عمدة الأصول - ج ١

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

ذكر تعرف أنّ الوضع الثاني غير ناقض ولا مناقض للوضع الأوّل فإنّه إنّما يكون كذلك إذا كان الوضع جعل اللفظ علّة تامّة وإلّا فاللفظ باق على اقتضائه حتّى مع القرينة المعيّنة لمعنى آخر. انتهى موضع الحاجة من كلامه (١).

منها : أنّ الاشتراك يناقض حقيقة الوضع لأنّ الوضع اختصاص اللفظ بالمعنى ولازم اختصاص الشيء بالشيء هو حصره فيه وعليه يكون استعمال اللفظ الموضوع للمعنى منحصرا فيه وينحصر إراءته به وهذا المعنى ينافيه الاشتراك إذا انحصار اللفظ في المعنى الموضوع له يضادّ إراءته لمعنى آخر واستعماله فيه.

وفيه كما في المقالات أنّا نمنع اقتضاء الوضع للحصر جدّا إذ لا نعني من الوضع إلّا مجرّد جعل اللفظ بإزاء معنى وتعيينه له وهذا المعنى قابل للتحقّق بالنسبة إلى المعنيين أو أزيد غاية الأمر نتيجته صلاحيّته للإراءة بالنسبة إلى كلّ واحد فيحتاج فعليّته إلى قرينة شخصيّة وحيث أنّ بنفس هذا الجعل يخرج اللفظ من إطلاق قابليّته الإراءة بالنسبة إلى غير المجعول ينتزع نحو اختصاص حاصل بينهما. وهذا المعنى من الاختصاص لا يوجب حصر القالبيّة له بل ومع تعدّد الوضع يتحقّق للفظ أيضا نحو اختصاص بالإضافة إلى غير الموضوع له أوّلا ولئن شئت قلت هذا المقدار من الاختصاص لا يقتضي أزيد من صلاحيّة اللفظ للإراءة لا فعليّتها. (٢)

فمن سمّى ابنه باسم من الأسامي الرائجة لا يقصد منه هجر اللفظ عن أبناء غيره ممّن سمّاه به قبله بل غرضه اشتراك ابنه مع أبناء غيره في الاسم المذكور كما أنّ من سبقه في الاسم لا يقصد من وضع الاسم لابنه حصر اللفظ فيه بحيث ينافيه تسمية غيره ابنه بذلك الاسم وليس ذلك إلّا لعدم إفادة الوضع للحصر وإلّا فلا مجال

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ٨٥.

(٢) مقالات الاصول ١ / ٤٦.

٤٦١

للاشتراك إلّا بعد هجر اللفظ عن المعنى الذي وضع له أوّلا ومع عدم الهجر لا يصحّ إطلاقه إلّا مجازا وهو كما ترى. ومن المعلوم أنّ الأعلام المشتركة كلّها من هذا القبيل وهو شاهد على أنّ الألفاظ المشتركة في أسامي الأجناس كلفظ العين بالنسبة إلى الباصرة والجارية وغير ذلك أيضا تكون كذلك. ولا فرق في ما ذكر بين أن يكون الواضع متعدّدا أو واحدا وبين أن يكون الوضعان في مرتبة واحدة كما إذا عيّن كلّ واضع لفظا واحدا لمعنى غير معنى آخر في زمان واحد وبين أن يكونا مع التقدّم والتأخّر لأنّ الوضع في كلّ من هذه الموارد هو تعيين اللفظ للمعنى ولا يدلّ على حصره فيه وإن انتزع الحصر والاختصاص منه ما لم يعلم وضع آخر فلا تغفل.

منها : أنّ غرض الواضع هو تفهيم المعنى من دون حاجة إلى القرينة ، والاشتراك ينافي هذا الغرض إذ معه يحتاج إلى نصب القرينة للتفهيم ومن المعلوم أنّ الواضع الحكيم لا يناقض غرضه بالاشتراك.

أجاب عنه استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره بالمنع أوّلا إذ غرض الواضع من الوضع هو عدم الحاجة إلى قرينة المجاز لا قرينة معيّنة للموضوع له. وثانيا : أنّه لو سلّم ذلك كان لازمه هو عدم إمكان صدور الاشتراك من الواضع الواحد وأمّا إذا كان الواضع متعدّدا فلا وجه لمنع الاشتراك لجواز أن يضع كلّ واحد لفظا لمعنى مع الغرض المذكور من دون علم بوضع هذا اللفظ لمعنى آخر بسبب واضع آخر ومن المعلوم أنّ الاشتراك يتحقّق بوضعهما من دون قصدهما حتّى تحصل المناقضة.

