عمدة الأصول - ج ١

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

العلم المنصوب وحدّ الفرسخ أو بين سائر الدوالّ ومداليلها يكون من الملازمات الاعتباريّة ومن المعلوم أنّ حكم الملازمة الاعتباريّة كحكم الملازمة الواقعيّة فكما أنّ الانتقال من أحد المتلازمين الواقعيّين إلى الآخر من جهة الملازمة الواقعيّة لا من جهة التنزيل والهوهويّة كذلك في الملازمة الاعتباريّة فلا تغفل.

هذا مضافا إلى أنّ الهوهويّة وفناء الألفاظ في المعاني بحيث يلقي المتكلّم إلى المخاطب المعاني لا الألفاظ ينافي التنزيل فإنّ مقتضى التنزيل هو استقلال المنزّل في مقابل المنزّل عليه حتّى تترتّب عليه آثار المنزّل عليه كما يكون كذلك في مثل قولهم : هذا الرجل أسد. وهو لا يساعد مع فناء اللفظ في المعنى بحيث يكون اللفظ وجودا لفظيّا للمعنى ، هكذا قال استاذنا الفريد قدس‌سره فتأمّل.

وكيف كان فلا يكون اللفظ وجودا لفظيّا للمعاني وعليه فما حكي عنهم من جعل اللفظ وجودا لفظيّا للمعاني محمول على العناية فلا تغفل.

ثمّ لا يخفى عليك أيضا أنّ المرآتيّة عن المعنى والحكاية عنه من آثار الارتباط واختصاص اللفظ بالمعنى المجعول بتعيين الواضع وليست غير الدلالة الفعليّة إذ بعد العلم بالوضع واعتبار الارتباط يكون اللفظ حاكيا عن المعنى ومرآتا وعلامة له.

في صحّة تقسيم الوضع إلى التعيينيّ والتعيّنيّ وعدمها :

ثمّ إنّ تقسيم الوضع إلى التعيينيّ والتعيّنيّ كما ذهب إليه في الكفاية منظور فيه بما ذكره بعض مشايخنا تبعا لنهاية الاصول من أنّ تعيين لفظ لمعنى وتخصيصه به فرع القصد وهو مفقود في التعيّنيّ فالوضع بالمعنى المصدريّ لا يقبل التقسيم المذكور وأمّا بمعناه الاسم المصدريّ اللازم من الوضع بالمعنى المصدريّ وهو الارتباط والاختصاص قابل للتقسيم المذكور.

قال المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره : وأمّا على ما ذكرنا من أنّ حقيقة الوضع اعتبار الواضع

١٢١

فلا جامع بينهما بل الوضع التعيّنيّ يشترك مع التعيينيّ في نتيجة الأمر إذ كما أنّ اعتبار الواضع يوجب الملازمة بين اللفظ والمعنى من حيث الانتقال من سماع اللفظ إلى المعنى كذلك كثرة الاستعمال توجب استيناس أذهان اهل المحاورة بالانتقال من سماع اللفظ إلى المعنى فلا حاجة إلى دعوى اعتبار أهل المحاورة على حدّ اعتبار الواضع فإنّه لغو بعد حصول النتيجة. (١)

ولكن الارتباط الحاصل من كثرة الاستعمال ليس ارتباطا اعتباريّا بل هو أمر تكوينيّ يكون العلم بأحدهما موجبا لتداعي الآخر فلا تغفل.

* * *

المقام الثاني : أقسام الوضع :

ولا يخفى أنّ الوضع يتقوّم باللفظ والمعنى ولكلّ واحد منهما انقسامات :

أقسام الوضع باعتبار اللفظ :

ينقسم الوضع باعتبار اللفظ إلى أربعة أقسام لأنّ الواضع يلاحظ ويتصوّر :

١ ـ طبيعة لفظ معيّن بمادّته وهيئته ويضعها بإزاء المعنى بحيث لا يحتاج في تعيين مصاديقه للمعنى إلى معيّن ووضع آخر فإذا وضع ذلك اللفظ بالملاحظة المذكورة للمعنى تعيّن له حيثما وجد من غير أن يحتاج في تعيين مصاديقه للمعنى إلى وضع آخر بل يتعيّن له بذلك الوضع وهو واقع شائع في أهل الوضع ، فالوضع حينئذ عامّ والموضوع أيضا عامّ.

٢ ـ طبيعة لفظ معيّن بمادّته وهيئته ويضعها الواضع بإزاء المعنى المقصود بعد

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٢١.

١٢٢

ملاحظة خصوص مصاديقها بواسطتها فالوضع حينئذ عامّ والموضوع خاصّ ولكن هذه الملاحظة لا حاجة إليها ولم تكن شائعة عند أهل الوضع ولذا قال في هداية المسترشدين : إنّ الاعتبار المذكور تعسّف ركيك لا داعي إلى الالتزام به ولا إلى احتماله في المقام مع ظهور خلافه. (١)

٣ ـ شخص لفظ خاصّ ويضعه بنفسه للمعنى فيكون الوضع خاصّا والموضوع أيضا خاصّا ولا ريب في فساده فإنّ لازمه هو عدم وضع سائر أفراد هذه الطبيعة للمعنى وإنّما تكون مشابهة للموضوع وليست بموضوعة مع أنّ الألفاظ عند أهل الوضع والمحاورة موضوعة بلا ريب.

٤ ـ شخص لفظ خاصّ ويعتبر وجها للطبيعة الكلّيّة فيضع طبيعة اللفظ للمعنى فيكون الوضع خاصّا والموضوع عامّا ولكنّه غير ممكن لأنّ الشخص لا يكون وجها للطبيعة الكلّيّة إذ لا تتحقّق فيه إلّا حصّة منها فكيف تكون الحصّة وجها للطبيعة بما هي الطبيعة نعم يمكن الانتقال منها إلى الطبيعة وملاحظتها ووضعها للمعنى فيؤول إلى القسم الأوّل كما لا يخفى.

