عمدة الأصول - ج ١

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

لتوقّف مرادات العقلاء أيضا على الجمع بين العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد ونحوهما ومع ذلك تكون من المسائل الاصوليّة فقيد «الممهّدة» في التعريف لا يكفي لإخراج هذه العلوم المذكورة.

ولذا ذهب بعض الأجلّة إلى أنّ الأولى تعريف علم الاصول «بأنّه العلم بالعناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط» ونقصد «باشتراك» صلاحيّة العنصر للدخول في استنباط حكم أيّ مورد من الموارد التي يتصدّى الفقيه لاستنباط حكمها مثل ظهور صيغة الأمر في الوجوب فإنّه قابل لأن يستنبط منه وجوب الصلاة أو وجوب الصوم وهكذا وبهذا تخرج أمثال مسألة ظهور كلمة الصعيد عن علم الاصول لأنّها عنصر خاصّ لا يصلح للدخول في استنباط حكم غير متعلّق بمادّة الصعيد. (١)

وهو أيضا لا يخلو عن المناقشة لأنّ كثيرا من المعاني المذكورة في اللغة كمعاني صيغة الفاعل والمفعول والفعيل والفعال والمفعال وغيرها ، لا تختصّ بعنصر خاصّ بل تجري في أيّ مادّة من الموادّ وهكذا القواعد النحويّة والصرفيّة والمنطقيّة والرجاليّة لا اختصاص لها بعنصر خاصّ بل جارية في جميع الموارد فقيد «العناصر المشتركة» أيضا لا يفيد في إخراج هذه العلوم. هذا مضافا إلى ما سيجيء من أنّ ظهور الأوامر والنواهي في الوجوب أو الحرمة أو ظهور المشتقّ في من تلبّس بالمبدإ ونحوها لا تكون من المسائل الاصوليّة وإن ذكرت فيها إذا المسائل الاصوليّة كبريات هذه الظهورات وهي حجّيّة الظهورات كما لا يخفى.

وأيّد في مصابيح الاصول تعريف المشهور بأنّ سائر العلوم لا يترتّب عليها وحدها حكم كبرويّ شرعيّ ولا توصل إلى وظيفة فعليّة ولو في مورد واحد بل دائما تحتاج إلى ضمّ مسألة اصوليّة إليها فمثل العلم بالصعيد وأنّه عبارة عن مطلق وجه

__________________

(١) دروس في علم الاصول / الحلقة الثانية / ٨.

٨١

الأرض أو غيره لا يترتّب عليه العلم بالحكم وإنّما يستنبط الحكم من الأمر أو النهي وما يضاهيهما. نعم قد تكون المسألة الاصوليّة متوقّفة على مسألة اخرى في مقام الاستنباط منها كما إذا فرضنا أنّ الأمر بشيء ما ورد في رواية ظنّيّة السند فإنّ الاستنباط منها يتوقّف على إثبات ظهور الأمر في الوجوب وعلى إثبات حجّيّة السند إلّا أنّ كلّا منهما مسألة اصوليّة برأسها إذ يمكن استنباط الحكم من كلّ منهما بلا حاجة إلى ضمّ مسألة اخرى كما إذا كان الأمر واردا في السنّة القطعيّة أو كانت الرواية نصّا في مدلولها. فظهر من هذا أنّ البحث عن أدوات العموم وأنّ كلمة «كلّ» و «الجمع المحلّى بالألف واللام» و «النكرة في سياق النفي ممّا يفيد العموم أم لا؟» أو «أنّ معاني المشتقّات ظاهرة فيمن تلبّس بالمبدإ أو في الأعمّ؟» أو «أنّ أسماء العبادات وضعت للصحيح أو الأعمّ؟» إنّما هي مسائل لغويّة لعدم إمكان وقوعها في طريق الاستنباط وحدها وبما أنّ القوم لم يعنونوها في اللغة قد تعرّض لها في فنّ الاصول تفصيلا فالذي ظهر أنّ قواعد علم الاصول هي ما أمكن حصول الاستنباط من كلّ مسألة مسألة منها ولو على سبيل القلّة بلا انضمام مسألة اخرى إليها من مسائل علم الاصول نفسه أو مسائل بقيّة العلوم الأخر وهذا بخلاف مسائل سائر العلوم فإنّها محتاجة في مقام تحصيل الوظيفة الفعليّة إلى ضمّ كبرى من المسائل الاصوليّة إليها. (١)

وفيه أنّ الموجبة الجزئيّة في إمكان استفادة الحكم الشرعيّ إن كانت كافية ففي مثل سائر العلوم أيضا ربما يكون كذلك كما إذا وردت كلمة «الصعيد» في دليل قطعيّ الصدور فإذا عيّن معناها بما في اللغة أمكن استفادة الحكم الشرعيّ منها من دون حاجة إلى شيء آخر فيكون البحث اللغويّ عن مفاد كلمة «الصعيد» ونحوها بحثا اصوليّا بمقتضى التعريف المذكور من «أنّ قواعد الاصول هي ما أمكن حصول الاستنباط

__________________

(١) مصابيح الاصول ١ / ٢.

٨٢

من كلّ مسألة مسألة منها ولو على سبيل القلّة بلا انضمام مسألة اخرى إليها من مسائل علم الاصول نفسه أو مسائل بقيّة العلوم الأخر».

