عمدة الأصول - ج ١

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

ووجدت حقيقة أخرى وصورة نوعيّة ثانية وهي صورة النوعيّة الترابيّة أو الملحيّة ومن الواضح أنّ الإنسان أو الكلب لا يصدق على التراب أو الملح بوجه من الوجوه لأنّ الذات غير باقية وتنعدم بانعدام الصورة النوعيّة وهى صورة الإنسانيّة أو الكلبيّة ومع عدم بقاء الذات لا يشملها النزاع ولا معنى لأن يقال : إنّ الإطلاق عليها حقيقة أو مجاز.

ولكن أورد عليه في تهذيب الاصول بأنّ النزاع في المقام لغويّ لا عقليّ حتّى يتشبث بأنّ فعليّة الشيء بصورته لا بمادّته وحينئذ لا مانع من وضع الإنسان مثلا للأعمّ بعد ما كان عنان الوضع بيد الواضع إذ التسمية لا تدور مدار هويّة الشيء. أضف إليه أنّ انقضاء المبدأ لا يوجب مطلقا زوال الصورة النوعيّة ولو عرفا كما في تبدّل الخمر خلّا فإنّهما ليسا حقيقتين مختلفتين بالفصول بل هما متّحدان في الذاتيّات متفارقان في الأوصاف عرفا ومثلها الماء والثلج فإنّهما ليسا جوهرين متباينين بل الاختلاف بينهما من ناحية الوصف أعني اتّصال أجزائهما وعدمه. هذا مع أنّ النزاع لو كان عقليّا لا يعقل صدق المشتقّ عقلا على ما زال عنه المبدأ فلا يصدق العالم على من زال عنه العلم عقلا بالضرورة. ثمّ اختار قدس‌سره أنّ الوجه في خروجها هو اتّفاقهم على كونه موضوعة لنفس العناوين فقطّ لا للذات المتلبّس بها ولو في زمان ما وهذا بخلاف المشتقّات فإنّ دخول الذات فيها أمر مبحوث عنه ومختلف فيه فيقع فيها هذا النزاع. (١)

وفيه : أوّلا : أنّه ليس كلّ ممكن بواقع عن الحكيم بل ما تقتضيه الحكمة. وحيث أنّ الوضع لحكمة رفع الحاجة فالتسمية تدور مدار هويّة الشيء.

وثانيا : أنّ انقضاء المبدأ يوجب حكم العرف بعدم بقاء العنوان حتّى في مثل الماء و

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٠٠.

٥٢١

الثلج وإن لم يكن كذلك بالدقّة العقليّة وليس ذلك إلّا لكون العناوين المنتزعة من الذات في الجوامد منتزعة من الذات بما هو ذات عرفا فإذا انتفى الذات عرفا بانقضاء المبدأ فلا مجال لبقاء العنوان عرفا. وعليه فلا مانع من أن يقال : إنّ المبادئ في أمثال ذلك مقوّمة لنفس الحقيقة والذات وبانتفائها تنتفي الذات فلا تكون الذات باقية بعد انقضاء المبدأ. لأنّ المراد من كونها مقوّمة أنّها مقوّمة عرفيّة فلا يضرّ بقائها عقلا. وعليه فإن اريد من هذا القول : «إنّ شيئيّة الشيء بصورته لا بمادّته» ، معناه العرفيّ فلا إشكال فيه ، فتوجيه خروج هذه الأسماء عن محلّ البحث بعدم بقاء ذواتها عرفا بعد انتفاء المبادئ فيها وجيه ، فلا حاجة إلى دعوى الاتّفاق على كونها موضوعة لنفس العناوين فقطّ لا للذات المتلبّس بها ولو في زمان ما ، كما في المشتقّات.

* * *

المقام التاسع :

في ملاك دخول المشتقّات غير الاصطلاحيّة في محلّ النزاع وهي الجوامد الجارية على الذات والمنتزعة عن الذات بملاحظة اتّصاف الذات بعرضيّ :

وقد عرفت أنّ المراد من المشتقّات المبحوثة عنها في المقام هو الأعمّ من المشتقّات الاصطلاحيّة التي هي الألفاظ التي اخذت من لفظ آخر بحيث يتوافقان في الحروف الأصليّة والترتيب ووجه دخولها في النزاع والبحث ، هو اشتراكها مع المشتقّات في الملاك والأثر ، وإن لم يصدق عليها عنوان المشتقّ كما أفاده المحقّق الأصفهانيّ ، أمّا الملاك : فإنّ بقاء الذات كما كان موهما لصدق الوصف عليها بعد زوال تلبّسها بمبدئه ، فكذلك يوهم بقاء الذات صدق عنوان الزوج بعد زوال مبدئه وهي العلقة الخاصّة. وأمّا الأثر فواضح كما يشهد له ما عن الإيضاح من الاستدلال بذلك لحرمة المرضعة الثانية فيما إذا كانت لشخص زوجتان كبيرتان مدخولتان أرضعتا زوجته الصغيرة.

٥٢٢

حيث قال : في تحريم المرضعة الثانية بعد إرضاع الاولى خلاف فاختار والدي المصنّف وابن إدريس تحريمها لأنّ هذه يصدق عليها أمّ زوجته لأنّه لا يشترط في المشتقّ بقاء المشتقّ منه.

ويشهد له أيضا ما عن المسالك في هذه المسألة ، حيث ابتنى الحكم بحرمة المرضعة الثانية على الخلاف في المشتقّ.

لا يقال : مقتضى تعميم الملاك هو جريان النزاع في سائر الجوامد أيضا.

لأنّا نقول : فرق بينه وبين سائر الجوامد حيث أنّ الذات في سائر الجوامد منعدمة عرفا بانعدام العناوين بخلاف مثل الزوجيّة والرقّيّة والحرّيّة فإنّ الذات محفوظة فيها مع انعدام العناوين المذكورة فهذه العناوين الجامدة الجارية على الذات مشتركة مع العناوين المشتقّة الجارية على الذوات في الملاك والأثر.