فينحصر الأقسام في الأربعة :

١ ـ الوضع العامّ والموضوع العامّ

٢ ـ الوضع العامّ والموضوع الخاصّ

٣ ـ الوضع الخاصّ والموضوع الخاصّ

٤ ـ الوضع الخاصّ والموضوع العامّ

وقد عرفت أنّ الواقع هو الأوّل دون الثاني لتعسّفه ودون الثالث لعدم الفائدة وخلاف الواقع ودون الرابع لعدم إمكانه.

__________________

(١) هداية المسترشدين / ٢٦.

١٢٣

أقسام الوضع باعتبار المعنى :

ينقسم الوضع باعتبار المعنى إلى أربعة أقسام :

١ ـ الوضع العامّ والموضوع له العامّ

٢ ـ الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ

٣ ـ الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ

٤ ـ الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ

لا إشكال في وقوع الاوّل والثاني فإنّ الواضع يلاحظ إمّا طبيعة المعنى العامّ ويضع اللفظ في قباله كأسماء الأجناس ولا ريب في إمكانه ووقوعه ، أو ماهيّة شخص خاصّ ويضع اللفظ في قباله كأسماء الأعلام ولا ريب في وقوعه أيضا.

إمكان الثالث :

يمكن للواضع أن يلاحظ طبيعة المعنى العامّ ويضع اللفظ في قبال مصاديق ذلك المعنى العامّ وهو كما في الكفاية ممكن لأنّ العامّ من وجوه تلك المصاديق ومعرفة وجه الشيء معرفته بوجه (بخلاف الخاصّ فإنّه بما هو خاصّ لا يكون وجها للعامّ ولا لسائر الأفراد فلا يكون معرفته وتصوّره معرفة للعامّ ولا معرفة لسائر الأفراد ولو بوجه لأنّ الخاصّ حصّة من العامّ ولا غير) وعليه فبعد ملاحظة طبيعة المعنى العامّ ووضع اللفظ في قبال مصاديق ذلك المعنى العامّ يصير اللفظ كأنّه موضوعا لكلّ واحد من المصاديق ولذا قال في منتهى الاصول يصير هذا القسم من قبيل ما هو متّحد اللفظ ومتكثّر المعنى ويكون في الحقيقة من قبيل المشترك اللفظيّ لأنّ المشترك اللفظيّ حقيقة عبارة عن كون لفظ واحد موضوعا لمعاني متعدّدة سواء كان بأوضاع متعدّدة منفصلة بعضها من بعض أو يجمعها في لحاظ واحد.

١٢٤

ولكن أورد على إمكان هذا القسم في تهذيب الاصول بأنّ كلّ مفهوم لا يحكي إلّا عمّا هو بحذائه ويمتنع أن يكون حاكيا عن نفسه وغيره والخصوصيّات وإن اتّحدت مع العامّ وجودا إلّا أنّها تغايره عنوانا وماهيّة فحينئذ إن كان المراد من لزوم لحاظ الموضوع له في الأقسام هو لحاظه بما هو حاك عنه ومرآة له فالقسم الثالث والقسم الرابع سيّان في الامتناع إذ العنوان العامّ كالإنسان لا يحكي إلّا عن حيثيّة الإنسانيّة دون ما يقارنها من العوارض والخصوصيّات لخروجها عن حريم المعنى اللابشرطيّ والحكاية فرع الدخول في الموضوع له. وإن كان المراد من شرطيّة لحاظه هو وجود أمر يوجب الانتقال إليه فالانتقال من تصوّر العام إلى تصوّر مصاديقه أو بالعكس بمكان من الإمكان والظاهر كفاية الأخير بأن يؤخذ العنوان المشير الإجماليّ آلة للوضع لأفراده ولا يحتاج إلى تصوّرها تفصيلا بل ربما يمتنع لعدم تناهيها. وبذلك يظهر ضعف ما ربما يقال إنّ الطبيعة كما يمكن أن تلاحظ مهملة جامدة يمكن لحاظها سارية في أفرادها متحدة في مصاديقها وعليه تكون عين الخارج ونفس المصاديق ضرورة اتّحاد الماهيّة والوجود في الخارج والانفصال إنّما هو في الذهن فتصحّ مرآتيّتها للأفراد. وجه الضعف أنّ الاتّحاد الخارجيّ لا يصحّح الحكاية وإلّا لكانت الأعراض حاكية عن جواهرها ومن الواضح أنّ المشخّصات غير داخلة في مفهوم العامّ فكيف يحكي عنها والحكاية تدور مدار الوضع والدخول في الموضوع له. (١)

يمكن أن يقال إنّ كلّ فرد من أفراد العامّ واجد لحصّة من الطبيعة وبها تتحقّق فرديّته للعامّ من دون دخل لسائر المشخّصات وإن كانت ملازمة لها في الخارج فالجامع الكلّيّ حاك عن حصصه المحقّقة في الخارج دون سائر المشخّصات الملازمة لها ولا ضير فيه لأنّ اللازم في الوضع للفرد هو ملاحظة الحصص المعروضة للعوارض

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٥ ـ ١٦.

١٢٥

بوجه كوجه العامّ ولا يلزم ملاحظة سائر الخصوصيّات التي تكون متحدة مع حصّة العامّ وليس لها دخالة في فرديّتها للعامّ نعم لو اريد أن يكون العامّ وجها للمركّب من الحصص والخصوصيّات العارضة عليها لما كان ذلك ممكنا إذ كلّ مفهوم لا يحكي إلّا عمّا بحذائه إلّا إذا انتزع من الأفراد الخاصّة بما هي خاصّة عنوان ثانويّ يصلّح لأن يكون مشيرا إليها كعنوان ما في الذمة الذي اشير به إلى ما اشتغلت الذمّة به من أنواع الصلوات فيمكن أن يتصوّر العنوان الانتزاعيّ من المركّبات المذكورة ويضع اللفظ لمناشئ الانتزاع كما لا يخفى.