هذا مضافا إلى ما في «بحوث في علم الاصول» من أنّ جملة من بحوث علم الاصول تحتاج دائما إلى ضمّ كبرى اصوليّة إليها لكي يتمّ الاستنباط كالمسائل المرتبطة بتشخيص أقوى الظهورين عن أضعفهما في باب العمومات والمطلقات أو في باب المنطوق والمفهوم فإنّها تنقّح صغرى أقوى الدليلين التي تكون بحاجة إلى ضمّ كبرى قواعد الجمع العرفيّ وملاكات الترجيح الدلاليّ في مقام المعارضة بين الأدلّة. (١)

اللهمّ إلّا أن يقال كما في مصابيح الاصول أيضا من أنّ مرتبة علم الاصول متأخّرة عن بقيّة العلوم العربيّة فإنّ كلّ مسألة اصوليّة في حدّ ذاتها قبل استنباط الحكم واستحصال النتيجة منها لا بدّ من معرفة معناها والوقوف على مادّة القاعدة وهيأتها التركيبيّة منها والبسيطة وكيفيّة طريق استحصال النتيجة من انضمام الصغرى إلى الكبرى وهذه الامور يتكفّل البحث عنها علم النحو والصرف واللغة والمنطق وسائر العلوم العربيّة الاخرى فالأحرى على كلّ من طالب دراسة الاصول أن يقرأ العلوم العربيّة مقدارا يتأتّى منه الغرض المذكور وأمّا رتبة علم الاصول بالإضافة إلى الفقه فإنّ الاصول مقدّم على الفقه تقدّما رتبيّا لا فضيلة وشرفا والوجه فيه أنّ الاصول كما عرفت مباد يتوصّل بها إلى الحكم الشرعيّ وهو متقدّم عليه فالمتحصّل أنّ علم الاصول وسيط بين الفقه وسائر العلوم العربيّة فهو كالجزء الأخير من العلّة التامّة للاستنباط وسائر العلوم العربيّة كالمقتضي والمعدّ للعلّة. (٢)

ولكن لا يخلو ذلك عن الإشكال أيضا وهو أنّ بين العلوم المذكورة ليس ترتّب

__________________

(١) بحوث في علم الاصول ١ / ٢٨.

(٢) مصابيح الاصول ١ / ١٠.

٨٣

واقعىّ خارجىّ إذ يمكن مقارنة بعضها مع البعض أو تقدّم بعضها على البعض كأن يتعلّم أوّلا القواعد الاصوليّة ثمّ يتعلّم الصرف والنحو واللغة كما يمكن أن يتصدّى الفقيه لكشف المعاني اللغويّة بعد إحراز المسائل الاصوليّة بحيث ينعكس الأمر ويكون العلم بالمعاني اللغوية كالجزء الأخير من العلّة التامّة للاستنباط بل يكون كثيرا ما كذلك إذ الفقيه بعد تعلّمه المسائل الاصوليّة يتصدّى لفهم معني الرواية أو الآية الكريمة فيرجع إلى اللغة لكشف معناها حتّى يفتي بها.

اللهمّ إلّا أن يكون المقصود أنّ المسائل الاصوليّة هي التي تقع كبرى لقياس الاستنباط فحينئذ فالمسائل الاصوليّة كالجزء الأخير من العلّة التامّة سواء تقدّم تعلّمها أو تأخّر فإنّ عند تشكيل الشكل القياسيّ يقال إنّ هذا اللفظ ظاهر في اللغة في كذا أو كذا والظهور حجّة فالحكم كذا وكذا ومن المعلوم أنّ الجزء الأخير من العلّة التامّة هو قولنا : «والظهور حجّة» وهو من المسائل الاصوليّة ولا فرق في ذلك بين أن يكون تعلّم حجّيّة الظهور متأخّرا عن الرجوع إلى اللغة أو يكون متقدّما عليه فإنّ المعيار هو كيفيّة الوقوع في الشكل القياسيّ الذي رتّب للاستنباط ومن المعلوم أنّ المسائل الاصوليّة تقع كبرى للشكل القياسيّ دون سائر العلوم والكبرى هو الجزء الأخير في الشكل القياسيّ.

ولكن بعد اللتيّا والتي هذا لا يرفع الإشكال عن تعريف المشهور لأنّهم لم يذكروا إمكان الوقوع في كبرى القياس فتحصّل من ذلك عدم صحّة تعريف المشهور لعلم الاصول بأنّه «هو العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة» كما في الفصول. لما عرفت من أنّ القواعد الممهّدة لذلك لا تختصّ بالمسائل الاصوليّة بل سائر العلوم أيضا قواعد ممهّدة لذلك.

والقول بأنّ مسائل علم الاصول مختصّة باستنباط الأحكام أو بكشف حال الأحكام كما في الفصول والدرر غير مسموع لما عرفت من أنّ جملة من مسائل علم

٨٤

الاصول كحمل العامّ على الخاصّ أو المطلق على المقيّد وبعض مباحث المفاهيم أيضا لا تختصّ بذلك لجريانها في المحاورات العرفيّة أيضا.

ومنها : أنّ التعريف المشهور يشمل القواعد الفقهيّة أيضا كقاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده وغيرها ، إذ العلم بها أيضا علم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة.

وأجاب عنه في الفصول بأنّ تلك القواعد ليست ممهّدة في الفقه للاستنباط بل الغرض من بيانها فيه معرفتها لأنفسها واستنباط الفروع منها ممّا لا ينافيه.

كما أجاب عنه في الدرر أيضا بأنّ مسائل علم الاصول لكشف حال الأحكام الواقعيّة الكلّيّة ومسائل الفقه هي الأحكام الواقعيّة الأوّليّة وليس ما ورائها أحكام أخر تستكشف حالها بتلك المسائل. (١)

ولذلك أضاف سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره كلمة «الآليّة» في التعريف وقال : «إنّه هو القواعد الآليّة التي يمكن أن تقع في كبرى استنتاج الأحكام الكلّيّة الفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة» فتخرج (بالآليّة) القواعد الفقهيّة فإنّ المراد بها كونها آلة محضة ولا ينظر فيها بل ينظر بها فقطّ والقواعد الفقهيّة ينظر فيها فتكون استقلاليّة لا آليّة لأنّ قاعدة ما يضمن وعكسها حكم فرعيّ إلهيّ منظور فيها على فرض ثبوتها وقواعد الضرر والحرج والغرر كذلك فإنّها مقيّدات للأحكام بنحو الحكومة فلا يكون آليّة لمعرفة حال الأحكام. (٢)

ومنها : أنّ التعريف المشهور لا يكون جامعا لأنّ مسألة حجّيّة الظنّ على الحكومة ومسائل الاصول العمليّة في الشبهات الحكميّة خارجة عن التعريف المذكور لأنّها

__________________

(١) الدرر ١ / ٣١ الطبع الجديد.

