عمدة الأصول - ج ١

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

صحّة الحمل أو عدم صحّة السلب أيضا من علائم وجود الحقيقة وبهذا الاعتبار لا مانع من إطلاق العلامة على مثل هذه اللوازم وإن كانت رتبة علاميّة الاستعمال المجرّد مقدّمة عليها.

ثمّ إنّه ربما اورد على الاستدلال لصحّة السلب بما حاصله : أنّه إن اريد بصحّة السلب صحّته مطلقا سواء في حال التلبّس أو في حال الانقضاء فلا إشكال في كونه كذبا لصحّة حمله عليه في حال التلبّس وإن اريد بصحّة السلب صحّته مقيّدا بحال الانقضاء فهو غير مفيد لأنّ سلب المقيّد لا يكون دليلا على سلب المطلق فكما أنّ مع سلب الإنسان الأبيض عن زيد لا يصحّ سلب الإنسان المطلق عنه فكذلك سلب المشتقّ المقيّد لا يكون علامة لكون المطلق فيه مجازا فإذا قيل مثلا زيد ليس بالضارب المقيّد بحال الانقضاء لا يدلّ على عدم اتّصاف زيد في حال انقضاء المبدأ بمطلق الضارب بعد احتمال أن يكون المشتقّ موضوعا للأعمّ.

وأجاب عنه في الكفاية بأنّ المقصود هو تقييد السلب أو المسلوب عنه لا تقييد المسلوب حتّى لا يكون علامة ولذلك قال في منتهى الاصول تبعا للكفاية : يصحّ أن يقال : الرجل الذي كان عادلا والآن هو فاسق أنّه الآن ليس بعادل بحيث يكون (الآن) قيدا للموضوع أو للسلب لا للمسلوب ... إلى أن قال : وبناء على ما ذكرنا لا يرد على هذا الدليل أنّه إن أراد المستدلّ صحّة السلب مطلقا فغير سديد وإن أراد صحّته مقيّدا فغير مفيد لأنّنا أخذنا التقييد في ناحية الموضوع أو السلب ومثل هذا التقييد لا يضرّ بالاستدلال. (١)

وتوضيح ذلك أنّ تقييد السلب أو الموضوع الذي يحمل عليه المشتقّ غير ضائر بكون صحّة السلب علامة للمجاز بخلاف تقييد المسلوب الذي هو المشتقّ بحال

__________________

(١) منتهى الاصول ١ / ١٠٣.

٥٤١

الانقضاء فإنّ سلبه أعمّ من سلب المطلق لإمكان اجتماعه مع ذات المقيّد فلا يكون سلبه علامة على كون المطلق فيه مجازا. هذا بخلاف سلب المشتقّ المطلق في حال الانقضاء فإنّه علامة المجاز ضرورة صدق المطلق على أفراده على كلّ حال فإذا سلب المشتقّ المطلق في حال الانقضاء يكون ذلك علامة على كون المطلق مجازا في تلك الحال وحيث كان سلب المطلق مقيّدا بحال الانقضاء لا يشمل حال التلبّس حتّى يكون كذبا.

ذهب المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره إلى أن تقييد السلب غير سديد حيث قال ما حاصله : وأمّا تقييد السلب فغير سديد لأنّ العدم غير واقع في الزمان ولو كان مضافا إلى شيء .. إلى أن قال : بل القابل هي النسبة الاتّحاديّة بتبع مبدئها وهو التلبّس الواقع في الزمان أصالة ... إلى أن قال : فنقول حينئذ مفاد زيد ليس بضارب الآن ، سلب النسبة المتقيّدة بالآن ولو كان الوصف موضوعا للأعمّ كان زيد مصداقا له الآن ولم يصحّ سلب مصداقيّته ومطابقته المزبورة. (١)

وكيف كان يمكن أن يقال إنّ تقييد المسلوب بحال الانقضاء على قسمين : تارة بسلب المسلوب المقيّد مادّته فهو ليس بأمارة كما إذا قيل : ليس زيد بضارب بضرب اليوم فإنّه لا ينافي كونه فعلا ضاربا بضرب الأمس. وتارة اخرى بسلب المسلوب المقيّد هيئته وهو أمارة كما إذا قيل : زيد ليس بضارب اليوم ولو بضرب الأمس فإنّه ينافي الوضع للأعمّ من المتلبّس.

ارتكاز التضادّ

ومنها : ما ربما يقال من أنّه لا ريب في مضادّة الصفات المتقابلة التي اخذت من

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ١١٥ ـ ١١٦.

٥٤٢

المبادئ المتضادّة فلو كان المشتقّ حقيقة في الأعمّ لارتفع التضادّ بينهما لتصادقهما فيما انقضى عنه المبدأ كتصادق العناوين المتخالفة في آن واحد على شيء واحد كالأحمر والشجاع على شخص مع أنّ المفروض أنّه ليس كذلك لارتكاز التضادّ بين عنوان العالم والجاهل والأسود والأبيض والمتحرّك والساكن عرفا وهو بنفسه يدلّ على أنّ المشتقّ موضوع للمتلبّس دون الأعمّ وإلّا لم يكن بينها تضادّ بما لها من المعاني بل كان بين العناوين تخالف وأمكن صدقهما معا على الذات في زمن واحد إذا اريد من واحد منهما الفعليّ والآخر ما انقضى عنه.

أورد عليه في تهذيب الاصول بأنّه لو لا التبادر لما كان بينها تضادّ ارتكازا إذ حكم العقل بأنّ الشيء لا يتّصف بالمبدءين المتضادّين صحيح لكن الاستنتاج من هذا الحكم بعد تعيين معنى الأبيض والأسود ببركة التبادر وأنّ معنى كلّ واحد بحكمه هو المتلبّس بالمبدإ عند التحليل ومع التبادر لا يحتاج إلى هذا الوجه العقليّ بل لا مجال له فتدبّر.

يمكن أن يقال : إنّ التضادّ المذكور من لوازم التبادر ولا إشكال في علاميّة اللازم كعلاميّة الملزوم.

لا يقال : لا حاجة مع قيام الملزوم إلى اللازم.