لا يقال : تصوّر النوع ووضع اللفظ بإزاء الحصص المحقّقة لأفراد النوع الملحوظ لا يوجب أن يكون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا لأنّ الموضوع له وإن كان أفراد ذلك النوع إلّا أنّها حيث كانت غير متصوّرة بشخصها بل في ضمن النوع حيث جعل تصوّر النوع مرآة لملاحظتها يكون الوضع والموضوع له نوعيّا وعامّا. (١)

لأنّا نقول : ليس الأمر كذلك لأنّ ملاحظة النوع وحكايته عن حصصه تكفي في كون الموضوع له هو آحاد الطبيعة فلا وجه لما يظهر من كلام صاحب هداية المسترشدين في تقسيمات ملاحظة وضع اللفظ.

ولا داعي لنا إلى ملاحظة الخصوصيّات العارضة على الحصص لأنّ منشأ اعتبار هذا القسم هو كما أفاد استاذنا الفريد رحمه‌الله أنّ العضديّ وأتباعه لما رأوا استعمال المبهمات كالإشارات والموصولات في الخارجيّات والجزئيّات دون الكلّيّات ، ذهبوا في الوضع إلى اعتبار هذا القسم في مثلها إذ لا يمكن بدون ملاحظة عنوان العامّ ملاحظة كلّ حصّة ووضع اللفظ بإزائها لعدم انتهاء الحصص وعدم إمكان إحضارها في الذهن عند الوضع هذا بخلاف إحضارها بوجه العامّ الحاكي عنها فإنّه ممكن وقد اكتفوا في

__________________

(١) هداية المسترشدين / ٢٦.

١٢٦

ملاحظة الجزئيّات والخارجيّات بملاحظتها بعنوان أنّ كلّ واحد منها حصّة من الكلّيّ العامّ لأنّها تكفي في جواز استعمال اسم الإشارة في الجزئيّ الخارجيّ دون الكلّيّ ولا حاجة إلى أزيد من ذلك كملاحظة سائر الخصوصيات العارضة على الحصص الوجوديّة الجزئيّة الخارجيّة.

عدم الحاجة إلى تقييد العنوان العامّ بمفهوم الفرد والشخص :

ثمّ لا يخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه أنّه لا حاجة لنا في الحكاية عن الحصص الخارجيّة فيما يكون مهمّا لنا في الوضع إلى تقييد العنوان العامّ بمفهوم الفرد والشخص بعد ملاحظة العنوان الكلّيّ عنوانا استغراقيّا لأفراده وحصصه كما في القضيّة المحصورة لأنّ ملاحظة العنوان العامّ بالنحو المذكور تغني عن ضميمة العنوان الانتزاعيّ المذكور كالشخص أو الفرد الذي يكون من المعقولات الثانويّة بعد عدم دخالة الخصوصيّات العارضة في الوضع.

وممّا ذكر يظهر الإشكال أيضا فيما ذهب إليه صاحب المحاضرات في الاصول من لزوم ملاحظة العناوين الكلّيّة الانتزاعيّة من الأشخاص والأفراد كمفهوم الشخص والفرد والمصداق وقال لأنّها تحكي في مقام اللحاظ عن الأفراد والمصاديق بوجه وعلى نحو الإجمال فإنّها وجه لها وتصوّرها في نفسها تصوّر لها بوجه وعنوان هذا بخلاف المفاهيم الكلّيّة المتأصّلة كمفاهيم الجواهر والأعراض كالحيوان والإنسان والبياض والسواد ونحو ذلك فإنّها لا تحكي في مقام اللحاظ والتصوّر إلّا عن أنفسها وهي الجهة الجامعة بين الأفراد والمصاديق. (١)

وأنت خبير بأنّ اللازم في حال الوضع في مثل المبهمات والإشارات إن كان

__________________

(١) المحاضرات ١ / ٥٠ ـ ٥١.

١٢٧

ملاحظة خصوصيّات العارضة ولو بنحو الإجمال فلا سبيل إلى ذلك إلّا بملاحظة العناوين الثانويّة كعنوان الشخص والفرد وأمّا إذا كان اللازم هو ملاحظة مصاديق الكلّيّ بما هو كلّيّ من حصص العنوان العامّ الكلّيّ فلا حاجة بعد ملاحظة العنوان العامّ الكلّيّ الاستغراقيّ إلى ملاحظة العناوين الانتزاعيّة ولا إلى عنوان آخر يتّحد مع الأفراد والأشخاص لأنّ العنوان الكلّيّ أيضا يحكي عن حصصه ومصاديقه الخارجيّة.

لا يقال : إنّ الحصص أفراد تحليليّ يعرفها العقل بعد تجريدها عن العوارض والمشخّصات فلا يصلح ملاحظة العام الكلّيّ لملاحظة الأفراد الخارجيّة التي تكون مركّبة من الحصص والعوارض والمشخّصات بل يحتاج إلى العناوين الانتزاعيّة التي تحكي عن المركّبات كمفهوم الشخص أو مفهوم الفرد.

لانّا نقول : كما أنّ للكلّيّ الطبيعيّ حصص ذهنيّة كذلك له حصص خارجيّة فملاحظة الكلّيّ بما هو كلّيّ لا تنفكّ عن حصصه كما في القضية المحصورة فكيف لا يكون حاكيا عن حصصها ومجرّد كون مدركها العقل والذهن لا يوجب اختصاص الحصص بالذهن وعليه فحيث لا يلزم عند الوضع ملاحظة الأفراد بما لها من العوارض والخصوصيّات يكتفى بملاحظتها بما يكون وجها لها كالكلّيّ الطبيعيّ وهو يحكي عن معروض العوارض في الخارج وهي الحصص الإنسانيّة مثلا فيما إذا لوحظ الإنسان فلا تغفل.