(٢) تهذيب الاصول ١ / ١١.

٨٥

ليست ممّا يستنبط بها الأحكام فإنّ الاصول الشرعيّة منها أحكام مجعولة في موضوع الشكّ كوجوب البناء على الحالة السابقة أو الحلّيّة في حال الشكّ كما أنّ حجّيّة الظنّ على الحكومة والاصول العقليّة منها كالحكم بالتخيير عند دوران الأمر بين المحذورين والحكم بالاحتياط عند العلم الإجماليّ بالحكم ليست إلّا حكم العقل ولا استكشاف فيها بالنسبة إلى الأحكام الشرعيّة كما لا يخفى.

وثانيها : ما ذهب إليه صاحب الدرر بعد عدوله عن التعريف المشهور من أنّه هو العلم بالقواعد الممهّدة لكشف حال الأحكام الكلّيّة الواقعيّة المتعلّقة بأفعال المكلّفين سواء تقع في طريق العلم بها كما في بعض القواعد العقليّة أو تكون موجبة للعلم بتنجّزها على تقدير الثبوت أو تكون موجبة للعلم بسقوط العقاب كذلك. فإنّ القواعد المذكورة كلّها إذا انضمّت إلى صغرياتها فالنتيجة الحاصلة تنفع بحال حكم شرعيّ آخر وراء نفسها إمّا لكونها طريقا علميّا لثبوته أو لا ثبوته وإمّا سببا لتنجّزه أو لا تنجّزه. (١) وبعبارة اخرى كما في تعليقة استاذنا العراقيّ مدّ ظلّه العالي أنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعيّ فإمّا أن يحصل له العلم أو الظنّ أو الشكّ فكلّ قاعدة تفيد استراحة خاطره من ناحية ذلك الحكم الشرعيّ تسمّى اصوليّة. (٢)

ولكن التعريف المذكور لا يخلو أيضا عن الإشكال كما أفاد الاستاذ مدّ ظلّه العالي في تعليقات الدرر وهو أنّه ينتقض طردا بقاعدة الطهارة حيث أنّها قاعدة معمولة في الشبهات الحكميّة مع أنّها ليست مدوّنة في الاصول وبعامّة الاصول العمليّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة أو الأمارات كذلك ومنها أصالة الصحّة وقاعدة الفراغ وقاعدة اليد والبناء على الأكثر في الشكوك الصلاتيّة حيث أنّ كلّ ذلك من الفقه مع

__________________

(١) الدرر ١ / ٣١ ط جديد.

(٢) تعليقات الدرر ١ / ٢٣٩.

٨٦

انطباق التعريف عليها. (١)

كما أنّه ينتقض عكسا بدخول بعض مسائل الاصول في الفقه كمسألة الاستصحاب بناء على أخذه من الأخبار وما يشابهها تقريره أنّ الاستصحاب على هذا ليس إلّا وجوب البناء على طبق الحالة السابقة بل يمكن هذا التوهّم فيه حتّى بناء على اعتباره من باب الظنّ فيسري الإشكال في جلّ مسائل الاصول كحجّيّة الخبر والشهرة وظاهر الكتاب وما أشبه ذلك بناء على أنّ الحجّيّة ليست إلّا وجوب العمل بالمؤدّى. (٢)

ولكن اجيب عن الطرد بأنّ قاعدة الطهارة من الاصول ولكن لكونها من القطعيّات الغير المحتاجة إلى البحث لم يبحثوا عنها وبأنّ البواقي خارجة عن علم الاصول بتقييد الأحكام بالكلّيّة فالاستصحاب مثلا في الشبهات الحكميّة يكون من الاصول وفي الموضوعيّة يكون من الفقه. (٣)

واجيب عن العكس في الدرر بأنّ مسائل الفقه ليست عبارة عن كلّ حكم شرعيّ متعلّق بفعل المكلّف بل هي عبارة عن الأحكام الواقعيّة الأوّليّة التي تطلب من حيث نفسها فكلّ ما يطلب من جهة كونه مقدّمة لإحراز حال الحكم الواقعيّ فهو خارج عن مسائل الفقه ولا إشكال في أنّ تمام مسائل الاصول من قبيل الثاني. (٤)

إلّا أنّه بعد لا يخلو عن الإشكال وهو ما عرفت من أنّ القواعد الممهّدة لا تختصّ بالمسائل الاصوليّة بل سائر العلوم أيضا قواعد ممهّدة لذلك.

وثالثها : ما ذهب إليه صاحب الكفاية من أنّه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن

__________________

(١) تعليقات الدرر ١ / ٢٤٠.

(٢) الدرر ١ / ٣٢.

(٣) تعليقات الدرر ١ / ٢٤١.

(٤) الدرر ١ / ٣٢.

٨٧

أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي ينتهي إليها في مقام العمل.

وفيه أوّلا كما في نهاية النهاية من أنّ ترك قيد الممهّدة يوجب دخول جميع العلوم المتوقّف عليها الاستنباط في الاصول كما أنّ إضافة ما ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل يوجب دخول جميع القواعد الفقهيّة بل الأحكام الفرعيّة الجزئيّة فيه إلّا أن يقيّد ذلك بما ينتهي إليه بعد اليأس عن الظفر بالوظيفة الشرعيّة فلا يشمل حينئذ ما يؤخذ من الشارع وعليه فتخرج الاصول العمليّة الشرعيّة أيضا ولا يبقى تحت القيد إلّا الاصول العمليّة العقليّة والظنّ على الحكومة.

اللهمّ إلا أن يقال إنّ ذكر الممهّدة كما مرّ سابقا لا يفيد في رفع الإشكال لأنّ سائر العلوم أيضا من القواعد الممهّدة لذلك بل اللازم في خروج هذه العلوم ضميمة إمكان وقوعها كبرى للشكل القياسيّ ولا يغني ضميمة إمكان وقوعها في طريق الاستنباط لأنّ سائر العلوم ممّا وقع في طريق الاستنباط أيضا اللهمّ إلّا أن يقال إنّ المسائل الأدبيّة لا تقع إلّا في طريق استنباط موضوع الحكم.