منها : كما في المحاضرات أنّ الاشتراك ينافي الوضع بمعنى التعهّد والتباني لأنّ حقيقة الوضع على ما نراه التعهّد والالتزام النفسانيّ فلا يمكن الاشتراك بالمعنى المشهور وهو تعدّد الوضع على نحو الاستقلال في اللفظ الواحد والوجه في ذلك هو أنّ معنى التعهّد كما عرفت عبارة عن تعهّد الواضع في نفسه بأنّه متى ما تكلّم بلفظ مخصوص لا يريد منه إلّا تفهيم معنى خاصّ ومن المعلوم أنّه لا يجتمع مع تعهّده ثانيا بأنّه متى ما تكلّم

٤٦٢

بذلك اللفظ الخاصّ لا يقصد إلّا تفهيم معنى آخر يباين الأوّل ضرورة أنّ معنى ذلك ليس إلّا النقض لما تعهّده أوّلا أو فقل أنّ الوضع على ما ذكرناه عبارة عن ذلك التعهّد المجرّد عن الإتيان بأيّة قرينة وعليه فلا يمكن للواضع أن يجمع بين تعهدين كذلك أو أزيد في لفظ واحد فإنّ الثاني مناقض للأوّل ولا يجمع معه إلّا أن يرفع يده عن الأوّل ويلتزم ثانيا بأنّه متى ما تكلّم بذلك اللفظ الخاصّ يقصد منه تفهيم أحد المعنيين الخاصّين فالذي يمكن من الاشتراك هو هذا المعنى أعني به رفع اليد عن التزام الأوّل والالتزام من جديد بأنّه متى ما تكلّم بذلك اللفظ فهو يريد منه تفهيم أحد المعنيين على نحو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ نعم في مقام الاستعمال لا بدّ من نصب قرينة على إرادة تفهيم أحدهما بالخصوص فإنّ اللفظ غير دالّ إلّا على إرادة أحدهما لا بعينه فهذا المعنى نتيجة كالاشتراك اللفظيّ من ناحية تعدّد الموضوع له وكون استعمال اللفظ في كلّ واحد من المعنيين أو المعاني استعمالا حقيقيّا ومحتاجا إلى نصب قرينة معيّنة. نعم الفرق بينهما من ناحية الوضع فقطّ فإنّه متعدّد في الاشتراك بالمعنى المشهور والمتنازع فيه وواحد في الاشتراك على مسلكنا. فالنتيجة أنّ الاشتراك بالمعنى المعروف على مسلكنا غير معقول وعلى مسلك القوم لا بأس به نعم يمكن على مسلكنا ما تكون نتيجته نتيجة الاشتراك وهو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ولا مانع منه فإنّ الوضع فيه واحد ومحذور الامتناع إنّما جاء في تعدّد الوضع. (١)

وفيه أوّلا : أنّ مفاد الوضع بمعنى التعهّد والالتزام النفسانيّ ليس مفيدا لحصر اللفظ في معنى واحد حتّى لا يساعد الاشتراك لأنّ التعهّد والالتزام النفسانيّ كما صرّح به في الدرر هو أن يلتزم الواضع بأنّه متى أراد معنى وتعقّله وأراد إفهام الغير تكلّم بلفظ

__________________

(١) المحاضرات ١ / ٢٠٣ ـ ٢٠٢.

٤٦٣

كذا. (١) ومقتضاه هو حصر المعنى في اللفظ لا العكس فتفسير التعهّد بأنّه متى ما تكلّم بلفظ مخصوص لا يريد منه إلّا تفهيم معنى خاصّ أجنبيّ عن معنى التعهّد والتباني على ما عرفت من الدرر وصرّح به نفسه في أوّل الكتاب من المحاضرات (٢) حيث قال : حقيقة الوضع عبارة عن التعهّد بإبراز المعنى الذي تعلّق قصد المتكلّم بتفهيمه بلفظ مخصوص بناء على كون المراد من المخصوص في قوله : «بلفظ مخصوص» هو لفظ كذا من بين سائر الألفاظ لا اللفظ المختصّ بهذا المعنى.

وكيف كان فالتعهّد والتباني بالمعنى الذي في الدرر لا ينافي التعدّد لأنّ اللفظ لا يحصر في المعنى بل المعنى يكون محصورا في اللفظ فلا مانع من أن يحصر معنى آخر أو أزيد في ذلك اللفظ أيضا فيصير اللفظ الكذائيّ مشتركا بين المعاني المتعدّدة وإنّما المناقضة والتباين فيما إذا كان اللفظ محصورا في معنى خاصّ وهو ليس مستفادا من التعريف.

