عمدة الأصول - ج ١

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

العلم بالملازمة على ما اعترف ، هذا مضافا إلى أنّ القرن المذكور بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى ليس بالوضع بل متأخّر عنه إذ الوضع هو تعيين الواضع لفظا لمعنى ليحصل الترابط الاعتباريّ بينهما فاستعماله مكرّرا يوجب القرن المذكور فهو متأخّر عن وضع الواضع وليس بوضع وحمل فعل الواضع على مجرّد القرن بدون قصد إيجاد اعتبار الارتباط كما ترى. على أنّ الأطفال أيضا يتعلّمون الملازمة بين اللفظ والمعنى في بدوّ الأمر ثمّ ينتقلون من أحدهما إلى الآخر ألا ترى أنّ الامّ مثلا إذا قالت لطفلها الماء وأشارت في ذاك الوقت إلى المائع السيّال الرافع للعطش ، فالطفل يتعلّم الملازمة والارتباط بين لفظة الماء والمائع السيّال. فإذا سمع لفظة الماء انتقل منها إلى المائع السيّال لأجل تعلّم الملازمة فليس الانسباق عند الأطفال بدون العلم بالملازمة أيضا.

السادس : عدم صحّة سلب اللفظ أو صحّة حمله :

يقع الكلام في المقامين :

المقام الأوّل : في حقيقة عدم صحّة سلب اللفظ :

والمقصود منه هو عدم صحّة سلب اللفظ عن المعنى الذي حمل عليه في نظير «زيد إنسان» أو «الإنسان حيوان ناطق» فإنّ عدم صحّة سلبه عنه حين الحمل عليه يفيد حصول معناه الحقيقيّ المفهوم منه عند إطلاقه إذ لو كان على خلاف ذلك لصحّ سلبه عنه ضرورة صحّة السلب فيما إذا لم يحصل معناه الّذي اريد سلبه.

وإليه يؤول ما في هداية المسترشدين (١) وهكذا ما في تعليقة الاصفهانيّ حيث قال : وهو أن يتصوّر المعنى المقصود كشف حاله ويحمل اللفظ بما له من المعنى

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٤٨.

٢٢١

الارتكازيّ عليه وصحّة الحمل كاشفة عن أنّ المعنى المتصوّر هو معنى اللفظ وإلّا لم يصحّ الحمل. (١)

ثمّ إنّ الحمل إن كان حملا أوّليا كقولهم : «الإنسان حيوان ناطق» ، كان علامة كون الموضوع نفس المحمول للزوم اتّحاد المفهومين في الحمل الأوّلي الذاتيّ. وإن كان حملا شائعا صناعيّا كقولهم : «زيد إنسان» ، كان علامة كون الموضوع من مصاديق المحمول وأفراده الحقيقيّة للزوم الاتّحاد الوجوديّ في الحمل الشائع الصناعيّ فالعلاميّة منحصرة فيما إذا اتّحد المفهومان أو اتّحد المعنى الموجود بوجود الموضوع مع ما لمحموله من المعنى.

ثمّ إنّ عدم صحّة سلب اللّفظ أو صحّة حمله ليس بنفسه إلّا دليلا لاتّحاد المعنيين فإذا انضمّ إليه تجرّد اللفظ عن قرائن المجاز يدلّ على الحقيقة أيضا إذ صحّة الحمل بدون قرينة من قرائن المجاز لا تكون إلّا من جهة كونه معناه الحقيقيّ.

ولذلك قال المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره في التعليقة : فاعلم أنّه لا بدّ من فرض اللفظ مجرّدا عن القرينة وإلّا لما كان الحمل فقط أو عدم صحّة سلب المعنى عنه علامة للحقيقة إذ لا يزيد الحمل على اتّحاد المعنيين ولا يزيد التعبير عنه باللفظ على مجرّد الاستعمال وشىء منهما لا يثبت الوضع. (٢)

ثمّ إنّ المعروف هو جعل صحّة الحمل وعدمها علامة للحقيقة والمجاز ومقتضاه هو كونها بنفسها علامة من دون رجوعها إلى علامة اخرى وعليه فلتكن صحّة الحمل وعدمها عند نفسه لا عند العرف والغير وإلّا لكان راجعا إلى علامة اخرى لأنّ العلم بأنّ اللفظ بماله من المعنى بحيث يصحّ أن يحمل عليه عرفا لا بدّ له من سبب آخر من

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٤٠.

(٢) نفس المصدر.

٢٢٢

تنصيص أهل اللسان أو التبادر فافهم.

ولعلّه لذلك قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره في تهذيب الاصول : والظاهر أنّ المراد بهما صحّتهما عند نفسه لا عند غيره إذ الثاني يرجع إلى تنصيص أهل اللغة واللسان لأنّ العلم حينئذ بصحّة الحمل وكونه حملا أوّليّا أو شائعا بالذات لا يحصل إلّا بتصريح الغير فيرجع إلى تنصيصهم. (١)

المقام الثاني : في الإشكالات الواردة

منها : ما حكاه في هداية المسترشدين وحاصله أنّ المحكوم عليه بعدم صحّة سلبه إنّما هو معنى اللفظ ضرورة صحّة سلب اللفظ بما هو لفظ عن المعاني بأسرها. وحينئذ فإن كان الموضوع في القضيّة المفروضة نفس معنى المحمول لم يتصوّر هناك حمل بالمعنى المشهور حتّى يتصوّر فيه الإيجاب والسلب ففي هذه الصورة لا حمل إذ الشّيء متّحد مع نفسه ولا اثنينيّة بينهما حتّى يتصوّر المحمول والمحمول عليه ومع عدم الحمل لا معنى للإيجاب أو السّلب. وإن كان الموضوع في القضيّة المفروضة هو غير معنى المحمول فالحمل موجود ولكن لا يفيد عدم صحّة السّلب كون معنى المحمول معنا حقيقيّا للموضوع بعد كون المفروض هو المغايرة بينهما ومجرّد الاتّحاد في المصداق والوجود الخارجيّ لا يستلزم الحكم بكون لفظ المحمول حقيقة في الموضوع. ألا ترى أنّ استعمال الكلّيّ في خصوص الفرد مجاز مع أنّه لا يصح سلبه عنه وكذا لا يصحّ سلب شىء من المفاهيم المتّحدة في المصداق عن بعض الآخر كالإنسان والضاحك مع أنّ شيئا منهما لم توضع بإزاء المفهوم الآخر ولا يكون حقيقة فيه إذ لا اريد عند الإطلاق

__________________

(١) تهذيب الاصول : ١ / ٥٨.