لأنّا نقول : ربما لا يكون التبادر منكشفا إلّا من ناحية التضادّ فبعد ارتكاز التضادّ يعلم تبادر خصوص المتلبّس بالمبدإ في الحال. وبعد رجوع التضادّ إلى التبادر وهو راجع إلى الوضع لا يكون الوجه وجها عقليّا صرفا حتّى لا يكون له مجال في مسألة المشتقّ لما مرّ من أنّ البحث فيه لغويّ.

لا يقال : إنّ ارتكاز التضادّ بين الصفات يكون لأجل الانسباق والانصراف من الإطلاق لا الوضع.

لأنّا نقول كما في الكفاية : الانصراف من ناحية الإطلاق مدفوع بكثرة استعمال

٥٤٣

المشتقّ في موارد الانقضاء ، فإنّه تمنع عن دعوى انسباق خصوص حال التلبّس من الإطلاق ، إذ مع عموم المعنى على ما ذهب إليه القائل وقابليّة كونه حقيقة في مورد حال الانقضاء لا وجه لانصرافه إلى خصوص المتلبّس فالانصراف إلى المتلبّس مع كثرة استعمال المشتقّ في موارد الانقضاء لا يكون إلّا من جهة كون الانسباق من جهة حاقّ اللفظ والوضع واختصاص الوضع بحال التلبّس فلا تغفل.

أدلّة الأعمّيّ

ثمّ ينقدح ممّا ذكرنا عدم الوقع لما ادّعى المخالف من تبادر اللفظ في الأعمّ أو عدم صحّة السلب لما عرفت من تبادر خصوص المتلبّس وصحّة السلب عمّن انقضى عنه.

وأمّا دعوى عدم صحّة السلب في مثل المضروب والمقتول ، فإن اريد بالقتل أو الضرب نفس ما وقع على الذات ممّا صدر عن الفاعل ففيها منع إن كان السلب بلحاظ حال الانقضاء لوضوح صحّة أن يقال : أنّه ليس بمضروب أو مقتول الآن بل كان ، إذ الضرب لم يدم والقتل لم يقبل التكرار. وإن اريد بهما معنى يكون التلبّس به باقيا حتّى في حال الانقضاء والنطق ولو مجازا كإرادة عدم الروح من المقتول أو الجراحة والإيلام من المضروب فعدم صحّة السلب صحيح ولكنّه خلاف مفروض البحث لأنّ البحث في إطلاق المشتقّ على من انقضى عنه المبدأ وفي أمثال ذلك لا ينقضى المبدأ بل يكون المبدأ بعد إرادته ولو مجازا باقيا.

وهكذا يكون خارجا عن مفروض البحث إن اريد بهما معناهما ولكن بلحاظ حال التلبّس فإنّ إطلاق اللفظ حينئذ يكون حقيقة لاستعماله في معناه ولا يصحّ سلبهما والكلام في صحّة السلب بعد انقضاء المبدأ بلحاظ حال الانقضاء لا بلحاظ حال التلبّس ولو سلّمنا استعماله فيمن انقضى عنه بلحاظ حال الانقضاء لا يكون

٥٤٤

دليلا على كونه حقيقة. قال استاذنا الداماد قدس‌سره : لا إشكال في استعمال المشتقّ احيانا فيمن انقضى عنه المبدأ مع قيام القرينة عليه كما إذا كان المبدأ آنيّ الحصول كالقتل أو كان المبدأ غير متعدّد وغير متكرّر كقولهم : يا قالع باب الخيبر ، أو كان الحكم المعلّق على المشتقّ غير مختصّ بالمتلبّس كقوله تعالى : (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) الآية.

ولكن لا أصل في البين حتّى يثبت أنّ استعماله فيه بعد معلوميّة المراد حقيقة أو مجاز بعد اختصاص جريان أصالة الحقيقة بما إذا لم يعلم المراد لا ما إذا علم المراد وشكّ في الاستناد إلى الحقيقة أو المعنى المجازيّ.

هذا مضافا إلى ما في الوقاية من أنّ المشتقّ كثيرا ما يلاحظ عنوانا للذات ومعرّفا لها كالقاتل والسارق والمحدود ونحو ذلك حتّى أنّه قد يقوم مقام النعت والصفة إذا كان من الأفعال العظيمة كقالع الباب وفاتح البلد وحينئذ يكفي في صدق اللفظ اتّصافها به ولو في غير زمان التلبّس ومن الخلط بين هذين القسمين نشأ كثير من الأقوال التي تجدها مفصّلة في الفصول وغيره حيث أنّ صاحب كلّ قول نظر إلى عدّة استعمالات المعتبر فيها المشتقّ عنوانا للذات فقاده إلى القول بعدم اشتراط التلبّس في الحال فيما هو من قبيلها. (١)

ولكن يمكن أن يقال : إنّ حمل الأوصاف على كونها عنوانا للذات خلاف الأصل.

ثمّ إنّ الأعمّيّ ربما يستدلّ بقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) حيث استدلّ الإمام الصادق عليه‌السلام به على عدم لياقة من سبق منهم الظلم لمنصب الإمامة مستدلّا بكونهم مشركين قبل إسلامهم ولا يستقيم هذا الاستدلال إلّا من جهة كون المشتقّ حقيقة في الأعمّ حتّى يكون إطلاق الظالم بمعنى المشرك عليهم حين تصدّيهم لمنصب

__________________

(١) الوقاية / ١٧٦.

٥٤٥

الخلافة على نحو الحقيقة وإلّا فلقائل أن يقول : إنّهم لم يكونوا مشركين حين تصدّيهم للخلافة ولما صحّ التعريض بمن تصدّى لها ممّن عبد الصنم مدّة مديدة كما عن الكافي عن الصادق عليه‌السلام : أنّه قال : من عبد صنما أو وثنا لا يكون إماما. وعن العيون عن مولانا الرضا عليه‌السلام في ذيل الآية فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة.

