عمدة الأصول - ج ١

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

الأمر السادس : وضع الهيئة القائمة على المركّبات

ولا يخفى عليك أنّ المركّبات وإن لم تكن لها مواد غير مفرداتها ولكن تكون لها هيئة زائدة على هيآت مفرداتها تدلّ باعتبارها على معان تصديقيّة وهي غير مداليل المفردات إذ التصديق ممّا يترتّب على هيئة القضيّة المركّبة لا المفردات الدالّة على المعاني التصوّريّة فلفظة زيد وقائم في زيد قائم لا تدلّ إلّا على المعاني التصوّريّة وأمّا الهوهويّة التصديقيّة بأنّ زيدا هو القائم والقائم هو زيد فهو أثر هيئة القضيّة الحمليّة وهكذا الأمر في سائر القضايا كالشرطيّة فإنّها أيضا تدلّ باعتبار اشتمالها على الأدوات الشرطيّة مثلا على النسب التصديقيّة نحو ترتّب وجود النهار على طلوع الشمس في قولهم : إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود. فهذا المعنى التصديقيّ أثر هيئة القضيّة الشرطيّة لا مفرداتها وهلمّ جرّا. بل التقديم والتأخير في أجزاء القضيّة يوجب تفاوتا في هيئة المجموع بما هو مجموع مع أنّ هيئة المفردات لا تتفاوت بالتقديم والتأخير وهذا التفاوت الناشئ من التقديم والتأخير في المركّبات أيضا يكون لإفادة الفوائد الخاصّة كحصر الموضوع في المحمول أو بالعكس من المعاني التصديقيّة التي لا تدلّ عليه المفردات.

وعليه فدعوى الوضع لهيئة المركّبات بما هي زائدة على مفرداتها مادّة وهيئة

١٨١

لإفادة المعاني التصديقيّة أمر يشهد له الوجدان السليم ومن الممتنع عادة عدم وضع لفظ للمعاني التصديقيّة في اللغات الرائجة في أقطار الأرض ولذا يكون النزاع في ذلك نزاع في أمر واضح. نعم جعل النزاع فيه كما في تهذيب الاصول بعد وجود معان تصديقيّة محتاجة إلى دوالّ لفظيّة متسالم عليه بينهم في أنّ تلك الدوالّ هي الهيئات أو المجموع أولى وأحسن. (١)

ثمّ إنّ هذه الهيئات قائمة على المركّبات وليست متّحدة مع هيئة المفردات لأنّ هيئة المفردات قائمة بموادّها والهيئة التركيبيّة قائمة بالمجموع فاختلاف المحلّ شاهد على اختلافهما فهيئة المركّبات لا دخل لها بهيآت المفردات وعليه فاختلاف الدوالّ يشهد على اختلاف المداليل إذ مداليل المفردات بمادّتها وهيآتها هي مداليل تصوّريّة بخلاف مداليل هيئة المركّبات فإنّها مداليل تصديقيّة فلكلّ وضع على حدة لا يكفي وضع كلّ واحد من الآخر.

وممّا ذكر يظهر ما في الكفاية من أنّه لا وجه لتوهّم وضع للمركّبات غير وضع المفردات ضرورة عدم الحاجة إليه بعد وضعها بموادّها في مثل : زيد قائم وضرب عمرو بكرا شخصيّا وبهيآتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعيّا ومنها خصوص هيآت المركّبات الموضوعة لخصوصيّات النسب والإضافات بمزاياها الخاصّة من تأكيد وحصر وغيرهما نوعيّا بداهة أنّ وضعها كذلك واف بتمام المقصود منها كما لا يخفى من غير حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها مع استلزام الدلالة على المعنى تارة بملاحظة وضع نفسها واخرى بملاحظة مفرداتها. انتهى. (٢)

فإنّ جعل هيآت المركّبات من هيآت المفردات ممنوع لما عرفت أوّلا من أنّ هيئة

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ٥٢.

(٢) كفاية الاصول ١ / ٢٤ ـ ٢٥.

١٨٢

المفردات قائمة بموادّها وهيئة المركّبات قائمة بالمجموع. وثانيا أنّ الإشكال المذكور يرد فيما إذا اريد من وضع المركّبات وضعها بمجموعها علاوة على وضع كلّ من الموادّ والهيئات لا ما إذا اريد من وضع المركّبات وضع خصوص هيآتها القائمة على القضيّة المركّبة دون موادّ المفردات والهيئات المختصّة بها لكلّ حينئذ مدلول غير مدلول الآخر فلا يكفي كلّ واحد عن الآخر فالحاجة باقية ما لم يذكر الآخر فلا يستلزم التكرار في الدلالة تارة بملاحظة وضع نفسها واخرى بملاحظة مفرداتها كما لا يخفى.

فالمراد من عبارات من ذهب إلى وضع في المركّبات غير وضع المفردات كما أشار إليه صاحب الكفاية في آخر عبارته (حيث قال : ولعلّ المراد من العبارات الموهمة إلخ) هو ما ذكرناه من وضع الهيئات القائمة على المركّبات على حدة غير وضع الموادّ لا وضع مجموع هيئة المركّبات مع الموادّ والهيئات العارضة على الموادّ علاوة على وضع كلّ واحد من الموادّ والهيئات بحيث يكون لفظ زيد بمنزلة جزء الكلمة في ذلك الوضع.