٢٢٣

خصوص ذلك منه. (١)

ويمكن الجواب عنه : أوّلا : بكفاية مغايرة ما في صحّة الحمل مع الاتّحاد من جهة اخرى سواء كان الحمل حملا أوّليّا أو شائعا صناعيّا ، فالمغايرة قد تكون بالمفهوم كما في الحمل الشائع وقد تكون بالإجمال والتفصيل كما في الحمل الذّاتيّ كحمل الحدّ على المحدود نحو قولهم : «الإنسان حيوان ناطق». وهذه المغايرة ولو كانت مغايرة اعتباريّة ولكنّها موافقة للواقع فإنّ ذات الإنسان والحيوان الناطق مثلا وإن كانت واحدة إلّا أنّ هذه الحقيقة الواحدة المركّبة من «ما به الاشتراك» و «ما به الامتياز» يمكن اعتبارها بجهة الوحدة والجمع كما يمكن اعتبارها بجهة الكثرة والفرق فإذا اعتبرها بالاولى عبّر عنها «بالإنسان» وإذا اعتبرها بالثانية عبّر عنها «بالحيوان الناطق». ومن المعلوم أنّ جهة الوحدة كجهة الكثرة اعتبار موافق للواقع وهذه المغايرة الواقعيّة تكفي في صحّة حمل المفصّل على المجمل البسيط لاراءة أنّ البسيط منحلّ إلى هذا المفصّل وهذا المفصّل هو تفصيل هذا البسيط وهذه المغايرة ليست مجرّد فرض المغايرة وإلّا لجاز حمل الشىء على نفسه بمجرّد فرض أنّه غير نفسه.

ثمّ إنّ المحقّق الأصفهانيّ بعد الإشارة إلى ما ذكر أفاد نكتة اخرى وهي أنّ الغرض في الحمل الذاتيّ شرح الماهيّة لا شرح الحقيقة وإنّما يستفاد المعنى الحقيقيّ بسبب تجرّد اللفظ بضميمة الاتّحاد. إلى أن قال : الغرض هنا مجرّد إثبات اتّحاد المعنيين ذاتا لا بما لهما من الحيثيّات الاعتباريّة فإنّها مصحّحة للموضوعيّة والمحموليّة لا مأخوذة في المحمول والموضوع. (٢) وقد تكون المغايرة في الألفاظ كالمترادفات وهذا التغاير التكوينيّ أيضا يوجب صحّة حمل إحداها على الاخرى كقولهم : «الإنسان بشر» وبالعكس.

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٤٨.

(٢) نهاية الدراية / ٤١.

٢٢٤

وهذا الحمل ليس كحمل الشىء على نفسه بلا فائدة إذ ربما يشكّ في وحدة المعنى في المترادفات فيرتفع الشكّ بصحّة الحمل وعدم صحّة السلب. هذا بخلاف حمل الشّيء على النفس فإنّه ليس فيه هذه الفائدة كما لا يخفى. وعليه فما ذهب إليه المستشكل من نفى الحمل الذّاتيّ في غير محله.

وثانيا : أنّ قوله : «مع مغايرة موضوع القضيّة مع محمولها أنّ عدم صحّة السلب لا يفيد» ممنوع ، فإنّ صحّة حمل الكلّيّ على الفرد كاشفة عن كون اللفظ حقيقة في المعنى الموجود بوجود الفرد فيلاحظ مثلا معنى الحيوان الخاصّ الموجود بوجود زيد ويحمل عليه لفظ الإنسان بماله من المعنى عرفا وارتكازا فمع وجدان صحّة الحمل وعدم صحّة السلب يكشف عن اتّحاد المعنى الموجود بوجود زيد مع ما للإنسان من المعنى وإلّا فلا. وليس الغرض في مثل «زيد إنسان» أنّ معنى زيد بما هو هو عين معنى الإنسان بل الغرض كما عرفت هو اشتمال لفظ زيد على معنى هو متّحد مع ما للإنسان من المعنى لتقرّر حصّته من ماهيّة الإنسان في مرتبة ذات زيد ففي هذه المرحلة لا يلاحظ إلّا ذلك المعنى المتقرّر في مرتبة ذات زيد لا تمام معناه.

ولذلك قال المحقّق الأصفهانيّ بعد تبيين ما ذكر : وأمّا ملاك صحّة الحمل في مثل زيد إنسان فليس قطع النظر عمّا به زيد يكون زيدا بل زيد بما هو زيد انسان بمعنى أنّ هذين المعنيين موجودان بوجود واحد وهذا الوجود ينسب إلى كليهما بالذات أمّا إلى زيد فواضح وأمّا إلى الإنسان فلما سمعت من تقرّر حصّته في مرتبة ذات زيد وليس ملاك الحمل الشائع إلّا كون النظر في الحمل إلى الاتّحاد في الوجود. (١)

فنفي الفائدة في عدم صحّة السلب ممنوع فإنّه كما عرفت يفيد في حمل الكلّيّ على الفرد استعلام حال الفرد بل ربما يفيد أيضا استعلام حال الكلّيّ فيما إذا كان معناه

__________________

(١) نفس المصدر.

٢٢٥

معلوما بالإجمال كما في الصّعيد. فإذا قلنا بأنّ ما عدا التراب صعيد ولم يصحّ سلب الصعيد عن ما عدا التراب يعلم حال ما عدا التراب أنّه صعيد أيضا كما يعلم معنى الصعيد أنّه عامّ شامل لغير التراب أيضا.