واجيب عنه بوجوه :

منها : أنّ القرينة في المقام قائمة على أنّ المراد من عنوان الظالم هو معناه المجازيّ وهو من انقضى عنه المبدأ ولا وجه للتحاشي عن الأخذ بالمعنى المجازيّ إذا قامت القرينة عليه بعد كون اللفظ ظاهرا فيه بمعونة القرينة. ألا ترى أنّه لا يستوحش أحد عن الأخذ بظهور مثل رأيت أسدا يرمي مع أنّه معنى مجازيّ. وعليه فلا وجه لتحاشي صاحب الكفاية من استعمال المشتقّ في الآية الكريمة في المعنى المجازيّ ، فمعنى الآية الكريمة بمعونة القرينة في المقام أنّ من حدث منه الظلم وزال عنه لا يقبل للخلافة فضلا عمّن كان متلبّسا بالظلم دائما فالمراد من الظالمين هم الذين انقضى عنهم المبدأ.

والقرينة هي فخامة أمر الخلافة كما يشهد لذلك امتحان إبراهيم ـ على نبيّنا وآله وعليه‌السلام ـ واختباره بعد كونه نائلا لمنصب النبوّة والخلّة قبل إفاضة الإمامة والخلافة له لأنّ مقدّمات الإفاضة تدلّ على أنّ الإمامة في نظر الشارع ليست كإمامة الصلاة بل تمتاز عنها بكونها لا تنال من صدر عنه الظلم ولا يليق لها فمحصّل الآية أنّ من انقضى عنه الظلم لا يناله عهدي وإمامتي فضلا عمّن أدام الظلم وهذا المعنى يناسب الاستدلالات المرويّة عن أئمّتنا عليهم‌السلام كما عرفت ويساعد مع ظهور الكلام في اتّحاد زمان الحكم أعني عدم النيل مع زمان تحقّق الموضوع أعني جري عنوان الظلم وإطلاقه كاتّحاد زمان وجوب الإكرام مع زمان جرى العلم وحمله في مثل قولنا :

٥٤٦

«أكرم العلماء» فهذه الآية المستعملة فيمن انقضى عنه المبدأ مجازا بمعونة القرينة المذكورة لا تصلح للاستدلال للأعمّيّ ، هذا هو مختار استاذنا الداماد قدس‌سره ولكن الأولويّة مع الوجه الذي لا يستلزم كون اللفظ مجازا.

ومنها : ما حكاه استاذنا الداماد من استاذه الحائريّ قدس‌سره وأشار إليه في الدرر من أنّ مادّة الظلم في قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ، أعمّ من الظلم الآنيّ وحيث أنّ الحكم أعني عدم النيل بالخلافة والإمامة أمر له استمرار ، إذ لا معنى لذلك في الآن العقليّ كان ذلك قرينة على أنّ المراد من عنوان الظالمين ليس إلّا من صدر عنه الظلم آناً ما فالموضوع ليس إلّا نفس ذلك الوجود الآنيّ وليس لبقائه دخل إذ لا بقاء له بمقتضى الفرض فمقتضى الآية والله أعلم : أنّ من تصدّى للظلم في زمن لا يليق لمنصب الإمامة وان انقضى عنه الظلم ولا يتفاوت في حمل الآية الشريفة على المعنى الذي ذكرنا بين أن نقول بأنّ المشتقّ حقيقة في الأخصّ أو في الأعمّ إذ الحكم المذكور في القضيّة ليس قابلا لأن يترتّب إلّا على من انقضى عنه المبدأ فاختلاف المبنى لا يوجب اختلاف معنى الآية فلا يصير احتجاج الإمام عليه‌السلام بها دليل لإحدى الطائفتين.

قال الاستاذ : أوردت عليه في الدرس بأنّ ظهور المادّة معارض مع ظهور وحدة زمان الحكم مع زمان الجري والإطلاق إذ مقتضى ذلك هو اتّحاد حال عدم النيل مع حال الجري ولازم ذلك هو أن يكون الظلم مستمرّا فبملاحظة ذلك يمكن أن يكون مادّة الظلم منحصرة في الظلم المستمرّ فلا يشمل الظلم الآنيّ.

أجاب الاستاذ الحائريّ قدس‌سره بأنّ ظهور الإطلاق والجري ظهور مقاميّ وسكوتيّ تقتضيه مقدّمات الحكمة بعد كون المتكلّم حكيما ومن المعلوم أنّه لا يمكن أن يعارض ظهور الإطلاق والجري مع ظهور المادّة الذي لا يكون ظهورها إلّا ظهورا لفظيّا ومن حاقّ اللفظ بناء على مختارنا في مبحث المطلق والمقيّد من أنّ المطلق

٥٤٧

لا يحتاج في إفادته الإطلاق إلى جريان مقدّمات الحكمة بل نفس إنشاء الحكم على المطلق يقتضي التعميم وبعبارة اخرى لا مجال لتعارض المقاميّ مع الظهور اللفظيّ لا بتناء الظهور المقاميّ على مقدّمات الحكمة وهى غير جارية مع الظهور اللفظيّ على الخلاف كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى أنّ إخراج الظلم الآنيّ من مادّة الظلم مع شيوع الظلم الآنيّ وكثرته يوجب حمل المطلق على النادر وهو كما ترى.

ويؤيّد ما ذكر ما في مجمع البيان من أنّ الظلم إمّا ظلم على النفس وإمّا ظلم على الغير فإنّ هذا الكلام يدلّ على أنّ عنوان الظلم بمعناه الإطلاقيّ صار موضوعا للحكم. انتهى

حاصله أنّ عنوان الظالم مستعمل في المتلبّس بالظلم الذي انقضى عنه المبدأ بالقرينة المذكورة. ومن المعلوم أنّه لا يدلّ على كونه حقيقة في الأعمّ لصحّة الاستعمال المذكور بالقرينة مع كونه حقيقة في المتلبّس ولا يخفى عليك أنّ هذا الوجه لا بأس به ولكن الأولويّة مع وجه لا يستلزم المجاز.

