظهور اللفظي ليس حجة لنا إلّا من باب الظن المطلق الثابت حجيّته عند انسداد باب العلم.

قال الشيخ الأعظم قدس‌سره : في تقريب كلام المحقق القمي قدس‌سره : وبالجملة فظواهر الألفاظ حجّة بمعنى عدم الاعتناء باحتمال إرادة خلافها إذا كان منشأ ذلك الاحتمال غفلة المتكلم في كيفية الإفادة أو المخاطب في كيفية الاستفادة ؛ لأنّ احتمال الغفلة مما هو مرجوح في نفسه ومتفق على عدم الاعتناء به في جميع الامور دون ما كان الاحتمال مسببا عن اختفاء امور لم يجر العادة القطعية أو الظنية بأنّها لو كانت لوصلت إلينا.

١٢

ومن هنا ظهر أنّ ما ذكرنا سابقا من اتفاق العقلاء والعلماء على العمل بظواهر الكلام في الدعاوي والأقارير والشهادات والوصايا والمكاتبات لا ينفع في ردّ هذا التفصيل ، إلّا أن يثبت كون أصالة عدم القرينة حجة من باب التعبد ، ودون إثباتها خرط القتاد.

ودعوى : أنّ الغالب اتصال القرائن ، فاحتمال اعتماد المتكلم على القرينة المنفصلة مرجوح لندرته.

مردودة : بأنّ من المشاهد المحسوس تطرق التقييد والتخصيص إلى أكثر العمومات والإطلاقات مع عدم وجوده في الكلام ، وليس إلّا لكون الاعتماد في ذلك كله على القرائن المنفصلة سواء كانت منفصلة عند الاعتماد كالقرائن العقلية والنقلية الخارجية أم كانت مقالية متصلة لكن عرض لها الانفصال بعد ذلك لعروض التقطيع للأخبار وحصول التفاوت من جهة النقل بالمعنى أو غير ذلك فجميع ذلك مما لا يحصل الظن بأنّها لو كانت لوصلت الينا ، مع إمكان أن يقال : إنّه لو حصل الظن لم يكن على اعتباره دليل خاص ، نعم الظن الحاصل في مقابل احتمال الغفلة الحاصلة للمخاطب أو المتكلم مما أطبق عليه العقلاء في جميع أقوالهم وأفعالهم. (١)

والحاصل : أنّ المحقق القمي قدس‌سره ادعى أمرين : أحدهما أنّ الأخبار الدالة على الأسئلة والأجوبة الواصلة إلينا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة الأطهار عليهم‌السلام وهكذا الكتاب العزيز ليست كالكتب المؤلفة وإلّا فكنّا من المقصودين بالإفهام ،

وثانيهما عدم جريان الاصول العقلائية في الظواهر بالنسبة إلى غير من قصد إفهامه لاختصاص تلك الاصول بأمور جرت العادة بأنّها لو كانت لوصلت إلينا دون غيرها مما لم يكن كذلك. وعليه فلا دليل على عدم الاعتناء باحتمال إرادة الخلاف إذا كان الاحتمال المذكور مسببا عن اختفاء امور لم تصل إلينا ؛ لعدم بناء من العقلاء على جريان أصالة عدم القرينة في مثل ذلك ، ولعدم ورود دليل شرعي عليه.

__________________

(١) فرائد الاصول : ٤١ ـ ٤٢.

١٣

والجواب عنه واضح :

أمّا أوّلا : فلأنّا نمنع عدم كون الأخبار الواصلة إلينا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كالكتب المؤلّفة ؛ فإنّها وإن صدرت بعنوان الأجوبة عن الأسئلة ولكن تكون في مقام بيان وظيفة الناس من دون خصوصية للسائلين ولا لعصر دون عصر ، لا سيما فيما إذا كان السؤال من مثل زرارة ومحمّد بن مسلم فإنّ أمثالهما في مقام أخذ الجواب لصور المسائل بنحو القوانين الكلّية ولقد أفاد وأجاد سيدنا الامام قدس‌سره حيث قال : إنّ الخطاب في الأخبار وإن كان متوجها إلى مخاطب خاص كزرارة ومحمّد بن مسلم وأمثالهما إلّا أنّ الاحكام لما كانت مشتركة وشأن الائمة عليهم‌السلام ليس إلّا بثّ الاحكام بين الناس ، فلا جرم يجري الخطاب الخاص مجرى الخطاب العام في أنّ الغرض نفس مفاد الكلام من غير دخالة إفهام متكلم خاص. (١)

وأولى بذلك الكتاب العزيز فإنّه يجري كمجرى الشمس ولا يختص بقوم دون قوم وعصر دون عصر ويدعو الناس في جميع الأزمنة إلى التدبّر في آياته والتذكر من موعظاته ، وإنكار كون خطاباته موجهة إلينا يخالف شأن القرآن كما لا يخفى.