وثانيا كما في نهاية الدراية من أنّ تعدّد الغرض يوجب تعدّد العلم بناء على مختار المصنّف (صاحب الكفاية) من أنّ تمايز العلوم بتمايز الأغراض ومن المعلوم أنّ الانتفاع بالقواعد في مقام الاستنباط غير الانتفاع بالقواعد في مقام العمل فتعريف علم الاصول بالانتفاعين يوجب أن يكون فنّ الاصول فنّين ولا مناص عنه إلّا بأن يفرض غرض جامع بين الغرضين كتحصيل الحجّة على الحكم الشرعيّ.

وثالثا كما في تهذيب الاصول من أنّه لا ينطبق إلّا على مبادئ المسائل لأنّ ما يعرف به القواعد الكذائيّة هو مبادئ المسائل ولم يذهب أحد إلى أنّ العلم هو المبادي فقط بل هو إمّا نفس المسائل أو هي مع مبادئها.

ورابعا كما ذكره سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّ الأحكام الأوّليّة الواقعيّة لا تكشف بالقواعد الاصوليّة حتّى يصحّ التعبير عن الكشف بالاستنباط بل غاية ما

٨٨

يستفاد منها هو أنّها وسيلة لكشف المنجّز أو المعذّر فذكر استنباط الأحكام في التعريف غير سديد بل الأولى أن يقال في تعريفه بأنّه قواعد ممهّدة لاستنباط المؤمّن والمعذّر والمنجّز.

ورابعها : ما هو المختار من أنّه هو العلم بالقواعد التي يمكن أن تقع كبرى للشكل القياسيّ الذي رتّب لتحصيل الحجّة على الأحكام من المنجّز أو المعذّر.

فبقولنا : يمكن أن تقع كبرى للشكل القياسيّ ، خرج سائر العلوم من النحو والصرف والمنطق لأنّها لا يمكن أن تقع كبرى للشكل القياسيّ الذي رتّب لتحصيل الحجّة. نعم يكون بعض مباحثها من المبادئ والصغريات لهذه الكبريات. وممّا ذكر يظهر أنّ عدّة من المسائل التي ذكرت في علم الاصول خارجة عنه أيضا كالبحث عن «أدوات العموم» أو «أنّ المشتقّات ظاهرة فيمن تلبّس بالمبدإ أو تعمّ من انقضى عنه المبدأ» أو «أنّ الأوامر ظاهرة في الوجوب» أو «أنّ النواهي ظاهرة في الحرمة» وغير ذلك من صغريات الكبرى الاصوليّ من حجّيّة الظهورات فإنّ هذه المسائل لا تقع بنفسها في الشكل القياسيّ بل بواسطة حجّيّة الظهورات مثلا يقال إنّ هذا ظاهر في كذا أو كذا والظهورات حجّة فالحكم كذا أو كذا فالواقع في كبرى الشكل المذكور هو حجّيّة الظهورات لا أنّ هذا ظاهر في كذا أو كذا ولعلّ وجه ذكر هذه المبادئ أو الصغريات في علم الاصول هو عدم إيفاء حقّ البحث عنها في اللغة أو غيرها من سائر العلوم.

كما أنّ بقولنا : لتحصيل الحجّة على الحكم ، يخرج جميع القواعد الفقهيّة لأنّها نفس الحكم لا الحجّة على الحكم والمسائل الاصوليّة ليست نفس الحكم بل تكون حجّة على الحكم كحجّيّة الظواهر وحجّيّة خبر الواحد وحجّيّة الاستصحاب وغيرها كما لا يخفى.

وأيضا عنوان الحجّة على الحكم أعمّ من موارد الأمارات والذي ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل بعد اليأس عن الظفر بالوظيفة الشرعيّة كما في الاصول العمليّة

٨٩

في الشبهات الحكميّة سواء كانت محرزة أو غير محرزة فلا حاجة في شمول التعريف للاصول العمليّة في الشبهات الحكميّة وحجّيّة الظنّ على الحكومة إلى أن يقال كما في الكفاية من أنّه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي ينتهي إليها في مقام العمل.

وكيف كان فهذا التعريف هو أولى ممّا في تهذيب الاصول من أنّه هو القواعد الآليّة التي يمكن أن تقع في كبرى استنتاج الأحكام الكلّيّة الفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة. لأنّ هذا التعريف وإن كان بريئا عن بعض ما اورد على التعاريف الاخرى ولكنّه أيضا لا يكون كذلك بالنسبة إلى بعض آخر كإشكال تعدّد الغرض مع إمكان ذكر عنوان كتحصيل الحجّة على الحكم حتّى يعمّ البابين ولا يلزم تعدّد الغرض.

وكيف كان فلفظ : (الإمكان) في قولنا : التي يمكن أن تقع الخ. وفي قول تهذيب الاصول يدلّ على أنّ اللازم في مسائل علم الاصول هو إمكان وقوعها في كبرى الشكل القياسيّ لا وقوعها الفعليّ ولذا يبحث في علم الاصول عن مسائل كحجّيّة القياس مع أنّها لا تقع في كبرى الشكل القياسيّ بالوقوع الفعليّ عندنا للنهي عنها.

ثمّ إنّ التعريف المختار هو أولى أيضا ممّا في مصابيح الاصول من أنّه هو العلم بالقواعد لتحصيل العلم بالوظيفة الفعليّة في مرحلة العمل. (١)

لأنّ هذا التعريف لا يشمل المباحث الاصوليّة التي تكون نتيجة البحث فيها منفيّة كحجّيّة القياس وغيرها فإنّه لا يترتّب عليها تحصيل العلم بالوظيفة الفعليّة في مرحلة العمل مع أنّها من المسائل الاصوليّة بالاتّفاق. هذا بخلاف التعريف المختار فإنّ لفظ الإمكان كما عرفت يشملها على أنّ العلم بالوظيفة الفعليّة في مرحلة العمل لا يترتّب على المسائل الاصوليّة بنفسها ما لم ينضمّ إليها صغرياتها وإلّا فمجرّد العلم بحجّيّة

__________________

(١) مصابيح الاصول ١ / ٨.