ومنها : ما في المحاضرات من أنّ المشتقّ استعمل في المتلبّس وهو تمام الموضوع للحكم المؤبّد لا فيمن انقضى عنه المبدأ بل ليس للموضوع إلّا حالة واحدة وهو حالة التلبّس لأنّ الموضوع في القضايا الحقيقيّة لا بدّ من أخذه مفروض الوجود في الخارج ومن هنا ترجع كلّ قضيّة حقيقيّة إلى قضيّة شرطيّة مقدّمها : وجود الموضوع وتاليها : ثبوت الحكم له. وعليه ففعليّة الحكم تابعة لفعليّة موضوعه ولا يعقل تخلّف الحكم عنه فإنّه كتخلّف المعلول عن علّته التامّة ولذلك لا يجري النزاع في القضايا الحقيقيّة بخلاف القضايا الخارجيّة التي يكون الموضوع فيها أمرا موجودا خارجيّا فإنّه يمكن أن يؤخذ الحكم فيها باعتبار خصوص المتلبّس أو الأعمّ منه ومن المنقضي عنه المبدأ فالترديد في استعمال المشتقّ في المتلبّس أو الأعمّ إنّما يتأتّى في القضايا

٥٤٨

الخارجيّة دون القضايا الحقيقيّة مثلا عنوان (العالم) في قولنا : يجب إكرام العالم ، يستعمل فيمن تلبّس بالمبدإ أبدا سواء تحقّق التلبّس في الخارج أم لم يتحقّق فإنّه قد فرض فيه وجود شخص متلبّس بالعلم وحكم بوجوب إكرامه لا نعقل الانقضاء فيه ليتنازع في عموم الوضع له. وعلى هذا الضوء يظهر أنّ استدلال الإمام عليه‌السلام بالآية المباركة على عدم لياقة عبدة الأصنام للخلافة غير مبتن على كون المشتقّ موضوعا للأعمّ ليصدق على من انقضى عنه المبدأ حقيقة ، بل هو مبتن على نزاع آخر أجنبيّ عن نزاع المشتقّ وهو أنّ العناوين التي تؤخذ في موضوعات الأحكام ومتعلّقاتها في القضايا الحقيقيّة هل تدور الأحكام مدارها حدوثا وبقاء أم تدور مدار حدوثها فقطّ ، والصحيح أنّها تختلف بحسب اختلاف الموارد ففي غالب الموارد تدور مدارها حدوثا وبقاء وهذا هو المتفاهم عرفا وفي بعض الموارد لا يدور بقاء الحكم مدار بقاء موضوعه بل يبقى بعد زوال العنوان أيضا. وعلى ضوء معرفة هذا ، يقع الكلام في أنّ عنوان الظالم المأخوذ في موضوع الآية المباركة هل لوحظ دخيلا في الحكم على النحو الأوّل أو على النحو الثاني فالاستدلال بها مبتن على أن يكون دخله على النحو الثاني دون الأوّل ولا يخفى أنّ الارتكاز الناشئ من مناسبة الحكم والموضوع يستدعي أنّ المتلبّس بهذا العنوان آناً ما كاف لعدم نيل العهد والخلافة أبدا ، ويؤكّده نفس إطلاق الحكم في الآية المباركة فإنّ الإتيان بصيغه المضارع وهي كلمة (لا ينال) بلا تقييدها بوقت خاصّ يدلّ على عدم اختصاص الحكم بزمن دون زمن وأنّه ثابت أبدا لمن تلبّس بالظلم ولو آناً ما.

هذا مضافا إلى أنّ النهي عن الصلاة خلف المحدود والمجزوم والأبرص وولد الزنا والأعرابيّ يدلّ بالأولويّة القطعيّة على أنّ المتلبّس بالظلم وعبادة الوثن أولى بعدم

٥٤٩

اللياقة للجلوس على كرسيّ الخلافة لعلوّ المنصب وعظم المعصية. (١)

ومنها : أن يقال إنّ إبراهيم خليل الرحمن عليه‌السلام أجلّ شأنا من أن يسأل عن الله تعالى لذريّته بقوله ومن ذرّيّتي بعد قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) : أن يجعل ذرّيّته الذين كانوا من أوّل حياتهم إلى آخرها من الظالمين أو كانوا في أواخر عمرهم من الظالمين وعليه فالمناسب هو أن يسأل للذين كانوا من أوّل حياتهم إلى آخرها عادلين أو كانوا في أواخر عمرهم وفي زمن نيل الإمامة عادلين ، فأجاب الله تعالى إيّاه (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ومن المعلوم أنّ المنفيّ هو نيل الذين كانوا في أواخر عمرهم عادلين إلى مقام الإمامة فانحصر الإجابة للذين كانوا من أوّل عمرهم إلى آخره عادلين ، فهذه قرينة على اختصاص الظالمين بمن صدر منهم الظلم آناً ما فعنوان الظالمين مستعمل بلحاظ حال التلبّس ولو آناً ما لا بلحاظ حال الانقضاء.

قال في الميزان : إنّ هذا المعنى أعني الإمامة على شرافته وعظمته لا يقوم إلّا بمن كان سعيد الذات بنفسه إذ الذي ربما تلبّس ذاته بالظلم والشقاء فإنّما سعادته بهداية من غيره وقد قال الله تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى). (٢)

وقد قوبل في الآية بين الهادي إلى الحقّ وبين غير المهتدي إلّا بغيره أعني المهتدي بغيره وهذه المقابلة تقتضي أن يكون الهادي إلى الحقّ مهتديا بنفسه وأنّ المهتدي بغيره لا يكون هاديا إلى الحقّ البتّة ... إلى أن قال : وبهذا البيان يظهر أنّ المراد بالظالمين في قوله تعالى : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ، أنّ مطلق من صدر عنه ظلم ما من شرك أو معصية وإن كان في برهة من عمره ثمّ تاب وصلح ، و

__________________

(١) المحاضرات ١ / ٢٥٧ ـ ٢٦١.

(٢) يونس ، ٣٥.