صحّة جعل العلاقة بين اللفظ والخارج بتوسيط العامّ :

ربما يقال إن استحضر مفهوم الإنسان ووضع اللفظ له ملاحظا إيّاه على وجه حاك عن الخارج بحيث يكون المقصود قيام العلاقة الوضعيّة بالمحكيّ والمفنيّ فيه فهذا غير معقول في المقام لأنّ مفهوم الإنسان لا يكون فانيا في المفاهيم الجزئيّة بل في الواقع

١٢٨

الخارجيّ المحكيّ فيؤدّي ذلك إلى إقامة العلاقة الوضعيّة بين اللفظ والخارج ابتداء وهو باطل لأنّ طرف العلاقة الوضعيّة يجب أن يكون مفهوما دائما. نعم لو أمكن أن يلحظ مفهوم الإنسان فانيا في المفاهيم الجزئيّة ويوضع له اللفظ بهذا اللحاظ لحصل مدّعي الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ على مقصوده ولكنّه غير صحيح لأنّ المفهوم الكلّيّ والمفهوم الجزئيّ متباينان وإن كانا متّحدين صدقا للحاظ محكيّها. (١) انتهى

وفيه أنّ مفهوم الإنسان يكون فانيا في حصصه الخارجيّة لا في المفاهيم الجزئيّة ولكن مع ذلك ليست إقامة العلاقة الوضعيّة بين اللفظ والخارج ابتدائيّا حتّى تكون باطلا بل تكون العلاقة بسبب توسيط مفهوم كلّيّ الإنسان الحاكي عن حصصه الخارجيّة الموجودة بالعرض بتبع الوجود بناء على أصالة الوجود كما لا يخفى.

وبالجملة بعد ملاحظة مصاديق الكلّيّ عن طريق وجهها الكلّيّ صار الوضع فيه كوضع الخاصّ لكلّ واحد واحد من المصاديق فكما لا إشكال في وضع اللفظ لكلّ واحد واحد من الحصص الخارجيّة بعد ملاحظة كلّ واحد واحد مستقلّا ووضع اللفظ له إن أمكن ، كذلك لا اشكال في صحّة وضع اللفظ لكلّ واحد واحد من الحصص الخارجيّة بعد ملاحظة عنوان كلّيّ يكون وجها لجميع الآحاد.

إن قلت : إنّ الوضع الخاصّ للخارجيّ الجزئيّ يؤول إلى الوضع لماهيّته الخاصّة المتّحدة مع الوجود الخارجيّ ولذا لا يضرّ بالوضع التغييرات الحادثة في الموضوع له.

قلنا : مآل الوضع بتوسيط العامّ أيضا إلى ذلك إذ لا فرق بينهما إلّا في وحدة الوضع وتعدّده كما لا يخفى.

ولعمري إنّ القسم الثالث ممكن لا إشكال فيه ولا حاجة فيه إلى هذه التطويلات.

__________________

(١) بحوث في علم الاصول ١ / ٨٨.

١٢٩

امتناع الرابع :

ولا يخفى أنّ ملاحظة الواضع حين الوضع ماهيّة الخاصّ وحصّة من الكلّيّ ووضع اللفظ بإزاء المعنى الكلّيّ العامّ غير ممكن لأنّ حصّة من الكلّيّ لا يمكن أن تكون وجها للكلّيّ بما هو كلّيّ كما لا تكون وجها لسائر الأفراد ولذا لا تحمل على الكلّيّ ولا على سائر الأفراد فلا يقال : الإنسان الكلّيّ زيد. كما لا يقال : عمرو أو غيره زيد. بخلاف العكس فإنّ الكلّيّ وجه لجميع حصصه وأمكن معرفتها بمعرفته ولذا يحمل عليها ويقال : زيد (وعمرو وغيرهما من أفراد الإنسان) إنسان. وعليه فلا يمكن القسم الرابع من أقسام الوضع كما ذهب إليه في الكفاية.

ولكن في الدرر : يمكن أن يتصوّر هذا القسم أعني ما يكون الوضع فيه خاصّا والموضوع له عامّا فيما إذا تصوّر شخصا وجزئيّا خارجيّا من دون أن يعلم تفصيلا بالقدر المشترك بينه وبين سائر الأفراد ولكنّه يعلم إجمالا باشتماله على جامع مشترك بينه وبين باقي الأفراد مثله كما إذا رأى جسما من بعيد ولم يعلم بأنّه حيوان أو جماد وعلى أي حال لم يعلم أنّه داخل في أي نوع فوضع لفظا بإزاء ما هو متّحد مع هذا الشخص في الواقع فالموضوع له لوحظ إجمالا وبالوجه وليس الوجه عند هذا الشخص إلّا الجزئيّ المتصوّر لأنّ المفروض أنّ الجامع ليس متعقّلا عنده إلّا بعنوان ما هو متّحد مع هذا الشخص. والحاصل أنّه كما يمكن أن يكون العامّ وجها لملاحظة الخاصّ لمكان الاتحاد في الخارج كذلك يمكن أن يكون الخاصّ وجها ومرآة لملاحظة العامّ لعين تلك الجهة. (١)

وفيه كما أورد عليه استاذنا الداماد قدس‌سره أنّه ممنوع لأنّ رؤية الخاصّ في مفروض

__________________

(١) الدرر ١ / ٣٦.

١٣٠

كلامه تتداعى وتوجب الانتقال من الجزئيّ الخارجيّ إلى عنوان آخر كلّيّ يكون متّحدا مع هذا الشخص وغيره من أمثاله. ثمّ بلحاظ هذا العنوان الكلّيّ يوضع اللفظ لأفراده من حيوان أو جماد فيصير المفروض من أقسام الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ. انتهى

أو يوضع اللفظ بلحاظ هذا العنوان الكلّيّ لنفس هذا الكلّيّ فيصير المفروض من أقسام الوضع العامّ والموضوع له العامّ فالعامّ يكون وجها للأفراد من دون حاجة إلى لحاظ آخر بخلاف الخاصّ فإنّه يحتاج إلى توسيط عنوان كلّيّ آخر كعنوان ما يكون نوعا لهذا وأمثاله فالفرق بينهما موجود.