٩٠

خبر الثقة لا يترتّب عليه العلم بالوظيفة الفعليّة في مرحلة العمل.

* * *

الخلاصة :

وقد عرفت تعاريف القوم حول علم الاصول والمناقشات الواردة عليها ونلخّصها كما يلي :

١ ـ تعريف المشهور وهو «العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة» لا يتمّ طردا بعد شموله لسائر القواعد الممهّدة لذلك كالقواعد المنطقيّة والرجاليّة والأدبيّة ولا عكسا بعد عدم جامعيّته لما لا استكشاف فيه بالنسبة إلى الأحكام الشرعيّة كالحكم بالتخيير عند دوران الأمر بين المحذورين أو الحكم بالاحتياط عند العلم الإجماليّ وغير ذلك.

٢ ـ تعريف صاحب الدرر وهو العلم بالقواعد الممهّدة لكشف حال الأحكام الكليّة الواقعيّة المتعلّقة بأفعال المكلّفين سواء تقع في طريق العلم بها كما في بعض القواعد العقليّة أو تكون موجبة للعلم بسقوط العقاب كذلك فإنّ القواعد المذكورة كلّها إذا انضمّت إلى صغرياتها فالنتيجة الحاصلة تنفع بحال حكم شرعيّ آخر وراء نفسها إمّا لكونها طريقا علميّا لثبوته أو لا ثبوته وإمّا سببا لتنجّزه أو لا تنجّزه ، لا يتمّ طردا بعد عدم اختصاص القواعد الممهّدة بالمسائل الاصوليّة.

٣ ـ تعريف صاحب الكفاية وهو «صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي ينتهي إليها في مقام العمل» لا يتمّ طردا لأنّ قوله : ينتهي إليها في مقام العمل يشمل جميع القواعد الفقهيّة.

٤ ـ تعريف مصابيح الاصول وهو «العلم بالقواعد لتحصيل العلم بالوظيفة الفعليّة في مرحلة العمل» غير تامّ أيضا لأنّه غير شامل للمباحث الاصوليّة التي تكون نتيجة

٩١

البحث فيها منفيّة كحجّية القياس والإجماع المنقول وغيرهما.

٥ ـ تعريف تهذيب الاصول وهو «القواعد الآليّة التي يمكن أن تقع في كبرى استنتاج الأحكام الكلّيّة الفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة» أحسن ما في الباب اللهمّ إلّا أن يقال إنّ تعدّد الغرض يوجب تعدّد العلم بناء على مختار صاحب الكفاية من أنّ تمايز العلوم بتمايز الأغراض وعليه فلا مناص من أن يفرض غرض جامع بين الغرضين كتحصيل الحجّة على الحكم الشرعيّ حتّى لا يلزم تعدّد علم الاصول فافهم.

٦ ـ تعريف المختار وهو أنّ علم الاصول «علم بالقواعد التي يمكن أن تقع كبرى للشكل القياسيّ الذي رتّب لتحصيل الحجّة على الأحكام سواء كانت معذّرة أو منجّزة» وهو تامّ إذ بقولنا : يمكن أن تقع كبرى للشكل القياسيّ الذي رتّب لتحصيل الحجّة الخ يخرج سائر العلوم من النحو والصرف والمنطق وغيرها لأنّها لا تقع كبرى للشكل القياسيّ بل بعضها يكون من المبادئ والصغريات وأيضا بقولنا لتحصيل الحجّة على الحكم يخرج جميع القواعد الفقهيّة لأنّها تفيد نفس الحكم لا الحجّة على الحكم.

* * *

الجهة الثانية : في تعريف موضوع كلّ علم

عرّف في المنطق موضوع كلّ علم : «بأنّه الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة.» ثمّ استشكل بعض على ذلك بأنّ أغلب محمولات العلوم عارضة لأنواع موضوعاتها ومعلوم أنّ إسناد العروض إلى جنس الأنواع يكون مجازا فتصير هذه العوارض أعراضا غريبة لموضوع العلم لا ذاتيّة وعليه فذكر خصوص العوارض الذاتيّة في تعريف موضوع العلم كما ترى.

واجيب عن ذلك في علم المعقول (بجواب مذكور في تعليقة الأصفهانيّ قدس‌سره) وفي سائر العلوم : بأنّ الموضوع عنوان انتزاعيّ عن موضوعات المسائل لا أنّه كلّيّ

٩٢

يتخصّص في مراتب تنزّله بخصوصيّات تكون تلك الخصوصيّات واسطة في عروض محمولاتها له فمحمولات المسائل تحمل على معنون هذا العنوان الانتزاعيّ بلا توسّط شيء في اللحوق والصدق وعليه فيكون فعل المكلّف المتحيّث بحيثيّة الصلاتيّة والصوميّة مثلا عنوانا انتزاعيّا من الصلاة والصوم وغيرهما لا أنّه كلّيّ يتخصّص في مراتب تنزّله بخصوصيّات تكون واسطة في عروض لواحقه له ومن المعلوم أنّ المحمولات الطلبيّة والإباحيّة تحمل على معنون هذا العنوان الانتزاعيّ بلا توسّط شيء في اللحوق والصدق. ثمّ قال : والتحقيق أنّ الالتزام بعدم الواسطة في العروض من رأس من باب لزوم ما لا يلزم والسرّ فيه أنّ حقيقة كلّ علم عبارة عن مجموع قضايا متفرّقة يجمعها الاشتراك في ترتّب غرض خاصّ ونفس تلك القضايا مسائل العلم ومن الواضح أنّ محمولات هذه المسائل أعراضا ذاتيّة لموضوعاتها وبهذا يتمّ أمر العلم ولا يبحث عن ثبوت شيء للموضوع الجامع دائما في نفس العلم فلا ملزم بما ذكروا من كون محمولات القضايا أعراضا ذاتيّة للموضوع الجامع إلى أن قال : فاللازم أن تصدق محمولات القضايا على موضوع العلم صدقا حقيقيّا بلا مجاز لا أن تكون الأعراض أعراضا ذاتيّة بالمعنى المصطلح بل بحيث لا يرى اللاحق لاحقا لغيره وإن كان بالنظر الدقيق ذا واسطة في العروض وبعبارة اخرى يكون الوصف وصفا له بحال نفسه لا بحال متعلّقه بالنظر العرفيّ المسامحيّ فافهم واغتنم. (١)