٥٥٠

قد سئل بعض أساتيدنا رحمه‌الله عن تقريب دلالة الآية على عصمة الإمام فأجاب : أنّ الناس بحسب القسمة العقليّة على أربعة أقسام : من كان ظالما في جميع عمره ومن لم يكن ظالما في جميع عمره ومن هو ظالم في أوّل عمره دون آخره ومن هو بالعكس. وإبراهيم عليه‌السلام أجلّ شأنا من أن يسأل الإمامة للطائفة الاولى والرابعة من ذرّيّته فبقي قسمان آخران وقد نفى الله أحدهما وهو الذي يكون ظالما في أوّل عمره دون آخره فبقي الآخر وهو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره. (١)

وعليه فالمراد من عنوان الظالمين من صدر منهم الظلم ولو آناً ما واستعمل لفظ الظالم بلحاظ حال التلبّس ولم يستعمل في المنقضي عنه المبدأ ولو سلّم لا يفيد ذلك لأنّ الاستعمال مع القرينة لا يصلح شاهدا للبحث لا له ولا عليه.

ومنها : ما في نهاية الاصول من أنّ أكثر أفراد الظلم كفعل أكثر المحرّمات ممّا يحدث وينصرم فلا معنى لدوران المحروميّة من الإمامة مداره حدوثا وبقاء وبعض أفراده وإن كان ممّا لا ينصرم كالشرك مثلا ولكن كلمة (الظالمين) جمع محلّى باللام فيدلّ الآية الشريفة على محروميّة كلّ من صدق عليه هذا العنوان بأيّ جهة كان فيشمل كلّ من ارتكب مظلمة من المظالم الثابتة أو المتصرّمة وحيث أنّ المتصرّمة منها علّة لحدوث المحروميّة من دون أن تكون في بقائها دائرة مدارها كما عرفت وجهه فالثابتة منها أيضا كذلك بطريق أولى وممّا يدلّ على كون اللام في المقام للاستغراق لا للعهد أنّ العهد إنّما يتمشّى احتماله فيما إذا كان الاخبار بما وقع في الحال أو المضيّ وفيما نحن فيه ليس كذلك فإنّ المخاطب بهذا الكلام هو إبراهيم الخليل عليه‌السلام وقد خوطب به قبل أن يوجد الظالمون من ذرّيّته ويرتكبوا المظالم فيكون ظاهر الآية محروميّة كلّ من يوجد ويصدق عليه هذا العنوان ويؤيّد ذلك عظم قدر الإمامة وجلالته بحيث

__________________

(١) الميزان ١ / ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

٥٥١

لا يناسب أن تبذل لمن صدر عنه الظلم ولو قبل تقمّصه بها. (١)

فتحصّل أنّ الآية الكريمة لا تكون دليلا عن أنّ معنى المشتقّ هو الأعمّ ممّن انقضى عنه المبدأ لأنّ الاستعمال إمّا من باب استعماله بلحاظ حال التلبّس كما صرّح به في الكفاية أو من باب استعماله في المنقضي عنه المبدأ مجازا ، فلا ينافي كون المشتقّ حقيقة في المتلبّس ولا دليل لدعوى كونه مستعملا في من انقضى عنه المبدأ من باب الحقيقة ولا أقلّ من الشكّ ومعه لا يتمّ الاستدلال بأمثال هذه الآية الكريمة كما لا يخفى.

هذا كلّه مع إمكان الإشكال الثبوتيّ بدعوى امتناع تصوير الجامع بين المتلبّس ومن انقضى عنه المبدأ ومع الامتناع لا تصل النوبة إلى مقام الإثبات والامتناع كما قيل.

أمّا على البساطة التي ذهب إليها المحقّق الدوانيّ من اتّحاد المبدأ والمشتقّ ذاتا واختلافهما اعتبارا فلأنّ مع زوال المبدأ وانقضاء التلبّس به لا شيء هناك حتّى يعقل لحاظه من أطوار موضوعه وشئونه فكيف يعقل الحكم باتّحاد المبدأ مع الذات في مرحلة الحمل مع عدم قيامه به.

وأمّا على البساطة التي ذهب إليه المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره من كون مفهوم المشتقّ صورة مبهمة متلبّسة بالقيام على نهج الوحدانيّة كما هو كذلك في الخارج فلأنّ مطابق هذا المعنى الوحدانيّ ليس إلّا الشخص على ما هو عليه من القيام مثلا ولا يعقل معنى بسيط يكون له الانتساب حقيقة إلى الصورة المبهمة المقوّمة لعنوانيّة العنوان ومع ذلك يصدق على فاقد التلبّس.

وأمّا على التركيب فلما حكي عن المحقّق النائينيّ قدس‌سره من أنّ الذات المأخوذة في المفاهيم الاشتقاقيّة لا تكون مطلق الذات بل خصوص ذات متلبّسة بالمبدإ ومتّصفة بصفة ما على أنحائها المختلفة من الجواهر والأعراض وغيرهما ومن الواضح أنّه لا

__________________

(١) نهاية الاصول ١ / ٦٦ ـ ٦٥.

٥٥٢

جامع بين الذات الواجدة لصفة ما والذات الفاقدة لها.

فعلى كلّ تقدير ليس جامع ذاتيّ بين الواجد والفاقد والموجود والمعدوم ، نعم لو كان الزمان مأخوذا في مدلول المشتقّ ، بأن يقال : أنّه وضع للدلالة على المتلبّس في زمن ما وهو صادق على المتلبّس في الحال وفي الماضى وجامع بينهما لأمكن أن يدّعى بأنّه موضوع للجامع بين الفردين ولكن قد تقدّم أنّ الزمان خارج عن مفهومه وغير مأخوذ فيه لا جزء ولا قيدا ولا خاصّا ولا عامّا.