ولذا قال في الكفاية : ثمّ إنّه لا يبعد أن يراد بالمشتقّ في محلّ النزاع مطلق ما كان مفهومه ومعناه جاريا على الذات ومنتزعا عنها بملاحظة اتصافها بعرض أو عرضيّ ولو كان جامدا كالزوج والزوجة والرقّ والحرّ. (١)

ثمّ لا يخفى عليك أنّ الظاهر كما في نهاية الاصول التمثيل بخصوص مسألة : من كانت له زوجتان كبيرتان مدخولتان أرضعتا زوجته الصغيرة ، مترتّبة في المقام من جهة كونها معركة للآراء باعتبار ما صدر فيها عن ابن شبرمة من الفتوى وإلّا فيمكن التمثيل بما لو كانت له زوجة صغيرة فطلّقها وبعد الطلاق أرضعتها زوجته الكبيرة أو كانت له زوجة كبيرة فطلّقها وبعد الطلاق أرضعت زوجته الصغيرة. (٢)

ربما نوقش في المثال المذكور أوّلا بما في تهذيب الاصول من أنّ الموجود في

__________________

(١) الكفاية ١ / ٥٩.

(٢) نهاية الاصول ١ / ٦٣.

٥٢٣

النصوص هو امّهات النساء لا أمّ الزوجة ، قال الله تعالى : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ). (١) ومن المعلوم أنّ عنوان النساء ليس من العناوين الجارية على الذات باعتبار اتّصافها بالعرض أو العرضيّ فتحليل هذه المسألة من طريق المشتقّ ساقط من أصله والقول بجريانه في مثل امّهات نسائكم باعتبار كونه بمعنى زوجاتك كما ترى وإن كان يظهر من الجواهر جريانه فيه أيضا. (٢)

يمكن أن يقال : إنّ عنوان النساء في الآية الكريمة ليس مذكورا في قبال عنوان الرجال بل المراد منها هو جمع خاصّ من النساء اللاتي هنّ زوجات بالحمل الشائع الصناعيّ كما يشهد له إضافته إلى المخاطبين.

وثانيا : بما أفاده استاذنا الداماد قدس‌سره من قيام النصّ الخاصّ على حرمة الزوجة الكبيرة الاولى بإرضاع الزوجة الصغيرة وعلى عدم حرمة الزوجة الكبيرة الثانية ، فحرمة الزوجة وعدمها لا تتوقّف على مسألة المشتقّ.

روى في الوسائل عن محمّد بن يعقوب عن عليّ بن محمّد عن صالح بن أبي حمّاد عن علىّ بن مهزيار عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قيل له إنّ رجلا تزوّج بجارية صغيرة فأرضعتها امرأته ثمّ أرضعتها امرأة له اخرى فقال ابن شبرمة حرمت عليه الجارية وامرأتاه. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : أخطأ ابن شبرمة ، تحرم عليه الجارية وامرأته التي أرضعتها أوّلا فأمّا الأخيرة فلم تحرم عليه كأنّها أرضعت ابنته. (٣)

ولكن أورد عليه ما في تهذيب الاصول من أنّ سند الرواية غير خال عن الإرسال هذا مضافا إلى ضعفه بصالح بن أبي حمّاد ولهذا ابتنى الفخر حرمة الثانية على

__________________

(١) النساء / ٢٣.

(٢) الجواهر ١ / ١٠١.

(٣) الوسائل ١٤ / ٣٠٥ ، الباب ١٤ من أبواب ما يحرم بالرضاع ، ح ١.

٥٢٤

مسألة المشتقّ. (١)

ولا يخفى عليك أنّ صالح بن أبي حمّاد ممّن روى عنه محمّد بن أحمد بن يحيى ولم يستثنه ابن الوليد وفيه إيماء إلى وثاقته. وأمّا الإرسال في الرواية فلعلّه من ناحية كون عليّ بن مهزيار من أصحاب أبي جعفر الثاني لا من أصحاب أبي جعفر المطلق عليهما‌السلام فروايته عن أبي جعفر المطلق لا يمكن بدون الواسطة. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المقصود من أبي جعفر هو الثاني بظهور الرواية في أنّ عليّ بن مهزيار رواها عن الإمام عليه‌السلام بلا واسطة وهذا قرينة على أنّ المراد من أبي جعفر عليه‌السلام هو الإمام الجواد دون الإمام الباقر عليهما‌السلام حيث أنّه أدرك زمانه ورواه عنه بلا واسطة في غير مورد كما في المحاضرات ولكنّه لا يوجب الاطمينان.

ثمّ إنّ ظاهر عبارة الإيضاح هو اعتبار الدخول في حرمة المرضعة الاولى والصغيرة حيث قال : تحرم المرضعة الاولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرتين مع أنّه لا دخل للدخول في حرمة المرضعة الاولى لأنّ الحرمة ثابتة لها بسبب صيرورتها أمّ الزوجة بالإرضاع سواء دخل بها أم لم يدخل بها كما لا دخل للدخول في الحرمة الكبيرة الثانية أيضا لتوقّف الحرمة على صدق أمّ الزوجة بالإرضاع عليها. فإن قلنا بأنّ المشتقّ أعمّ من المتلبّس صدق عليها أمّ الزوجة وإلّا فلا.

نعم للدخول دخل في صيرورة الصغيرة حراما أبديّا إذ مع الدخول بالكبيرة صارت ربيبة الزوجة المدخول بها فتحرم أبدا. هذا بخلاف ما إذا لم يدخل بالكبيرة فإنّ الربيبة محرّمة ما دام كانت المرضعة الكبيرة زوجة له فحرمتها حرمة الجمع بينها وبين مرضعتها.

هذا كلّه فيما إذا كان اللبن لغير الزوج وأمّا إذا كان اللبن للزوج فلا دخل للدخول

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٠٢.