وثانيا : أنّه لو سلّم الحصر فهو محمول على الحصر الحقيقيّ ما لم يصدر عن الواضع تعهّد آخر بالنسبة إلى ذلك اللفظ وأمّا مع صدور التعهّد الآخر يحمل على الحصر الإضافيّ من دون مناقضة بينهما كما يجمع مثلا بين قولهم عليه‌السلام : لا صلاة إلّا بطهور. وبين قولهم : لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب. وغير ذلك من الموارد التي ورد فيها الحصر متعدّدا وعلى فرض صحّة الجمع بينهما بالحمل على الحصر الإضافيّ فلا مجال للقول برفع اليد عن الالتزام الأوّل ولزوم الالتزام ثانيا بنحو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

وثالثا : أنّ رفع اليد عن الالتزام الأوّل خلاف الوجدان ألا ترى أنّ الوضع في الأعلام الشخصيّة لا يكون كذلك. مثلا إذا أراد عمرو أن يسمّي ابنه باسم ابن صديقه

__________________

(١) الدرر / ٣٥ ط الجديد.

(٢) المحاضرات ١ / ٤٥.

٤٦٤

فهل هو نقض التزام صديقه ثمّ التزم بنفسه أن يكون الاسم المعهود اسما لأحدهما أو التزام هو أيضا بأن يكون اسم ابنه اسم ابن صديقه والوجدان يحكم بالثاني من دون حاجة إلى نقض الالتزام السابق وليس ذلك إلّا لكون الالتزام الأوّل قابل للجمع مع الالتزامات المتأخّرة. فاتّضح ممّا ذكر أنّ الوضع في الاشتراك متعدّد ويكون الوضع في الأعلام الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ وفي أسماء الأجناس الوضع العامّ والموضوع له العامّ كوضع العين للباصرة والجارية.

فتحصّل أنّه لا وجه لدعوى امتناع الاشتراك لما عرفت من ضعف الوجوه المذكورة وعليه فهو ممكن بل واقع كما يدلّ عليه عدم تبادر أحد المعاني في الأعلام الشخصيّة وفي مثل القرء والعين وغير ذلك. أو عدم صحّة السلب بالنسبة إلى معنيين أو أكثر أو نقل أهل الخبرة فإنّ قولهم كما يكون حجّة في وحدة المعنى كذلك يكون حجّة في تعدّد المعنى ووحدة اللفظ. ولعلّ مراد صاحب الكفاية من الاستدلال بالنقل هو ذلك لا نقل أهل اللغة. وممّا ذكر يظهر ما في تعليقة المشكينيّ قدس‌سره حيث قال : وأمّا النقل فلا لعدم دليل على حجّيّة قول اللغويّ ما لم يحصل منه قطع فالأولى للمصنّف ترك الاستدلال به.

وكيف كان فلا مجال للإنكار كما لا يخفى وإنّما الكلام في وجوب الاشتراك وعدمه فقد ذهب بعض إلى الوجوب :

دليل وجوب الاشتراك

ربما يستدلّ «للوجوب» بتناهي الألفاظ وعدم تناهي المعانى مع مسيس الحاجة إلى إبرازها في الروابط الاجتماعيّة فلا بدّ من الاشتراك.

أورد عليه في الكفاية بأنّ لازم الاشتراك في المعاني الغير المتناهية هو الأوضاع غير المتناهية وهي من الإنسان الممكن المتناهي محال ولو سلّم إمكانه بفرض الواضع

٤٦٥

واجبا فهو غير مجد إلّا في مقدار متناه. هذا مضافا إلى تناهي المعاني الكلّيّة وجزئيّاتها ومصاديقها وإن كانت غير متناهيّة إلّا أنّ وضع الألفاظ بازاء كلّيّاتها يغني عن وضع لفظ بإزاء الجزئيّات مع أنّ المجاز باب واسع فافهم.

وفيه : أوّلا كما أفاده استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره أنّ الممتنع هو الاشتراك الاصطلاحيّ من الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ وأمّا الاشتراك في المعانيّ غير المتناهية بنحو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ فلا يكون ممتنعا إذ بواسطة ملاحظة الجامع الحقيقيّ أو الانتزاعيّ يمكن الوضع لخصوص الآحاد والأشخاص غير المتناهية والمفروض هو عموميّة موضوع البحث في الاشتراك بحيث يشمل الاشتراك المذكور فإنّ النوع الثاني من الاشتراك وإن كان الوضع فيه واحدا ولكن الموضوع له متعدّد بعدد الآحاد والأفراد فاللفظ الموضوع بالاشتراك المذكور يكون موضوعا للمعاني المتعدّدة بعدد الآحاد والأفراد كاللفظ الموضوع بالاشتراك الاصطلاحيّ من دون فرق بينهما.

