عمدة الأصول - ج ١

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

معنى لأن يكون حسن الاستعمال تابعا لوضع الواضع ولأنّه لو كان حسن الاستعمال بالوضع لزم أن يكون المهملات التي اريد بها النوع أو الصنف أو المثل في مثل «ديز مهمل» موضوعة مع أنّها ليست بموضوعة.

ولأنّه لو احتاج الاستعمال المجازيّ إلى إجازة الواضع ووضعه شخصا أو نوعا لم يكن ذلك الاستعمال استعمالا مجازيّا بل كلّ مورد مع الوضع فيصير الألفاظ مشتركة لفظيّة وهو كما ترى. ربما يقال لا مجال للنزاع المذكور بعد إمكان الالتزام بما نسب إلى السكّاكيّ لأنّ التصرّف حينئذ يكون في الأمر العقليّ وهو جعل ما ليس بفرد للمعنى فردا له ادّعاء وعليه فاللفظ لا يستعمل في غير معناه حتّى يكون مجازا في الكلمة.

واجيب عنه بأنّه أوّلا في خصوص الاستعارة لا عموم المجازات وثانيا أنّه ليس باستعمال حقيقيّ إذ الاستعمال الحقيقيّ هو الذي يكون الدلالة فيه على المعنى بنفسه لا بالقرينة وعلى ما ذهب إليه السكّاكيّ ليست الدلالة بنفسه وعليه فللنزاع في كون حسن الاستعمال من جهة الوضع أو الطبع باق على حاله. ربما يقال إنّ صاحب الوقاية ذهب في عامّة المجازات إلى أنّ الألفاظ لم يستعمل إلّا فيما وضع له غاية الأمر ما هو المراد استعمالا غير ما هو مراد جدّا حيث أنّ ادّعاء كون غير ما هو الموضوع له مصداق له كما في الكلّيّات أو ادّعاء كونه عين الموضوع له كما في الأعلام قبل إطلاق اللفظ واستعماله لا بعد استعماله حين تطبيقه الطبيعة على الموضوع لها على المصداق وعليه فاللفظ مستعمل في معناه الموضوع له ولا مجال للنزاع المزبور. وفيه أوّلا أنّ ما ذكره لا يعمّ جميع المجازات لعدم الإرادة الاستعماليّة للمعنى الموضوع له في استعمال اللفظ في النوع والصنف أو المثل فضرب مثلا في قولنا : «ضرب فعل ماض» استعمل في النوع لا في معناه الموضوع له وإلّا لما كان مبتدأ إذ الأفعال لا تصلح لأن تكون مبتدأ مع أنّ استعمال اللفظ في النوع أو الصنف أو المثل من الاستعمالات المجازيّة.

وثانيا أنّ ذلك نحو تصرّف في اللفظ إذ اللفظ الموضوع لمعنى لو خلّي وطبعه

١٦١

لا نطبق على مصاديقه الحقيقيّة لا الادّعائيّة فصرف اللفظ عن هذا الطبع وتطبيقه على الأفراد الادّعائيّة ولو قبل الاستعمال والإطلاق يوجب خروج اللفظ عمّا يقتضيه طبع الوضع ولذا تحتاج إلى القرينة ومن المعلوم أنّ كلّ دلالة تحتاج إلى القرينة ليست بدلالة حقيقيّة وبالجملة للنزاع المذكور مجال سواء قلنا بالتصرّف في ناحية المراد كما ذهب إليه صاحب الوقاية أو قلنا بالتصرّف في ناحية المستعمل فيه كما ذهب إليه السكّاكيّ أو قلنا بالمجاز في الكلمة كما ذهب إليه المشهور لأنّ كلّها موجب للخروج عن طبع الوضع.

٢ ـ إنّ المراد من الطبع الذي يكون من مصحّحات الاستعمالات المجازيّة هو طبع نوع المستعملين في كلّ لغة لا بعض الآحاد والشواذّ وهو يعرف باستقراء استعمالات والنظر في الطريقة الجارية في المحاورات.

٣ ـ لا دليل على حصر العلامات في المذكورات في علم المعاني والبيان لإمكان زيادة علاقة اخرى يحسّنها طبع نوع المستعملين. ثمّ إنّه قد يكون نوع العلاقة ومع ذلك لا يحسن الاستعمال ألا ترى أنّ علاقة الكلّ والجزء من العلاقات ومع ذلك لا يجوز استعمال الرجل في الانسان ولا يقال «على الرجل ما أخذ حتّى يؤدّي» مع أنّه يصحّ «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» فمنه يعلم أنّ مجرّد وجود نوع العلاقة لا يكفي بل يحتاج المورد إلى استحسانه من نوع المستعملين كما لا يخفى.

٤ ـ إنّ الاستعمالات الكنائيّة من المجازات وإن استعمل اللفظ في مواردها فيما وضع له إذ المقصود بالأصالة منها ليس معانيها الحقيقيّة ولذا تحتاج إلى القرينة ومن جملتها استعمال المركّبات مع إرادة المعاني المجازيّة كاستعمالهم : «أراك تقدّم رجلا وتؤخّر اخرى» في من تردّد في الأمر ولم يعزم على شيء فإنّ معناه الحقيقيّ هو الإخبار عمّن يكون في الخارج كذلك واستعماله في المتردّد في الامور محتاج إلى القرينة وقد عرفت أنّ كلّ دلالة محتاجة إلى القرينة ليست بدلالة حقيقيّة. وممّا ذكر يظهر أنّه لا

١٦٢

وجه للاستدلال بمثل المركّبات المذكورة على كون الاستعمال فيما إذا انطبق المعنى على الفرد الادّعائيّ حقيقيّا.