يمكن أن يقال كما في المحاضرات : إنّ الجامع بين المتلبّس والمنقضي عنه المبدأ هو اتّصاف الذات بالمبدإ في الجملة في مقابل الذات التي لم تتّصف به بعد فإنّ الذات في الخارج على قسمين : قسم منها : لم يتلبّس بالمبدإ بعد وهو خارج عن المقسم. وقسم منها : متّصف به ولكنّه أعمّ من أن يكون الاتّصاف باقيا حين الجري والنسبة أم لم يكن باقيا وهو جامع بين المتلبّس والمنقضي وصادق عليهما صدق الطبيعيّ على أفراده فالموضوع له على القول بالأعمّ هو صرف وجود الاتّصاف العاري عن أيّة خصوصيّة كما هو شأن الجامع والمقسم في كلّ مورد وهو كما ينطبق على الفرد المتلبّس حقيقة فكذلك ينطبق على الفرد المنقضي فإنّ هذا المعنى موجود في كلا الفردين ، هذا ولو سلّمنا أنّ الجامع الحقيقيّ بين الفردين غير ممكن إلّا أنّه يمكننا تصوير جامع انتزاعيّ بينهما وهو عنوان أحدهما نظير ما ذكرناه في بحث الصحيح والأعمّ من تصوير الجامع الانتزاعيّ بين الأركان ولا ملزم هنا لأن يكون الجامع ذاتيّا لعدم مقتض له إذ في مقام الوضع يكفي الجامع الانتزاعيّ لأنّ الحاجة التي دعت إلى تصوير جامع هنا هي الوضع بإزائه وهو لا يستدعي أزيد من تصوير معنى ما. (١)

والقول بأنّ الجامع الانتزاعيّ لا بدّ أن ينتزع من الواقع والانتزاع عنه فرع

__________________

(١) المحاضرات ١ / ٢٥٠.

٥٥٣

صلاحيّة الواقع له كما ترى لأنّه خروج عن المباحث اللغويّة إلى المباحث العقليّة مع أنّ البحث في المشتقّات يكون لغويّا ويكفي فيه ما تصوّره العرف ولا يلزم فيه الجامع العقليّ الانتزاعيّ كما لا يخفى.

وعليه فالإشكال الثبوتيّ في تصوير الجامع على مذهب الأعمّ غير سديد بل الحقّ أنّ أدلّة الإثبات من التبادر وصحّة السلب وغيرهما لا تساعدهم فلا تغفل.

* * *

تنبيهات :

الأوّل : في بساطة المشتقّ وتركّبه :

ولا يخفى عليك أنّ الحق هو البساطة والمراد منها هي البساطة الإدراكيّة واللحاظيّة لأنّ الموضوع له في المشتقّ هو أمر وحدانيّ وإن كان العقل يحلّلها إلى أمرين وهذه البساطة بساطة لحاظيّة إذ لا ينطبع في مرآة الذهن إلّا صورة علميّة واحدة سواء كان ذو الصورة بسيطا في الخارج كالأعراض نحو قولنا : «البياض أبيض» أو مركّبا حقيقيّا كالإنسان ونحوه من الأنواع المركّبة أو مركّبا اعتباريّا نحو قولنا : «تلك دار أو بيت».

فمناط البساطة في البساطة اللحاظيّة هو وحدة الصورة الإدراكيّة سواء أمكن تحليلها عند العقل إلى معان متعدّدة أو لم يمكن. وعليه فالتحليل العقليّ لا ينافي البساطة الإدراكيّة واللحاظيّة وذلك لأنّ مفهوم النوع كالإنسان مثلا بسيط قطعا مع أنّ العقل يحلّله إلى جنس وفصل والتركّب في قبال هذه البساطة بأن تكون الصورة التي تأتي من الشيء إلى الذهن صورة مركّبة من صورتين لا صورة وحدانيّة كما أنّه ربما يكون الأمر كذلك في مثل مفهوم المخلوطة من الحبوبات وأمثالها إذ الصورة التي

٥٥٤

تأتي منها إلى الذهن مركّبة من حنطة وشعير مثلا وأمّا مثل غلام زيد فهو جملة وخارجة عن محلّ البحث إذ الكلام في المفاهيم الإفراديّة لا في مفاهيم الجملات كما أنّ مثل ألفاظ الأعداد والتثنية والجمع خارج عن محلّ البحث لأنّها لا تدلّ على المركّبات وإن دلّ على المتعدّد والمتكثّر بدلالة واحدة أو دلالات متعدّدة.

ولقد أفاد وأجاد في الوقاية حيث قال : إنّ مفهوم المشتقّ مطابق لأوّل ما ينطبع في مرآة الذهن من ملاحظة المبدأ المعنون بأحد العناوين وتلتفت إليه النفس ولا شكّ أنّه معنى بسيط فمن نظر إلى النجم لا يرى في بدء النظر جسما ونورا مرتبطين ولا شيئا ثالثا مركّبا بل يرى جسما معنونا بعنوان النورانيّة وكذلك من رأى فرسا راكضا لا يرى إلّا الفرس المعنون بعنوان الركض لا فرسا وركضا ولا ثالثا مركّبا منها وقس عليها الضارب والمضروب وسائر المشتقّات وإذا فعلت ذلك وأنصفت عرفت أنّ مفاد المشتقّ ليس إلّا الذات محدودة بتلك الحدود ومعنونا بتلك العناوين ولا فرق بين هذه المفاهيم وبين مفهوم الحجر وسائر مفاهيم الذوات إلّا أنّك تفهم من لفظ الحجر العنوان المنتزع من الذات بما هو ذات ومن المشتقّات بما هو متّصف بصفة معيّنة ومحدودة بحدود معلومة ومجرّد ذلك لا يوجب بساطة مفهوم الأوّل وتركّب الثاني إذ لا فرق بينهما في ناحية المعنى أصلا وإنّما هو في اللفظ فقطّ وإذا عرفت ذلك ظهر لك الفرق بين المشتقّ ومبدئه إذ هذا المعنى الأوّليّ البسيط هو معنى المشتقّ وللعقل بعد ذلك أن يجرّد المبدأ عن الذات ويفكّكه كما تجرّد الصور عن موادّها والأجناس عن فصولها وينسبه إلى الذات وهذا الملحوظ بالنظر التحليليّ الثانويّ هو معنى المبدأ (١).

وإليه ذهب في الدرر حيث قال : وهل يكون هذا المفهوم مركّبا من الذات و

__________________

(١) وقاية الأذهان ١٧٢ / ١٧١.