ولذلك قال في هداية المسترشدين : ربما يراد من عدم صحّة السلب استعلام حال المصداق وكذا حال نفس الموضوع له من حيث كونه للمعنى الشامل له فيما إذا كان معناه مع قطع النظر عن الحمل المذكور مجملا. (١)

وثالثا : أنّ الاستشهاد بقوله : «ألا ترى أن استعمال الكلّيّ في خصوص الفرد مجاز مع أنّه لا يصحّ سلبه عنه» ، كما ترى. فإنّ عدم صحّة سلب الكلّيّ عن خصوص الفرد ممنوع إذا لكلّيّ لا يكون متّحدا مع الخصوصيّات الفرديّة هذا بخلاف ما إذا استعمل الكلّيّ في الفرد من جهة اشتماله على معنى هو متّحد مع الكلّيّ فإنّه حينئذ لا يصحّ سلب الكلّيّ عنه.

ورابعا : أنّ وجه كون الحمل علامة كما في تعليقة الأصفهانيّ ليس هو مجرّد الحمل بل لأنّ الحمل تارة بحسب نفس المفهوم والذات فاتّحادهما دليل قطعيّ على الحقيقة كما أنّ عدمه دليل قطعيّ على المجازيّة إذ الشىء لا يسلب عن نفسه واخرى بحسب اتّحاد المعنى الموجود بوجود زيد مع ما لمحموله من المعنى ومثل هذين الأمرين لا يجري في الكلّيّين المتساويين والأعمّ والأخصّ ، ففي قولنا «الناطق ضاحك» و «الناطق حيوان» لا اتّحاد مفهوميّ كي يكون الحمل ذاتيّا كما أنّه ليس وجود الناطق بما هو وجود الناطق وجودا للضاحك كزيد وإنسان بل متصادقان في وجود واحد والفرق أنّ زيدا لا وجود له إلّا وجود الإنسان متشخّصا بالمشخّصات فيعلم منه أنّ المعنى الموجود بوجود زيد معنى الإنسان بخلاف الذاتيّات كالناطق والحيوان مثلا فإنّ مبدأ الفصل

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٤٨ ـ ٥٠.

٢٢٦

غير مبدإ الجنس. نعم يكون حمل الجنس على نوعه كالكلّيّ على فرده إذا كان النظر إلى المعنى الموجود في ضمن النوع. (١) انتهى

وعليه فلا يصحّ نقض المستشكل حيث قال : «وكذا لا يصحّ سلب شيء من المفاهيم المتّحدة في المصداق عن بعض آخر كالإنسان والضاحك مع أنّ شيئا منهما لم توضع بإزاء المفهوم الآخر» لفقدان ملاك العلاميّة وهو الاتّحاد المفهوميّ أو اتّحاد المصداق مع الكلّيّ فلا تغفل. نعم لو رجع الأعمّ والأخصّ إلى حمل الكلّيّ على فرده حصل الملاك المذكور وهو اتّحاد الكلّيّ مع فرده فيكون عدم صحّة السلب فيه مفيدا من دون فرق بين الذّاتيّ كحمل الجنس على نوعه أو العرضيّ كحمل الأبيض على الجسم باعتبار صفة البياض القائمة بالجسم فتدبّر جيّدا.

منها : ما ذكره في محاضرات الاصول من أنّ الحمل الذاتيّ لا يكشف إلّا عن اتّحاد الموضوع والمحمول ذاتا ومغايرتهما اعتبارا ولا نظر في ذلك إلى حال الاستعمال وأنّه حقيقيّ أو مجازىّ مثلا حمل الحيوان الناطق على الإنسان لا يدلّ إلّا على اتّحاد معنييهما حقيقة ولا نظر فيه إلى أنّ استعمال لفظ الإنسان فيما اريد به حقيقيّ أو مجازيّ ومن الظاهر أنّ مجرّد الاستعمال لا يكون دليلا على الحقيقة وعلى الجملة فصحّة الحمل الذاتيّ بما هو لا يكشف إلّا عن اتّحاد المعنيين ذاتا وأمّا أنّ استعمال اللفظ في القضيّة استعمال حقيقيّ فهو أمر آخر أجنبيّ عن صحّة الحمل وعدمها نعم بناء على أنّ الأصل في كلّ استعمال أن يكون حقيقيّا كما نسب إلى السيّد المرتضى قدس‌سره يمكن إثبات الحقيقة إلّا أنّه لم يثبت في نفسه كما ذكرناه غير مرّة على أنّه لو ثبت فهو أجنبيّ عن صحّة الحمل وعدمها وبكلمة اخرى أنّ صحّة الحمل وعدم صحّته يرجعان إلى عالم المعنى والمدلول فمع اتّحاد المفهومين ذاتا يصحّ الحمل وإلّا فلا وأمّا الحقيقة والمجاز فهما

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٤٢.

٢٢٧

يرجعان إلى عالم اللفظ والدالّ وبين الأمرين مسافة بعيدة. نعم لو فرض في القضيّة الحمليّة أنّ المعنى قد استفيد من نفس اللفظ من دون قرينة كان ذلك علامة الحقيقة إلّا أنّه مستند إلى التّبادر لا إلى صحّة الحمل. إلى أن قال : وأمّا الحمل الشائع فتفصيل الكلام فيه أنّ ملاك صحّته بجميع أنواعه اتّحاد المعنيين أي الموضوع والمحمول وجودا ومغايرتهما مفهوما فذلك الوجود الواحد إمّا أن يكون وجودا لهما بالذات أو يكون لأحدهما بالذات وللآخر بالعرض أو لكليهما بالعرض فهذه أقسام ثلاثة : أمّا القسم الأوّل : فهو في حمل الطبيعيّ على أفراده ومصاديقه وحمل الجنس على النوع وحمل الفصل عليه (إذا كان النّظر إلى المعنى المميّز لهذا النوع من غيره). إلى أن قال : وأمّا القسم الثانى : فهو في حمل العناوين العرضيّة على معروضاتها كحمل الضاحك أو الكاتب أو العالم أو الأبيض أو الأسود على زيد مثلا فإنّ هذه العناوين جميعها عرضيّة انتزاعيّة منتزعة من قيام الأعراض بموضوعاتها وليس لها وجود في الخارج والموجود فيه نفس الأعراض والمقولات الّتي هي من مبادئ تلك العناوين ومنشأ انتزاعها وعليه فنسبة ما به الاتّحاد وهو وجود زيد المتصف بتلك المبادي إلى تلك العناوين بالعرض والمجاز وبمقتضى القاعدة السائرة في الكائنات بأجمعها وهي أنّ كلّ ما بالعرض لا بدّ وأن ينتهي إلى ما بالذّات فينتهي هذا الحمل أي (العناوين على معروضاتها) إلى حمل ثان ويدلّ الكلام عليه بالدلالة الالتزاميّة لا محالة فذلك الحمل من قبيل حمل الطبيعىّ على أفراده فإنّ في قولنا زيد ضاحك مثلا بما أنّ الضاحك عنوان عرضيّ انتزاعيّ فلا محالة ينتهى الأمر إلى حمل الضّحك على الصفة القائمة بزيد وهو من حمل الكلّيّ على فرده فبالنتيجة يرجع هذا القسم إلى القسم الأوّل وإن كان مغايرا له بحسب الصّورة. وأمّا القسم الثالث : فهو في حمل بعض العناوين العرضيّة على بعضها الآخر كقولهم الكاتب متحرّك الأصابع أو المتعجّب ضاحك. وقد اتّضح لك أنّه ليس لعناوين العرضيّة وجود في عالم الخارج بالذات بل يضاف إليها وجود ما