* * *

١٦٣

الأمر الرابع : استعمال اللفظ في اللفظ

وممّا ذكر يظهر حسن إطلاق اللفظ وإرادة نوعه منه مع أنّه لا وضع ولا ترخيص من الواضع في ذلك كما إذا قيل : «ضرب مثلا فعل ماض.» إذ ليس الملقى فعل لأنّه مبتدأ وهو لا يكون فعلا ماضيا فالمقصود من ضرب ليس جنس ضرب بل هو نوع من ضرب واللفظ مستعمل فيه ولذا يصحّ حمل الفعل عليه فهذا الاستعمال حسن في طبع المستعملين من دون حاجة إلى وضع الواضع أو ترخيصه. وهكذا الأمر فيما إذا استعمل اللفظ في الصنف كقولهم : «إنّ زيدا ـ الواقع بعد الفعل الذي اسند إليه نحو : ضرب زيد ـ فاعل» ، و «زيدا ـ الواقع بعد الفعل الواقع عليه نحو : ضربت زيدا ـ مفعول» أو فيما إذا استعمل اللفظ في مثل الملفوظ كما يقال : «ضرب في قوله : ضرب زيد كلمة أو ثلاثيّ» إذا قصد شخص ضرب ولعلّ من هذا القسم القراءة للسور القرآنيّة فإنّ القراءة هي حكاية شخص اللفظ المنزل من جانب الله تعالى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمثل ذلك اللفظ ، راجع مسألة ١١ من مبحث القراءة ومسألة ٨ من مستحبّات القراءة من كتاب العروة وشروحه.

وأمّا استعمال اللفظ وإرادة شخصه ففيه أنّه غير معقول لاستلزامه اتحاد الدالّ والمدلول كما عن صاحب الفصول وذهب في الكفاية إلى جوازه قائلا بكفاية التعدّد

١٦٤

الاعتباريّ حيث أنّ اللفظ من حيث أنّه صادر عن لافظه كان دالّا ومن حيث أنّ نفسه وشخصه مراده كان مدلولا ولكن أورد عليه في تهذيب الاصول بأنّ التعدّد الاعتباريّ لا يجدي إذ عنوان الصادريّة وما قاربها أمر منتزع بعد صدور اللفظ فكيف يكون أمرا مصحّحا للاستعمال الواقع قبله. هذا مضافا إلى أنّه يستلزم الجمع بين اللحاظين المختلفين في شيء واحد ضرورة أنّ اللفظ عند الاستعمال لا يلاحظ إلّا آليّا والمعنى المراد لا يقصد إلّا استقلاليّا وهو لازم كونه دالّا ومدلولا. بل التحقيق أنّه من باب إيجاد صورة الموضوع في ذهن السامع لينتقل منه إلى نفس الموضوع لا من باب كون اللفظ دالّا على نفسه ولا مستعملا في نفسه وذلك لأنّ الحروف المتصرّمة إذا صدرت عن المتكلّم وتمّت الكلمة وخلصت عن مقاطع فمه يحصل منها صورة في ذهن السامع من قرع الهواء وتموّجه في ناحية الصماخ حتّى يمرّ عن الحسّ المشترك والخيال ويصل إلى النفس وليس الموجود فيها عين الموجود في عالم الخارج عينا وشخصا وإلّا لا نقلب الذهن خارجا ولذلك نقول لا يحمل في مثل «ضرب كلمة أو ثلاثيّ» إذا اريد شخص الملفوظ منه على إلقاء الموضوع في ذهن السامع كما ذهب إليه في الكفاية إذ الموضوع للحكم ليس إلّا الهويّة الخارجيّة ولا تنال النفس متن الأعيان ولا يمكن إلقائها في ذهن السامع بل بابه هو إيجاد صورة الموضوع في ذهن السامع لينتقل منه إلى نفس الموضوع والحاصل أنّ ذاك الموجود المتصرّم يوجد في نفس السامع ما يصير حاكيا عنه في الآن المتأخّر لا كحكاية اللفظ من معناه إذ الصورة الذهنيّة للفظ لم يوضع لها ذاك اللفظ. (١)

ولكن بعد يمكن استعمال اللفظ في نفسه بما ذكره المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره وحاصله بعبارة منّا : أنّ المتكلّم لم يتكلّم بدون تصوّر كلامه فإذا أراد أن يقول حكم نفس

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ٤٦ مع تلخيص وتقديم وتأخير في العبارة.

١٦٥

اللفظ من لفظيّته أو ثلاثيّته أو بنائه أو معربيّته تصوّر الموضوع والمحمول والمراد من تصوّر اللفظ هو تصوّر ماهيّة اللفظ الذي يكون متعلّقا للإرادة والشوق والماهيّة غير الوجود الخارجيّ وغير الوجود الذهنيّ أيضا وبعد تصوّر ماهيّة اللفظ استعمل اللفظ الخارجيّ في الماهيّة المتصوّرة ويقول : «زيد لفظ» وهذا الاستعمال لإحضار معنى اللفظ وهو ماهيّة اللفظ في أذهان السامعين حتّى يحكم عليه بأحكامه الخاصّة من الامور المذكورة وهذا أمر ممكن وواقع بل شائع وبابه باب الاستعمال للمغايرة بين الوجود الخارجيّ والماهيّة المتصوّرة في الذهن فلا يلزم من استعمال الوجود الخارجيّ للفظ في الماهيّة المتصوّرة منه اتّحاد الدالّ والمدلول كما لا يخفى. (١)

وعليه فإطلاق اللفظ في هذه الصورة من باب الاستعمال إذ سياق الإطلاقات في جميع الموارد واحد وحمل بعض الإطلاقات على باب الإلقاء غير شائع وهكذا الأمر في سائر الصور كما اعترف بذلك في متن الكفاية في خلال عباراته فراجع.