لا يقال : إنّ العامّ مغاير للأفراد في ظرف الذهن والتحليل وإن كانا متّحدين في الخارج لأنّ العامّ يكون بإزاء الموجود في الذهن عند تعريته عن الوجود الذهنيّ والوجود الخارجيّ وعن العدم هذا بخلاف الأفراد الخارجيّة التي كانت موجودة وعليه فلا يمكن لحاظ أحد المتغايرين بلحاظ الآخر إلّا بتوسيط عنوان آخر كمفهوم ما هو مندرج تحت العامّ وعليه فلا فرق بين العامّ والخاصّ في احتياجهما في كونهما وجها للآخر إلى توسيط عنوان آخر والفرق بينهما في أنّ مفهوم ما هو مندرج تحته في العامّ يوجب لحاظ الأفراد إجمالا ومفهوم ما يكون نوعا لهذا في الخاصّ يوجب ملاحظة النوع إجمالا. (١)

لأنّا نقول : العامّ الذي يكون وجها لافراده هو العامّ الاستغراقيّ لا العامّ الطبيعيّ ومن المعلوم أنّ الاستغراقيّ لا يحتاج في إراءة أفراده إلى عنوان آخر لأنّ العامّ الاستغراقيّ عين كلّ فرد من أفراده بخلاف الطبيعيّ فإنّه لحاظ ما لا يمتنع صدقه على كثيرين ومن المعلوم أنّ لحاظ ما لا يمتنع صدقه على كثيرين ليس لحاظ الكثيرين و

__________________

(١) نفس المصدر ١ / ٢٤٤.

١٣١

عليه فالعامّ الاستغراقيّ يوجب إراءة الأفراد من دون حاجة إلى عنوان آخر بخلاف الخاصّ فإنّه لا يوجب إراءة العامّ من دون توسيط عنوان آخر وهو ما يكون نوعا لهذا وأمثاله فالفرق بين العامّ والخاصّ متحقّق كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الاتحاد وان أوجب المرآتيّة ولكن ذلك تابع لدائرة الاتحاد فحيث كان العامّ الاستغراقيّ متّحدا مع جميع مصاديقه يكون وجها لجميعها وأمّا الخاصّ المتّحد مع الكلّيّ الطبيعيّ الذي معه لا يحكي إلّا عن الكلّيّ الطبيعيّ المتّحد معه لأنّه متّحد معه لا مع غيره فلا يحكي عن الكلّيّ الطبيعيّ الآخر ولا عن الكلّيّ الاستغراقيّ فحكايته عن غير الكلّيّ الطبيعيّ الذي معه غير معقولة كما لا يخفى.

هل تكون المعاني الحرفيّة من القسم الأوّل أو الثالث؟

لا يخفى عليك أنّه ذهب في الكفاية إلى أنّ الآليّة والاستقلاليّة من أنحاء الاستعمال فلا فرق عنده بين الاسم والحرف في المعنى إلّا من جهة اختصاص كلّ منهما بوضع حيث أنّ الاسم موضوع ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه والحرف موضوع ليراد منه معناه لا كذلك وهذا هو السرّ في عدم جواز استعمال كلّ واحد في موضع الآخر وإن اتّفقا في الموضوع له. وعليه فالحرف عنده كالاسم في كون الوضع عامّا والموضوع له عامّا ويدخل في القسم الأوّل لا القسم الثالث.

وهكذا الأسماء الإشارات والموصولات والضمائر فإنّ الإشارة إلى الحاضر أو الغائب لم تؤخذ في المعنى وإنّما هي من أنحاء الاستعمال.

وفيه كما عن استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره أنّه إن اريد بذلك اشتراط الواضع على المستعملين أن لا يستعملوا إلّا كذلك ففيه أنّه لا ملزم للعمل بذلك الشرط بعد استعمال اللفظ في معناه الموضوع له. وإن اريد به أنّ غرض الواضع هو استعمال المستعملين الحرف عند إرادة كذا واستعمال الاسم عند إرادة كذا ففيه أنّ غرض الواضع من

١٣٢

الدواعي للوضع والدواعي لا يوجب تضييقا في الموضوع له كما أنّ إنشاء المعاملات لا يتقيّد بالدواعي ولذا لا يكون خيار لمن اشترى شيئا بداع خاصّ فتخلّف عنه فلا تغفل.

هذا مضافا إلى ما أورد عليه في نهاية الاصول من أنّ الفرق بين المعنى الاسميّ والحرفيّ فرق جوهريّ ذاتيّ وأنّ المفهوم الاسميّ مفهوم مستقلّ كلّيّ والمعنى الأدويّ حقيقة ربطيّة مندكّة في الطرفين وأين أحدهما من الآخر وليس الفرق بينهما بصرف اشتراط الواضع أو لحاظه وبذلك يعلم أيضا أنّ الخصوصيّة في المقام ليست هي الموجبة لكونه جزئيّا ذهنيّا حتّى يرد عليه الإشكالات الثلاثة : من أنّه يلزم وجود لحاظ آخر متعلّق به حين الاستعمال بداهة أنّ تصوّر المستعمل فيه ممّا لا بدّ منه في الاستعمال وهو كما ترى وأنّه يلزم أن لا يصدق على الخارجيّات إذ اللحاظ أمر ذهنيّ فامتنع امتثال مثل : سر من البصرة إلّا بالتجريد ومن أنّه ليس لحاظ الآليّة في الحروف إلّا كلحاظ الاستقلال في الأسماء وكما لا يكون هذا اللحاظ معتبرا في المستعمل فيه فيها فكذلك ذاك اللحاظ في الحروف.