ولذا فصّل في الدرر بقوله : فإن كان غرض مدّعي وضع آخر للمركّبات أنّها بموادّها الشخصيّة لها وضع آخر غير وضع المفردات بمعنى أنّ لقضيّة زيد قائم وضعا آخر يكون لفظ زيد بمنزلة جزء الكلمة في ذلك الوضع فهو في غاية الفساد إذ وجدان كلّ أحد يشهد بطلان هذا الكلام مضافا إلى لغويّته وإن كان الغرض أنّ وضع مفردات القضيّة لا يفي بصدق القضيّة التامّة التي يصحّ السكوت عليها لأنّ معاني المفردات معان تصوّريّة وتعدّد المعاني التصوّريّة لا يستلزم القضيّة التامّة التي يصحّ السكوت عليها فلا بدّ أن يكون القضيّة المستفادة من قولنا زيد قائم مسبّبة من وضع آخر غير وضع المفردات وهو الوضع النوعيّ لهذه الهيئة ، فهو صحيح إلخ. (١)

فتحصّل ممّا ذكرناه أنّ في باب المركّبات ثلاثة أوضاع ؛ أحدها : وضع المفردات

__________________

(١) الدرر ١ / ٤٣.

١٨٣

بمادّتها وضعا شخصيّا إن كانت من الجوامد ووضعا نوعيّا إن كانت من المشتقّات. وثانيهما : وضع هيآت المفردات وضعا نوعيّا وثالثها : وضع هيآت المركّبات علاوة على وضع المفردات بمادّتها وهيآتها المختصّة بالمفردات. وهذه الأوضاع الثلاثة ممّا لا بدّ منه في المركّبات مطلقا سواء كانت اسميّة أو إنشائيّة.

وأمّا ما ذهب إليه في الدرر من التفصيل بين القضايا الخبريّة كزيد قائم وبين القضايا الإنشائيّة كاضرب زيدا بالتزام الوضع الثالث في الأوّل دون الثاني لاشتمال المفردات في الثاني على وضع تتمّ به القضيّة دون الأوّل.

ففيه أنّ قولنا اضرب مركّب من الفعل والفاعل وليس بمفرد وهو بعث المخاطب نحو الضرب ويكون في قوّة أن يقال أبعثك نحو الضرب وهو ممّا يصحّ السكوت عليه.

وهنا تفصيل آخر وهو التفصيل بين الجملة الفعليّة والاسميّة بأنّ الوضع الثالث (أي وضع هيئة مجموع الكلام والجملة وضعا نوعيّا) غير محتاج إليه في الجمل الفعليّة بعد وضع الفعل بمادّته للحدث الكذائيّ وبهيئته لنسبة ذلك الحدث إلى الفاعل بأحد أنحاء النسب من الوقوعيّ أو الإيقاعيّ أو غيرهما ولكن أورد عليه في منتهى الاصول [تبعا للمحقّق العراقي في بدائع الأفكار] بقوله ؛ وفيه أوّلا : أنّ هيئة الفعل لا تدلّ على أزيد من انتساب الفعل إلى فاعل ما وأمّا تعيين الفاعل لهذا الفعل فليس إلّا مفاد نفس هيئة الجملة لا هيئة الفعل ، إن قلت : التعيين بواسطة ذكر زيد مثلا بعد ضرب ، قلت : إنّ لفظة زيد من الجوامد وليس له إلّا وضع واحد شخصيّ للهيكل الفلانيّ وأمّا أنّه فاعل لضرب أو غيره من الأفعال فلا يدلّ عليه قطعا والرفع على تقدير دلالته لا يدلّ إلّا على أنّه فاعل مع أنّه لازم أعمّ ولا يدلّ على أنّه فاعل لهذا الفعل الخاصّ فانتساب الفعل إلى هذا الفاعل الخاصّ ليس إلّا مفاد هيئة نفس الجملة. وثانيا : أنّه ما الفرق بين هيئة ضرب وهيئة ضارب وكما أنّ هيئة ضرب موضوعة لاستناد الفعل إلى فاعل ما ، غاية الأمر بالنسبة الصدوريّة الوقوعيّة في

١٨٤

الزمان الماضي فكذلك الهيئة في نحو ضارب موضوعة لاستناد الحدث إلى ذات ما بالنسبة القياميّة فإذا كانت هيئة ضرب من جهة وضعها مغنية عن وضع هيئة الجملة فلتكن كذلك هيئة ضارب وأمثالها من الأسماء الجارية مجرى الأفعال (مع أنّ المفصّل اعترف بوضع الهيئة في الجمل الاسميّة). وثالثا : إنّ لهيئة الجملة ربما يكون بعض الإفادات التي لا ربط لها بهيئة الفعل أصلا وذلك كتقديم ما حقّه التأخير فإنّه يفيد الحصر مع أنّ هيئة الفعل لا تتغيّر بالتقديم والتأخير أصلا. (١)

والأولى هو أن يجاب عن المفصّل بأنّ في مثل ضرب زيد إن لوحظ ضرب مع زيد فهو جملة وله هيئة تدلّ بهيئته على المعنى التصديقيّ وإن لم يلحظ مع زيد فهو ليس إلّا كالمصدر ، ومن المعلوم أنّ المصدر حاك عن فعل منتسب إلى فاعل ما وهو معيار الفرق بين اسم المصدر ونفس المصدر فإنّ حاصل المصدر من دون ملاحظة الفاعل هو اسم المصدر ومع ملاحظته هو المصدر وكيف كان فالمصدر وما يلحق به لا يفيد المعنى التصديقيّ ولا يكفي بنفسه للارتباط ولذا يحتاج في مثل زيد عدل إلى الهيئة للارتباط كما اعترف به المفصّل وعليه فلا يكفي المفرد ولو كان مصدرا أو ملحقا به عن وضع الهيئة فلا فرق في الجمل بين كونها اسميّة أو فعليّة في الحاجة إلى الهيئة لإفادة المعاني التصديقيّة.