وذهب في نهاية الاصول إلى أنّ المقام مطلقا سواء اريد باللفظ النوع أو الصنف أو المثل أو الشخص لا يكون من قبيل استعمال اللفظ في المعنى بل يراد منه ثبوت نفس اللفظ وتقرّره في ذهن المخاطب حتّى يحكم عليه أو به فلا يصحّ إطلاق لفظ الاستعمال في هذه الموارد.

ولكن أورد عليه في تهذيب الاصول بما لا مزيد عليه ونحن أغمضنا عن ذكره وردّه اختصارا وإن شئت المزيد فراجع.

* * *

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٣٢.

١٦٦

الخلاصة :

١ ـ استعمال اللفظ في النوع أو الصنف أو المثل أمر ممكن يحسن عند طباع المستعملين كقولنا «ضرب فعل ماض» ومن المعلوم أنّ المسند إليه والمبتدأ ليس هو الفعل إذ الفعل لا يخبر عنه ولا يسند إليه بل المراد منه هو نوع ضرب واللفظ مستعمل فيه.

وهكذا يصحّ أن نقول «انّ زيدا الواقع بعد فعل اسند إليه كقولنا ضرب زيد فاعل» و «زيدا الواقع بعد فعل يقع عليه نحو ضربت زيدا مفعول» وليس ذلك إلّا استعمال لفظ الزيد في صنف زيد.

وأيضا لصحّ استعمال اللفظ في مثل الملفوظ ولعلّ من هذا الباب القراءة للقرآن الكريم فإنّها حكاية عن مثل ما تلفّظ به ونزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أفاده صاحب العروة في مسألة ١١ من مبحث القراءة ومسألة ٨ من مستحبّات القراءة ويلحق بقراءة القرآن قراءة الأشعار ونحوها لأنّها من هذا الباب إلّا إذا أنشدها ارتجالا.

٢ ـ هل يجوز استعمال اللفظ في نفسه أم لا؟ ذهب في الفصول إلى أنّه غير معقول لاتحاد الدالّ والمدلول واجيب عنه بكفاية التعدّد الاعتباريّ حيث أنّ اللفظ من حيث أنّه صادر عن لافظه دالّ ومن حيث أنّ نفسه مراد كان مدلولا.

اورد عليه بأنّ عنوان الصادريّة وما قاربها أمر منتزع بعد صدور اللفظ فكيف يكون أمرا مصحّحا للاستعمال الواقع قبله.

هذا مضافا إلى أنّه يستلزم الجمع بين اللحاظين المختلفين في شيء واحد لأنّ اللفظ عند الاستعمال لا يلاحظ إلّا آليّا والمعنى حيث لا يراد إلّا استقلاليّا لزم أن يكون نفس اللفظ أيضا مقصودا استقلاليّا فيجتمع اللحاظ الآليّ والاستقلاليّ في لفظ واحد

١٦٧

وهو نفس اللفظ.

فاللازم هو أن يرجع استعمال اللفظ في نفسه إلى إيجاد صورة الموضوع في ذهن السامع لينتقل منه إلى نفس الموضوع ويمكن أن يقال كما في تعليقة الأصفهانيّ بأنّ المتكلّم في مثل «زيد ثلاثيّ» تصوّر الموضوع والمحمول والمراد من تصوّر الموضوع تصوّر ماهيّة اللفظ الموضوع الذي يكون متعلّقا للإرادة والشوق وحيث أنّ ماهيّة اللفظ غير الوجود الخارجيّ والذهنيّ فالمتكلّم استعمل اللفظ الخارجيّ الموجود أو اللفظ الذهنيّ الموجود فيه في الماهيّة المتصوّرة ويقول زيد لفظ أو زيد ثلاثيّ.

فالاستعمال في المقام كسائر الاستعمالات استعمال في المعنى وهو ماهيّة اللفظ ولا شاهد للتفرقة بين استعمال اللفظ في نفسه وسائر الاستعمالات بعد تصوّر المعنى بالوجه المذكور فالاستعمال في نفس اللفظ أمر ممكن بل شائع وبابه باب الاستعمال للمغايرة الموجودة بين الوجود الخارجيّ أو الذهنيّ وبين الماهيّة المتصوّرة في الذهن فلا يلزم من استعمال الوجود الخارجيّ للفظ في الماهيّة المتصوّرة منه اتحاد الدالّ والمدلول ولا ملزم لإرجاع الاستعمال إلى الإيجاد أو إلقاء صورة الموضوع مع فرض إمكان الاستعمال بمعناه الجاري في سائر المقامات ولا يلزم اجتماع اللحاظين المختلفين في شيء واحد بعد تعدّد الدالّ والمدلول فلا تغفل.