٥٢٥

أصلا حتّى في حرمة الصغيرة لأنّ الصغيرة صارت بسبب الإرضاع بنتا ومحرّمة أبدا سواء دخل أو لم يدخل بامّها وجذبت نطفتها. ولكن هذا الفرض خارج عن موضوع كلامه بقرينة اشتراط الدخول بالكبيرتين وإلّا صار هذا القيد لغوا لعدم تأثيره أصلا لا في المرضعة ولا في الصغيرة كما عرفت.

ثمّ لا يخفى عليك أنّه قال المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره : تسليم حرمة المرضعة الاولى والخلاف في الثانية مشكل لاتّحادهما في الملاك وذلك لأنّ امومة المرضعة الاولى وبنتيّة المرتضعة من المتضائفين وهما متكافئان قوّة وفعلا وبنتيّة المرتضعة وزوجيّتها متضادّتان شرعا ففي مرتبة حصول امومة المرضعة تحصل بنتيّة المرتضعة وتلك المرتبة مرتبة زوال زوجيّة المرتضعة فليست في مرتبة من المراتب امومة المرضعة مضافة إلى زوجيّة المرتضعة حتّى تحرم بسبب كونها أمّ الزوجة. انتهى موضع الحاجة وحاصله ابتناء الحرمة في الاولى والثانية على وضع المشتقّ للأعمّ وعدمه فإن وضع للأعمّ كان الحكم هو الحرمة في كليهما وإن لم يوضع للأعمّ فالحكم هو عدم الحرمة في كليهما فعلى كلّ حال لا تفكيك بينهما.

وفيه أنّ المفروض في محلّ الكلام بقرينة اشتراط الدخول هو ما إذا لم يكن اللبن للزوج بل لغيره كما عرفت.

ومعه لا يكون امومة المرضعة الاولى متضايفة لبنتيّته للرجل حتّى يكون عنوان البنتيّة متضادّة مع الزوجيّة. نعم يكون بين امومة المرضعة والربيبيّة تضايف ولكن لا تضادّ بينهما ولو شرعا لجواز اجتماعهما في بعض الأحيان كما إذا لم يدخل بامّها مع أنّه لو كان بينهما تضادّ لما اجتمعا أصلا كما لم يجتمع عنوان البنتيّة وعنوان الزوجيّة وعليه ففي مرتبة حصول الربيبيّة لا تزول زوجيّة الصغيرة بالمضادّة بل يكون اجتماع عنوان الامومة والربيبيّة وتطبيقها على الزوجة الصغيرة سببا لارتفاع الزوجيّة لحرمة الربيبة المدخول بامّها أبدا. وفي مرتبة السبب تصدق الامومة والزوجيّة وهو

٥٢٦

كاف في اندراجه تحت عموم حرمة أمّ الزوجة لصدق أمّ الزوجة عليها حقيقة ولا يترتّب الصدق المذكور على مسألة المشتقّ.

اللهمّ إلّا أن يقال كما أشار في تهذيب الاصول والمحاضرات بأنّ الأحكام الشرعيّة مترتّبة على الموجودات الزمانيّة ولا أثر للرتبة فيها فحرمة أمّ الزوجة مترتّبة على من هي أمّ الزوجة بالحمل الشائع في أنظار أهل العرف وصدق أمّ الزوجة على المرضعة الاولى بنظر العرف متوقّف على مقارنتها مع زوجيّة الصغيرة زمانا وهو رتبة المسبّب والمفروض أنّ الصغيرة في رتبة مسبّبيتها ليست بزوجة فليس أمّ الزوجة على المرضعة الاولى صادقة حينئذ إلّا بناء على أعمّيّة المشتقّ. فالمسألة مبتنية على بحث المشتقّ كما أنّ حرمة المرضعة الثانية مبتنية عليه.

بل يمكن منع علّيّة البنتيّة أو الربيبيّة بالنسبة إلى ارتفاع الزوجيّة حيث أنّ العلّيّة ليست علّيّة تكوينيّة بل علّيّة تشريعيّة ومستفادة من الأدلّة الشرعيّة والمستفاد من الأدلّة الشرعيّة ليس إلّا التمانع إذ لا يستفاد من قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) سوى أنّ الزوجيّة لا تجتمع مع العناوين المحرّمة المذكورة والمتمانعين ليس بينهما الرتبة كالعلّة والمعلول فهما لا يجتمعان لا في رتبة ولا في آن ولا في زمان.

نعم لقائل أن يمنع استفادة التمانع في الرتبة من الأدلّة بعد كون موضوعاتها موجودات زمانيّة والمصاديق التي تكون معنونة بالعناوين المحرّمة بالحمل الشائع في أنظار العرف.

وكيف كان فلا فرق بين المرضعة الاولى والثانية في كون حرمتهما متوقّفة على صدق عنوان الامومة للزوجة وهو غير متحقّق إلّا بناء على أعمّيّة المشتقّ ممّن تلبّس بالمبدإ والفرق بين المرضعة الاولى والثانيّة بالنصوص كما في تهذيب الاصول غير سديد بعد عدم دليل واضح الدلالة في جانب المرضعة الاولى ، لأنّ الظاهر من قوله : فسد النكاح في صحيحة الحلبيّ : لو أنّ رجلا تزوّج بجارية رضيعة فأرضعتها

٥٢٧

امرأته فسد النكاح ، هو فساد نكاح المرتضعة وحمله على فساد نكاح المرتضعة والمرضعة كليهما غير واضح. وخبر عليّ بن مهزيار لا يكون تامّا بعد احتمال إرساله والفرق بالإجماع كما في تهذيب الاصول لقيامه في المرضعة الاولى دون الثانية تامّ لو لم يحتمل أنّ مدركه هو الروايات والنصوص في المقام وإلّا فالمسألة في كليهما مبتنية على مسألة المشتقّ كما أفاده المحقّق الأصفهانيّ فلا تغفل.