ثمّ إنّ وضع هيئة المركّبات وضع نوعيّ كما أنّ المفردات تكون موضوعة بموادّها وهيآتها وضعا نوعيّا إن كانت مشتقّات كالأفعال والأسماء المشتقّة كاسم الفاعل والمفعول وصيغ المبالغة وصفات المشبهة ونحوها من دون فرق في ذلك بين موادّها وهيآتها لأنّ ملاك الوضع النوعيّ موجود في كليهما إذ الهيئة كما لا يمكن أن تلاحظ مستقلّة بدون كونها في ضمن مادّة كذلك لا يمكن لحاظ المادّة مستقلّة بدون كونها في

__________________

(١) منتهى الاصول ١ / ٣٩.

١٨٥

ضمن هيئة وكما يمكن أن تلاحظ نفس المادّة المتهيّئة بهيئة من دون نظر إلى تلك الهيئة كذلك يمكن أن تلاحظ الهيئة في ضمن مادّة من دون نظر إلى تلك المادّة. والحاصل : أنّ الوضع النوعيّ لا اختصاص له بالهيئة بل يجري بالنسبة إلى الموادّ في المشتقّات أيضا.

وممّا ذكر يظهر أيضا ما في كلام المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره من أنّ التحقيق أنّ جوهر الكلمة ومادّتها أعني الحروف الأصليّة المترتّبة الممتازة عن غيرها ذاتا أو ترتيبا أمر قابل للحاظ الواضع بنفسه فيلاحظ بوحدته الطبيعيّة وتوضع لمعنى بخلاف هيئة الكلمة فإنّ الزنة لمكان اندماجها في المادّة لا يعقل أن تلاحظ بنفسها لاندماجها غاية الاندماج في المادّة فلا استقلال لها في الوجود اللحاظيّ كما في الوجود الخارجيّ كالمعنى الحرفيّ لا يمكن تجريدها ولو في الذهن عن الموادّ فلذا لا جامع ذاتيّ لها كحقائق النسب فلا محالة يجب الوضع لأشخاصها بجامع عنوانيّ كقولهم كلّما كان على زنة فاعل وهو معنى نوعيّة الوضع أيّ الوضع لها بجامع عنوانيّ لا بشخصيّتها الذاتيّة أو المراد أنّ المادّة حيث يمكن لحاظها فقطّ فالوضع شخصيّ والهيئة حيث لا يمكن لحاظها فقطّ بل في ضمن مادّة فالوضع لها يوجب اقتصاره عليها فيجب أن يقال هيئة فاعل وما يشبهها. وهذا معنى نوعيّة الوضع أي لا لهيئة شخصيّة واحدة بوحدة طبيعيّة بل لها ولما يشبهها. فتدبّر (١).

لما عرفت من أنّ الوضع في المادّة والهيئة كليهما نوعيّ ولا اختصاص للنوعيّة بالهيئة أو المادّة وحديث الاندماج لا يختصّ بالهيئة إذ المادّة المستعملة أيضا مندمجة في الهيئة فلا وجود لها بدون هيئة من الهيئات وإلّا لم تكن مادّة مستعملة والقول بأنّ جوهر الكلمة ومادّتها أعني الحروف الأصليّة أمر قابل للحاظ الواضع بنفسه منظور

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٣٨.

١٨٦

فيه لأنّ ما كان قابلا للحاظ الواضع فهو حينئذ ليس مادّة مستعملة فلا معنى له وما كانت مستعملة فلا استقلال لها في الوجود اللحاظيّ حتّى يكون قابلة للملاحظة فالتفرقة بين المادّة المستعملة والهيئة المستعملة لا وجه لها.

ثمّ انقدح بما ذكرناه أنّ الدوالّ على المعاني التصديقيّة هي الهيئات القائمة على المركّبات فقطّ ولا مدخليّة لموادّ المركّبات والهيئات العارضة على موادّها وعليه فالدالّ على المعنى التصديقيّ هو الهيئة القائمة على المركّبات فقطّ دون مجموع هذه الهيئة وموادّ المركّب المفردة وهيآتها بحيث يكون زيد في زيد قائم جزء الدالّ ، إذ موادّ المركّب والهيئات العارضة على موادّ المركّب المفردة لا تدلّ إلّا على المعاني التصوّريّة لا المعاني التصديقيّة فلا دخل لها في المعاني التصديقيّة فانضمامها كالحجر في جنب الإنسان.

هذا مضافا إلى ما نقل عن ابن مالك في شرح المفصّل من أنّ المركّبات لو كان لها وضع لما كان لنا أن نتكلّم بكلام لم نسبق إليه إذ المركّب الذي أحدثناه لم يسبق إليه أحد وهذا المؤلّف لم يكن موجودا عند الواضع فكيف وضعه الواضع انتهى. (١)

قال في تهذيب الاصول هذا الإيراد وارد على الوضع للمجموع من الهيئة القائمة على المركّب وموادّه وهو كلام متين صدر عن أديب بارع. توضيحه أنّ الجمل الاسميّة وإن كانت تشترك في الهيئة ولكنّها مختلفة بحسب المادّة والوضع النوعيّ إنّما يتصوّر في الهيئات فقطّ لوحدتها النوعيّة لا بالنسبة إلى المجموع منها ومن الموادّ لعدم حصر الموادّ وتنوّعها جدّا مثل قيام زيد وقعود عمرو وهلمّ جرّا وليس هناك جامع واحد وعنوان نوعيّ تجتمع الموادّ تحته كي يشار به إليها كما يوجد في الهيئات فلو كان الموضوع هو المجموع لزم الالتزام بوضع كلّ جملة جملة وضعا شخصيّا وهو

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ٥٣.