* * *

١٦٨

الأمر الخامس : في أنّ الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها

من حيث هي

ولا يخفى عليك ـ بعد ما تقدّم من أنّ حقيقة «الوضع» ليست إلّا تعيين اللفظ في مقابل نفس المعنى واعتبار الاختصاص والارتباط بينهما ممّن يعتنى بوضعه واعتباره ـ أنّ الموضوع له للألفاظ هو نفس المعاني من دون دخالة شيء آخر كالإرادة أو العلم أو غيرهما فمثل لفظ «الماء» مثلا يدلّ على نفس الماء لا الماء المراد ولا الماء المعلوم وهكذا. وعليه فالألفاظ تحكي عن نفس المعاني الواقعيّة لا غير من دون دخل للمراديّة لا اسما ولا حرفا. وعليه فلا مجال لدعوى تقييد المعاني بنحو من أنحاء الإرادة سواء كان التقيّد داخلا والقيد خارجا أم كان كلاهما خارجين بأن يكون الموضوع له هي الحصّة المقترنة بالإرادة سواء كانت الإرادة إرادة استعماليّة وهي إرادة استعمال اللفظ للمعنى وإرادة إفنائه في مطابقه أم إرادة تفهيميّة وهي إرادة تفهيم المعنى الذي استعمل اللفظ فيه للمخاطب أم إرادة جدّيّة وهى إرادة المعنى الذي استعمل اللفظ فيه جدّا وحقيقة لأنّ كلّها كما في بدائع الأفكار خلاف الوجدان ولا دخل لها بالنسبة إلى المعنى الموضوع له. وعليه فلا يصحّ ما في الدرر أيضا من أنّ المعقول في الوضع هو بناء الواضع والتزامه بأنّه متى أراد المعنى الخاصّ وتعلّق

١٦٩

غرضه بإفهام الغير ما في ضميره تكلّم باللفظ الكذائيّ فبعد هذا الالتزام يصير اللفظ المخصوص دليلا على إرادته المعنى المخصوص عند الملتفت بهذا البناء والالتزام وكذا الحال لو صدر ذلك اللفظ من كلّ من يتّبع الواضع فإن أراد القائل بكون الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث أنّها مرادة هذا الذي ذكرناه فهو حقّ بل لا يتعقّل غيره وإن أراد معانيها مقيّدة بالإرادة بحيث لوحظت الإرادة بالمعنى الاسميّ قيدا لها حتّى يكون مفاد قولنا : «زيد هو الشخص المتّصف بكونه مرادا ومتعقّلا في الذهن» فهو بمعزل عن الصواب. (١)

لما عرفت سابقا من أنّ غرض الوضع وإن سلّمنا هو قصد التفهيم وإبراز المقاصد بالألفاظ إلّا أنّه حكمة الوضع وليس دخيلا في قوام الوضع وحقيقته فالوضع غير قصد التفهيم وإبراز المقاصد بالألفاظ فكون المعاني مرادة بالمعنى الحرفيّ عند إرادة التفهيم أجنبيّ عن الوضع والمعنى الموضوع له إذ لم يلحظ عند وضع الألفاظ وتعيينها إلّا نفس المعاني فالإرادة سواء كانت بمعناها الحرفيّ أو الاسميّ لا دخل لها في المعنى الموضوع له كما لا معنى لدخل التصوّر أو العلم فيه فلا تغفل. هذا مضافا إلى ما في تهذيب الاصول من أنّ الغرض هو إفادة ذوات المرادات لا بما هي كذلك بل بما هي نفس الحقائق فإنّ المتكلّم إنّما يريد إفادة نفس المعاني الواقعيّة لا بما هي مرادة بل كونها مرادة مغفول عنه للمتكلّم والسامع. (٢)

ثمّ إنّ الوضع سابق على مرتبة الإفهام بأقسامه وتوقّف الإفهام على الإرادة الاستعماليّة والتصديقيّة لا يستلزم توقّف الوضع عليهما وتفصيل الكلام في الإفهام على ما في نهاية الاصول هو أنّ إفهام الغير وتفهيمه على نوعين : تصوّريّ وتصديقيّ

__________________

(١) الدرر ١ / ٤١ و ٤٢.

(٢) تهذيب الاصول ١ / ٥٠.

١٧٠

والمتوقّف على الإرادة التصديقيّة هو الثاني دون الأوّل والتصوّريّ كدلالة الأسماء على معانيها الاستقلاليّة وكدلالة الحروف على معانيها الربطيّة وكدلالة هيئة الإضافة على النسبة الإضافيّة لا يتوقّف إلّا على العلم بالوضع واستعمال المتكلّم إذ من المعلوم أنّ المقصود من الاستعمال في أمثال ذلك هو إلقاء المعنى الاسميّ أو الحرفيّ أو الإضافيّ إلى المخاطب وإفهامه إيّاه ليتصوّره من دون أن يراد تصديقه بالوقوع نعم يتوقّف ذلك على الإرادة الاستعماليّة فاللفظ الموضوع المستعمل هو الذي استعمله المتكلّم بقصد التفهيم والإفهام التصوّريّ ولعلّ ذلك هو الفرق بينه وبين اللفظ المسموع من الساهي أو النائم فإنّ اللفظ في كلا الموردين لفظ موضوع للمعنى المعلوم ولذا انتقل الإنسان من سماعه إلى معناه ولكنّه ليس في الساهي أو النائم مستعملا لإرادة الإفهام والتفهيم وكيف كان فالإفهام التصوّريّ لا يتوقّف على الإرادة التصديقيّة وإن توقّف على الإرادة الاستعماليّة هذا بخلاف التصديقيّ من الإفهام فإنّه مضافا إلى ذلك يتوقّف على الإرادة التصديقيّة كدلالة هيئة الجملة الفعليّة أو الاسميّة على النسبة التامّة الخبريّة حيث أنّ المقصود من هذا النوع إلقاء المعنى أي النسبة إلى المخاطب ليصدّق بوقوعها كما يدلّ ظاهر الكلام على تصديق المتكلّم بها ما لم يقترن به ما ينافي ظاهر الكلام ولكنّ الإفهام والتفهيم سواء كان تصوّريّا أو تصديقيّا أجنبيّ عن مرحلة الوضع لتأخّرهما عن الوضع بمرتبتين وهما الوضع والعلم به وتوقّف الإفهام أو التفهيم على الإرادة الاستعماليّة أو على الإرادة الجدّيّة لا ارتباط له بمقام الوضع كما أنّ توقّفهما على الإرادة لا ارتباط له بالدلالة التصوّريّة فإنّها لا تتوقّف إلّا على العلم بالوضع فإذا سمع اللفظ ولو من الساهي أو النائم يدلّ على معناه بالدلالة التصوّريّة بالمعنى المذكور إذ ليست الدلالة التصوّريّة المذكورة إلّا الانتقال من اللفظ إلى المعنى وهو حاصل بالسماع ، والإفهام والتفهيم أمر آخر ربما يقرن مع اللفظ الموضوع وربما لا يقرن كما لا يخفى وعليه فالوضع والعلم به يوجب الدلالة التصوّريّة