٢٢٨

يتّصف بها إضافة بالعرض وبقانون أنّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات فلا محالة ينتهى الأمر إلى حملين آخرين ؛ أحدهما : حمل صفة الكتابة أو التعجّب على شيء. وثانيهما : حمل الحركة أو الضحك على شيء آخر. فيدخل هذا القسم أيضا في القسم الأوّل والاختلاف بينهما في الصورة لا في الحقيقة. فتلخّص من ذلك أنّ مرجع جميع هذه الأقسام إلى قسم واحد وهو القسم الأوّل وعلى ضوء أنّ الملاك في صحّة الحمل الشائع هو الاتّحاد في الوجود الخارجيّ ظهر أنّ صحّته لا يكشف عن الحقيقة ضرورة أنّها لا تكون أمارة إلّا على اتّحاد المحمول مع الموضوع خارجا وأمّا أنّ استعمال اللفظ في المحمول على نحو الحقيقة فهي لا تدلّ عليه. إلى أن قال : فقد اصبحت النتيجة لحدّ الآن كما أنّ صحّة الحمل الأوّليّ الذاتيّ لا تكشف عن الحقيقة كذلك صحّة الحمل الشائع الصناعيّ ومن ذلك يظهر حال عدم صحّة الحمل أيضا حرفا بحرف. (١) وتبعه بعض الأعاظم (٢) أيضا.

وفيه : أوّلا : أنّ الاستعمال المجرّد عن القرائن كما مرّ دليل الحقيقة والاستعمال المجرّد غير مجرّد الاستعمال والذي لا يدلّ على شيء هو الثاني دون الأوّل ولعلّ صحّة الحمل من لوازم الاستعمال المجرّد ومتفرّعاته إذ اللفظ المستعمل في معناه يصلح أن يصحّ حمله ولا يصحّ سلبه عنه فالاستعمال المجرّد الكاشف عن كون الاستعمال في معناه الحقيقيّ يكون منشأ لصحّة الحمل وعدم صحّة السلب كما عرفت أنّه منشأ التبادر وظهور المعنى وانسباقه إلى الذهن فلا وجه لإنكار دليليّة الاستعمال المجرّد على الحقيقة فلا تغفل.

وثانيا : أنّ الدليل على الحقيقة والمعنى الحقيقيّ في الحمل الذاتيّ والشائع الصناعيّ

__________________

(١) المحاضرات : ١ / ١١٧ ـ ١١٩.

(٢) بحوث في علم الاصول : ١ / ١٦٨ ـ ١٦٩.

٢٢٩

كما أشار إليه المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره هو الاتّحاد بين الموضوع والمحمول مع تجرّد اللفظ عن القرينة فإذا رأى المستعمل صحّة الحمل مع تجرّد اللفظ عن القرينة يكفي في الحكم بكون اللفظ حقيقة فيه إذ لو لم يكن كذلك لاحتاج إلى إقامة قرينة المجاز والمفروض عدمه فاتّحاد الموضوع مع المحمول مفهوما مع تجرّده عن قرينة المجاز شاهد على أنّ حمله عليه أيضا حقيقة كما أنّ اتّحاد المعنى المتقرّر في مرتبة ذات الموضوع كزيد مع ما للمحمول من المعنى كالإنسان شاهد على أنّ حمل الإنسان على زيد حقيقة أيضا وعليه فحمل الكلّيّ على الفرد من دون إقامة قرينة المجاز كاشفة أيضا عن كون اللفظ حقيقة في المعنى الموجود بوجود الفرد فيلاحظ مثلا معنى الحيوان الخاصّ الموجود بوجود زيد ويحمل عليه لفظ الإنسان بماله من المعنى عرفا أو ارتكازا فإن وجد صحّة الحمل كشف عن اتّحاد المعنى الموجود بوجود زيد مع ما للإنسان من المعنى وإلّا فلا. (١)

وبالجملة فملاك دليليّة الحمل في الذاتيّ والشائع على الحقيقة هو الاتّحاد مع تجرّد اللفظ عن القرينة وهما حاصلان في الموارد المذكورة فكيف لا يصحّ الحكم بالحقيقة مع وجودهما ولا ضير في كون الاتّحاد من مقولة المفاهيم والحقيقة من مقولة الاستعمال لأنّ ذلك لا يمنع من دليليّة مجموع الحمل والتجرّد على الحقيقة.

لا يقال : إنّ اللفظ في قوله «الإنسان حيوان ناطق» ، لم يجعل وجودا تنزيليّا لذلك المعنى التفصيليّ بل العلامة والارتباط جعل بينه وبين الصورة البسيطة من ذلك المعنى لا الصورة التحليليّة العقليّة المسمّاة بالحدّ التامّ مثلا وعليه فجعل الحمل الذاتي الذي هو عبارة عن اتّحاد الموضوع والمحمول مفهوما علامة للوضع محلّ نظر إذ لم يجعل اللفظ فيه وجودا تنزيليّا لذلك المعنى التفصيليّ كما أنّ دلالة الحمل الشائع على أنّ

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٤٠ ـ ٤٣.