١٨٧

مع امتناعه عادة يستلزم القول بأنّ الجمل التي أحدثها المتكلّم من الموادّ المختلفة غير موضوعة. (١)

وعليه فالمردود هو الوضع الرابع وهو وضع الهيئة القائمة على المركّبات مع موادّ المركّب والهيئات القائمة على موادّ المركّب. وأمّا الوضع الثالث وهو وضع الهيئة القائمة على المركّبات فقطّ فهو أمر يشهد به وجدان كلّ ذي لغة فلا تغفل.

* * *

الخلاصة

١ ـ إنّ المركّبات لها هيئة اخرى وراء هيآت مفرداتها تدلّ باعتبارها على معان تصديقيّة وهي غير مداليل المفردات كزيد وقائم في زيد قائم فإنّ المفردات مع قطع النظر عن هيئة القضيّة المركّبة التامّة لا تدلّ إلّا على المعاني التصوّريّة ومفاد القضيّة المركّبة التامّة هو الهوهويّة التصديقيّة كزيد هو القائم والقائم هو الزيد أو النسب التصديقيّة في مثل القضايا الشرطيّة كالحكم بترتّب وجود النهار على طلوع الشمس في مثل قولهم «إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود.»

أو الفوائد الخاصّة كحصر الموضوع في المحمول أو بالعكس ومثل قولنا إنّما زيد قائم أو إنّما قائم زيد أو غير ذلك من المعاني التصديقيّة التي لا تدلّ عليه المفردات مع قطع النظر عن الهيئة التركيبيّة وخصوصيّاتها وهو شاهد على كون هذه الامور مستفادة من هيئة المركّبات التامّة وعليه فدعوى الوضع الآخر لهيئة المركّبات بما هي زائدة على مفرداتها مادّة وهيئة لإفادة المعاني التصديقيّة أمر يشهد له الوجدان السليم ومن الممتنع عادة عدم وضع لفظ لتلك المعاني التصديقيّة في اللغات الرائجة في

__________________

(١) نفس المصدر

١٨٨

أقطار الأرض مع كثرة الابتلاء بها.

٢ ـ إنّ الهيئات المفيدة للمعاني التصديقيّة قائمة على المركّبات وليست متّحدة مع هيئة المفردات لأنّ هيئة المفردات قائمة بموادّها وهيئة المركّبات قائمة بالمجموع فاختلاف المحلّ شاهد على اختلاف الهيئتين.

فهيئة المركّبات غير هيئة المفردات واختلافهما يوجب اختلاف المداليل فمداليل المفردات بمادّتها وهيأتها هي مداليل تصوّريّة بخلاف مداليل هيئة المركّبات فإنّها مداليل تصديقيّة فلكلّ وضع على حدة فلا يكفي وضع كلّ واحد منهما عن الآخر.

٣ ـ ممّا ذكر يظهر أنّ المراد من هيئة المركّبات هيأتها القائمة على القضيّة المركّبة دون موادّ المفردات والهيئات المختصّة بها وعليه فلا وجه لتفسير هيئة المركّبات بهيئة مجموعها من الموادّ وهيآت المفردات والهيئات القائمة على القضيّة المركّبة بمعنى أنّ لقضيّة زيد قائم وضعا آخر يكون لفظ زيد بمنزلة جزء الكلمة في ذلك الوضع إذ وجدان كلّ أحد يشهد ببطلان هذا الكلام مضافا إلى لزوم اللغويّة والتكرار.

فهيئة المركّبات العارضة على القضيّة المركّبة أمر وراء وضع المفرد وهيئته ولا يستغنى عنها إذ وضع المفردات وهيأتها لا يفي بصدق القضيّة التامّة التي يصحّ السكوت عليها لأنّ معاني المفردات معان تصوّريّة وتعدّد المعاني التصوّريّة لا يستلزم القضيّة التامّة التي يصحّ السكوت عليها.

فتحصّل أنّ في المركّبات أوضاعا متعدّدة أحدها وضع المفردات بمادّتها وضعا شخصيّا إن كانت من الجوامد ووضعا نوعيّا إن كانت من المشتقّات وثانيها وضع هيآت المفردات وضعا نوعيّا وثالثها وضع هيآت المركّبات علاوة على وضع المفردات بمادّتها وهيأتها المختصّة بالمفردات وهي التي تفيد المعاني التصديقيّة.

٤ ـ ولا يخفى عليك أنّ الأوضاع الثلاثة المذكورة في القضايا لا تختصّ بالقضايا الخبرية كزيد قائم بل هي محقّقة في القضايا الإنشائيّة كقولنا اضرب زيدا إذ لا وجه

١٨٩

له بعد كون اضرب مركّبا من الفعل والفاعل وليس بمفرد وهو بعث للمخاطب نحو الضرب ويكون في قوّة أن يقال أبعثك نحو الضرب فالقضيّة مركّبة تامّة لصحّة السكوت عليها كما لا وجه لتخصيصها بالقضايا الاسميّة لأنّ قولنا ضرب زيد إن لوحظ كلّ جزء منه منحازا عن جزء آخر فهو ليس بجملة تامّة ولا يصحّ السكوت عليه وإن لوحظ كلّ جزء منه مرتبطا مع الآخر فهو جملة تامّة كالجملة التامّة الاسميّة ولا فرق بينهما في إفادة المعاني التصديقيّة التي توجب صحّة السكوت عليها.