١٧١

بالمعنى المذكور ولا مدخليّة لغيرهما في هذه الدلالة فلا مانع من أن يقال كما نسب إلى المعروف والمشهور من أنّ الدلالة تابعة للوضع لا للإرادة وعليه فحصر الدلالة الوضعيّة في الدلالة التصديقيّة غير صحيح بعد ما عرفت من تقدّم باب الوضع على باب الإفهام والتفهيم بمرتبتين.

نعم ذهب في المحاضرات إلى حصر الدلالة الوضعيّة في الدلالة التصديقيّة بما سلكه في باب الوضع من أنّه عبارة عن التعهّد والالتزام ولكن عرفت ضعف هذا المبنى مرارا فراجع.

فتحصّل أنّ الدلالة الوضعيّة التصوّريّة بمعنى الانتقال من اللفظ الموضوع إلى المعنى الموضوع له لا يتوقّف إلّا على العلم بالوضع ولو صدر عن الساهي أو النائم لحصول الانتقال بنفس السماع. نعم الإفهام التصوّريّ يتوقّف مضافا إلى العلم بالوضع على إرادة الاستعمال بنيّة الإفهام التصوّريّ كما أنّ الإفهام التصديقيّ يتوقّف مضافا إلى ما ذكر على كون الجملة ذا نسبة كاملة قابلة للإذعان والتصديق. ولكنّ الإفهام بأقسامه خارج عن حقيقة الوضع لأنّ الوضع هو تعيين اللفظ بإزاء نفس المعنى والإفهام متأخّر عنه بمرتبتين.

ولقد أفاد وأجاد في بدائع الأفكار حيث قال : أقصى ما يمكن أن يستدلّ به على التقيّد بالإرادة هو أنّ الوضع من الأعمال العقلائيّة الاختياريّة ولا شبهة في أنّ الداعي للواضع إلى الوضع هو تسهيل طريق الإفادة والاستفادة في مقام المحاورة فلا محالة أنّه يضع الألفاظ بإزاء المعاني التي تقع في طريق الإفادة والاستفادة وهي طبعا متعلّق إرادة المتكلّم وعليه يكون الموضوع له هو المعنى الذي تعلّقت إرادة المتكلّم به في مقام المحاورة ولذا سمّي (معنى) من قولهم (عناه يعنيه) أي قصده ، فالوضع للأعمّ

١٧٢

من ذلك أعني به المفهوم من حيث هو لا يمكن (١) أن يتحقّق من العاقل المختار لفرض عدم الداعي إليه. ثمّ قال : وفيه أنّه إن اريد من كون الموضوع له هو المعنى الذي تعلّقت به إرادة المتكلّم على نحو دخول التقيّد وخروج القيد فمرحلة الثبوت في المقام غير تامّة فلا تصل النوبة إلى مرحلة الإثبات وذلك لأنّ دخول التقيّد في الموضوع له يستلزم محاذير ؛ منها : أنّه يلزم ذلك أن يتقوّم المستعمل فيه بما هو من قوام الاستعمال أعني به الإرادة الاستعماليّة وبما أنّ الاستعمال متأخّر بالطبع عن المستعمل فيه وهو متقدّم عليه كذلك يستلزم أن يكون الشيء الواحد في آن واحد متقدّما ومتأخّرا بالطبع بالإضافة إلى شيء واحد وهذا خلف وهكذا الأمر لو كان التقيّد بنحو آخر من أنحاء الإرادة التي أشرنا إليها لاتّحاد الملاك فيها جميعا. ومنها : عدم صحّة الحمل في القضايا الحمليّة إلّا بتجريد المحمول عن التقيّد المزبور لعدم صدق القضيّة معه ، مع وجدان صحّة الحمل بلا عناية التجريد وذلك يكشف عن عدم أخذ التقيّد في الموضوع له. إلى أن قال : وإن اريد من كون الموضوع له هو المعنى الذي تعلّقت به إرادة المتكلّم على نحو خروج القيد والتقيّد معا عن الموضوع له وادّعاء أنّ الموضوع له هو المعنى المقترن بإرادة المتكلّم فيكون الموضوع له هي حصّة من طبيعيّ المعنى فمرحلة الثبوت وإن كانت على هذا لا ضير فيها ولا تستلزم شيئا من تلك المحاذير إلّا أنّ الدليل المزبور (٢) غير صحيح فإنّا لو سلّمنا أنّ غاية الوضع هي الإفادة والاستفادة ولم تكن غايته أن يخطر المعنى كلّما يخطر اللفظ ولو بسماع من لافظ بلا شعور فتكون الإفادة والاستفادة من بعض ما يترتّب على الوضع لما سلّمنا أنّ غايته وحده