وفيه أوّلا : أنّ حديث الانتزاع عدول عن كون الموضوع لكلّ علم كلّيّا جامعا لموضوعات المسائل بحيث ينطبق على موضوعات المسائل كما يشهد له اشتراك المسائل في ترتّب غرض خاصّ عليها مثلا عنوان ذات الحجّة في الفقه أو ما يصلح لأن يحتجّ به عنوان كلّيّ يصحّ انطباقه على كلّ واحد من الموضوعات في علم الاصول

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٦.

٩٣

فحديث الانتزاع خروج عن الفرض.

وثانيا : لا ملزم لأن تصدق محمولات القضايا على موضوع العلم صدقا حقيقيّا بلا مجاز بل يكفي الوساطة في العروض أيضا إذا كان موردا لغرض المدوّن كما يكون كذلك في علم النحو وسيأتي بيانه وعليه فإسناد عوارض موضوعات المسائل إلى الجامع مجاز لأنّ موضوعات المسائل بالنسبة إلى الجامع في حكم الأنواع بالنسبة إلى الجنس وأمّا الجواب عنه بما في منتهى الاصول من أنّ الصواب أن يقال : أنّ الكلّيّ الطبيعيّ حيث أنّه لا بشرط وغير مقيّد بقيد من القيود المصنّفة والمشخّصة له يحمل على جميع أصنافه وأشخاصه حملا حقيقيّا شائعا صناعيّا فإذا كان العرض العارض على الصنف أو الشخص عارضا على الطبيعة المشخّصة بخصوصيّات الصنفيّة أو الشخصيّة فهذا العرض كما أنّه عارض على الصنف والشخص حقيقة كذلك عارض على الطبيعة اللابشرط حقيقة وبالدقّة العقليّة من دون حاجة إلى التقييد بحيثيّة من الحيثيّات المذكورة والسرّ في ذلك أنّ الصنف والشخص ليسا إلّا تلك الطبيعة ولا فرق بينها وبينهما إلّا بحسب التضييق الوارد عليها من ناحية تلك الخصوصيّات وأعراضهما حقيقة عارضة عليها ولا يصحّ سلبها عنها لا في مقام الحمل فقط بل حتّى في مقام العروض نعم إذا كان عارضا على نفس الخصوصيّة المصنّفة أو المشخّصة لا على الطبيعة المتخصّصة بهما فأعراضهما حينئذ عرض غريب لها ولعمري هذا واضح وإن استصحب هذا الإشكال جماعة من المحقّقين. (١)

ففيه أنّ المعروض وإن كان هو الطبيعة ولكن الطبيعة المأخوذة في موضوعات المسائل هي الطبيعة المتحصّصة لا الطبيعة المطلقة وعليه فإسناد عارض الطبيعة المتحصّصة إلى الطبيعة المطلقة ليس على سبيل الدقّة بل باعتبار أنّه عارض لحصّتها.

__________________

(١) منتهى الاصول ١ / ١٢.

٩٤

وممّا ذكر يظهر ما في الكفاية حيث قال في تفسير العوارض الذاتيّة : «أي بلا واسطة في العروض» يعني أنّ كلّ محمول يكون إسناده إلى الموضوع من باب إسناد الشيء إلى ما هو له ولا يصحّ سلبه عنه هو من العوارض الذاتيّة وكلّما لم يكن كذلك كإسناد الحركة إلى جالس السفينة فهو عرض غريب ويصحّ سلبه عنه.

وعليه فليس المراد من العوارض الذاتيّة ، العوارض الذاتيّة المصطلحة في المنطق بل المراد منها هي المحمولات الحقيقيّة العرفيّة فيخرج بذلك القيد المحمولات التي ليست محمولات حقيقيّة على الموضوع بل تكون من باب وصف الشيء بحال متعلّقه وذلك لما عرفت من أنّ إسناد أحكام الأنواع إلى الأجناس لا يكون حقيقيّا بل من باب وصف الجنس بحال بعض أفراده وهو نوع. هذا مضافا إلى ما أورد عليه بعض أساتذتنا من أنّ موضوع علم النحو هو آخر الكلمة إذ هو معروض الرفع والنصب والجرّ حقيقة وذاتا وبواسطته تعرض هذه العوارض على الكلمة كالفاعل والمفعول ومدخول الجارّ. ففي قولنا : الفاعل مرفوع مثلا لا يكون المرفوع هو تمام أجزاء ما يكون فاعلا بل المعروض الذاتيّ هو آخر الكلمة وباعتباره وبواسطته صار الفاعل بتمام أجزائه مرفوعا ومن المعلوم أنّه من باب وصف الكلّ بوصف جزئه ويكون من باب الواسطة في العروض فلا وجه لإخراج أمثال هذه العوارض إذا كانت موردا لغرض المدوّن بخلاف ما إذا لم تكن موردا لغرضه فإنّه لا داعي لطرحه وعليه فالأولى أن يقال مكان العوارض الذاتيّة : «العوارض المقصودة» سواء كانت ذاتيّة أو غريبة وسواء كانت حقيقيّة أو غير حقيقيّة وسواء كانت من أوصافه أو من أوصاف متعلّقه. فلا يصحّ ضميمة قوله : «بلا واسطة في العروض» في التعريف. فيمكن أن نعرّف الموضوع لكلّ علم بأنّه : «الذي يبحث فيه عن عوارضه المقصودة سواء كانت ذاتيّة أو غريبة حقيقيّة أو غير حقيقيّة» فلا تغفل.