* * *

١٩٠

الأمر السابع : علائم الحقيقة والمجاز

ولا يخفى عليك أنّ الاصوليّين لمّا فرغوا من بيان حقيقة الوضع وأقسامه وأنواعه وفروعه وتوابعه وحقيقة المجاز شرعوا في بيان أمارات الحقيقة والمجاز عند عدم العلم بالحال وذكر المتقدّمون منهم أمارات كثيرة ولكن اكتفى المتأخّرون على تعداد منها كالتبادر وعدمه وصحّة السلب وعدمها والاطّراد وعدمه وتركوا جملة اخرى من الأمارات والطرق مع أنّ بعضها كان مورد اعتناء بعض الفحول فينبغي أن نذكر ما ذهب إليه بعض الفحول من الأصحاب حتّى يتأمّل حول كلامهم حقّ التأمّل ولعلّه يوجب ازدياد بصيرة بالنسبة إلى الطرق والعلامات للحقيقة والمجاز.

وإليك هذه الطرق والأمارات :

الأوّل : تنصيص الواضع

وهو أن ينصّص الواضع بالوضع أو بلوازمه وبنفيه أو نفي لوازمه ، ذهب إليه صاحب هداية المسترشدين ولعلّه لا كلام فيه مع التنصيص المذكور.

لا يقال : إنّ هذا نادر. لأنّا نمنع ذلك في أسماء الأشخاص إذ كثيرا ما تعرف بتنصيص الواضعين كالآباء بالنسبة إلى أبنائهم وبناتهم ومسئولي المدينة بالنسبة إلى أسامي

١٩١

الشوارع والأزقّة والمخترعين بالنسبة إلى ما اخترعوه والمكتشفين بالنسبة إلى ما اكتشفوه بل نمنع ذلك أيضا في أسماء الأجناس لأنّ المخترعين والمكتشفين والمولّدين كثيرا ما يسمّون ما يسمّون بعنوان اسم الجنس لا بعنوان الشخص لعدم اختصاص بشخص دون شخص ولكن هذه العلامة تفيد في المحاورات العرفيّة وأمّا بالنسبة إلى ألفاظ الكتاب والسنّة فلا مورد لها.

قال في منتهى الاصول : وأمّا ما ذكروه من أنّ إحدى العلامات للحقيقة والمجاز هو تنصيص الواضع فإن كان فيما إذا حصل من قوله العلم بالوضع فهو وإلّا ليس لنا دليل على حجّيّة قوله مضافا إلى أنّ هذا صرف فرض في زماننا بالنسبة إلى الألفاظ التي هي محلّ ابتلائنا في استنباط الأحكام. (١)

وفيه أنّ الوضع فعل الواضع وهو أعرف به عن غيره فإذا أخبر عنه كان إخباره حجّة عليه عند العقلاء ولو لم يفد العلم وربما اكتفي في الشرع بإخبار من لم يعلم بأمره إلّا من طريقه كإخبار المرأة بكونه حائضا أو غير حائض. وأمّا أنّه صرف فرض فهو صحيح بالنسبة إلى نفس الأحكام وأمّا بالنسبة إلى بعض موضوعات الأحكام كباب الأقارير والمعاملات والوصايا لم يكن كذلك فإذا أقرّ شخص مثلا بأمر شكّ في معناه ونصّ الواضع الموجود بأنّ هذا اللفظ موضوع للمعنى الكذائيّ ثبت ذلك المعنى بإخباره وتنصيصه فلا تغفل.

الثاني : النقل المتواتر

الوضع ربما نقل بنحو التواتر او ما يكون بمنزلته وهو كلّ شيء يوجب العلم بمعناه الحقيقيّ كالمحفوف بالقرائن القطعيّة والشياع المفيد للعلم ولا إشكال في اعتباره وإنّما

__________________

(١) منتهى الاصول : ١ / ٤٣.

١٩٢

المناقشة في وجوده ولكنّه لا وقع لها بعد ملاحظة أنّ كثيرا من الألفاظ تكون كذلك ، كلفظة الماء والتراب والبرد والحرّ والجنّ والإنس وغير ذلك ولعلّه لذلك قال في هداية المسترشدين وحجّيّة ذلك ظاهرة إلّا أنّه قد يناقش في وجوده ويدفعه بملاحظة الوجدان. انتهى (١)

يمكن أن يقال حيث أنّ الاكتفاء بالنقل المتواتر ليس من باب نقل التبادر عند المستعملين وإلّا يرجع إلى علامة التبادر بل من جهة نقلهم عن كيفيّة وضعه بحيث صارت حدود المعاني واضحة كان ذلك نادرا إذ الكثير هو المعنى الإجماليّ لا التفصيليّ ولذا يكون لها موارد مشكوكة من جهة الشكّ في حدود المفاهيم نعم في مثل الأعلام وأسامي الأشخاص يتمّ هذه الدعوى وليس بنادر كما لا يخفى.

الثالث : تنصيص أهل اللغة

وهو أن ينصّص اللغويّ في لفظ على أنّ معناه الحقيقيّ كذا أو كذا إذا كان خبرة لذلك مع سلامته عن المعارض.

قال العلّامة الحلّيّ قدس‌سره : ويعلم كون اللفظ حقيقة أو مجازا بالنصّ من أهل اللغة.

انتهى (٢)

وقال الشيخ الطوسيّ : والفصل بين الحقيقة والمجاز يقع من وجوه : منها : أن يوجد نصّ من أهل اللغة أو دلالة على أنّه مجاز (٣). قال في الفصول : وهذا ممّا لا يعرف فيه خلاف (٤) ولعلّ الدليل عليه هو كونه من أهل الفنّ على الفرض والرجوع إليه ممّا

__________________

(١) هداية المسترشدين / ٤١.

(٢) مبادئ الاصول : ٧٤.

(٣) عدّة الاصول : ١٦٥.

(٤) الفصول ، فصل يعرف كل من الحقيقة والمجاز بعلامات / ٢٥ ط ١٢٨٦.

١٩٣

عليه بناء العقلاء وعليه فلا حاجة إلى الاستدلال بالانسداد.