__________________

(١) وفيه منع إذ ترتّب الأثر على نوع من المعنى وهو الذي تتعلّق به الإرادة يكفي في صحّة الوضع للمطلق كما يصحّ جعل الحكم على طبيعة المكلّفين لترتّب الأثر وهو الامتثال على بعض أنواعهم وأفرادهم.

(٢) وهو الذي أشار إليه في صدر عبارته بقوله أقصى ما يمكن أن يستدلّ به إلخ.

١٧٣

ذلك بل هو إحدى مقدّمات الإفادة والاستفادة لأنّ إفادة المتكلّم السامع أنّه يريد الأمر الفلانيّ واستفادة السامع ذلك يتوقّف على أمرين ؛ أحدهما : تصوّر المعنى المقصود إفادته وثانيهما : الدلالة على أنّ المعنى المتصوّر هو مراد المتكلّم. أمّا الأمر الأوّل فيمكن تحصيله بالوضع. وأمّا الأمر الثاني فهو يحصل بالقرائن الحافّة بالمتكلّم وأمّا تحصيل الإفادة والاستفادة بالوضع وحده فهو غير ممكن لقصور الوضع بطبعه عن ذلك لأنّه لو قيل بوضع اللفظ للحصّة المقترنة بإرادة المتكلّم فإن كان التحصّص على نحو النسبة الناقصة لما كان السامع يستفيد من كلام المتكلّم مع قطع النظر عن القرائن أكثر من تصوّر ذلك المعنى أعني به الحصّة فهو يتصوّر المعنى المقترن بإرادة المتكلّم لما تقدّم أنّ الدلالة على نحو النسبة الناقصة دلالة تصوّريّة وإن كان على نحو النسبة التامّة فالكلام وإن كان يحكي عن وجود شخص الإرادة إلّا أنّ كون المتكلّم يريد هذا المعنى واقعا فالسامع شاكّ به ومعه يكون شاكّا أيضا بكون دلالة الكلام الفعليّة المقرونة بالشكّ هي دلالة وضعيّة لاحتمال إرادة المتكلّم للمعنى المتصوّر أو هو خطور محض استند إلى استيناس النفس بالانتقال من تصوّر هذا اللفظ إلى هذا المعنى في المحاورة وحينئذ يفتقر السامع لأجل إحراز كون الدلالة وضعيّة إلى دلالة اخرى على كون المتكلّم يريد هذا المعنى المتصوّر ومعها لا تبقى حاجة إلى الوضع المزبور نعم على هذا التقدير يمكن أن يكتفى في إحرازها بأصالة الحقيقة فالوضع أيضا يكون أحد مقدّماتها ولم تحصل به وحده كي يقتضي كونها غرضا للواضع لوضعه كذلك بل لا بدّ وأن يلتزم بأنّ غرض الواضع من الوضع تهيئة مقدّمة من مقدّماتها وهذا كما يحصل بوضعه للحصّة كذلك يحصل بوضعه لنفس المعنى وبضمّ القرائن والاصول يتمّ الغرض من غير ضرورة بالتزام الوضع للحصّة وعليه فلا مجال لإثبات الوضع كذلك بالدليل المزبور وممّا يؤيّد كون الموضوع له هو نفس المعنى لا حصّة منه انسباق نفس المعنى من اللفظ الموضوع عند سماعه من ناطق به بلا إرادة لذلك المعنى وإن ادّعى

١٧٤

الخصم أنّ الانسباق المزبور مستند إلى الاستيناس المذكور فلنفرض ذلك في اللفظ الموضوع لمعنى ما قبل أن يتكرّر استعماله فيه فلا محالة أنّ ذلك المعنى ينسبق إلى ذهن العالم بوضع ذلك اللفظ له وإن نطق به ناطق بلا شعور فتحصّل أنّ الألفاظ موضوعة لنفس المعاني بلا تخصّص ولا تحصّص بالإرادة وتبيّن أنّ الدلالة الوضعيّة مع قطع النظر عن القرائن منحصرة في الدلالة التصوّريّة وإن كان الموضوع له هي الحصّة لما عرفت من عدم الملازمة بين كون الموضوع له هو المعنى المقارن لإرادة المتكلم وبين التصديق بكون المتكلّم يريد هذا المعنى في الواقع على خلاف ما ذهب إليه الخصم من انحصارها في الدلالة التصديقيّة. (١)

والحاصل أنّ ما يمكن تحصيله بنفس الوضع هو الدلالة التصوّريّة وأمّا الإرادة التفهيميّة أو الإرادة الجدّيّة فلا تحصلان به بل تتوقّفان على جريان أصالة الحقيقة وأصالة التطابق فلا غناء بالوضع عن غيره من الاصول كما عرفت.