* * *

٩٥

الخلاصة :

ولا يخفى عليك أنّ قضايا العلوم مركّبة من الموضوع والمحمول ومن المعلوم أنّ كلّ محمول عارض لموضوعه وحيث أنّ الموضوع مندرج تحت الموضوع الجامع الكلّيّ فعارضه عارض للموضوع الجامع الكلّيّ بواسطة عروضه لنوعه.

وحيث أنّ العوارض على أنحاء ؛ منها : العارض الذاتيّ الذي يعرض لذات الموضوع من دون وساطة شيء كقولنا في الاصول : الظهورات حجّة.

ومنها : العارض الذي يعرض لذات الموضوع بواسطة شيء كعروض الرفع لفاعل كقولنا : «كلّ فاعل مرفوع» ، بواسطة عروضه لآخر الكلمة فالفاعل مرفوع من باب توصيف الكلّ بوصف جزئه وليس ذاتيّا له وإلّا فليس الفاعل بتمام أجزائه مرفوع كما هو واضح بل الرفع عارض ذاتيّ لآخر الكلمة وعارض غير ذاتيّ للفاعل وهكذا في سائر موارد الإعراب وكعروض عوارض الأنواع بالنسبة إلى جنسها فإنّ عروض الأنواع بالنسبة إلى جنسها بواسطة أنواعه وليس ذاتيّا له.

ومعلوم أنّ كلّ واحد من الأنحاء المذكورة من أغراض مدوّن العلوم فلا وجه لإخراج العارض بالواسطة إذا كان موردا لغرض مدوّن العلم.

وعليه فتعريف موضوع كلّ علم بما في المنطق من «أنّه الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة» لا يخلو عن المناقشة والنظر بعد كون عروض المحمولات للموضوع الجامع بواسطة عروضها لأنواعه وكون العوارض بالنسبة إلى جنس الأنواع أعراضا غريبة بعد ما عرفت من أنّ الإعراب عارض لآخر الكلمة ذاتا ومع ذلك يكون من عوارض الفاعل والمفعول ونظائرهما.

والقول بأنّ الموضوع هو العنوان الانتزاعيّ من موضوعات المسائل لا أنّه كلّيّ يتخصّص في مراتب تنزّله بخصوصيّات تكون تلك الخصوصيّات واسطة في عروض

٩٦

محمولاتها له كما في تعليقة الأصفهانيّ قدس‌سره عدول عمّا مرّ من إمكان تصوير الموضوع الكلّيّ الجامع لموضوعات المسائل مثل عنوان «ذات الحجّة في الفقه» أو «ما يصلح لأن يحتجّ به على الأحكام الكلّيّة في الفقه» فحديث الانتزاع خروج عن الفرض.

هذا مضافا إلى ما عرفت من أنّ المحمولات في النحو لا تكون أعراضا ذاتيّة لموضوعات مسائله أيضا بل تحمل عليها من باب توصيف الكلّ بوصف جزئه.

وممّا ذكر يظهر ما في دعوى أنّ اللازم هو صدق محمولات القضايا على موضوع العلم صدقا حقيقيّا بلا مجاز لا أن تكون الأعراض أعراضا ذاتيّة بالمعنى المصطلح بل بحيث لا يرى اللاحق لاحقا لغيره وإن كان بالنظر الدقيق ذا واسطة في العروض وبعبارة اخرى يكون الوصف وصفا له بحال نفسه لا بحال متعلّقه وذلك لما عرفت من أنّ حمل محمولات الأنواع على جنسها بواسطة الأنواع من المجاز كما أنّ حمل الإعراب على الفاعل أو المفعول مع أنّه عارض لآخر الكلمة من باب المجاز وليس الوصف وصفا له بحال نفسه كما لا يخفى.

وممّا ذكر يظهر أيضا أنّ تفسير العوارض الذاتيّة بما لا واسطة له في العروض كما في الكفاية لا يكفي في تصحيح تعريف موضوع كلّ علم بأنّه الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة لما عرفت من أنّ المحمولات عوارض لموضوعاتها بواسطة عروضها للأنواع أو بواسطة عروضها لآخر الكلمة فالأولى هو أن يقال في تعريف الموضوع لكلّ علم بأنّه الذي يبحث فيه عن عوارضه المقصودة سواء كانت ذاتيّة أو غريبة ، حقيقيّة أو مجازيّة. فالمعيار هو أن يكون العوارض مقصودة لمدوّن العلم فلا تغفل.

* * *

الجهة الثالثة : في تمايز العلوم

لا مجال للبحث في أنّ تمايز العلوم بالمحمولات أو بالغرض أو بالموضوع والغرض

٩٧

معا بعد وضوح كونها متمايزة بالموضوع الجامع الذي لا يندرج تحت جامع آخر تكون محمولات القضايا أعراضا له أيضا ولا يرد حينئذ على كون التمايز بالموضوع ما أورده في الكفاية من أنّ لازمه هو كون كلّ باب بل كلّ مسألة من كلّ علم علما على حدة لما عرفت من أنّ التمايز بين العلوم بالموضوع الذي لا يندرج تحت جامع آخر وموضوع كلّ باب أو كلّ مسألة من علم يندرج تحت موضوع واحد بحيث تكون محمولات القضايا أعراضا له فمثل موضوعات أبواب النحو أو مسائلها ككون الفاعل مرفوعا أو المفعول منصوبا ونحو ذلك تندرج تحت موضوع واحد جامع كلّيّ كالكلمة والكلام من حيث قابليّتهما للإعراب والبناء بحيث يحمل عنوان المرفوع أو المنصوب على الكلمة هذا بخلاف الموضوعات الجامعة الكلّيّة التي لا تندرج تحت جامع آخر بنحو تكون محمولات المسائل أعراضا له فإنّ هذه الموضوعات وإن أمكن أن تندرج تحت جامع آخر كاندراج موضوع النحو من الكلمة والكلام من حيث الإعراب والبناء وموضوع الصرف من الكلمة من حيث الصحّة والاعتلال تحت الكيف المسموع ولكن محمولات قضايا العلمين لا تعدّ أعراضا للكيف المسموع لعدم الارتباط بينهما بل المحمولات عوارض للكلمة والكلام بما لهما من الحيثيتين المتقدّمتين.