قال في هداية المسترشدين : ويدلّ على حجّيّته عموم البلوى باستعلام اللغات وعدم حصول الغناء عنها مع انسداد طريق القطع في كثير منها فلا مناص من الأخذ بالظنّ فيها وجريان الطريقة من الأوائل والأواخر على الاعتماد على نقل اللغة والرجوع إلى الكتب المعتمدة المعدّة لذلك من غير نكير فكان إجماعا من الكلّ والقول بعدم إفادة كلامهم للظنّ لاحتمال ابتنائه على بعض الاصول الفاسدة كالقياس في اللغة أو لعدم التخريج عن الكذب لبعض الأغراض الباطلة مع انتفاء العدالة عنهم في الغالب وفساد مذهب أكثرهم فاسد بشهادة الوجدان. والدواعي على التخريج عن الكذب قائمة غالبا سيّما في الكتب المتداولة لو لا قيام الدواعي الإلهيّة نعم لو فرض عدم إفادته للظنّ لقيام بعض الشواهد على خلافه فلا يعوّل عليه وربما يناقش في حجّيّة الظنّ في المقام لأصالة عدمها وعدم وضوح شمول أدلّة الخبر الواحد لمثله وضعفه ظاهر ممّا عرفت مضافا إلى أنّ حجّيّة الأخبار الآحاد في الأحكام مع ما فيها من وجوه الاختلال وشدّة الاهتمام في معرفتها يشير إلى حجّيّتها في الأوضاع بطريق أولى. (١)

وفيه مواقع للنظر :

منها : أنّ الرجوع إلى اللغويّ من باب كون اللغويّ من أهل الخبرة لا من باب الانسداد وإلّا فمع وجود التبادر وغيره من سائر العلائم والطرق لا انسداد كما لا يخفى.

لا يقال : إنّ اللغويّ ليس من مهرة فنّ تشخيص الحقيقة عن المجاز بل هو خبرة موارد الاستعمال. (٢) لأنّا نقول : فرض الكلام فيما إذا كان اللغويّ خبيرا بموارد الحقيقة

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٤١.

(٢) منتهى الاصول ٢ / ٨٥.

١٩٤

والمجاز وأخبر عنه ولا ينافي ذلك كونه خبرة موارد الاستعمال أيضا. والذي ينبغي أن يحمل كلام الشيخ والعلّامة عليه هو ذلك. اللهمّ إلّا أن يقال إنّ خبرويّة اللغويّ بموارد الحقيقة والمجاز نادرة.

ومنها : أنّ الرجوع إلى اللغويّ من باب الأخبار الآحاد.

يرد عليه أوّلا : أنّ حجّيّة الأخبار الآحاد في الموضوعات مقيّدة بالتعدّد والعدالة بمثل موثّقة مسعدة بن صدقة : الأشياء كلّها على ذلك حتّى تستبين أو تقوم بها البيّنة ، فيشترط في قبوله التعدّد والعدالة (١) وبقوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الآية وغير ذلك. اللهمّ إلّا أن يقال لا وجه لتقييد حجّيّة الأخبار الآحاد في الموضوعات بمثل الموثّقة لاحتمال أن يكون المقصود من البيّنة هو معناها اللغويّ لا معناها الاصطلاحيّ. فمقتضى إطلاق الأخبار هو حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات إلّا ما خرج بالدليل كمورد الشهادة فتأمّل كما أنّه لا وجه لتقييدها بالعدالة لما قرّر في محلّه من أنّ دليل اعتبار الأخبار هو بناء العقلاء وهو يثبت حجّيّة خبر الثقات. وثانيا : أنّ إخبار العدل الواحد عن مورد الحقيقة لا يخلو إمّا أنّه إخبار عن تبادره عند نفسه أو عند غيره وكلاهما محلّ نظر لأنّ الأوّل لا يكون حجّة لغيره والثاني وإن كان حجّة لغيره ولكن لا حاجة إليه بعد كون المعنى عند السامع متبادرا. نعم لو كان الغير مستعلما ولم يطّلع عن تبادره عند المستعملين فأخبر العادل بذلك كان نافعا في حقّه لإثبات التبادر به ولكنّ العلامة حينئذ ليست هو الإخبار بل هو المخبر عنه وهو التبادر كما لا يخفى. نعم لو كان الإخبار عن وضع الواضع كما إذا كان حاضرا في مجلس الوضع وأخبر فهو مفيد ولكنّه نادر جدّا فحجّيّة قول اللغويّ من باب خبر العادل في معنى اللفظ تؤول إلى إثبات التبادر تعبّدا بإخباره أو إثبات الاستعمال المجرّد عن

__________________

(١) نفس المصدر

١٩٥

القرينة لإثبات الحقيقة كما سيأتي إن شاء الله تعالى البحث عنه ، فإخباره يرجع إلى إثبات التبادر عند المستعملين أو إثبات الاستعمال المجرّد وليس وجها آخر. هذا بخلاف ما إذا كانت حجّيّة قول اللغويّ من باب كونه من أهل الخبرة فإنّه بقوله يثبت معناه الحقيقيّ لحجّيّة قوله عند العقلاء فيما رآه. وكيف كان فقول اللغويّ الماهر فيما إذا أخبر عن الحقيقة حجّة في الجملة كما ذهب إليه الشيخ والعلّامة. نعم يمكن المناقشة في وجوده.

تعارض الأقوال

ثمّ لا يخفى عليك بناء على تماميّة حجّيّة قول اللغويّ وتنصيصه إنّما هي فيما إذا لم يعارض قوله مع غيره وإلّا ففي الفصول أنّه إن أمكن الجمع تعيّن وإلّا فإن كان التعارض بين النفي والإثبات تعيّن القول بالإثبات ما لم يعتضد الآخر بما يترجّح به عليه لأنّ مرجع الإثبات إلى الاطّلاع ومرجع النفي إلى عدم الاطّلاع غالبا وإلّا فالتعويل على ما كان الظنّ معه أقوى كالمعتضد بالشهرة أو بأكثريّة اطّلاع نقلته أو حذاقتهم أو نحو ذلك.