وثانيا : أنّ عدم التناهي المذكور في الاستدلال ليس هو عدم التناهي عقلا بل المراد هو عدم التناهي عرفا والوضع له حينئذ يكون مجديا لاحتمال احتياج الإنسان إليه فلا يصحّ نفي الحاجة إليه بقوله : ولو سلّم لم يكد يجدي إلّا في متناه ... إلخ.

وثالثا : كما أفاد استاذنا المحقّق الدّاماد قدس‌سره أنّ وسعة باب المجاز لا تجدي في رفع الحاجة بعد كون العلاقات المجازيّة أو المناسبات الطبيعيّة منحصرة ومتناهية فلا وجه لقوله : «مع أنّ المجاز باب واسع».

ورابعا : أنّ تناهي المعاني الكلّيّة كتناهي الأعلام الشخصيّة ممنوع ولذا قال في المقالات : ولا بعد في عدم التناهي في الأعلام الشخصيّة بعد جريان الديدن على عدم البناء في تفهيمها على إلقاء الكلّيّ بنحو الدالّين إذ حينئذ لا محيص من الاشتراك فيها. نعم إمكان إلقاء الكلّيّ وإراءة الخصوصيّة بدالّ آخر يمنع عن وجوب وقوع الاشتراك على الإطلاق مع قطع النظر عن الديدن المذكور كما أنّ في غير الأعلام الشخصيّة

٤٦٦

أمكن دعوى عدم التناهي بالنسبة إلى الماهيات المخترعة والمركّبات الاختراعيّة الاعتباريّة أو الحقيقيّة المزجيّة الخارجيّة. نعم في البسائط الخارجيّة وإن كانت من المركّبات التحليليّة العقليّة فضلا عن البسائط العقليّة أمكن دعوى تناهيها كتناهي الألفاظ لكنّ المفاهيم الكلّيّة غير مختصّة بالبسائط بل يشمل المركّبات والاختراعيّات وحينئذ حالها حال الأعلام الشخصيّة من لزوم الاشتراك بالنظر إلى الديدن وعدمه على الإطلاق لإمكان تفهيم كلّ مورد بالدالّين. (١)

أورد عليه (على الاستدلال للوجوب) في المحاضرات بمنع تناهي الألفاظ ولذلك ذهب إلى عدم وجوب الاشتراك مع اعترافه بعدم تناهي المعاني الكلّيّة. حيث قال : تناهي الألفاظ غير صحيح وذلك لأنّه يمكن لنا تصوير هيئة وتراكيب متعدّدة من الألفاظ باعتبار كونها مؤتلفة من الحروف الهجائيّة بعضها من بعض إلى عدد غير متناه فاللفظ الواحد يختلف باختلاف حركاته فلو ضمّ أوّله أو رفع أو كسر فهو في كلّ حال لفظ مغاير للفظ في حالة اخرى وكذا لو رفع آخره أو ضمّ أو كسر وإذا أضيف إليه في جميع هذه الأحوال حرفا من الحروف الهجائيّة صار لفظا ومركّبا ثانيا غير الأوّل ... وهكذا ... فتصبح الألفاظ بهذه النسبة غير متناهية. مثلا لفظ «برّ» إذا ضمّ أوّله أو رفع (فتح) أو كسر فهو لفظ غير الأوّل ولو أضيف إليه الاختلاف بالتقديم أو التأخير أو حرفا من الحروف صار لفظا آخر ... وهكذا. وإن شئت فقل إنّ موادّ الألفاظ وإن كانت مضبوطة ومحدودة من الواحد إلى الثمانية والعشرين حرفا إلّا أنّ الألفاظ المؤتلفة منها والهيئات الحاصلة من ضمّ بعضها إلى بعضها الآخر تبلغ إلى غير النهاية فإنّ اختلاف الألفاظ وتعدّدها بالهيآت والتقديم والتأخير والزيادة والنقصان والحركات والسكنات يوجب تعدّدها واختلافها إلى مقدار غير متناه وهذا نظير

__________________

(١) مقالات الاصول ١ / ٤٧.