* * *

* المقام العاشر :

في المراد من الحال في عنوان المسألة ، وقد مرّ عنوان المسألة في صدر بحث المشتقّ وهو أنّ المشتقّ حقيقة في خصوص ما تلبّس بالمبدإ في الحال أو فيما يعمّه وما انقضى عنه؟

والمراد من الحال هو حال التلبّس لا حال النطق وإلّا لزم أن لا يكون مثل : كان زيد ضاربا أمس أو سيكون غدا ضاربا ، حقيقة إذا كان التلبّس بالضرب في الأمس في المثال الأوّل والتلبّس به في الغد في المثال الثاني مع أنّهما حقيقة بالضرورة. وعليه فالمراد من قولنا : انّ المشتقّ هل يكون حقيقة في خصوص ما تلبّس بالمبدإ في الحال هو حال التلبّس لا حال النطق.

ثمّ إنّ المراد من حال التلبّس هو فعليّة قيام المبدأ بالذات وانضمامه إليها واتّصاف الذات به لا زمان التلبّس لخروجه عن مفهوم المشتقّ وإن كان فعليّة الاتّصاف والتلبّس أمرا زمانيّا ولا بدّ من وقوعه في الزمان ، ولا زمان الجري والانتساب أي حال النسبة الإيقاعيّة وظرفها لأنّ البحث في المشتقّ راجع إلى البحث عن المعاني التصوريّة للمشتقّات وهو سابق على زمان الجري والحمل كما لا يخفى.

ولذلك قال في تهذيب الاصول : بعد ما أشرنا إلى أنّ الكلام في المشتقّ إنّما هو في

٥٢٨

المفهوم اللغويّ التصوّريّ يتّضح لك أنّ المراد بالحال في العنوان ليس زمان الجري والإطلاق ولا زمان النطق ولا النسبة الحكميّة لأنّ كلّ ذلك متأخّر عن محلّ البحث ودخالتها في الوضع غير ممكنة وبما أنّ الزمان خارج عن مفهوم المشتقّ لا يكون المراد زمان التلبّس بل المراد أنّ المشتقّ هل وضع لمفهوم لا ينطبق إلّا على المتّصف بالمبدإ أو لمفهوم أعمّ منه. (١)

ويمكن تأييد خروج الزمان عن مفهوم المشتقّ سواء كان زمان النطق أو زمان التلبّس أو زمان الجري والحمل باتّفاق أهل العربيّة على عدم دلالة الاسم على الزمان ومنه الصفات الجارية على الذوات والمراد أنّه لو كان المراد من الحال في عنوان المسألة هو حال النطق أو زمان التلبّس أو زمان الجري والحمل كان النزاع لا محالة في دلالة المشتقّ على زمان النطق وعدمه وزمان التلبّس وعدمه وزمان الجري وعدمه فلا ينعقد اتّفاق من أهل العربيّة على عدم دلالة الاسم على الزمان.

واشتراط العمل في اسمي الفاعل والمفعول بالدلالة على زمان الحال أو الاستقبال بالقرينة لا ينافي عدم دلالة الاسم على الزمان بالوضع كما يشهد له اتّفاقهم على كون استعماله في خصوص زمان الاستقبال مجازا مع أنّه لو كان موضوعا لهما لكان حقيقة في أحدهما لأنّه استعمال فيما وضع له ويشهد له أيضا اتّفاقهم على كونه حقيقة في مثل زيد كان قائما بالأمس أو زيد سيكون ضاربا ونحو ذلك مع أنّه لو كان زمان النطق داخلا في مفهوم المشتقّ لزم التجوّز في هذه الأمثلة ونظائرها لحاجته إلى تجريده حينئذ عمّا يكون دخيلا في معناه من زمان النطق.

وعليه فالأوصاف المشتقّة لا تدلّ على الزمان أصلا لا بنحو الجزئيّة ولا بنحو القيديّة لا على زمان النطق ولا على زمان التلبّس ولا على زمان الجري والحمل بل

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١١٢.

٥٢٩

يكون حالها من هذه الجهة كحال سائر أسماء الأجناس فالمراد من حال التلبّس هو اتّصاف الذات بالمبدإ فيؤول قولهم : إنّ المشتقّ هل يكون حقيقة فيما تلبّس بالمبدإ في الحال أو يعمّه ، إلى أنّ المشتقّ هل وضع لخصوص المتّصف بالمبدإ أو للأعمّ من المتّصف به ، هذا بخلاف الأفعال كهيئة الماضي والمضارع فإنّ الظاهر منهما هو مأخوذيّة السبق واللحوق الزمانيّين بنحو فيهما بشهادة غلطيّة : زيد ضرب غدا وزيد يضرب أمس. فهيئة ضرب يدل على الحدث السابق وهيئة يضرب تدلّ على الحدث اللاحق خلافا للجمل الاسميّة فإنّها خالية عن الزمان بشهادة صحّة انطباق الجمل الاسميّة على جميع الأزمنة وليس ذلك إلّا من جهة عدم اشتمالها على خصوص زمن من الازمنة ولذا صرّح جماعة كالميرزا الشيرازيّ قدس‌سره والإمام المجاهد قدس‌سره بدلالة الأفعال على الزمان ، نعم قال في الوقاية : لا يدلّ الفعل على الزمان بالتضمّن كما ذهب إليه جمهور علماء العربيّة لخروج الزمان بداهة عن مدلوله وإنّما هو بالالتزام البيّن بالمعنى الأخصّ لأنّ مدلوله لمّا كان الحدث المقيّد بالزمان فتصوّره يتوقّف على تصوّر الزمان كما في العمى والبصر إذ العمى لمّا كان موضوعا لعدم البصر ممّا هو شأنه فتصوّر العمى موقوف على تصوّر البصر وبهذا تمتاز دلالة الفعل على الزمان عن دلالته على المكان ونحوه مع اشتراك الكلّ في اللزوم العقليّ إذ دلالته على الزمان دلالة لفظيّة من القسم الثالث من أقسامها بخلاف المكان فإنّ دلالته عليه عقليّة صرفة. انتهى (١)

* * *

المقام الحادي عشر :

في أنّ المبادئ في المشتقّات مختلفة ؛ منها : ما يكون من قبيل الأفعال الخارجيّة

__________________

(١) الوقاية / ١٦٨.