وأمّا إن تعارض أقوال اللغويّين من دون ترجيح فالحكم هو التساقط كما هو مقتضى القاعدة في تعارض الأمارات والطرق مع قطع النظر عن التعبّد الخاصّ اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ التساقط فيما إذا كان المقصود من الأمارات هو إدراك الواقع وأمّا إذا كان المقصود هو الأخذ بالحجّة فالحكم هو التخيير ولذا قلنا في محلّه إنّ مفاد أدلّة اعتبار الفتاوى غير مفاد أدلّة اعتبار الأخبار فإنّ المقصود في الثاني هو الأخذ بجميعها لإدراك الواقع بخلاف المقصود في الأوّل إذ الأخذ بجميع الفتاوى ليس واجبا بل الواجب هو الأخذ بفتوى واحد بالنسبة إلى الأحكام لتحصيل الحجّة وهو حاصل بأخذ البعض فنفس أدلّة اعتبار الفتاوى يدلّ من أوّل الأمر على الحجّيّة التخييريّة

١٩٦

وهكذا نقول في أدلّة حجّيّة أهل الخبرة في اللغات فإنّ المقصود منها هو الأخذ بواحد منهم لا الأخذ بجميعهم فمفاد أدلّة حجّيّة أهل الخبرة في اللغات هو الحجّيّة التخييريّة فإذا لم يكن ترجيح بين الأقوال المتعارضة فالحكم هو التخيير في الأخذ بأيّ طرف منها فتدبّر جيّدا.

هذا كلّه إذا كان الرجوع إلى اللغويّ من باب كونه من أهل الخبرة وأمّا إذا كان الرجوع إليه من باب الأخبار الآحاد فمقتضى القاعدة فيه بعد عدم شمول أدلّة المرجّحات لاختصاصها بالأخبار الواردة عنهم في الأحكام هو التساقط في الموارد المتعارضة لما مرّ من أنّ المقصود من أدلّة حجّيّة الأخبار واعتبارها هو الأخذ بجميعها فلا تغفل.

كلام صاحب الفصول

ثمّ لا يخفى عليك أنّه قيّد في الفصول حجّيّة قول اللغويّ بقيد آخر وهو أنّه حجّة إذا لم يكن طريق إلى معرفة حقائق الألفاظ ومجازها بخلاف الموارد التي يمكن معرفة حقيقتها ومجازها بالرجوع إلى العرف وتتبّع موارد استعماله حيث يعلم أو يظنّ عدم النقل (أي النقل عن معناه الأصليّ إلى المعنى المجازيّ) فلا سبيل إلى التعويل فيه على النقل (أي نقل اللغويّ) ومن هذا الباب أكثر مباحث الألفاظ المقرّرة في هذا الفنّ كمباحث الأمر والنهي والعامّ والخاصّ ولهذا ترونهم يستندون في تلك المباحث إلى غير النقل (اى نقل اللغويّ) والسرّ في ذلك أنّ التعويل على النقل (أي نقل اللغويّ) من قبيل التقليد وهو محظور عند التمكّن من الاجتهاد ولأنّ الظنّ الحاصل منه أضعف من الظنّ الحاصل من غيره كالتبادر وعدم صحّة السلب بل الغالب حصول العلم به فالعدول عنه عدول عن أقوى الأمارتين إلى أضعفهما وهو باطل. انتهى

وفيه أنّ ما ذكر يتمّ فيما إذا فحص وتحقّقت الأمارة الأقوى وأمّا مع عدم الفحص

١٩٧

وعدم تحقّقها بجهة من الجهات فلا مانع من الرجوع إلى الخبرة في تشخيص الحقيقة عن المجاز ولذا نقول بجواز التقليد لمن تمكّن من الاجتهاد ولكن لم يجتهد بداع من الدواعي بخلاف من اجتهد فإنّه لا يجوز له التقليد كما لا يخفى. هذا مضافا إلى أنّ التقليد فيما إذا كان قول اللغويّ حجّة من باب كونه خبرة تشخيص موارد الحقيقة عن المجاز وأمّا إذا كان حجّيّة ذلك من باب الأخبار الآحاد فلا يكون تقليدا بل قوله حجّة على وجود التبادر أو غيره من العلائم كنقل الإجماع المحصّل ولا فرق بين التبادر الذي علمه والتبادر الذي قام الحجّة عليه فلا تغفل وبالجملة لا نسلّم التقييد بذلك بل يجوز الرجوع إليه مطلقا سواء كان حجّيّته من باب كونه من مهرة الفنّ أو من باب الأخبار الآحاد نعم لو تفحّص وأحرز المعنى بالتبادر ونحوه من العلائم فلا مجال للرجوع إلى اللغويّ لعدم الحاجة إليه حينئذ كما لا يخفى.