بل المعنى الحرفيّ جزئيّ حقيقيّ حيث أنّ المراد به حقيقة الربط ومصداقه المتحقّق بتبع الطرفين ولا محالة يكون جزئيّا حقيقيّا ولا ينافي ذلك كلّيّة الطرفين والمرتبطين فالنسبة الخبريّة الموجودة في قولنا الإنسان كاتب مثلا ، نسبة جزئيّة خاصّة بها تحقّق الربط بين الموضوع والمحمول مثل النسبة المتحقّقة في قولنا زيد قائم وذلك لأنّ النسبة المتحقّقة في القضيّة الملفوظة والمعقولة ليست إلّا عبارة عن ثبوت المحمول للموضوع وقولنا : الإنسان كاتب قضيّة واحدة فلها موضوع واحد ومحمول واحد ونسبة واحدة وكذلك الربط الابتدائيّ المتحقّق في قولنا : سر من البصرة إلى الكوفة ، ربط جزئيّ بها تحقّق الارتباط بين مفهوم السير والبصرة مثل الربط المتحقّق في قولنا سرت من البصرة بلا تفاوت أصلا وبالجملة فحقيقة الربط ليست إلّا اتّصال الطرفين

١٣٣

والمرتبطين لا مفهوم الاتّصال بل ما يكون بالحمل الشائع اتّصالا وهو معنى شخصيّ متقوّم بالطرفين وإن كان الطرفان كلّيّين.

فالحرف مستعمل في معنى جزئيّ حتّى فيما إذا كان طرفاه كلّيين ولكن ينحلّ بنظر العرف إلى كثيرين نظير انحلال الحكم الواحد المنشأ بإنشاء واحد إلى أحكام عديدة هذا مضافا إلى توجيه آخر في ربط الكلّيّات ذكره سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره في تهذيب الاصول فراجع. (١) وقال أيضا في نهاية الاصول إنّ المعنى الحرفيّ عبارة عن المفهوم الاندكاكيّ الذي به يحصل الربط بين المفاهيم المستقلّة ويكون بحسب اللحاظ من خصوصيّات المفاهيم المستقلّة والمعنى الاسميّ عبارة عن المفاهيم المستقلّة المتفرّقة في حدّ ذاتها وبعبارة اخرى حقيقة الارتباط والتخصّص المتحقّق في الخارج بنحو الفناء والاندكاك في الطرفين إن وجدت في الذهن على وزان وجودها الخارجيّ يكون معنى أدويّا وإن انتزع عنها مفهوم مستقلّ ملحوظ بحياله في قبال مفهومي الطرفين يصير مفهوما اسميّا. فلفظ الابتداء مثلا موضوع لمفهوم الابتدائيّة المنتزعة عن الطرفين والملحوظة بحيالها في قبال الطرفين بحيث صارت بنفسه طرف يحتاج إلى الربط ولفظة : «من» ، موضوعة لحقيقة الارتباط الابتدائيّ التي توجد في الذهن بنحو الاندكاك في الطرفين كما في الخارج وبها يحصل الربط بينهما وبهذا البيان ظهر أنّ الفرق بين المعنى الحرفيّ والمفهوم الاسميّ فرق جوهريّ ذاتيّ وأنّهما سنخان من المعنى وضع لأحدهما الاسم وللآخر الحرف. وظهر أيضا أنّ الموضوع له في الحروف لا يعقل أن يكون عامّا لما عرفت من أنّ الموضوع له لكلمة «من» مثلا ليس هو مفهوم الابتدائيّة الذي هو معنى كلّيّ بل هو حقيقة الارتباط الابتدائيّ الخاصّ المندكّ في الطرفين وبعبارة اخرى المعنى الحرفيّ عبارة عن حقيقة الربط ومصداقه الخاصّ المتحقّق بتبع الطرفين

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ٣١ ـ ٣٢.

١٣٤

وهي الموضوع له لكلمة من مثلا فيكون الموضوع له للحروف خاصّا لا محالة. (١)

وعليه فالوضع في الحروف يكون عامّا والموضوع له خاصّا إذ ليس للمعنى الحرفيّ جامع كلّيّ ينطبق على أفراده لأنّ كلّ ما فرض جامعا له لزم أن يكون ربطا بالحمل الشائع الصناعيّ وإلّا لزم الانقلاب في كون المعنى الحرفيّ آلة للغير ومندكّة فيه فلا يتصوّر للمعنى الحرفيّ إلّا صورة الاندكاك الخارجيّ وهو جزئيّ وليس بكلّيّ فيتوصّل للوضع على المعاني الجزئيّة الحرفيّة بالمفاهيم الأخر التي ليست جامعا لها بل تكون بمنزلة عنوان مشير إليها كمفهوم الابتداء الآليّ فيكون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا.

ولذا قال في تهذيب الاصول : المعنى الذي هذا شأنه الموصوف بأنّه لا يستقلّ جوهرا ووجودا ودلالة وكيفيّة لا يتصوّر له جامع كلّيّ ينطبق على أفراده ويحكي عن مصاديقه لأنّ الجامع على فرضه يجب أن يكون من سنخ المعاني الحرفيّة فلا بدّ وأن يكون ربطا بالحمل الشائع وإلّا انقلب معنا اسميّا وكونه ربطا بالحمل الشائع يلازم فرديّته وهو خلف بل لا بدّ عند الوضع من التوصّل ببعض العناوين الاسميّة التي لا تكون جامعا ذاتيّا لها ولا يمكن إيقاع الربط بها كمفهوم الابتداء الآليّ والنسبة ممّا لا تكون من سنخ المعاني الحرفيّة فلا بدّ حينئذ من الالتزام بخصوص الموضوع له في الحروف كافّة بعد عموم وضعها. (٢) انتهى

فالوضع في الحروف وأشباهها من باب القسم الثالث.

وإليه ذهب المحقّق الأصفهانيّ حيث قال : إنّ أنحاء النسب الحقيقيّة في حدّ ذاتها مع قطع النظر عن أحد الوجودين من الذهن أو العين تعلّقيّة ولا يعقل انسلاخها عن هذا

__________________

(١) نهاية الاصول ١ / ١٧ ـ ١٩.

(٢) تهذيب الاصول ١ / ٣١.