٤٦٧

الأعداد فإنّ موادّها وإن كانت آحادا معيّنة من الواحد إلى العشرة إلّا أنّ تركّبها منها يوجب تعدّدها إلى عدد غير متناه مع أنّه لم يزد على كلّ مرتبة من مراتبها إلّا عدد واحد وتفاوت كلّ مرتبة من مرتبة اخرى بذلك الواحد فإذا اضيف إليها ذلك صارت مرتبة اخرى ... وهكذا تذهب المراتب إلى غير النهاية فالنتيجة أنّ الألفاظ غير متناهية كالمعاني والأعداد ... إلى أن قال : وكيف كان فقد ظهر من جميع ما ذكرناه أنّ الاشتراك ليس بواجب ولو سلّمنا إمكان وضع الألفاظ للمعاني غير المتناهية لعدم تناهي الألفاظ أيضا. (١)

وفيه : منع واضح بعد التزام أهل كلّ لغة بعدم التجاوز عن التراكيب الخاصّة المتعيّنة كالثنائيّ والثلاثيّ والرباعيّ والخماسيّ في اللغة العربيّة وبعد الالتزام باصول مقرّرة في كيفيّة انضمام الحروف بعضها مع البعض وغير ذلك من الامور اللازمة في المكالمات والمحاورات العرفيّة. فمقتضى مراعاة هذه الضوابط والاصول المقرّرة هو تضييق باب الألفاظ وتناهيها وعليه فمنع تناهي الألفاظ لا وجه له. فتحصّل أنّ الاستدلال للوجوب بتناهي الألفاظ وعدم تناهي الأعلام الشخصيّة والمعاني الكلّيّة الشاملة للاختراعيّات والاعتباريّات والانتزاعيّات تامّ. كما صرّح به المحقّق العراقيّ قدس‌سره في المقالات. فحينئذ تمسّ الحاجة إلى الاشتراك وحيث لم يكن دأب أهل المحاورة وديدنهم على إفادة المرادات بنحو الكلّيّ مع تعدّد الدالّ والمدلول فلا بعد في دعوى وجوب الاشتراك ولزومه بل يكفي في دعوى وجوب الاشتراك عدم تناهي الأعلام الشخصيّة وإن لم يكن المعاني الكلّيّة غير متناهية بعد عدم البناء على إفادة المرادات بتعدّد الدال والمدلول.

ثمّ إنّ منشأ الاشتراك على ما عرفت من الاستدلال للوجوب واللزوم واضح وهو

__________________

(١) المحاضرات ١ / ٢٠٠ ـ ٢٠١.

٤٦٨

مسيس الحاجة في إفادة المرادات إلى وضع الألفاظ المتناهية للمعاني غير المتناهية سواء كانت الأعلام الشخصيّة أو المعاني الكلّيّة. وأمّا ما نقل عن بعض المورّخين من أنّ المنشأ لحصول الاشتراك في اللغات هو خلط اللغات بعضها ببعض فإنّ العرب مثلا كانوا على طوائف فطائفة منهم قد وضعت لفظا خاصّا لمعنى مخصوص وطائفة ثانية قد وضعت هذا اللفظ لمعنى آخر وطائفة ثالثة قد وضعت نفس ذلك اللفظ لمعنى ثالث ... وهكذا ولمّا جعلت اللغات من جميع هذه الطوائف وجعلت لغة واحدة حدث الاشتراك. ففيه على تقدير صحّته وإمكانه في نفسه أنّه لا يكون منشأ أصليّا وكلّيّا لذلك كما لا يخفى.

* * *

الخلاصة

والحقّ أنّ الاشتراك في الألفاظ ممكن لضعف الوجوه التي أقاموها للامتناع بل هو واقع لشهادة عدم تبادر معنى بالخصوص من المعاني في الأعلام الشخصيّة المشتركة وفي مثل «القرء» و «العين» وهكذا ، لدلالة عدم صحّة السلب بالنسبة إلى معنيين أو أكثر فإنّ عدم التبادر وعدم صحّة السلب ليسا إلّا لجهة اشتراك الألفاظ المذكورة لمعان مختلفة. بل لا بعد في دعوى وجوب الاشتراك بعد تناهي الألفاظ وعدم تناهي الأعلام الشخصيّة والمعاني الكلّيّة الشاملة للاختراعات والاعتباريّات والانتزاعيّات لمسيس الحاجة إليه كما لا يخفى.