الرابع : الاستعمال

والمراد من الاستعمال المذكور هو الاستعمال المجرّد عن قرائن المجاز ، فإذا رأينا لفظا استعمل في المحاورات العرفيّة في معنى من دون ضمّ قرينة إليه كان ذلك شاهدا على أنّ معناه هو ذلك فإن لم نحتمل النقل فنحكم بكونه موضوعا له وأمّا مع احتمال ذلك فنحكم به بضميمة أصالة عدم النقل الذي هو قد يعبّر عنه بالاستصحاب القهقرائيّ. ولا فرق فيما ذكر بين كون موارد استعماله متّحدا أو متعدّدا فلو كان التجرّد المذكور بالنسبة إلى معنيين أو المعاني كما إذا رأينا لفظا استعمل في معنيين أو المعاني من دون قرائن المجاز كالمشابهة كان ذلك علامة كون المعنيين أو المعاني هي معانيه الحقيقيّة بنحو الاشتراك ولا ضير في احتياج اللفظ حينئذ إلى القرينة المعيّنة لتشخيص المشتركات فإنّها ليست قرينة المجاز كما لا يخفى والعجب من صاحب منتهى الاصول حيث نسب ذلك إلى قول القيل حيث قال : وأمّا صحّة استعمال اللفظ في معنى بلا

١٩٨

عناية وتكلّف مراعاة العلاقة ونصب القرينة فقد قيل بأنّها أيضا من أمارات الحقيقة. (١) مع أنّه ممّا ذهب إليه بعض الفحول وادّعي عليه الإجماع في الجملة وهو الظاهر من هداية المسترشدين بعد التفصيل بين اتّحاد المعنى وتعدّده واختيار ذلك في الصورة الاولى حيث قال فيه : ولا كلام ظاهرا في تحقّق الدلالة المذكورة في الجملة وقد حكى الإجماع عليه جماعة من الأجلّة منهم العلّامة في النهاية وقد يستفاد من كلام السيّد في الذريعة أيضا ويدلّ عليه بعد ذلك جريان طريقة أئمّة اللغة ونقلة المعاني اللغويّة على ذلك فعن ابن عباس الاستناد في معنى «الفاطر» إلى مجرّد الاستعمال وكذا عن الأصمعيّ في معنى «الدهاق» وكذا الحال فيمن عداهم فإنّهم لا زالوا يستشهدون في إثباتها إلى مجرّد الاستعمالات الواردة في الأشعار وكلمات العرب ويثبتون المعاني اللغويّة بذلك ولا زالوا ذلك ديدنا لهم من قدمائهم إلى متأخّريهم كما لا يخفى على من له أدنى خبرة بطريقتهم وأنّ ظاهر الاستعمال قاض بإرادة الموضوع له بعد تعيّنه والشكّ في إرادته بغير خلاف فيه كما مرّت الإشارة إليه وذلك قاض بجريان الظهور المذكور في المقام إذ لا فرق في ذلك بين العلم بالموضوع له والجهل بما وضع لاتّحاد المناط في المقامين وهو استظهار أن يراد من اللفظ ما وضع بإزائه من غير أن يتعدّى في اللفظ عن مقتضى وضعه إلّا أن يقوم دليل عليه. مضافا إلى ما في المجاز من كثرة المؤن لتوقّفه على الوضع والعلاقة والقرينة الصارفة والمعيّنة بل ويتوقّف على الحقيقة على ما هو الغالب وإن لا يستلزمه على التحقيق. فإن قلت : إنّ مجرّد وجدان اللفظ مستعملا في معنى كيف يدلّ على كونه حقيقة فيه مع احتمال كونه مستعملا في معان عديدة غير المعنى المفروض ومجرّد أصالة العدم لا يفيد ظنّا به وليس الأمر في المقام مبنيّا على التعبّد ليؤاخذ فيه بمجرّد الأصل. قلت : فيه بعد ما عرفت من الوجه في

__________________

(١) منتهى الاصول : ١ / ٤٣.

١٩٩

ظهور الاستعمال في الحقيقة القاضي بكون المستعمل فيه معنى حقيقيّا حتّى يتبيّن أنّ هناك معنى آخر استعمل اللفظ فيه أنّه ليس المراد هو الحكم بالحقيقة بمجرّد ما يرى في بادئ الرأي من استعمال اللفظ في معنى مخصوص من دون خبرة بسائر استعماله بل المقصود هو الحكم بها بعد ملاحظة استعمالاته المعروفة وانحصار الأمر فيما يحتمل الوضع له من مستعملاته لو فرض استعماله في غيره أيضا في المعنى المفروض لبعد وجود معنى آخر غيره يكون اللفظ موضوعا بإزائه ممّا لا يوجد في الاستعمالات المعروفة ولا يكون له عين ولا أثر في الإطلاقات المتداولة. انتهى (١).

هذا كلّه بالنسبة إلى ما إذا كان المستعمل فيه واحدا.

تفصيل هداية المسترشدين

وأمّا إذا كان المستعمل فيه متعدّدا فقد عرفت أنّ الاستعمال المجرّد فيه أيضا علامة الحقيقة لوحدة الملاك فيهما ولا وجه للتفصيل بينهما ولكنّ الظاهر من كلام صاحب هداية المسترشدين هو التفصيل حيث قال بالنسبة إلى ما إذا كان المعنى متعدّدا : الثاني في بيان الأصل ممّا يتعدّد فيه المعنى مع قيام احتمال كونه حقيقة في الجميع أو فيما يزيد على المعنى الواحد والمشهور حينئذ كما عرفت عدم دلالة مجرّد الاستعمال على كونه حقيقة فيها وهو الأظهر ، إذ القدر الثابت حينئذ هو تحقّق الوضع لواحد منها فقضيّة الأصل حينئذ عدم تحقّق الوضع بالنسبة إلى ما عداه مضافا إلى أغلبيّة المجاز بالنسبة إلى الاشتراك وكونه أقلّ مئونة منه وذهاب الجمهور إلى ترجيحه عليه فيغلب في الظنّ البناء عليه. فإن قلت : أيّ فرق بين متعدّد المعنى ومتّحده في استظهار الحمل على الحقيقة مع أنّ عدّة الوجوه المذكورة لرجحان الحمل على الحقيقة في متّحد المعنى جار

__________________

(١) هداية المسترشدين / ٤٢.

٢٠٠