٢٣٠

المحمول تمام حقيقة الموضوع وماهيّته فيما إذا كان الموضوع فردا ومصداقا ذاتيّا للمحمول كقولنا : «زيد إنسان» شيء يعلم من الخارج لا من ناحية صرف الحمل. (١)

لأنّا نقول : تعريف الوضع بجعل اللفظ وجودا تنزيليّا لذلك المعنى التفصيليّ منظور فيه كما مرّ في محلّه إذ لا دليل له بل المحقّق في الوضع هو جعل الارتباط بفعل الواضع أو حصوله بكثرة الاستعمال ، هذا مضافا إلى أنّ مفاد الحمل ليس أنّ معنى الإنسان هو المفصّل بل مفاده أنّ معنى الإنسان (وهو بسيط) متّحد مع هذا المفصّل أو أنّ هذا المفصّل مفاد ذاك البسيط.

ثمّ إنّ محلّ الكلام هو ما إذا كان الحمل المذكور مجرّدا عن مطلق القرائن سواء كانت داخليّة أو خارجيّة.

وثالثا : أنّ علاميّة الحمل لتشخيص الحقيقة فيما إذا لم يكن الموضوع متبادرا وإن ارتكز أصل المعنى. وإلّا فلا مجال للحمل كما لا يخفى ، هذا مضافا إلى أنّ مع الاستعمال المجرّد علم أنّ اللفظ موضوع لذلك المعنى وبعد هذا العلم كان التبادر وصحّة الحمل مترتّبين في عرض واحد فكما أنّ التبادر علامة الحقيقة كذلك يكون صحّة الحمل فتدبّر جيّدا.

منها : ما في تهذيب الاصول من أنّ التحقيق أنّ الاستكشاف واستعلام الحال حاصل من التبادر الحاصل من تصوّر الموضوع السابق على الحمل وسلبه فيكون إسناده إلى الحمل أو سلبه في غير محلّه. توضيح ذلك : أنّ الحاكم المستعلم بحمله لا بدّ أن يتصوّر الموضوع أوّلا بماله من المعنى الارتكازيّ حتّى يجده متّحدا مع المعنى المشكوك فيه في مفهومه. ثمّ يحمل المحمول المتصوّر على الموضوع المعلوم حملا أوّليّا ولو لا ذلك لما كان لحكمه وزن ولا قيمة وعندئذ إذا وجده في عالم التصوّر متّحدا معه

__________________

(١) منتهى الاصول : ١ / ٤١.

٢٣١

قبل حمله فقد علم بوضع اللفظ للمعنى ولم يبق لتأثير صحّة الحمل في رفع الستر مجال. وأمّا الحمل الشائع فلا يكون علامة إلّا إذا كان شائعا ذاتيّا لكونه كاشفا عن المصداق الحقيقيّ كما في قولنا «البياض أبيض» لا عرضيّا وحينئذ إن كان المستعلم مردّدا في كون الحمل ذاتيّا أو عرضيّا لم يمكن له استكشاف الوضع من مجرّد الحمل وإن كان عالما بكونه حملا ذاتيّا وأنّه من قبيل حمل الكلّيّ على بعض مصاديقه الحقيقيّة فقد علم المعنى قبل الحمل إذ العلم بكونه مصداقا حقيقيّا ذاتيّا مستلزم للعلم بكونه موضوعا للطبيعة المطلقة. والقول بأنّ التبادر مغفول عنه غير مسموع كالقول بأنّ صحّة الحمل والسلب الارتكازيّين موجبة للحمل التفصيليّ كما مرّ نظيره في التبادر وذلك لأنّ الباحث المستعلم للوضع لا يتصوّر له الغفلة عن ضالّته المنشودة أبدا ولو قبل الوصول إلى الحمل وسلبه. وممّا ذكرنا يعلم حال صحّة السلب في جعله دليلا على المجازيّة لأنّ العلم بصحّته يتوقّف على العلم بتغاير الطرفين مفهوما أو مصداقا في عالم التصوّر ومعه لا حاجة إلى سلب الحمل. (١)

يمكن أن يقال إنّ تصوّر الموضوع والمحمول إجمالا يكفي في صحّة الحمل ولا يلزم أن يكون التصوّر تفصيليّا بل يجوز أن يحصل التفصيل بالحمل وعليه فلا منافاة بين أن يكون الموضوع أو المحمول قبل الحمل متبادرا في أصل معناه وبين أن لا يعلم التفصيل إلّا بالحمل ولذلك يمكن أن لا يعلم باتّحادهما قبل الحمل فإذا رأى جواز حمله على الموضوع حدث العلم التفصيليّ بحدود المعنى ، مثلا إذا شككنا في حدود معنى الصعيد ، فإذا رأينا صحّة حمله على ما عدا التراب علمنا بتفصيل معناه وارتفع الشكّ. هذا مضافا إلى أنّ وجدان الاتّحاد في عالم التصوّر لا يمكن إلّا بالحمل أيضا كالحمل في القضيّة الملفوظة إذا القضيّة الذهنيّة قبل التلفّظ بها كالقضيّة الملفوظة تفيد حمل

__________________

(١) تهذيب الاصول : ١ / ٥٨ ـ ٥٩.

٢٣٢

المحمول على الموضوع وعليه فلا مورد لقوله : «وعندئذ إذا وجده في عالم التصوّر متّحدا معه قبل حمله فقد علم بوضع اللفظ للمعنى ولم يبق لتأثير صحّة الحمل في رفع الستر مجال.» فتدبّر جيّدا.