ولذا قال في هداية المسترشدين أنّ الظاهر كون الحاصل من نفس الوضع مجرّد الإحضار ودلالة اللفظ على كون ذلك مرادا للمتكلّم حاصلة بعد ذلك بأمر آخر (ومقصوده من أمر آخر هو ما ذكره قبلا من أنّ التصدّي لاستعمال الألفاظ في مقام البيان مع شعور المكلّف (٢) وعدم شعور غفلته وذهوله شاهد على إرادة معناه ومدلوله فيكون كدلالة الإشارات على مقصود المشير) فيكون الحكم بكونه مرادا للمتكلّم متفرّعا على الوضع من غير أن يكون متعلّقا لوضع الواضع وإن كان الغاية الملحوظة في الألفاظ هو فهم المراد إذ لا يلزم من ذلك أن يكون ترتّبها عليه بلا واسطة. (٣)

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ / ٩٢ ـ ٩٤.

(٢) المتكلّم ظ

(٣) هداية المسترشدين / ٣٩.

١٧٥

ثمّ إنّه يتّضح الجواب بعد ما ذكر عن هذا السؤال : «إنّ حمل اللفظ على المعنى الحقيقيّ والحكم بكونه مرادا للمتكلّم عند الدوران بينه وبين المعنى المجازيّ هل يكون بالوضع أو بغيره؟» فإنّ في هداية المسترشدين قال : هل يكون ذلك الأصل من القواعد الوضعيّة المقرّرة من الواضع بتعيينه ووضعه سوى وضعه المتعلّق بالألفاظ فيكون مستفادا من ملاحظة السيرة والطريقة المستمرّة حسب غيره من الأوضاع العامّة والقواعد الكلّيّة المتلقّاة منه أو أنّه لا حاجة فيها إلى وضع سوى وضع الألفاظ لمعانيها إذ بعد دلالة الألفاظ على المعاني يكون التصدّي لاستعمالها في مقام البيان مع شعور المكلّف (١) وعدم شعور غفلته وذهوله شاهدا على إرادة معناه ومدلوله فيكون كدلالة الإشارات على مقصود المشير فيكون الأصل المذكور متفرّعا على الوضع من غير أن يكون متعلّقا لوضع الواضع وإن كان الغاية الملحوظة في الألفاظ هو فهم المراد إذ لا يلزم من ذلك أن يكون ترتّبها عليه بلا واسطة وقد يقال إن يكون الألفاظ موضوعة للدلالة على معانيها من حيث كونها مرادة للمتكلّم مقصودة فالوضع هو تعيّن اللفظ أو تعيينه ليدلّ على كون المعنى مرادا للمتكلّم لا لمجرّد الدلالة على المعنى وإحضاره بالبال كما هو الظاهر وكان ذلك مراد القائل بكون الدلالة تابعة للإرادة لانتفاء الدلالة المذكورة في المجاز بعد قيام القرينة الصارفة. إلى أن قال : وعلى هذا الوجه أيضا تكون دلالة الألفاظ على كون معانيها مقصودة للمتكلّم وضعيّة فيكون الأصل المذكور مستندا إلى الوضع أيضا إلّا أنّ الوجه المذكور بعيد عن ظاهر الأوضاع فإنّ الظاهر كون الحاصل من نفس الوضع مجرّد الإحضار ودلالة اللفظ على كون ذلك مرادا للمتكلّم حاصلة بعد ذلك بأمر آخر. (٢)

__________________

(١) المتكلّم ظ

(٢) نفس المصدر / ٣٩.

١٧٦

حاصله أنّ الحمل على المعنى الحقيقيّ المراد للمتكلّم يكون بأحد الأمرين إمّا بسبب وضع قاعدة اخرى أو بسبب الاعتماد على القرائن الحافّة. وإمّا بحسب بناء العقلاء. وكيف كان فمنشأ البحث عن كون الألفاظ موضوعة لذات المعاني أو المعاني المرادة ذلك كما لا يخفى.

ثمّ ثمرة البحث هو ما ذكره في الفصول حيث قال : إن قلنا بأنّها موضوعة للمعاني من حيث كونها مرادة سواء اعتبرناها شرطا أو شطرا اتّجه أنّ لا يكون للألفاظ معان حقيقيّة عند عدم إرادتها ضرورة أنّ الكلّ عدم عند عدم جزئه والمقيّد من حيث كونه مقيّدا عدم عند عدم قيده وهكذا قال في تحرير الاصول وحينئذ إذا استعمل اللفظ في المعنى بقصد التفهيم كان ذلك على وفق الوضع وكان حقيقة وإذا استعمل فيه لا بهذا الوجه ومن دون هذا القصد كان مجازا لاستعماله في غير المعنى الموضوع له. (١)

* * *

الخلاصة

١ ـ ولا يخفى عليك أنّ الموضوع له للألفاظ هو نفس المعاني الواقعيّة من دون تقيّدها أو تقييدها بشيء آخر كالإرادة لما عرفت من أنّ الوضع هو تعيين اللفظ في مقابل نفس المعنى واعتبار الاختصاص والارتباط بينهما ممّن يعتنى بوضعه واعتباره ويشهد لذلك انسباق نفس المعاني من الألفاظ الموضوعة عند سماعها من ناطق بها من دون حاجة إلى احراز إرادة تلك المعاني وعليه فلا دخالة لشيء آخر بنحو من الأنحاء كالإرادة والعلم ونحوهما في الموضوع له فلفظ الماء مثلا يدلّ على نفس المائع

__________________

(١) تحرير الاصول / ٥١.