* * *

٤٦٩

الأمر الثاني عشر : في استعمال اللفظ في أكثر

من معنى واحد

الحقّ هو إمكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد لضعف ما قيل أو يقال في امتناعه ويقع الكلام هنا في مقامات :

المقام الأوّل :

أنّ محلّ النزاع هو ما إذا استعمل لفظ واحد في معنيين مستقلّين أو المعاني المستقلّة بحيث يكون الاستعمال الواحد بمنزلة الاستعمالين أو الاستعمالات ويكون كلّ واحد من المعنيين أو المعاني مرادا على حياله واستقلاله وأمّا استعمال اللفظ في مجموع المعنيين كالعامّ المجموعيّ. أو أحدهما لا بعينه كالفرد المردّد أو الجامع بينهما أو بين المعاني كالكلّيّ فكلّ ذلك خارج عن محلّ النزاع لأنّ المستعمل فيه في تلك الصور واحد وليس متعدّدا وكلّ واحد من المعنيين أو المعاني فرد للجامع وجزء للمجموع وفرد على البدل لمفهوم أحدهما أو أحدها المردّد بين الآحاد كما لا يخفى.

وأمّا ما قيل في تعريف محلّ النزاع من أنّه إذا استعمل اللفظ بحيث يكون كلّ واحد مناطا للإثبات والنفي ومتعلّقا للحكم ففيه كما في تعليقة المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره إشكال

٤٧٠

لعدم الملازمة بين الاستقلال في الإرادة الاستعماليّة والاستقلال في الحكم والنفي والإثبات وتوضيح ذلك أنّ مفاد لفظ العشرة مثلا وإن كان وحدانيّا ملحوظا بلحاظ واحد ومرادا استعماليّا بإرادة واحدة لكنّه مع ذلك ربما يكون الحكم المرتّب عليه بلحاظ كلّ واحد على نهج العموم الافراديّ كما إذا قيل : هؤلاء العشرة علماء أو واجب الإكرام. وربما يكون الحكم المرتّب عليه بلحاظ المجموع على حدّ العموم المجموعيّ كما إذا قيل : هؤلاء العشرة يحملون هذا الحجر العظيم ... إلى أن قال : وكذلك العامّ الاستغراقيّ كالعلماء فإنّ الحكم المرتّب عليه معقول على الوجهين وكما أنّ الجمع في اللحاظ لا يقتضي وحدة الحكم كذلك التفريق في اللحاظ لا يستدعى تعدّد الحكم بالنسبة إلى كلّ ملحوظ كما إذا رتّب حكما واحدا على زيد وعمرو معا كما عرفت في العامّ الاستغراقيّ واستعمال اللفظ في المعنيين لا يزيد على استعماله فيهما مرّتين. انتهى موضع الحاجة منه. (١)

* * *

* المقام الثاني :

أنّه يستدلّ على الامتناع بوجوه :

فناء اللفظ في المعنى لا يمكن إلّا في معنى واحد

منها : ما ذكره في الكفاية وحاصله أنّ الاستعمال ليس من باب جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى بل هو من باب جعل اللفظ وجها للمعنى وعنوانا له فكما أنّ الوجه والعنوان فانيان في ذي الوجه والمعنون كذلك اللفظ يكون فانيا في المستعمل فيه بل

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٨٦.

٤٧١

يكون نفس المعنى كأنّه الملقى إلى المخاطب بالاستعمال باعتبار أنّ اللفظ من مراتب وجود المعنى ولذا يسري إليه قبحه وحسنه ومن المعلوم أنّ استعمال اللفظ بهذا المعنى لا يمكن إلّا في معنى واحد ضرورة أنّ لحاظ اللفظ هكذا عند إرادة معنى ينافي لحاظه كذلك عند إرادة معنى آخر. وجه المنافاة هو تبعيّة لحاظ اللفظ بالنسبة إلى لحاظ المعنى وفنائه فيه فناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في المعنون ومع كون اللفظ هكذا بالنسبة إلى معنى كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال والحاصل أنّه لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد لحاظ اللفظ وجها لمعنيين وفانيا في المعنيين أو الأزيد.

وأوضح المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره وجه الاستحالة بقوله : والشاهد عليه عدم صحّة الحكم على اللفظ بما هو في حال الاستعمال فيعلم منه أنّ النظر بالذات إلى المعنى وأنّ اللفظ آلة لحاظه ولا يعقل أن يكون آلة اللحاظ في حال كونه كذلك ملحوظا بلحاظ آخر لا آليّا ولا استقلاليّا لامتناع تقوّم الواحد بلحاظين حيث أنّه من قبيل اجتماع المثلين أو لامتناع الجمع بين اللحاظين في لحاظ واحد للزوم تعدّد الواحد ووحدة الاثنين. (١)

فاللفظ الواحد يستحيل أن يلاحظ باللحاظين الآليّين لأنّ ذلك يئول إلى اجتماع المثلين في شيء واحد وهو اللفظ والوجود الواحد لا يتحمّل وجود المثلين كما أنّ الجمع بين اللحاظين في لحاظ اللفظ الواحد يلزم تعدّد اللفظ الواحد وهو خلف أو وحدة الاثنين أعني اللحاظين وهو أيضا خلف وجمع اللحاظين في اللفظ الواحد مع بقاء اللفظ على وحدته واللحاظين على تعدّدهما محال.