منها : ما في بدائع الأفكار ومال إليه سيّدنا الاستاذ المحقّق الدّاماد وهو على ما في بدائع الأفكار : أنّه لا يخفى أنّ هذا التقريب إنّما يتمّ في الحمل المتداول على ألسنة اللغويّين أعني به حمل أحد اللّفظين المترادفين بماله من المعنى على الآخر مثل قولهم : «الغيث هو المطر» وأمّا الحمل الأوّليّ المستعمل في الحدود المشتمل على حمل الذاتيّات على الذات مثل قولهم : «الإنسان حيوان ناطق» فلا يمكن أن يستكشف بصحّته وضع اللفظ للمعنى المعلوم عند من استعمل هذا الحمل لأنّ مفهوم «حيوان ناطق» مفهوم مركّب مفصّل وبما أنّه كذلك يمتنع أن يكون هو مفهوم «الإنسان» لأنّ مفهوم كلّ لفظ مفرد بسيط مجمل. (١)

وقال استاذنا قدس‌سره أيضا : ولا يخفى مغايرة مفهوم «حيوان ناطق» مع المفهوم الاندماجيّ للإنسان الّذي قد يعبّر عنه بلفظة : «آدم» ، بداهة الفرق بين المفهوم المركّب المفصّل والمفهوم البسيط ويشهد لذلك عدم تبادر المعنى المركّب من لفظ الإنسان إذا اطلق. وعليه فليس مفهوم «حيوان ناطق» نفس معنى «الإنسان» حتّى يكون صحّة حمله دليلا للحقيقة ووضع لفظ الإنسان للمعنى المركّب.

وأجاب عنه في تهذيب الاصول بأنا نقول بأنّ الغرض من الحمل ليس إثبات وضع اللفظ لذلك المفصّل بل لماهيّة بسيطة يكون هذا المفصّل حدّا لها بحيث إذا انحلّت رجعت إليه وبالجملة هذا المبيّن حاك عن الذات البسيط المجمل والشكّ في وضع اللفظ

__________________

(١) بدائع الأفكار : ١ / ٩٩.

٢٣٣

لذلك المجمل دون الأوّل المفصّل. (١)

ويمكن أن يقال إنّ وضع لفظ الإنسان للمجمل البسيط الذي قد يعبّر عنه بلفظة : «آدم» ، لا شكّ فيه وإنّما الشكّ في أنّه موضوع للمعنى المركّب أي «الحيوان الناطق» أم لا والحمل الأوّليّ في المقام مع مغايرة المحمول والموضوع في البساطة والتركيب لا يفيد الاتّحاد بينهما حتّى يكون مع التجرّد عن القرينة دليلا لوضعه للمعنى المركّب. اللهم إلّا أن يقال : أنّ المراد من حمل «الحيوان الناطق» على «الإنسان» ليس هو أنّ معنى «الإنسان» الموضوع له هو «الحيوان الناطق» بل المراد هو وحدة ذات الإنسان مع ذات الحيوان الناطق فهذا الاتّحاد يفيد تفصيل البسيط الذي يكون موضوعا له فلا تغفل.

ثمّ لو سلّمنا هذا الإشكال فهو مختصّ بالحمل الأوّليّ ولا يشمل الحمل الشائع الصناعيّ.

ثمّ إنّ صحّة السلب علامة عدم كون المعنى الموضوع له عين نفس معنى المحمول إن كان الحمل حملا ذاتيّا وعلامة عدم كونه من مصاديق المحمول وأفراده الحقيقيّة إن كان الحمل حملا شائعا ولذا قال في الكفاية : كما أنّ صحّة سلبه كذلك علامة أنّه ليس منهما وإن لم نقل بأنّ إطلاقه عليه من باب المجاز في الكلمة بل من باب الحقيقة وأنّ التصرّف فيه في أمر عقليّ كما صار إليه السكّاكيّ.

أورد عليه في نهاية الاصول بأنّ تقسيم الحمل إلى القسمين صحيح ولكنّ السلب ليس على قسمين فإنّ الملاك لصحّة الحمل هو الاتّحاد فإن كان الاتّحاد بحسب المفهوم كان الحمل أوّليّا ذاتيّا وإن كان بحسب الوجود الخارجيّ كان شائعا صناعيّا وأمّا السلب فملاكه عدم الاتّحاد وعدم الطبيعة بعدم جميع أفرادها فما دام يوجد نحو من الاتّحاد بين الموضوع والمحمول لا يصحّ سلبه عنه وبالجملة فملاك السلب عدم الاتّحاد

__________________

(١) تهذيب الاصول : ١ / ٥٩.

٢٣٤

بين الموضوع والمحمول ولا يتحقّق ذلك إلّا بعد عدمه مفهوما ووجودا فللحمل قسمان وللسلب قسم واحد. (١)

يمكن أن يقال : هو كذلك إن اريد بعدم الاتّحاد عدم طبيعة الاتّحاد وأمّا إن اريد به عدم الاتّحاد الخاصّ فله قسمان أيضا ، فإنّه إمّا في مقام عدم اتّحاد المحمول مع الموضوع ذاتا وإمّا في مقام عدم اتّحاده مصداقا.

وهنا تفصيل مذكور في تعليقة الأصفهانيّ قدس‌سره وهو أنّ السلب إن كان في قبال الحمل الشائع بمعنى مجرّد اتّحاد الموضوع والمحمول في الوجود بحيث يصحّ حمل الإنسان على البشر أيضا بهذا الحمل نظرا إلى أنّ المتغايرين بالاعتبار كما أنّهما متّحدان ذاتا متّحدان وجودا فلا محالة يكون السلب دليلا على أنّ المسلوب لا عين ذات المسلوب عنه ولا متقرّر في مرتبة ذاته. وإن كان في قبال الحمل الشائع بمعنى كون الموضوع مطابق مفهوم المحمول ومندرجا تحته فلا محالة لا يكون السّلب علامة المجازيّة لصحّة سلب الإنسان بهذا الوجه عن الحيوان الناطق مع اتّحادهما ذاتا وبهذا الاعتبار يقال الجزئيّ ليس بجزئيّ بل كلّيّ مع أنّ مفهوم الموضوع والمحمول واحد فتدبّر جيّدا. (٢)

السابع : الاطّراد وعدمه

ولا يخفى أنّ الأوّل علامة الحقيقة والثاني علامة المجاز وهو المشهور على المحكي ومختار الشيخ الطوسيّ قدس‌سره في العدّة.

يقع البحث في مقامات :

الأوّل : في تعريف الاطّراد : ربما يقال أنّ المقصود منه هو شيوع الاستعمال من دون

__________________

(١) نهاية الاصول : ١ / ٣٤.

(٢) نهاية الدراية : ١ / ٤٣.