١٧٧

السيّال الخاصّ لا المائع المعلوم أو المائع المراد أو المائع المقصود وإن سلّمنا أنّ غرض الواضع هو قصد التفهيم وإبراز المقاصد بالألفاظ لا خطور المعنى كلّما يخطر اللفظ ولو بسماع من لافظ بلا شعور فالغرض هو تهيئة مقدّمات التفهيم وإبراز المقاصد وهذا الغرض بضميمة أصالة الحقيقة وغيرها يتمّ من دون حاجة إلى الالتزام بكونه دخيلا في قوام الوضع وحقيقته.

فالإرادة سواء كانت بمعناها الحرفيّ أو الاسميّ لا دخل لها في المعنى الموضوع له كما لا دخل للتصوّر أو العلم فيه وغرض المتكلّم أيضا من التكلّم هو إفادة ذوات المرادات لا بما هي مرادات بل بما هي نفس الحقائق ويشهد له غفلة المتكلّم والسامع عن مراديّتها في كثير من الأحيان كما لا يخفى.

وحمل مراديّة المعاني على ما ذهب إليه صاحب الدرر في حقيقة الوضع من التزام الواضع ومن تبعه بأنه متى أراد المعنى الخاصّ وتعلّق غرضه بإفهام الغير ما في ضميره تكلّم باللفظ الكذائيّ مندفع بما في بيان حقيقة الوضع من أنّه لا حاجة إلى الالتزام المذكور بعد إمكان اعتبار الاختصاص والارتباط بنفس تعيين الواضع لفظا لمعنى معيّن وجريان أصالة الحقيقة وأصالة تطابق الإرادة الجدّيّة مع الإرادة الاستعماليّة.

٢ ـ إنّ الدلالة الفعليّة على قسمين أحدهما التصوّريّة وثانيهما التصديقيّة والدلالة التصوّريّة لا تتوقّف إلّا على العلم بالوضع ولا دخل للإرادة فيها ولذا إذا سمع اللفظ الموضوع من الساهي أو النائم دلّ على معناه بالدلالة التصوّريّة إذ الدلالة التصوّريّة الفعليّة ليست إلّا الانتقال من اللفظ إلى المعنى وهو حاصل بالسماع من دون حاجة إلى إرادة المتكلّم الإفهام أو التفهيم من استعماله.

وممّا ذكر يظهر صحّة ما نسب إلى المعروف والمشهور من أنّ الدلالة الفعليّة التصوّريّة تابعة للوضع لا للإرادة وأنّ الدلالة التصديقيّة الفعليّة تتوقّف على الإرادة

١٧٨

التصديقيّة كدلالة هيئة الجملة الاسميّة كقولنا زيد قائم والفعليّة كقولنا قام زيد على النسبة التامّة الخبريّة إذ المقصود من الجمل التامّة إلقاء المعنى أي النسبة إلى المخاطب ليصدّق بوقوعها كما يدلّ ظاهرها على تصديق المتكلّم بها ما لم يقرن قرينة على الخلاف ولكن الدلالة التصديقيّة الفعليّة متأخّرة عن الوضع برتبتين وهي الوضع والعلم به واشتراط شيء في المتأخّر لا يوجب دخله في المتقدم.

٣ ـ ثمّ إنّ الإفهام والتفهيم من أفعال المتكلّم وهما على قسمين تصوّريّ وتصديقيّ. والتصوّريّ متوقّف مضافا إلى العلم بالوضع على إرادة الاستعمال بنيّة الإفهام التصوّريّ فإنّ الإفهام لا يتحقّق إلّا باللفظ الموضوع المستعمل ومن المعلوم أنّ الاستعمال لا يتحقّق بدون قصد المتكلّم والتصديقيّ من الإفهام يتوقّف مضافا إلى ذلك على الإرادة التصديقيّة كما هو ظاهر هيئة الجمل الفعليّة والاسميّة التامّة إلا أنّ الإفهام والتفهيم أيضا متأخّران عن الوضع فتوقّفهما على إرادة الاستعمال في التصوّريّة وعلى الإرادة الجدّيّة في التصديقيّة لا يستلزم مدخليّة الإرادة في الوضع أو الدلالة التصوّريّة الفعليّة لأنّ مدخليّة شيء في المتأخّر لا يوجب اعتباره في المتقدّم فلا تغفل.

٤ ـ فالمحصّل من نفس الوضع هو الدلالة التصوّريّة التي توجب إحضار المعاني في الأذهان وأمّا دلالة اللفظ على كون ذلك مراد المتكلّم فهي محتاجة إلى أمر آخر كأصالة الحقيقة وأصالة تطابق الإرادة الاستعماليّة مع الإرادة الجدّيّة فحمل اللفظ على كونه مرادا للمتكلّم يحتاج إلى جريان أصل آخر ولا يستفاد من الوضع حتّى يعدّ من القواعد الوضعيّة.

٥ ـ ومن ثمرات المبحث المذكور أنّه إن قلنا بأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني المرادة فإذا انتفت المراديّة بوجه من الوجوه صارت الألفاظ مجازا لانتفاء المركّب بانتفاء أحد أجزائه ولذلك قال في تحرير الاصول أنّه إذا استعمل اللفظ في المعنى بقصد التفهيم

١٧٩

كان ذلك على وفق الوضع وكان حقيقة وإذا استعمل فيه لا بهذا الوجه ومن دون هذا القصد كان مجازا لاستعماله في غير المعنى الموضوع له (١).

* * *

__________________

(١) تحرير الاصول ١ / ٥١.

١٨٠