هذا كله بالنسبة إلى الصغرى ، وهي الدعوى الاولى وهي إنكار كوننا مقصودين بالإفهام وقد عرفت أنّ الأخبار والآيات القرآنية كالكتب المؤلفة في أنّ المقصودين بالإفهام منها لا ينحصر في المخاطبين في عصر النزول والصدور ، فإنكار الصغرى في مثل الأخبار الصادرة عن ائمتنا الابرار عليهم‌السلام والآيات النازلة مما لا وقع له.

واما ثانيا : فلأنّا ننكر عدم حجّية الظهورات اللفظية بالنسبة إلى غير المقصودين بالإفهام ما لم يحرز أنّ بناء المتكلم على إلقاء الرموز والاكتفاء بالقرائن الخفيّة المعلومة بين المتكلم والسامع ؛ فإنّ أصالة عدم القرينة جارية بالنسبة إلى غير المقصودين بالإفهام أيضا. والفرق في حجية أصالة عدم القرينة بين المخاطب وغيره مخالف لبناء العقلاء والسيرة القطعية من العلماء وأصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، فالكبرى المذكورة في الدعوى الثانية محل منع.

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٩٥.

١٤

وتوضيح ذلك ـ كما افاد شيخنا الأعظم قدس‌سره ـ أنّ الانصاف أنّه لا فرق في العمل بالظهور اللفظي وأصالة عدم الصارف عن الظاهر بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد ؛ فإنّ جميع ما دل من اجماع العلماء وأهل اللسان على حجية الظواهر بالنسبة إلى من قصد إفهامه جار فيمن لم يقصد ؛ لأنّ أهل اللسان إذا نظروا إلى كلام صادر من متكلم إلى مخاطب يحكمون بإرادة ظاهره منه إذا لم يجدوا قرينة صارفة بعد الفحص فى مظانّ وجودها ، ولا يفرقون في استخراج مرادات المتكلمين بين كونهم مقصودين بالخطاب وعدمه ، فإذا وقع المكتوب الموجّه إلى شخص بيد ثالث فلا يتأمل في استخراج مرادات المتكلم من الخطاب المتوجه إلى المكتوب إليه ، فإذا فرضنا اشتراك هذا الثالث مع المكتوب إليه فيما أراد المولى منهم فلا يجوز له الاعتذار في ترك الامتثال بعدم الاطلاع على مراد المولى ، وهذا واضح.

ولا خلاف بين العلماء أيضا في الرجوع إلى أصالة الحقيقة في الألفاظ المجردة عن القرائن الموجّهة من متكلم إلى مخاطب سواء كان ذلك في الأحكام الجزئية كالوصايا الصادرة عن الموصى المعين إلى شخص معين ثم مست الحاجة إلى العمل بها مع فقد الموصى إليه. فإنّ العلماء لا يتأملون في الافتاء بوجوب العمل بظاهر ذلك الكلام الموجّه إلى الموصى إليه المفقود ، وكذا في الأقارير ، أم كان في الأحكام الكلّية كالأخبار الصادرة من الأئمة عليهم‌السلام مع كون المقصود منها تفهيم مخاطبهم لا غير ... إلى أن قال : والحاصل : أنّ القطع حاصل لكل متتبع في طريقة فقهاء المسلمين بأنّهم يعملون بظواهر الأخبار من دون ابتناء ذلك على حجية الظن المطلق الثابتة بدليل الانسداد ، بل يعمل بها من يدعي الانفتاح وينكر العمل بأخبار الآحاد مدعيا كون معظم الفقه بالإجماع والأخبار المتواترة ويدل على ذلك أيضا سيرة أصحاب الائمة عليهم‌السلام فإنّهم كانوا يعملون بظواهر الأخبار الواردة إليهم كما يعملون بظواهر الأقوال التي يسمعونها من أئمتهم عليهم‌السلام ، ولا يفرقون بينهما إلّا بالفحص وعدمه.

والحاصل : أنّ الفرق في حجية أصالة الحقيقة وعدم القرينة بين المخاطب وغيره مخالف للسيرة القطعية من العلماء وأصحاب الأئمة عليهم‌السلام (١)

__________________

(١) فرائد الاصول : ٤٢ ـ ٤٣.