وفي هذا الوجه نظر لأنّ المراد بالفناء إمّا الفناء الحقيقيّ بحيث لا يبقى إلّا شيئيّة

__________________

(١) نفس المصدر ١ / ٨٨.

٤٧٢

المعنى. وفيه كما في تهذيب الاصول وأفاد استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره منع واضح لأنّ اللفظ له وجود واقعيّ ومع فعليّة وجوده لا مجال لدعوى فنائه وهل هو إلّا اجتماع الوجود والعدم في اللفظ الواحد وهو محال وخلاف الوجدان لأنّ المتكلّم يتوجّه إلى اللفظ كما يتوجّه إلى المعنى وإنّما الفرق بينهما في أنّ التوجّه إلى المعنى كثيرا ما استقلاليّ دون اللفظ فإنّ التوجّه إليه آليّ نعم ربما يتوجّه إلى الألفاظ بنحو الاستقلال أيضا كما إذا اريد التكلّم باللغة الفصحاء والقراءة الصحيحة كما لا يخفى.

وأمّا فناء العنوان في المعنون والوجه في ذي الوجه كما لعلّه الظاهر من عبارة الكفاية فهو وإن أمكن إلّا أنّ حقيقة الاستعمال ليس هو ذلك واعتبار اللفظ من مراتب وجود المعنى بحيث يكون همّ المستعمل هو إيجاد المعنى باللفظ وإلقائه إلى المخاطب كما قيل لا دليل عليه.

بل الاستعمال هو التكلّم بما جعل دالّا وعلامة لمعناه مع القصد ومجرّد كون النظر إلى المعنى بالأصالة نوعا دون الألفاظ لا يكون قرينة على جعل اللفظ فانيا في معناه بالنحو المذكور كما أنّ سراية الحسن والقبح إلى اللفظ أيضا لا يكون شاهدا على ذلك لإمكان أن يكون ذلك من جهة الارتباط الأكيد الذي حصل بالوضع بين اللفظ ومعناه كما أنّ الاستشهاد بعدم صحّة الحكم على اللفظ بما هو في حال الاستعمال على كون اللفظ فانيا في المعنى غير وجيه لأنّه ملحوظ بالأخرة وتعلّق به الإرادة ولو بنحو الارتكاز ولذا من علم لغات مختلفة وأراد إفهام المعاني بلغة خاصّة كالفارسيّة أو العربيّة أو غيرهما اختار من بينهما ما أراد وتكلّم به فاللفظ ملحوظ ومراد عنده وإن كان النظر إلى المعنى بالأصالة غالبا. هذا مضافا إلى كون اللفظ محكوما بالفصاحة والصحّة في حال الاستعمال وهو ينافي الفناء كما لا يخفى. ومع كون الاستعمال من باب العلامة والدلالة فلا مانع من أن يستعمل لفظ واحد موضوع للمعاني المختلفة واريد به تفهيم الأزيد من معنى واحد ولا يلزم من ذلك إفناء اللفظ في معنى حتّى يقال مع

٤٧٣

إفنائه فيه منفردا لا مجال لإفنائه في غيره من المعاني أو يقال مقتضى الإفناء هو كون لحاظه تبعا للحاظ المفنيّ فيه فإذا استعمل في المعنيين المفنيين فيهما لزم اجتماع اللحاظين الآليّين في اللفظ الواحد بالتبع مع إمكان منع الملازمة بما في تهذيب الاصول من أنّ المنظور من التبعيّة إن كان أنّ المتكلّم يتصوّر المعنى ويتبعه الانتقال إلى اللفظ فلا يجب من تصوّر المعنيين عرضا انتقالان إلى اللفظ بل لا ينتقل إليه إلّا انتقالا واحدا كما هو كذلك في الانتقال من اللازمين إلى ملزوم واحد ... إلى أن قال : وإن كان المراد اجتماع اللحاظين في السماع فلا نسلّم لزومه لأنّ السامع ينتقل من اللفظ إلى المعنى وإن كان اللفظ آلة فيكون لحاظ المعنى تبعا للحاظ اللفظ وسماعه كما أنّ الناظر إلى الكتابة يدرك نقش المكتوب أوّلا فينتقل منه إلى المعنى فحينئذ إذا كان اللفظ دالّا على معنيين انتقل منه إليهما من غير لزوم محذور أبدا وبالجملة لا يلزم من تبعيّة الانتقال جمع اللحاظين والانتقالين في اللفظ كما لا يلزم اجتماعهما في المعنى إذا سمعنا اللفظ من متكلّمين دفعة. (١) وإن لا يخلو منع الملازمة مع تسلّم الإفناء عن كلام ونظر فليتأمّل.