٥٣٠

كالقيام ويكون الانقضاء فيها برفع اليد عن تلك الأفعال ولو آناً ما.

ومنها : ما يكون من قبيل الملكة والقوّة والاستعداد كما في المجتهد والمفتاح والانقضاء فيها لا يكون إلّا بزوال القوّة والملكة والاستعداد فما دامت قوّة الاستنباط موجودة في المجتهد واستعداد الفتح موجودا في المفتاح فالتلبّس فعليّ وغير زائل.

ومنها : ما يكون من قبيل الحرفة كما في الخيّاط والنجّار ويكون التلبّس بها بأخذ تلك المبادئ حرفة أو صنعة والانقضاء فيها إنّما يكون بترك هذه الحرف فما دام لم يتركها ولم يعرض عنها فالتلبّس فعليّ وإن لم يشتغل بها فعلا بجهة من الجهات.

ثمّ إنّ اختلاف المذكور في المبادئ محقّق مع قطع النظر عن الجري والحمل فإنّ ألفاظ المشتقّات بمفهومها التصوّريّة تفيد هذه المعاني فلا وجه لاستناد هذا الاختلاف إلى الجري والحمل كما يظهر من تعليقة الأصفهانيّ حيث قال : إنّ معاني هذه المشتقّات كسائر المشتقّات في استعمالها في المعاني الحدثيّة وإنّما الاختلاف في الجري والحمل على الذوات فإنّ هذه المشتقّات في مثل قولنا : هذا مسلخ أو هذا مسجد أو هذا مفتاح ، تجري بلحاظ القابليّة والاستعداد كما أنّ الكاتب يجري على الإنسان في مثل قولهم : الانسان كاتب بالقوّة بغرض بيان اقتضاء الإنسان لهذا المعنى بالقوّة لا بالفعل وأمّا مفهوم المشتقّ مستعمل في معناه لا فيما له الكتابة بالقوّة في المثال الثاني ولا فيما له قابليّة الفتح أو الكنس أو فيما له استعدادهما في الأوّل. (١)

وذلك لتبادر الاختلاف المذكور من نفس الألفاظ المشتقّات بمفهومها التصوّريّة قبل أن تحمل وتجري في القضايا فلا وجه لاستنادها إلى غير نفس المشتقّات كما لا يخفى. بل ليس ذلك إلّا لإشراب هذه المعاني في ناحية المبادئ فالتلبّس والانقضاء في كلّ واحد بحسبه.

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ١٠٧.

٥٣١

وأمّا ما في تعليقة الأصفهانيّ قدس‌سره من أنّ التصرّف في المادّة غير ممكن فلأنّ الآلة مثلا فاعل ما به الفتح في المفتاح وفاعل ما به الكنس في المكنس ولا معنى لكون الشيء فاعلا لقابليّة الفتح أو الكنس أو لاستعدادهما ، فلا معنى لإشراب القابليّة والإعداد والاستعداد في المادّة.

ففيه أنّ الظاهر من المفتاح والمكنس هو ما يعدّ للفاعل أن يكنس أو يفتح وليس المفتاح أو المكنس بنفسهما فاعلا وهذا المعنى أمر ممكن ومعقول.

ثمّ لا فرق في أن يكون الإشراب المذكور من ابتداء الوضع أو من ناحية استعمال الموادّ أو مجموع المادّة والهيئة فيه مجازا فشاع حتّى صارت حقيقة فيها وكيف كان فالمتبادر فعلا من المشتقّات هو اختلافها في المبادئ فالمبادئ مختلفة وإن لم تكن موضوعة لها في الابتداء ولكن تكون متعيّنة لها بالوضع التعيّنيّ ومن المعلوم أنّ التلبّس بها والانقضاء عنها يختلف باختلاف مباديها.

ولذلك قال في الكفاية : إنّ اختلاف المشتقّات في المبادئ وكون المبدأ في بعضها حرفة وصناعة وفي بعضها قوّة وملكة وفي بعضها فعليّا لا يوجب اختلافا في دلالتها بحسب الهيئة ولا تفاوتا في الجهة المبحوث عنها كما لا يخفى ، غاية الأمر أنّه يختلف التلبّس به في المضيّ أو الحال فيكون التلبّس به فعلا لو اخذ حرفة أو ملكة ولو لم يتلبّس به إلى الحال أو انقضى عنه ويكون ممّا مضى أو يأتي لو اخذ فعليّا فلا يتفاوت فيها أنحاء التلبّسات وأنواع التعلّقات كما أشرنا إليه. انتهى

ثمّ لا يخفى عليك أنّه حكي عن بعض المحقّقين إنكار اختلاف المبادئ من حيث القوّة والفعليّة قائلا بأنّ الأفعال المشتقّة من تلك المبادئ سواء كان فعل ماض أو مضارع أو أمر لا تستعمل إلّا في المعنى الحدثيّ بالوجدان مثلا : لا يستعمل اجتهد أو مجتهد أو اجتهد إلّا في الاستنباط الفعليّ الذي هو معنى حدثيّ أو في الجدّ والجهد ومطلق السعي وهو أيضا كذلك معنى حدثيّ وهكذا الحال في سائر الأفعال المشتقّة من سائر الموادّ

٥٣٢

ولم نشاهد بالوجدان استعمال فعل من الأفعال في المعنى غير الحدثيّ. فلا يقال : اتّجر بمعنى أنّه أخذ التجارة حرفة له ، أو صاغ أي أخذ الصياغة صنعة له أو اجتهد أي صار ذا ملكة الاجتهاد وهكذا. وبعيد كلّ البعد أن يكون المبدأ في الأفعال والأسماء مختلفا وبناء على هذا فالمبدأ في الأسماء أيضا ذلك المعنى الحدثيّ لا الملكة أو الحرفة أو الصنعة وأمثالها. وحينئذ السرّ في إطلاق المشتقّ إذا كان من الأسماء على الذات المنقضى عنها التلبّس إطلاقا حقيقيّا هو أنّ العرف يرى أنّ من يزاول هذه الأعمال ويجعلها شغلا وحرفة لنفسه متلبّسا بها دائما ويرون فترات الانقضاء بحكم العدم ولا يرونها موجبة لانقطاع هذه الأعمال لينفى التلبّس بها حتّى يكون داخلا في محلّ الخلاف.