١٥

وإليه يؤول ما في الكفاية حيث قال : إنّ الظاهر عدم اختصاص حجيّة الظواهر بمن قصد إفهامها ، ولذا لا يسمع اعتذار من لا يقصد إفهامه إذا خالف ما تضمّنه ظاهر كلام المولى من تكليف يعمّه او يخصّه ، ويصح به الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج ، كما تشهد به صحة الشهادة بالإقرار من كل من سمعه ولو قصد عدم إفهامه فضلا عمّا (١) إذا لم يكن بصدد إفهامه.

وعليه فكما أنّ احتمال الغفلة مندفع بأصالة عدم الغفلة بين المتكلم والسامع ، فكذلك احتمال وجود قرائن منفصلة أو متصلة بعد الفحص عنها مندفع بأصالة عدمها لمن قصد إفهامه وغيره ؛ لما عرفت من أنّ العقلاء والعلماء يأخذون بالظهورات ولو كان السامع غير مقصود بالإفهام.

ودعوى : ان عادة الأئمة عليهم‌السلام على الاتكال على القرائن المنفصلة.

مندفعة : بما أفاده السيد المحقق الخوئى قدس‌سره من أنّها وإن كانت صحيحة إلّا أنّه لا يقتضي اختصاص حجيّة الظهور بمن قصد إفهامه ، بل مقتضاه الفحص عن القرائن ، ومع عدم الظفر بها يؤخذ بالظهور.

وأمّا ما ذكره من أنّ التقطيع مانع عن انعقاد الظهور ففيه أنّ ذلك يتم فيما إذا كان المقطّع غير عارف بأسلوب الكلام العربي أو غير ورع في الدين ؛ إذ يحتمل حينئذ كون التقطيع موجبا لانفصال القرينة عن ذيها ، لعدم معرفة المقطّع أو لتسامحه في التقطيع ، وكلا هذين الأمرين منفيان في حق الكليني وأمثاله من اصحاب الجوامع ، فإذا نقلوا رواية بلا قرينة نطمئن بعدمها ، بل لا يبعد دعوى القطع به ؛ إذا التقطيع إنّما هو لإرجاع المسائل إلى أبوابها المناسبة لها مع عدم الارتباط بينها ، لأنّ الرواة ، عند تشرفهم بحضرة الإمام عليه‌السلام كانوا يسألون عن عدّة مسائل لا ربط لأحدها بالأخرى كما هو المتعارف في زماننا هذا في الاستفتاءات وهذا النحو من التقطيع غير قادح في انعقاد الظهور. (٢)

__________________

(١) الكفاية ٢ : ٥٩.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ١٢٠ ـ ١٢٢.

١٦

ودعوى : أنّه لا يمتنع أن ينصب المتكلم قرينة لا يعرفها سوى من قصد إفهامه ، وعليه فلا يمكن لمن لم يقصد إفهامه أن يحتجّ بكلام المتكلم على تعيين مراده إذ لعله نصب قرينة خفية عليه علمها المخاطب فقط ، فالتفصيل بين من قصد افهامه وبين من لم يقصد إفهامه متين. (١)

مندفعة : بأنّ محل الكلام ليس فيما إذا كان مقصود المتكلم إلقاء رموز لا يعلمها إلّا المخاطب حتى لا يتمكن غير من قصد إفهامه من أن يتمسك بظاهر الكلام من دون إحراز الرموز التى بين المتكلم والمخاطب ، بل محل الكلام فيما إذا صدر من المتكلم كلام متوجه إلى مخاطب لا بما هو مخاطب خاص ؛ إذ غرض الشارع ليس إلّا بثّ الأحكام بين الناس ، ومن المعلوم أن احتمال الرموز حينئذ في مثل تلك الأحكام الصادرة لا مجال له وخروج عن محل الكلام. هذا مضافا إلى أنّ المفروض أنّ غرض الرواة من نقل الروايات والآثار أو غرض الناقلين من نقل القوانين المسموعة من المقنين للناس هو أخذ الناس بها والعمل بها وعليه فلو كانت قرائن خفية خاصة بهم بين المتكلم والمخاطب لزم عليهم أن يذكروها وإلّا نقضوا غرضهم إذ لم يتمكن غيرهم منها وحيث إنّهم لم ينقلوا قرائن خاصّة فيمكن لغيرهم أن يأخذوا بظواهر ما سمعوا منهم وعليه فلا وجه للتفصيل المذكور كما لا يخفى. ثم انّ الظاهر من سيدنا الاستاذ المحقق الداماد قدس‌سره هو التفصيل حيث قال في محكي كلامه والذي يختلج بالبال الإشكال في تحقق هذا البناء إلّا إذا حصل الاطمئنان عادة بعدم وجود القرينة فإنّ هذا في الحقيقة خارج عن مورد البحث ويكون بحكم القطع والكلام واقع في مورد الشك والاحتمال العقلائى والذى أراده عدم جريان أصالة عدم القرينة هنا إذا ليس أصلا متبعا عند العقلاء في هذا المورد ولعلّ هذا مراد المحقق القمي قدس‌سره حيث خصّ الكلام بالمقصود بالإفهام فإنّ الظاهر أو المحتمل أن يكون نظره إلى ما حققناه من عدم تبيّن الظهور الصادر من المتكلم إذا لم يكن الشخص مقصودا بالإفهام وكلامه وان كان مطلقا لكن الظاهر تقييده بما إذا لم