٢٣٥

اختصاصه بمقام دون مقام وحال دون حال كشيوع استعمال لفظ باعتبار معناه الكلّيّ على أفراده ومصاديقه أو شيوع استعمال الأعلام كزيد في معناه فإنّه لا يختصّ بمقام دون مقام وحال دون حال. هذا بخلاف المجازات لاختصاصها ببعض المقامات ولذا خصّص في الدرر محاسن الكلام ورعاية الفصاحة والبلاغة بالخطب والأشعار ممّا يطلب فيها إعمال المحاسن الأدبيّة. (١)

وقال المحقّق الإيروانيّ : إنّ المجاز غير مطّرد مع حفظ جميع الخصوصيّات في جانب المستعمل فيه كاستعمال لفظ «الأسد» في «الرجل الشجاع» فإنّه يصحّ في مثل «جاءني أسد» ولا يصحّ في مثل «نام أسد» و «قام أسد» و «تزوّج أسد» إلى غير ذلك من التراكيب المستبشع فيها إطلاق لفظ «الأسد». (٢)

والحاصل أنّ معنى الاطّراد هو الشيوع وهو مختصّ بالاستعمال الحقيقيّ.

أورد عليه في المحاضرات بأنّه لا يمكن أن يكون المراد من الاطّراد هو تكرار الاستعمال وشيوعه ضرورة أنّه إذا صحّ الاستعمال فيه مرّة واحدة يصحّ فيه مرّات عديدة من دون فرق في ذلك بين الاستعمال الحقيقيّ والمجازيّ وعليه فالتكرّر والشيوع لا يختصّ بالاستعمال الحقيقيّ حتّى يكون علامة للحقيقة. (٣)

وفيه. أنّه إن كانت العلاقة في المجاز شخص العلاقة كشخص مشابهة «زيد الشجاع» بالأسد أو صنفها كمشابهة «الرجل الشجاع» بالأسد ، فلا اختصاص للاطّراد بالحقيقة لصحّة استعمال الأسد بالمعنيين من زيد الشجاع أو الرجل الشجاع في جميع المقامات المربوطة ولا اختصاص له بمقام دون مقام وصحّ ما أفاده في المحاضرات.

ولذا نمنع ما في نهاية النهاية من اختصاص حسن استعمال «الأسد» بقولنا «جاءني

__________________

(١) الدرر : ١ / ٤٤.

(٢) نهاية النهاية : ١ / ٢٧.

(٣) المحاضرات : ١ / ١٢١.

٢٣٦

أسد» دون قولنا «نام أسد» ونحوه.

كما أنّ مجرّد اختصاص المحسّنات الأدبيّة ببعض المقامات كالخطب والأشعار لا ينافي الاطّراد لكفاية كونها مطّردة في مقاماتها كاختصاص حسن توصيف الممدوح ببعض الأوصاف الحقيقيّة بمقام المدح ومن المعلوم أنّ مجرّد اختصاص التوصيف المذكور بمقام المدح لا يوجب أن تكون الألفاظ المستعملة فيه مجازا كما لا يخفى.

وعليه فلا وجه لمنع الاطّراد بلحاظ الصنف من العلاقة باعتبار اختصاصه بمقام إظهار الشجاعة ونحوها كما في نهاية الاصول حيث قال : والحاصل أنّ الإخبار في قولنا «رأيت رجلا يرمى» يحتاج إلى محسّن واحد وهو كون المقام مقام الإخبار بوقوع الرؤية على الرجل وأمّا الإخبار في قولنا «رأيت أسدا يرمي» فيحتاج إلى إحراز امور ثلاث : الأوّل : كون المقام مقام الإخبار بتعلّق الرؤية به. الثاني : حسن ادّعاء كونه أسدا بأن يكون بالغا أعلى درجات الشجاعة أو الجبن. الثالث : كون المقام مقام إظهار شجاعته أو جبنه. إذا عرفت ما ذكرناه فنقول إنّ جعل عدم الاطّراد علامة للمجاز ليس بلحاظ نوع العلاقة بل بلحاظ الصنف منها أعني الموارد التي يوجد فيها بين الموضوع له والمراد الجدّيّ كمال المناسبة بحيث تكون العلاقة من أظهر خواصّ الموضوع له وقولكم فالمجاز أيضا على هذا مطّرد واضح الفساد بعد ما ذكرناه من أنّ صرف تحقّق صنف العلاقة ومصحّح الادّعاء لا يكفي في الاستعمال ما لم يكن المقام مقام إظهار هذا الادّعاء. والحاصل : أنّه بعد ما كان المقام مقام الإخبار بوقوع الرؤية على الرجل في المثال المذكور يكون إطلاق الرجل عليه حسنا بنحو الإطلاق وأمّا استعمال الأسد فيه فيتوقّف مضافا إلى تحقّق صنف العلاقة ومصحّح الادّعاء على كون المقام مقام إظهار شجاعته وذلك يختلف بحسب الموارد فجعل عدم اطّراد الاستعمال

٢٣٧

من علائم المجاز صحيح بلا إشكال. (١)

وذلك لعدم كون الاستعمال الحقيقيّ حسنا في بعض المقامات أيضا كتوصيف الأشخاص بالصفات الحقيقيّة الفاضلة لاختصاص حسنها بمقام المدح وكتأكيد الكلام بالقسم وغيره لاختصاصه بمورد الترديد وإلّا فلا بلاغة كما لا يخفى. فاختصاص الإخبار الحقيقيّ بالمحسّن الواحد كما ترى. بل اللازم هو ملاحظة كون المقام مقام إظهار أوصافه الفاضلة أم لا أو مقام التأكيد أم لا وهكذا. فمن هذه الجهة لا فرق بين الاستعمال الحقيقيّ والمجازيّ فكما أنّ الثاني يحتاج مضافا إلى مقام الإخبار إلى كون المقام مقام إظهار الشجاعة فكذلك في الاستعمال الحقيقيّ فإنّه يحتاج إلى كون المقام مقام إظهار الفضائل مثلا مضافا إلى مقام الإخبار وإلّا فلا يكون له حسن كما لا يخفى.