ولكن يمكن الجواب عنه بما في منتهى الاصول من أنّ في مثل العدالة المنتسبة إلى الذات عند قولك : زيد عادل لا يمكن أن يكون المبدأ فيها معنى حدثيّا لأنّه ليس معنى حدثيّ في البين بل المراد من العادل هو الذات المتلبّسة بالملكة وهكذا في المجتهد بمعنى كونه ذا ملكة الاجتهاد وبعبارة اخرى هذا المعنى أي اختلاف المبادئ وكونها على أنحاء ممّا لا يمكن أن ينكر ، هذا مضافا إلى صحّة إطلاق المجتهد إطلاقا حقيقيّا مع عدم استنباطه الفعليّ أصلا وعدم مزاولته له ولو في مسائل قليلة حتّى نقول بأنّ العرف يرى الفترات بحكم العدم وأمّا السرّ في عدم كون المبادئ في الأفعال من قبيل الملكة والحرفة وأمثالها لو سلّمنا ذلك فهو أنّ هيئة الأفعال موضوعة لانتساب الحدث والفعل بالمعنى الحدثيّ إلى الذات انتسابا صدوريّا أو وقوعيّا أو غير ذلك فلا معنى لأن يكون المبدأ فيها الملكة أو الحرفة أو ما يشبههما من الصفات والنعوت التي ليست من الأحداث والأفعال. (١)

* * *

__________________

(١) منتهى الاصول ١ / ٨٤.

٥٣٣

المقام الثاني عشر : في مقتضى الأصل في المسألة :

ذهب في الكفاية إلى أنّه لا أصل أي الأصل اللفظيّ في نفس هذه المسألة يعوّل عليه عند الشكّ وأصالة عدم ملاحظة الخصوصيّة مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له.

أورد عليه استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره بأنّ هذا صحيح لو كان العموم والإطلاق لحاظيّا لا ذاتيّا ، إذ العموم والإطلاق يحتاج حينئذ إلى لحاظ السريان والإرسال في مدلوله فأصالة عدم ملاحظة الخصوصيّة معارضة بأصالة عدم ملاحظة العموم والإطلاق والسريان والإرسال. أمّا إذا كان العموم والإطلاق ذاتيّا فلا مجال لدعوى المعارضة لأنّ الماهيّة اللابشرط في جانب الإطلاق والعموم خالية عن تمام الحدود والقيود وتكون بنفسها كافية للسريان والإطلاق من دون حاجة إلى ملاحظة قيد الإطلاق والسريان. هذا بخلاف الخاصّ فإنّه يحتاج إلى ملاحظة الخصوصيّة فيه. وعليه فتجري أصالة عدم الخصوصيّة من دون معارضتها مع أصالة عدم ملاحظة الإطلاق والعموم. ولذا قيل إنّ العموم والإطلاق أخفّ مئونة من الخاصّ والمقيّد. ويؤيّد ذلك ما عن سلطان العلماء من أنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهيّات المهملة دون المرسلة المطلقة. فحينئذ بعد العلم بالوضع فاعتبار الماهيّة اللابشرط المقسميّ الخالية عن تمام الحدود بحيث لم يلحظ في جانبها سوى نفس الماهيّة في مدلول اللفظ متيقّن إذ ملاحظة اتّصاف الذات بالمبدإ بالنحو المذكور أمر لا بدّ منه عند وضع الواضع وإنّما الشكّ في اعتبار الخصوصيّة الزائدة وهو حال التلبّس وبقاء اتّصاف الذات والأصل هو عدم اعتبارها. هذا بخلاف ما إذا اخترنا ما نسب إلى المشهور في وضع أسماء الأجناس من اعتبار حدّ الإرسال والسريان في مدلولها فإنّ العموم والخصوص حينئذ يكونان متباينين ولا مجال للأصل في طرف بعد معارضته بالأصل

٥٣٤

الجاري في طرف آخر.

لا يقال : إنّ المهمل غير قابل لأن يحكم عليه والوضع ضرب من الحكم. هذا مضافا إلى أنّ الماهيّة المهملة في حكم الجزئيّة والوضع لها كالحكم عليها فكما أنّ الحكم عليها لا يسري إلى جميع المصاديق كذلك الوضع لها لا يسري إلى جميع المصاديق ولازمه عدم صحّة إطلاق اللفظ الموضوع للطبيعة على جميع مصاديقها مع أنّه لا إشكال في صحّة إطلاق اسم الجنس على كلّ واحد من مصاديق معناه. (١)

لأنّا نقول : إنّ الواضع إذا كان في مقام بيان خصوصيّات لها دخل في الموضوع له ولم يأخذ شيئا سوى الماهيّة اللابشرط الخالية عن الحدود والقيود كان السريان والإطلاق ذاتيّا للموضوع له كموارد الذي جعل الشارع موضوع حكمه الماهيّة اللابشرط من دون أخذ قيد وشرط فيها فإنّه إن لم يكن في مقام البيان صار ذلك سببا لإهمال الماهيّة وأمّا إذا كان في مقام البيان ولم يأخذ قيدا صار ذلك سببا للسريان والإطلاق الذاتيّ.

نعم يمكن منع جريان أصالة الإطلاق كما أفاد الاستاذ فيما إذا كان المفهوم مندمجا كمفهوم الحيوان والإنسان ، فإذا شكّ في كون متعلّق حكم هل هو المطلق كالحيوان أو المقيّد كالإنسان فلا بناء من العقلاء في إجراء أصالة الإطلاق فيه بعد كون مفهوم الإنسان مندمجا ، إذ مع الاندماج لا يعدّ الحيوان بالنسبة إليه مطلقا بل يعدّان من المتباينين بخلاف ما إذا شكّ في كون متعلّق الحكم هل هو الرقبة او الرقبة المؤمنة فإنّ أصالة الإطلاق جارية فيه بلا كلام.