٥٥٥

غيرها كما اشتهر في ألسنتهم من أنّ معنى الضارب مثلا «ذات ثبت له الضرب» وكذا باقي المشتقّات أو لا يكون كذلك بل هو مفهوم واحد من دون اعتبار تركيب فيه وإن جاز التحليل في مقام شرح المفهوم كما يصحّ أن يقال في مقام شرح مفهوم الحجر «أنّه شيء أو ذات ثبت له الحجريّة» ، الحقّ هو الثاني لأنّا بعد المراجعة إلى أنفسنا لا نفهم من لفظ (ضارب) مثلا إلّا معنى يعبّر عنه بالفارسيّة (زننده) وبعبارة اخرى (داراى ضرب) ولا إشكال في وحدة هذا المفهوم الذي ذكرنا وإن جاز في مقام الشرح أن يقال أي (شيء أو ذات ثبت له الضرب) وليس في باب فهم معاني الألفاظ شيء أمتن من الرجوع إلى الوجدان (١).

وإليه يؤول ما في الكفاية حيث قال : لا يخفى أنّ معنى البساطة بحسب المفهوم وحدته إدراكا وتصوّرا بحيث لا يتصوّر عند تصوّره إلّا شيء واحد لا شيئان وإن انحلّ بتعمّل من العقل إلى شيئين كانحلال مفهوم الحجر والشجر إلى (شيء له الحجريّة أو الشجريّة) مع وضوح بساطة مفهومهما وبالجملة لا ينثلم بالانحلال إلى الاثنينيّة بالتعمّل العقليّ وحدة المعنى وبساطة المفهوم كما لا يخفى وإلى ذلك يرجع الإجمال والتفصيل الفارقان بين المحدود والحدّ مع ما هما عليه من الاتّحاد ذاتا فالعقل بالتعمّل يحلّل النوع ويفصّله إلى جنس وفصل بعد ما كان أمرا واحدا إدراكا وشيئا فاردا تصوّرا فالتحليل يوجب فتق ما هو عليه من الجمع والرتق (٢).

اعتبار البساطة الحقيقيّة

ذهب المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره إلى أنّ البساطة اللحاظيّة والإدراكيّة بعيدة عن الكلمات بل المراد منها هي البساطة الحقيقيّة بمعنى أنّ المفهوم البسيط إدراكا هل يكون

__________________

(١) الدرر ١ / ٦٦.

(٢) الكفاية ١ / ٨٢.

٥٥٦

بحسب حاقّ الواقع عند العقل بسيطا وغير قابل للتحليل أو لا يكون كذلك وعلّل ذلك بقوله : لأنّ البساطة اللحاظيّة في كلّ مدلول ومفهوم للفظ واحد ممّا لا يكاد يشكّ فيها ذو مسكة إذ البداهة قاضية بأنّ اللفظ وجود لفظيّ بتمامه لمفهومه ومعناه لا أنّه وجود لفظيّ لكلّ جزء من أجزاء معناه بتمامه وكون اللفظ وجودا لفظيّا لمعنى تركيبيّ لا يكون إلّا مع جهة وحدة فلا محالة لا ينتقل إلى المعنى التركيبيّ إلّا بانتقال واحد كما هو المحسوس بالوجدان في الانتقال إلى معنى الدار المؤلّفة من البيوت والسقف والجدران فاتّضح أنّ البساطة اللحاظيّة ممّا لم يقع لأحد فيها شكّ وريب وإنّما الكلام في البساطة الحقيقيّة من وجهين : أحدهما : ما هو المعروف الذي استدلّ له الشريف وهي البساطة من حيث خروج الذات عن المشتقّات وتمحّضها في مبدأ والنسبة. ثانيهما : ما ادّعاه المحقّق الدوانيّ من خروج النسبة كالذات عن المشتقّات وتمحّضها في المبدأ فقطّ وأنّ الفرق بين مدلول لفظ المشتقّ ومدلول لفظ المبدأ بالاعتبار والكلام في الثاني سيجيء. إن شاء الله تعالى (١).

وإليه ذهب في تهذيب الاصول أيضا حيث خصّص محلّ النزاع بالوجهين الأخيرين من الوجوه المذكورة هناك.

وفيه أنّ البساطة الحقيقيّة والعقليّة لا ربط لها بالمفهوم بما هو مفهوم بل هو من المباحث الفلسفيّة التي يبحث فيه عن حقائق الأشياء والمفروض في المقام هو البحث عن مفاهيم المشتقّات لغة وعرفا ودعوى بداهة الانتقال إلى المعنى التركيبيّ بالانتقال من البسيط غير واضحة وقابلة للبحث. وأمّا القول بأنّ الوحدة الإدراكيّة بعيدة عن كلمات القوم واستدلالاتهم كاستدلال المحقّق الشريف وغيره.

ففيه أوّلا : نمنع بعدها عن جميع الكلمات. وثانيا : أنّ كلام السيّد الشريف ليس إلّا

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ١٢٨.

٥٥٧

في مقام تعريف الفصل الحقيقيّ حيث أنّه أورد على شارح المطالع بأنّ المشتقّ عند المنطقيّين خال عن الذات فلا يصحّ. تعريف الفكر بأنّه ترتيب أمور معلومة لتحصيل أمر مجهول لصحّة تعريف الشيء بالفصل وحده مع كونه مجرّدا عن الشيء مفهوما ومصداقا ومن المعلوم أنّ السيّد الشريف كان في مقام تبيين المشتقّ بحسب الاصطلاح عند المنطقيّين لا في مقام تعيين معناه لغة وعرفا.

هذا مضافا إلى ما في الاستدلال لبداهة البساطة اللحاظيّة بما هو منظور فيه من أنّ اللفظ وجود لفظيّ بتمامه لمفهومه مع أنّك عرفت سابقا أنّه لا دليل على أمثال هذه التنظيرات.