__________________

(١) منتهى الاصول ٤ : ٢١٦.

١٧

يحصل الاطمينان بالظهور ولا أظن إرادته الإطلاق إلى أن قال وبالجملة إذا تبين الظهور الصادر بالعلم أو بحجّة اخرى كان بناء العقلاء على اتباعه في كشف المراد وتطابقه مع الإرادة الواقعية من دون أن يكون ذلك مرهونا بحصول الظن بالوفاق أو عدم الظن بالخلاف ولا يكون الشخص مقصودا بالافهام وحينئذ لا يسمع الاعتذار بحال وأمّا إذا لم يتبين الظهور الصادر من أصل كما في مورد الكلام فلا يصح المؤاخذة بحال فتدبر (١) ولقائل أن يقول لا يلزم الاطمئنان بعدم وجود القرينة بل اللازم هو الاطمئنان بكون الكلام متوجها إلى المخاطب لا بما هو مخاطب خاص ففى هذه الصورة لو شككنا فى وجود القرينة يجرى فيه أصالة عدم القرينة كسائر الموارد فتدبر جيدا.

الأمر الثاني :

أنّ المناط في حجيّة الكلام واعتباره هو ظهوره عرفا في المراد الاستعمالي والجدّي ولو كان الظهور المذكور مسبّبا عن القرائن الموجودة في الكلام ، وقد جرى بناء العقلاء على الأخذ بالظهور المذكور في إفادة المراد بين الموالي والعبيد وغيرهم من أفراد الانسان ، ولا يشترط فى حجيّة الظهور المذكور حصول الظنّ الشخصيّ بالوفاق أو عدم قيام الظنّ غير المعتبر على الخلاف ، بل هو حجّة ولو مع قيام الظنّ غير المعتبر على الخلاف ؛ ولذا لا يعذرون من خالف ظاهر كلام المولى بعدم حصول الظنّ بالوفاق ولا بحصول الظنّ على الخلاف.

ولقد أفاد وأجاد شيخنا الأعظم قدس‌سره حيث قال : ربما يجري على لسان بعض متأخري المتأخرين من المعاصرين عدم الدليل على حجيّة الظواهر إذا لم تفد الظن (الشخصيّ) أو إذا حصل الظنّ الغير المعتبر على خلافها ، لكن الانصاف أنّه مخالف لطريقة أرباب اللسان والعلماء في كلّ زمان. (٢)

ودعوى : أنّ الظاهر من كلمات بعض العلماء أنّهم توقفوا في العمل بالخبر الصحيح

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقق الداماد ٢ م ٩٦ ـ ٩٧

(٢) فرائد الاصول : ٤٤.

١٨

المخالف لفتوى المشهور أو طرحوه مع اعترافهم بعدم حجيّة الشهرة ، وهذا يكفي شاهدا على أنّ حجيّة الظهورات متوقفة على عدم قيام الظنّ غير المعتبر على خلافها.

مندفعة : بأنّ وجه التوقف أو الطرح هو مزاحمة الشهرة للخبر من حيث الصدور ؛ إذا لا يحصل الوثوق بالصدور مع مخالفة المشهور بناء على أنّ ما دل من الدليل على حجيّة الخبر الواحد من حيث السند مختص بما إذا حصل الوثوق بالصدور ، لا من جهة مزاحمة الشهرة للخبر من جهة ظهوره في عموم أو إطلاق حتى يكون شاهدا على عدم اعتبار الظهور فيما إذا كان الظن غير المعتبر على الخلاف ، فتدبر جيدا.