وحيث أنّ مفهوم المشتقّ مردّد بين كونه هو المتّصف بعنوان بعض صفاته من دون قيد وشرط أو مع اشتراط حال التلبّس وبقاء الاتّصاف ، يمكن جريان أصالة

__________________

(١) كما في نهاية النهاية / ٦٩.

٥٣٥

الإطلاق اللفظيّ وإثبات إطلاقه.

وأمّا ما في الكفاية من أنّه لا دليل على اعتبار أصالة عدم ملاحظة الخصوصيّة في تعيين الموضوع له ففيه منع لجريان أصالة الإطلاق وعدم الخصوصيّة لتشخيص المرادات ومع جريان ذلك الأصل في كلام الواضع أو فعله ، تعيّن مراد الواضع في كيفيّة وضعه فيتعيّن حينئذ حدود الموضوع له بجريان أصالة الإطلاق.

وممّا ذكر يظهر ما في كلام المحقّق الأصفهانيّ حيث قال في توضيح ما ذهب إليه صاحب الكفاية من معارضة أصالة عدم الخصوصيّة بأصالة عدم ملاحظة العموم ، توضيحه : أنّ المفاهيم في حدّ مفهوميّتها متباينات فالعموم والخصوص في مرحلة الصدق ومع دوران الأمر بين الوضع لمفهوم أو لمفهوم آخر ليس أحدهما متيقّنا بالنسبة إلى الآخر ، فإنّ التيقّن في مرحلة الصدق لمكان العموم والخصوص لا دخل له بمرحلة المفهوم الذي هو الموضوع له فتدبّر جيّدا. (١)

حاصله : أنّه لا مجال للإطلاق والتقييد والعموم والخصوص في ناحية المفاهيم لكون الماهيّات والمفاهيم في حدّ مفهوميّتها متباينات والمفروض أنّ الواضع ناظر إلى المفاهيم لا مرحلة الصدق.

وذلك لما عرفت من إمكان جريان أصالة الإطلاق في كلام الواضع أو فعله فإنّ ملاحظة اتّصاف الذات بعنوان بعض صفاته في الوضع معلوم وإنّما الشكّ في لحاظ خصوصيّة حال التلبّس واشتراط بقائه وعدمه ، وهو مجرى الأصل. هذا مضافا إلى أنّ ملاحظة المفهوم ليس بما هو مفهوم مع قطع النظر عن مرحلة صدقه ، بل الملحوظ هو المفهوم بما له أفراد ومصاديق فإرادة المفهوم الآخر كمفهوم القيد يوجب التقيّد في دائرة مصاديق المفهوم الأوّل فتدبّر.

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ١١٢.

٥٣٦

لا يقال : إنّ أصالة عدم الخصوصيّة لا تثبت الوضع للأعمّ إلّا على القول باعتبار الأصل المثبت.

لأنّا نقول : إنّ أصالة الاطلاق من الأصول اللفظيّة العقلائيّة لا الاصول العمليّة. هذا مضافا إلى أنّ الوضع للماهيّة معلوم ولا حاجة إلى الإثبات وإنّما الشكّ في ملاحظة الخصوصيّة وهو مندفع بأصالة عدم الخصوصيّة كاندفاع احتمال إرادة خلاف الظاهر بإقامة القرينة على الخلاف بأصالة عدم القرينة.

ولو سلّمنا المعارضة والسقوط فلا مجال لترجيح الأعمّ بترجيح الاشتراك المعنويّ على الحقيقة والمجاز لأجل الغلبة فيما إذا دار الأمر بين الاشتراك المعنويّ والمجاز لعدم ثبوت الغلبة أوّلا ومنع نهوض حجّة على الترجيح بالغلبة ثانيا كما في الكفاية.

مقتضى الأصل العمليّ

وأمّا الأصل العمليّ ففي الكفاية أنّه يختلف بحسب الموارد فأصالة البراءة في مثل «أكرم كلّ عالم» يقتضي عدم وجوب إكرام ما انقضى عنه المبدأ قبل الإيجاب كما أنّ قضيّة الاستصحاب وجوبه لو كان الإيجاب قبل الانقضاء.

أوضحه في المحاضرات بقوله : وهو أنّ الموارد التي يشكّ فيها في حدوث الحكم بعد زوال العنوان الذي اخذ في الموضوع يرجع فيها إلى أصالة البراءة كما إذا فرضنا أنّ زيدا كان عالما ثمّ زال عنه العلم وبعد ذلك ورد في الدليل : «أكرم كلّ عالم» فشككنا في وجوب إكرام زيد لاحتمال كون المشتقّ موضوعا للأعمّ. وأنّ الموارد التي يشكّ فيها في بقاء الحكم بعد حدوثه وثبوته فالمرجع فيها هو الاستصحاب وذلك كما لو كان زيد عالما وأمر المولى بوجوب إكرام كلّ عالم ثمّ بعد ذلك زال عنه العلم وأصبح جاهلا فلا محالة نشكّ في بقاء الحكم لاحتمال كون المشتقّ موضوعا للأعمّ إذا

٥٣٧

نستصحب بقائه.

أورد على جريان الاستصحاب في الموارد المذكورة في نهاية النهاية بأنّ الموضوع في الاستصحاب المذكور لم يحرز بقائه لتردّده بين ما هو باق جزما أعني به الأعمّ من المتلبّس والمنقضي وما هو مرتفع جزما أعني به خصوص المتلبّس ومعه لا يجري الاستصحاب على ما بيّن في محلّه. (١)

حاصله أنّ الاستصحاب غير جار في الشبهات المفهوميّة لتعيين المفهوم المردّد بين ما هو باق جزما وبين ما هو مرتفع جزما كما إذا دار مفهوم الغروب بين استتار القرص وذهاب الحمرة فإنّ في حال الاستتار إن كان مفهوم الغروب هو الاستتار فهو حاصل قطعا وإن كان هو ذهاب الحمرة فهو معلوم العدم فلا يجري الاستصحاب لأنّ الأمر يدور بين معلوم الحصول ومعلوم الارتفاع فلا يتحقّق أركان الاستصحاب من العلم السابق والشكّ في البقاء.