١٣٥

الشأن والوجود ذهنيّا كان أو عينيّا مبرز لأحكامها ومظهر لأحوالها لا أنّ النسبة والتعلّقيّة بأحد الوجودين كي لا يكون فرق بين الاسم والحرف في حدّ ذات المعنى وحيث أنّ ذات النسبة تعلّقيّة فلا جامع ذاتيّ بين أنحائها لأنّ إلغاء التعلّق منها إخراج لها عن النسبيّة فلا بدّ من الوضع لأنحائها بجامع عنوانيّ يجمع شتاتها بل تلاحظ به وحيث أنّ النسبة بين عنوان الكذائيّة ومعنوناتها نسبة الأعمّ والأخصّ كان الوضع عامّا والموضوع له خاصّا. (١) انتهى

هذا كلّه بناء على عدم تصور الجامع الذاتيّ للمعاني الحرفيّة وأمّا مع تصوّره فالموضوع له في الحروف كالوضع عامّ ، ذهب استاذنا العراقيّ مدّ ظلّه العالي في حاشيته على الدرر للمحقّق الحائريّ قدس‌سره إلى إمكان تصوّر الجامع حيث قال : قلت : ينتزع العقل ممّا بين المعاني الجزئيّة جامعا بلا مئونة زائدة في المقام على سائر المقامات فكما يتصوّر الظرفيّة المندكّة في المحلّ الخاصّ كذلك يتصوّر أيضا مطلق الظرفيّة المندكّة في محلّ ما والاحتياج إلى محلّ ما هنا نظير الاحتياج إلى فاعل ما في النسب المستفادة من الأفعال ألا ترى أنّ لفظ ضرب في قولك : ضرب زيد قبل مجيء كلمة زيد يدل على النسبة إلى فاعل ما وهذا المعنى العامّ هو المتصوّر حال استعمال الحروف ألا ترى أنّ الوجدان يشهد بأنّ كلمة : في ، في جميع القضايا يكون بمعنى وليس من باب المشترك اللفظيّ وهذا المعنى هو المستفاد من كلمة : في المبدوءة بها القضيّة بعد التكلم بها وقبل التكلم بالكلمة المتّصلة بها وكما يمكن تصوّر هذا المعنى للمستعمل يمكن للواضع أيضا بلا فرق. (٢) انتهى

ولكن يمكن أن يقال إنّ الجامع المتصوّر المذكور ليس إلّا جامعا اسميّا إذ الجامع

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٢٧.

(٢) الدرر ١ / ٢٥٠.

١٣٦

المتصوّر الحرفيّ لزم أن يكون ربطا وحرفا بالحمل الشائع الصناعيّ كالحيوان الناطق يكون إنسانا بالحمل الشائع الصناعيّ فصدق عنوان الإنسان على الحيوان الناطق بالحمل الشائع الصناعيّ يشهد على أنّه هو حقيقة الإنسان وفي المقام لا يمكن فرض جامع يكون كذلك إذ كلّ ما فرض جامعا لا يصدق عليه المعنى الحرفيّ والربطيّ بل هو معنى اسميّ لاستقلاله في التصوّر كسائر المعاني الاسميّة والقول بكونه مع ذلك معنا جامعا حرفيّا يستلزم الانقلاب في كون المعنى الحرفيّ حالة للغير ومندكّة فيه كما أنّ تطبيق هذا الجامع على المعاني الحرفيّة الخارجيّة بنحو الكلّيّ الطبيعيّ بالنسبة إلى مصاديقه يوجب خروج المعاني الحرفيّة عن كونها معاني حرفيّة لأنّها بتبع الكلّيّ الطبيعيّ قابلة للتعقّل مستقلّا ومعه خرج عن كونها اندكاكيّة وتطفّليّة وهو كما ترى.

وأمّا الاستشهاد بلفظ الفعل قبل ذكر الفاعل ففيه منع إذ الفعل لا يدلّ على النسبة إلّا إذا تمّ أركانه بذكر الفاعل وتماميّة الجملة والمفروض أنّ بعد تماميّة أركان الفعل والجملة المبدوءة به يدلّ على النسبة الخاصّة لا العامّة كما لا يخفى.

وهكذا الأمر في كلمة : في قبل ذكر مدخولها فإنّها لا تدلّ على معناها إلّا بعد ذكر مدخولها وانضمام بواقي الجملة ومعه لا تدلّ إلّا على الربط الجزئيّ ولا استيحاش من كون في ، في الدلالة على الظرفيّة من باب المشترك اللفظيّ بعد كون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا فلا تغفل.

والظاهر أنّ منشأ توهّم تصوّر الجامع للمعاني الحرفيّة هو قياس الحروف بالأعراض مع أنّه مع الفارق إذ الأعراض من حيث الوجود متقوّمة بالموضوع لا من حيث الحقيقة هذا بخلاف الحروف فإنّها من حيث الحقيقة متقوّمة بالأطراف ولذا لا يتصوّر المعاني الحرفيّة إلّا بالأطراف وهذا ليس إلّا معنى الاندكاك فالجزئيّة داخلة في ذات المعاني الحرفيّة وحقيقتها فلا يمكن انفكاكها عنها وما ذكره الاستاذ تبعا لصاحب الدرر بل صاحب الكفاية منوط بكون الجزئيّة طارئة لا ذاتيّة وحيث ذهبوا

١٣٧

إلى أنّ الجزئيّة طارئة من ناحية اللحاظ الذهنيّ أو من ناحية خصوصيّة الأطراف مالوا إلى ذلك مع أنّك عرفت أنّ الجزئيّة داخلة في حقيقة المعنى الحرفيّ والربطيّ وليس بعارضة من ناحية من النواحي فلا تغفل.