ثمّ إنّ شهادة الوجدان على البساطة اللحاظيّة والمفهوميّة لا تخرجها عن محلّ النزاع والبحث إذ كثير من المباحث يقوم فيها الوجدان ومع ذلك صارت محلّ البحث والنزاع لمكابرة بعض بالنسبة إليها وممّا ذكر يظهر ما في بدائع الأفكار أيضا حيث ذهب إلى أنّ البساطة في التصوّر بمعنى أنّ اللفظ إذا سمعه العاقل تصوّر منه معنى واحدا خارجة عن محلّ النزاع إذ بالوجدان أنّ المشتقّ غير مركّب من عدّة معان كلفظ «غلام زيد» و «زيد رجل» فلا بدّ من القول بالبساطة المقابلة له (١). هذا مضافا إلى إمكان تصوير النزاع في البساطة اللحاظيّة باعتبار آخر وهو أنّه لمّا كان لفظ المشتقّ مركّبا من مادّة وهيئة يدلّ كلّ منهما على معنى مندمج في صاحبه وممتزج به. أمكن النزاع في كون مدلول لفظ المشتقّ هل هو عبارة عن ثلاثة امور أعني بها الحدث والذات ونسبة الحدث إليها أو عبارة عن الحدث ونسبته إلى ذات ما أو عبارة عن الحدث الملحوظ لا بشرط أو عبارة عن الأمر الوحدانيّ مفهوما القابل للانحلال إلى معنون مبهم محدود بعنوان أو حدث خاصّ ، فباعتبار هذه

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ / ١٦٨ ـ ١٦٩.

٥٥٨

الاحتمالات أمكن النزاع بل وقع في كون مفهوم المشتقّ مركّبا أو بسيطا فمن أخذ بالاحتمال الأوّل فقد ذهب إلى كون مفهوم المشتقّ مركّبا وهو المشهور عند القدماء ومن أخذ بالاحتمال الثاني فقد ذهب إلى كونه بسيطا من ناحية الذات ومركّبا من ناحية النسبة ومن أخذ بالاحتمال الثالث والرابع فقد ذهب إلى كونه بسيطا كما لا يخفى.

وممّا ذكر يظهر ما في تهذيب الاصول أيضا حيث جعل محلّ النزاع بعد الفراغ عن البساطة اللحاظيّة في أنّ مفهوم المشتقّ هل يكون قابلا للتحليل العقليّ أم لا يكون وكيف كان فتحصّل أنّ البساطة المبحوث عنها في المشتقّات هي البساطة اللحاظيّة والإدراكيّة لا البساطة الحقيقيّة والانحلاليّة والمراد منها كما ذكرناه هو النزاع في أنّ لفظ المشتقّ موضوع لأمر وحدانيّ يكون قابلا أو غير قابل للانحلال إلى معنون مبهم محدود بعنوان خاصّ أو موضوع للمركّب من الذات والحدث.

أدلّة المختار :

والدليل على البساطة الإدراكيّة هو الوجدان إذ لا نفهم من المشتقّات إلّا ما ينطبق على ما ينطبع في مرآة الذهن من ملاحظة مصداق المشتقّات فمن رأى «ضاربا» لا ينطبع في ذهنه إلّا أمرا وحدانيّا معنونا بعنوان صدور الضرب منه لا الشخص وصدور الضرب منه وإن أمكن التحليل إليهما وهو أمر ظاهر ولا سترة فيه ولا حاجة إلى إقامة البرهان كسائر معاني الألفاظ.

هذا مضافا إلى تأييد الوجدان بصحّة أخذ المشتقّات موضوعا في القضيّة الحمليّة أو موضوعا للحكم في القضيّة الإنشائيّة كما في قولنا : «الضاحك إنسان» وقولنا : «صلّ خلف العادل». وبصحّة جعلها محمولا في القضيّة الحمليّة كما في قولك : «الإنسان ضاحك» و «زيد عادل» ومن المعلوم أنّ الموضوع في القضيّة والحكم في المثالين الأوّلين ليس هو الضحك والعدالة الملحوظين لا بشرط أو المنتسبين إلى ذات ما بل

٥٥٩

الموضوع في القضيّتين هو المتّصف بالضحك أو العدالة وكذا الشأن فيما لو جعل محمولا كما في المثالين الأخيرين. لأنّ ملاك صحّة الحمل في الحمل الشائع هو الاتّحاد في الوجود والاختلاف في المفهوم ولا شكّ في عدم اتّحاد الضحك مع الإنسان وعدم اتّحاد العدالة مع زيد وجودا وإنّما المتّحد معهما هو المبهم المعنون بعنوان كالضحك والعدالة.

لا يقال : إنّ المشتقّ بناء على خلوّه عن الذات وإن لم يدلّ على الذات بالدلالة اللفظيّة إلّا أنّه يدلّ عليها بالملازمة العقليّة فبما أنّ دلالته على معناه مستلزمة للدلالة على الذات يصحّ أن يؤخذ موضوعا في القضيّة الحمليّة وموضوعا للحكم في القضيّة الإنشائيّة لاستلزامه الدلالة على ما هو موضوع القضيّة والحكم أعني به الذات بإشارة العنوان الاشتقاقيّ إليها أو مع دخله في الموضوعيّة كما في قولك : «صلّ خلف العادل» وكذلك الشأن في جعله محمولا فإنّ المحمول في القضيّة الحمليّة حقيقة هي الذات المبهمة المتجلّية بمبدإ الوصف العنوانيّ المتّحدة مع ذات الموضوع المشخّصة إلّا أنّ دلالته على الذات بالملازمة العقليّة فيما لو اخذ موضوعا للقضيّة الحلميّة أو للحكم أجلى منها فيما لو جعل محمولا للقضيّة الحمليّة لظهوره فيها في كون المحمول هو الوصف العنوانيّ (١).

لأنّا نقول : ظاهر القضايا هو كون الموضوع هو نفس المذكور كما أنّ ظاهرها هو أنّ المحمول هو نفس المذكور والمفروض هو خلوّ الموضوع والمحمول عمّا يصلح لذلك وجعل الموضوع والمحمول غير المذكور المدلول عليه بالدلالة العقليّة خلاف ظاهر القضايا ويحتاج إلى إعمال العناية كما لا يخفى.

لا يقال : ليس في نظير حمل موجود على الوجود أو مضيء على الضوء أو مضاف

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ / ١٧١ ـ ١٧٢.

٥٦٠