وفيه أنّ الاستصحاب الموضوعيّ وإن لم يجر لدورانه بين معلوم البقاء ومعلوم الارتفاع وعدم تحقّق الأركان فيه ولكن يمكن جريان الاستصحاب الحكميّ فكما أنّ استصحاب وجوب صلاة الظهر والعصر على الشخص أو استصحاب حرمة الإفطار على الشخص جار فيما إذا شكّ في بقاء اليوم من ناحية الشكّ في مفهوم الغروب فكذلك في المقام يجري استصحاب الحكم المعلوم السابق المتعلّق بالشخص بعد تلبّسه بالمبدإ وإن كان لم يجر الاستصحاب في الشبهة المفهوميّة في ناحية موضوع الحكم لما ذكر فإنّ أركان الاستصحاب في ناحية الحكم تامّ في الاستصحاب الحكميّ للشكّ في بقاء الحكم المتعلّق بالشخص المتلبّس بالمبدإ فإنّ انقضاء المبدأ لا يوجب تبدّل الموضوع عرفا حتّى لا يجري الاستصحاب الحكميّ لكون الأوصاف عند العرف من

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ٧٠.

٥٣٨

الأحوال فأركان الاستصحاب الحكميّ باقية بخلاف الاستصحاب في ناحية مفهوم المشتقّ.

فما ذهب إليه صاحب الكفاية من أنّ قضيّة الاستصحاب وجوبه لو كان الإيجاب قبل الانقضاء صحيح تامّ فلا تغفل.

الكلام في المختار في معنى المشتقّ

وإذا عرفت المقدّمات المذكورة فاعلم :

أنّ الحقّ هو أنّ المشتقّ حقيقة في المتلبّس بالمبدإ لا الأعمّ ويدلّ عليه امور :

تبادر المتلبّس

منها : التبادر : فإنّ المنسبق إلى أذهان أهل كلّ لغة بالقياس إلى لغاتهم هو ذلك فإنّهم يفهمون من المشتقّات عند إطلاقها واستعمالاتها المتلبّس بالمبدإ لا الأعمّ ، مثلا : يتبادر من هيئة (عالم) في لغة العرب وهيئة (دانشمند) في لغة الفرس ، خصوص المتلبّس بالعلم فمن كان عالما ولم يكن بالفعل عالما لا يصدق عليه في حال الانقضاء بلحاظ حال الانقضاء لا حال التلبّس عنوان العالم أو عنوان (دانشمند) ولو كان موضوعا للأعمّ لصدق عليه ولو بعد الانقضاء ولتبادر منه الجامع بينهما والمعلوم خلافه.

صحّة سلب المشتقّ

ومنها : صحّة سلب عنوان المشتقّ عمّن انقضى عنه المبدأ وهو شاهد على اختصاص معناه بالمتلبّس مثلا إذا رأينا صحّة القول بأنّ زيدا ليس بعالم عند انقضاء المبدأ عنه كان ذلك دليلا على اختصاص معنى العالم بالمتلبّس بمبدإ العلم وإلّا فليس لصحّة السلب عنه مجال.

٥٣٩

أورد عليه في تهذيب الاصول بأنّ صحّة السلب لا تصلح لأن تكون علامة الحقيقة لما تقدّم منه في بحث علائم الحقيقة من أنّ التحقيق أنّ الاستكشاف واستعلام الحال حاصل من التبادر الحاصل من تصوّر الموضوع السابق على الحمل وسلبه فيكون إسناده إلى الحمل أو سلبه في غير محلّه.

وقد ذكرنا سابقا ما فيه من أنّ تصوّر الموضوع والمحمول إجمالا يكفي في صحّة الحمل ولا يلزم أن يكون تفصيليّا بل يجوز أن يحصل التفصيل بالحمل وعليه فلا منافاة بين أن يكون الموضوع أو المحمول قبل الحمل متبادرا في أصل معناه وبين أن لا يعلم التفصيل إلّا بالحمل ولذلك يمكن أن لا يعلم باتّحادهما قبل الحمل فإذا رأى جواز حمله على الموضوع في المحاورات العرفيّة حدث له العلم التفصيليّ بحدود المعنى مثلا إذا شككنا في حدود المعنى في (الصعيد) فإذا رأينا صحّة حمله على ما عدا التراب في المحاورات العرفيّة وعدم صحّة سلبه عنه علمنا بتفصيل حدوده فارتفع الشّكّ عنّا بالنّسبة إلى حدودها.

وعليه فإسناد التفصيل إلى الحمل أو صحّة السلب في محلّه.

هذا مضافا إلى ما مرّ من أنّ التبادر وصحّة الحمل أو عدم صحّة السلب من علائم الحقيقة مترتّبات على الاستعمال المجرّد الكاشف عن كون اللفظ موضوعا للمعنى وإلّا فلا يستعمله الحكيم فيه بدون القرينة لكونه غلطا بعد فرض تجرّده عن جميع علاقات المجاز ورتبة الاستعمال متقدّمة على رتبة هذه العلائم المذكورة فالتبادر وصحّة الحمل أو عدم صحّة السلب في عرض واحد فكما أنّ التبادر الذي يكون من لوازم كون اللفظ موضوعا للمعنى الذي استعمل فيه مجرّدا عن القرائن علامة الحقيقة فكذلك تكون صحّة الحمل أو عدم صحّة السلب.

لا يقال : إنّ لازم ما ذكر هو انحصار العلاميّة في الاستعمال المجرّد المذكور.

لأنّا نقول : إنّ اللوازم الخاصّة للشيء علامة وجوده أيضا فإذا يكون التبادر و

٥٤٠