حقيقة الإشارات والضمائر :

ربما يلحق بالحروف كلّ ما يكون كألفاظ الإشارات بناء على وضعها لنفس الإشارة أي إيجادها إلى الحاضر من دون كون المشار إليه داخلا في معناه وإن توقّفت الإشارة على حضور المشار إليه حقيقة أو حكما كتوقّف الإشارة الخارجيّة بالإصبع على حضور طرف الإشارة وهكذا الأمر في أخوات الإشارة كضمائر الغائب فإنّها أيضا وضعت لنفس الإشارة إلى الغائب ومجرّد توقّفها إلى كون الغائب معهودا أو مذكورا من قبل الإشارة إليه لا يشهد على كون الطرف الغائب داخلا في معناه. ولذا قال في تهذيب الاصول : تندرج هذه الألفاظ برمّتها في باب الحروف وتنسلك في عداد مفاهيمها من حيث عدم الاستقلال مفهوما ووجودا. والدليل عليه مضافا إلى أنّ العرف ببابك أنّك لا تجد فرقا في إحضار الموضوع بين الإشارة إليه بالإصبع وبين ذكر اسم الإشارة المناسب بل ربما يقوم أحدهما مقام الآخر عند عدم التمكّن منه كما في إشارة الأخرس فترى أنّ الجميع بميزان واحد آلة لإيجاد الإشارة من غير فرق بينها. (١) انتهى

ربما يشكل ذلك بمثل : هذا قائم وهو قائم ، فإنّ المعروف أنّ المخبر عنه نفس هذا وهو ، مع أنّ المعنى الحرفيّ لا يقع محكوما عليه ، فهو شاهد على أنّ المستعمل فيه في مثل : هذا وهو ، هو المفرد المذكّر كما في الكفاية حيث قال : إنّ المستعمل فيه في مثل أسماء

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ٣٩.

١٣٨

الإشارة والضمائر أيضا عامّ وأنّ تشخّصه إنّما نشأ من قبل طور استعمالها حيث أنّ أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها وكذا بعض الضمائر وبعضها ليخاطب بها المعنى والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخّص كما لا يخفى فدعوى أنّ المستعمل فيه في مثل هذا وهو وإيّاك إنّما هو المفرد المذكّر والتشخّص إنّما جاء من قبل الإشارة أو التخاطب بهذه الألفاظ فإنّ الإشارة أو التخاطب لا يكاد يكون إلّا إلى الشخص أو معه غير مجازفة. (١)

ولكن أجاب عنه في تهذيب الاصول بقوله : وصحّة التركيب ووقوعها مخبرا عنها في قولنا هذا قائم وهو قائم وأشباههما لا تثبت ما راموه إذ لا نسلّم أنّ المخبر عنه في هذه الموارد هو مفاد هذه الكلمات بل المشار إليه ، فترى الفرق بين قولنا زيد قائم وبين هذا قائم أو هو قائم ، فلفظة زيد في الأوّل تحكي عن المحكوم عليه حكاية اللفظ عن معناه الموضوع له بخلافهما فإنّهما يحضران المحكوم عليه في ذهن السامع كما في الإشارة بالإصبع من غير أن يكونا موضوعين له ومن دون أن يكون دلالتها عليه من قبيل حكاية اللفظ عن معناه. (٢)

وهكذا أجاب عنه في نهاية الاصول حيث قال : وما قيل من كون كلمة هذا موضوعة للمفرد المذكّر المشار إليه فاسد جدّا بداهة عدم وضعها لمفهوم المشار إليه ولم يوضع لذات المشار إليه الخارجيّ الواقع في طرف الامتداد الموهوم أيضا إذ ليس لنا مع قطع النظر عن كلمة هذا إشارة في البين حتّى يصير المفرد المذكّر مشار إليه ويستعمل فيه كلمة هذا وبالجملة لفظة هذا مثلا وضعت لنفس الإشارة ويكون عمل اللفظ فيها عملا إيجاديّا ولم توضع للمشار إليه كما قيل. وقد أشار إلى ما ذكرنا في

__________________

(١) كفاية الاصول ١ / ١٦.

(٢) تهذيب الاصول ١ / ٣٩ ـ ٤٠.

١٣٩

الألفيّة حيث قال : بذا لمفرد مذكّر أشر إلى آخر ما قال. نعم لمّا كان حقيقة الإشارة أمرا اندكاكيّا فانيا في المشار إليه فلا محالة ينتقل الذهن من كلمة هذا إلى المشار إليه ويترتّب على هذا اللفظ أحكام اللفظ الموضوع للمشار إليه فيجعل مبتدأ مثلا ويحمل عليه أحكام المشار إليه فيقال هذا قائم كما يقال زيد قائم ونظير ذلك الضمائر والموصولات فيشار بضمير المتكلّم إلى نفس المتكلّم وبضمير المخاطب إلى المخاطب وبضمير الغائب إلى المرجع المتقدّم ذكره حقيقة أو حكما فيوجد بسببها في وعاء الاعتبار امتداد موهوم بين المتكلم وبين نفسه أو المخاطب أو ما تقدّم ذكره ، ويشار بالموصول أيضا إلى ما هو معروض الصلة. والحاصل أنّ جميع المبهمات قد وضعت بإزاء الإشارة ليوجد بسببها الإشارة إلى امور متعيّنة في حدّ ذاتها إمّا تعيّنا خارجيّا كما في الأغلب أو ذكريّا كما في ضمير الغائب أو وصفيّا كما في الموصولات حيث أنّه يشاربها إلى ما يصدق عليه مضمون الصلة. (١)

هذا كلّه بناء على وضع الإشارات وأخواتها لإيجاد الإشارة إلى الحاضر أو الغائب ولكنّه لا يخلو عن الإشكال فإنّ الإيجاد الإنشائيّ متفرع على القصد والالتفات إلى الإيجاد حتّى يقصده اللافظ باستعمال ألفاظ الإشارة والضمائر مع أنّه غير محرز في من استعمل هذه الألفاظ بل كثيرا ما لم يلتفتوا إلى أنّ هذه الألفاظ ممّا يقصد به الإنشاء واستعملوها كما استعملوا الأسماء الأخر. هذا مضافا إلى أنّ مقارنة الإشارة الخارجيّة بالإصبع أو العين أو شيء آخر مع ألفاظ الإشارة والضمائر والموصولات ممّا تشهد على أنّها خاليّة عن الإشارة وإلّا لزمت اللغويّة فإنّ الإشارة حاصلة بألفاظ الإشارة والضمائر وحمل مقارنة الإشارة الخارجيّة أو الذهنيّة في جميع الموارد على التأكيد مع عدم الحاجة إليه في أكثر الموارد كما ترى وعليه فألفاظ

__________________

(١) نهاية الاصول ١ / ٢٢.

١٤٠