فدعوى الاطّراد بملاحظة شخص العلاقة أو صنفها غير مجازفة فمن هذه الجهة لا فرق بين الاستعمال الحقيقيّ والمجازيّ وعليه صحّ ما أفاده في المحاضرات من عدم الفرق بين الاستعمال الحقيقيّ والمجازيّ.

وأمّا إن اريد بالعلاقة نوعها كنوع المشابهة في الشجاعة فلا كلام في اختصاص الاطّراد بالحقيقة لعدم الاطّراد بحسب نوع العلاقة ألا ترى أنّه لا يطلق الأسد على مطلق مصاديق الشجاع كالبقّة الشجاعة أو النملة الشجاعة فلا يصحّ حينئذ منع علاميّة الاطّراد للحقيقة.

وعليه فيختصّ علاميّة الاطّراد بما إذا اريد بالعلاقة نوعها ولذا قال في الكفاية : ولعلّه بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات حيث لا يطّرد صحّة استعمال اللفظ معها وإلّا فبملاحظة خصوص ما يصحّ معه الاستعمال فالمجاز مطّرد كالحقيقة. انتهى

فالمراد بالاطّراد حينئذ هو استعمال الكلّيّ وتطبيقه على مصاديقه وأفراده فكلّما

__________________

(١) نهاية الاصول : ١ / ٣٧.

٢٣٨

كان المعنى الكلّيّ كذلك فهو أمارة الحقيقة وإلّا فهو مجاز.

وعليه فالأولى هو تعريف الاطّراد بما افاده المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره من أنّه هو ما إذا اطلق لفظ باعتبار معنى كلّيّ على فرد يقطع بعدم كونه من حيث الفرديّة من المعاني الحقيقيّة لكنّه يشكّ أنّ ذلك الكلّيّ كذلك أم لا فإذا وجد صحّة الإطلاق مطّردا باعتبار ذلك الكلّيّ كشف عن كونه من المعاني الحقيقيّة لأنّ صحّة الاستعمال فيه وإطلاقه على أفراده مطّردا لا بدّ من أن تكون معلولة لأحد الأمرين إمّا الوضع وإمّا العلاقة وحيث لا اطّراد لأنواع العلائق المصحّحة للتجوّز ثبت الاستناد إلى الوضع فنفس الاطّراد دليل على الحقيقة وإن لم يعلم وجه الاستعمال على الحقيقة. كما أنّ عدم الاطّراد في غير مورد يكشف عن عدم الوضع له وإلّا لزم تخلّف المعلول عن العلّة لأنّ الوضع علّة صحّة الاستعمال مطّردا وهذه العلامة علامة قطعيّة لو ثبت عدم اطّراد علائق المجاز كما هو المعروف والمشاهد في جملة من الموارد. انتهى (١)

وهذا هو الذي جعله في تهذيب الاصول أحسن تقرير حيث قال : وقد قرّر بوجوه : أمتنها أنّه إذا اطّرد استعمال لفظ في أفراد كلّيّ بحيثيّة خاصّة كرجل باعتبار الرجوليّة في زيد وعمرو مع القطع بكونه غير موضوع لكلّ واحد على حدة استكشف منه وجود علاقة الوضع بينها وبين ذلك الكلّيّ وعلم أنّه موضوع للطبيعيّ من المعنى واحتمال كونها مجازا بالعلاقة مدفوع بعدم الاطّراد في علائق المجاز كما أنّ عدم الاطّراد يدلّ على عدم الوضع إذ معه يطّرد الاستعمال. (٢)

لا يقال : إنّ الاطّراد بمعنى انطباق المعنى على مصاديقه وأفراده غير صحيح وأجنبيّ عن الاستعمال بالكليّة لأنّه أمر قهريّ ولا يعقل أن يكون المعنى كلّيّا ومع ذلك لا ينطبق

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٤٣.

(٢) تهذيب الاصول : ١ / ٦٠.

٢٣٩

على تمام أفراده ومصاديقه.

لأنّا نقول : ليس مفروض الاطّراد فيما إذا علم بكون المعنى الكلّيّ حقيقة للفظ ثمّ يبحث عن تطبيقه على مصاديقه بأنّه هل يكون بواسطة شيء أو يكون بنفسه من دون حاجة إلى الواسطة. بل محلّ الكلام فيما إذا لوحظ لفظ ومعنى كلّي ويشكّ في كونه معنا حقيقيّا له أو استعمل فيه بعلاقة من العلائق فيمكن استكشاف كونه حقيقة من اطّراد الاستعمال والاستعمال أمر قصديّ فإذا رأينا أهل لغة أنّهم يطلقون اللفظ المذكور ويريدون به هذا المعنى الكلّيّ في جميع الموارد حصل لنا العلم بأنّه معني حقيقىّ له لأنّ جواز الاستعمال المطّرد لا يكون إلّا بالوضع إذ المفروض أنّه لا اطّراد في نوع العلاقة بما عرفت.

الثاني : في علاميّة الاطّراد وعدمه : ذهب بعض إلى أنّ الاطّراد هو السبب الوحيد لمعرفة الحقيقة غالبا في مقابل من ذهب إلى نفي العلاميّة عن الاطّراد مطلقا والحقّ هو منع إطلاق الإثبات وإطلاق النفي والقول بكونه علامة بنحو الموجبة الجزئيّة.

واستدلّ للقول الأوّل بأنّ معرفة الحقيقة إمّا بتصريح الواضع وهو نادر جدّا وإمّا بالتبادر وهو لا يحصل إلّا بالاطراد. فالسبب الوحيد لمعرفة الحقيقة هو الاطّراد غالبا. (١)

وفيه : منع الانحصار إذ كثيرا ما يحصل التبادر من ناحية الاستعمال المجرّد أو صحّة الحمل كما مرّ البحث عنهما فلا يحتاج في حصوله إلى اطّراد الاستعمال.

واستدلّ للقول الثاني بأنّ تطبيق المعنى الارتكازيّ على الأفراد مطّردا بلا إرادة الخصوصيّة الفرديّة يوجب التخلّف في العلامة إذ العلامة حينئذ هي صحّة الحمل وقد عرفت إرجاعها إلى التبادر أيضا لما عرفت من أنّ التطبيق فرع العلم بكون المعنى

__________________

(١) المحاضرات : ١ / ١٢٢.

٢٤٠