فالموضوع الجامع لموضوعات مسائل العلم يكفي للتمييز بين العلوم والفنون ولا حاجة إلى ضميمة وحدة الغرض لحصول التمييز بالموضوع وحده كما عرفت بل التمييز بالموضوع مقدّم رتبة على التمييز بالمحمول أو الغرض فلا يبقى إجمال حتّى يرتفع بالأمر المترتّب عليه من الغرض فافهم واستقم.

ثمّ لا يخفى أنّه ذهب في تهذيب الاصول إلى أنّ التمايز بنفس القضايا والمسائل ولا حاجة إلى نفس الموضوع الجامع فضلا عن كون التمايز به لأنّ العلوم لم تكن في ابتداء الأمر إلّا قضايا قليلة قد تكمّلت بمرور الزمان فلم يكن الموضوع عند المؤسّس

٩٨

المدوّن مشخّصا حتّى يجعل البحث عن أحواله وما تقدّم من علم الجغرافيا أصدق شاهد إذ العلم بأوضاع الأرض من جبالها ومياهها وبحارها وبلدانها لم يتيسّر إلّا بمجاهدة الرجال قد قام كلّ على تأليف كتاب في أوضاع مملكته الخاصّة به حتّى تمّ العلم ولم يكن الهدف هو هذا البحث لدى هؤلاء الرجال ، العلم بأوضاع الأرض حتّى يكون البحث عن أحوال مملكته بحثا عن عوارضها. ونظيره علم الفقه فلم يكن الفقيه الباحث لدى تأسيسه ناظرا أو لاحظا فعل المكلّف حتّى يجعله موضوعا لما يحمله عليه وما يسلبه عنه. مع أنّ ما تخيّلوه موضوعا للعلم لا ينطبق على أكثر مسائل باب الضمان والإرث والمطهّرات والنجاسات وسائر الأحكام الوضعيّة ممّا هي من الفقه بالضرورة كما أنّ ما تصوّروه موضوعا للفنّ الأعلى لا يطّرد لاستلزامه خروج مباحث الماهيات التي هي من أدقّ مسائله عنه ونظيرها مباحث كيفيّة المعاد والاعدام والجنّة والنار والقول بالاستطراد مع أنّ القضايا السلبيّة التحصيليّة موجودة في مسائل العلوم وهي لا تحتاج إلى وجود الموضوع ولم تكن أحكامها من قبيل الأعراض للموضوعات بناء على التحقيق فيها من كون مفادها سلب الربط.

ثمّ صرّح بأنّ التمايز بين العلوم بذاتها فقضايا كلّ علم مختلفة ومتميّزة بذواتها عن قضايا علم آخر من دون حاجة إلى التكلّفات الباردة اللازمة من كون التمايز بالموضوع. انتهى. (١)

ويمكن أن يقال : قلّة القضايا في بدو الأمر لا توجب أن لا يكون لها موضوع كلّيّ عند من بحث عنها فمن الممكن أنّ الباحث عن علم الجغرافيا أراد تبيين أوضاع الأرض من جبالها ومياهها وبحارها وبلدانها ومعادنها وغير ذلك وإن لم يتمكّن من جميع الموارد عملا في ذلك الحين كما أنّ الباحث عن علم الهيئة أراد تبيين أوضاع

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ٨ ـ ٩.

٩٩

الكواكب من ثوابتها وسيّاراتها وسرعتها وبطؤها ومنظومتها ونسبة ما فيها مع بعضها وغير ذلك وإن لم يتمكّن من جميع الموارد عملا في ذلك الحين وعليه فالموضوع كلّيّ وإن لم يتمكّن الباحث إلّا من ملاحظة جهة خاصّة من جهات الأرض أو ملاحظة سيّارة من السيّارات فإنّ البحث عنهما من باب أنّهما مصداقان من ذين الكلّيّين اللذين كانا في كمون نفس الباحثين إذ الباحث عن العلوم ليس كالحاكم على منطقة حتّى يقتصر نظره إلى موضع خاصّ ولا يلتفت إلى سائر المناطق. كما أنّ اللغوى إذا وضع السراج لسراج خاصّ في عصره لم يجعله مخصوصا به ولذلك اطلق السراج إطلاقا حقيقيّا على كلّ سراج حادث وإلّا يحتاج في إطلاقه عليه إلى عناية وارتكاب مجاز. فمجرّد عدم تمكّن الباحث عن جميع موارد الموضوع العامّ لا يدلّ على عدم وجود الموضوع العامّ هذا مضافا إلى إمكان منع كون الجغرافيا علما لعدم بنائه على القواعد الكلّيّة بل هو العلم بالمناطق الشخصيّة الجزئيّة بحيث لا يعمّ غيرها فتأمّل.

وهكذا في الفقه لم يتصدّ الفقهاء لاستنباط حكم أشياء خاصّة معيّنة بل هم في صدد بيان أحكام جميع الموضوعات فالفقيه أراد استكشاف الأحكام الشرعيّة من التكليفيّة والوضعيّة. ثمّ إنّ قصورنا في تعريف الموضوع بالنسبة إلى بعض العلوم لا يكشف عن عدم وجود الموضوع أصلا للعلوم بل اللازم هو التعبير عنه بالكلّيّ الذي اتّحد مع موضوعات مسائله ثمّ السعي نحو استكشاف الموضوع على نحو يعمّ موضوعات جميع المسائل عدا ما لا يمكن إدراجه في الموضوع إلّا استطرادا فمثلا يمكن أن يقال في موضوع الفقه : أنّ الفقهاء يبحثون عن طبيعة أفعال المكلّف ويقولون بوجوبها وحرمتها واستحبابها وكراهتها وإباحتها. فالموضوع عندهم هو طبيعة الأفعال ويبحثون عن أحكامها.

وما ذكر من الضمانات والميراث والمطهّرات والنجاسات وسائر الأحكام

١٠٠