هذا مضافا إلى أنّه لو كان المزاحمة من جهة ظهور الخبر كانت الشهرة كاشفة عن وجود قرينة في الرواية لم تصل إلينا ومعه لم يتحقق ظهور في الرواية في غير ما ذهب إليه المشهور كقاعدة القرعة لكل أمر مشكل فإنّ إطلاقها مقيّد بالمشهور لكشف الشهرة عن قيد فيها لعدم التزامهم بإطلاقها ومع عدم تحقق الظهور في الرواية مع مخالفة المشهور خرج عن محل الكلام فإنّ محل الكلام هو ما إذا تحقق الظهور وخالفه الظنّ غير المعتبر.

وبالجملة فالظنّ النوعي المستفاد من الكلام حجة عقلائية على مرادات المتكلم ، ولا يصح العدول عنه بمجرد عدم حصول الظنّ الشخصي بالوفاق أو بقيام الظنّ غير المعتبر على الخلاف ؛ لعدم دخالة لهما في حجيّة الظهورات وإن كان لعدم قيام الظن غير المعتبر على الخلاف دخالة في حجيّة إسناد الروايات بناء على قصور الأدلة عن شموله ، فالظنّ النوعي حجّة ، ولا يشترط بوجود الظنّ الشخصيّ على الوفاق ، ولا يمنع عنه الظنّ غير المعتبر على الخلاف.

هذا كله واضح بالنسبة إلى ما إذا كان المطلوب هو تحصيل الحجة والأمن من العقوبة والخروج عن عهدة التكليف ؛ لوجود بناء العقلاء على كفاية العمل بالظواهر مطلقا ولو مع الظنّ بالخلاف فضلا عن عدم الظنّ بالوفاق في مقام الاحتجاج.

وأمّا إذا كان المطلوب هو تحصيل الواقع لا الاحتجاج كما إذا احتمل إرادة خلاف

١٩

الظاهر في كلام الطبيب ، فالعقلاء لا يعملون بمجرد الظهور ما لم يحصل لهم الاطمئنان بالواقع ، إلّا أنّ ذلك خارج عن محل الكلام ؛ إذا الكلام فيما إذا كان المطلوب هو الخروج من عهدة التكليف وتحصيل الأمن من العقاب ، وفي مثله تحقق بناء العقلاء على العمل بالظواهر مطلقا. (١)

ويؤيّد ما ذكرناه ما أفادوه في حجيّة الأخبار من عدم شمول أدلّة اعتبار حجيّة خبر الواحد في الأحكام بمجرد الوثوق النوعي بالصدور للخبر الواحد في غير الأحكام ؛ لأنّ المعيار في الأحكام هو تحصيل الحجة ، بخلاف غيرها فإنّ المعيار هو الوثوق والاطمئنان الشخصىّ بالأمور الواقعية وهو لا يحصل بالوثوق النوعي.

وعليه فالظهورات الواردة في الأحكام حجّة فيما إذا أفادت ظنّا نوعيا ولو لم يحصل الظنّ الشخصيّ ، بخلاف الظهورات الواردة في غيرها ، فإنّ اللازم فيها هو حصول الاطمئنان الشخصىّ لاختصاص أدلّة اعتبار الظهورات بموارد الأحكام ، إذ لا معنى للتعبد في غير موارد الأحكام ، إلّا بملاحظة إدراجه بنحو في موضوع الأحكام كالخبر به عن الله سبحانه وتعالى في يوم الصيام فيصح حينئذ التعبّد به بهذا الاعتبار فلا تغفل.

ثم إنّ محل الكلام فيما إذا انعقد الظهور فاعتباره لا يتوقف على وفاق الظنّ الشخصيّ ولا على عدم قيام الظنّ غير المعتبر على الخلاف ، وأمّا إذا اكتنف الكلام بما يصلح أن يكون صارفا قد احتمل أنّ المتكلم اعتمد عليه في إرادة خلاف الظهور فلا ينعقد الظهور ، بل هو مجمل وخارج عن محل الكلام ؛ إذا الكلام فيما إذا انعقد الظهور ، فاعتبار خلو الكلام عن قرينة حالية أو مقاليّة تصلح لأن تكون صارفة ، يرجع إلى شرط تحقق الظهور لا شرط حجيّة الظهور ؛ فإنّ مع الاقتران بها يخرج الكلام عن الظهور إلى الإجمال بشهادة العرف ، بخلاف ما إذا لم تكن قرينة متصلة بالكلام فإنّ الظهور منعقد فيه ، ولم يتوقف حينئذ أحد بمجرد احتمال وجود دليل منفصل مجمل يحتمل أن يعتمد المتكلم عليه.

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ١١٨.

٢٠