إن قلت : إنّ استعمال اللفظ ولو من باب الدلالة والعلامة أيضا لا يخلو عن اللحاظ الآليّ فمع استعماله في الأكثر يستلزم اجتماع اللحاظين الآليّين في اللفظ الواحد لأنّ الاستعمال متقوّم بلحاظ اللفظ والمعنى لامتناع الاستعمال مع الذهول عن واحد منهما فإذا استعمل اللفظ في المعنيين لزم لحاظ اللفظ مرّتين وهكذا واجتماع اللحاظين في اللفظ الواحد يوجب تعدّد الواحد أو وحدة الاثنين وكلاهما محال.

قلت : كما في تهذيب الاصول ما يكون لازم الاستعمال هو ملحوظيّة اللفظ والمعنى وعدم كونهما مغفولا عنهما حاله وأمّا لزوم لحاظه في كلّ استعمال لحاظا على حدة فلم يقم عليه دليل ولا هو لازم الاستعمال ألا ترى أنّ قوى النفس كالباصرة والسامعة

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ٩٥ ـ ٩٦.

٤٧٤

آلات لها في الإدراك وقد تبصر الشيئين وتسمع الصوتين في عرض واحد ولا يوجب ذلك أن يكون للآلتين حضوران لدى النفس بواسطة استعمالهما في إدراك الشيئين. (١)

هذا مع إمكان الجواب بالنقض بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ كما في الدرر وأفاده استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره إذ كما يصحّ الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ويكون اللفظ الواحد موضوعا لجميع أفراد عنوان العامّ لا مفهوم العامّ فكذلك يصحّ استعمال اللفظ الواحد في جميع الأفراد التي تكون اللفظ موضوعا لها ولا حاجة إلى تكرار اللفظ ولا إلى تكرار اللحاظ عند الاستعمال كما لا حاجة إلى تكرار اللفظ ولا إلى لحاظه مكرّرا عند الوضع بنحو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

لا يقال : إنّ الأفراد حال الوضع لا تكون ملحوظة إلّا بعنوان عامّ وحدانيّ ولا يكون كلّ فرد من تلك الأفراد ملحوظا بلحاظ خاصّ فلا يرد النقض.

لأنّا نقول : إنّ العنوان العامّ الإجماليّ وإن كان ملحوظا ولكنّه وسيلة للحاظ الأفراد إجمالا وبعد لحاظ الأفراد إجمالا وضع اللفظ لكلّ فرد من تلك الأفراد بوضع واحد ولم يوضع اللفظ للعنوان الوحدانيّ وإلّا لما كان فرق بين الوضع العامّ والموضوع له العامّ وبين الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ والإفناء لا دليل عليه حتّى يمكن الفرق بين الوضع والاستعمال بذلك. وعليه يظهر ما في بدائع الأفكار حيث أورد على النقض المذكور بأنّ الملحوظ فيه هو العنوان العامّ وهو كما ترى فراجع. (٢) وإن أبيت عن ذلك كلّه وذهبت إلى أنّ الاستعمال في الأزيد يستلزم تعدّد اللحاظ فيمكن الجواب عنه بما في تعليقة الأصفهانيّ من أنّ اللفظ بوجوده الخارجيّ لا يقوّم اللحاظ بل المقوّم له صورة شخصيّة في أفق النفس فأيّ مانع من تصوّر شخص اللفظ الصادر

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) بدائع الأفكار ١ / ١٥١ وراجع تعليقة الأصفهانيّ ١ / ٩٠.

٤٧٥

بتصوّرين في آن واحد مقدّمة لاستعمال اللفظ الصادر في معنيين لو لم يكن جهة اخرى في البين. انتهى (١) وعليه فلا يلزم من اجتماع اللحاظين اجتماع المثلين في الواحد لتعدّد التصور كما لا يلزم اجتماع اللحاظين في واحد لأنّ المفروض هو تعدّد صورة شخص اللفظ الصادر فتدبّر.

التفرّد التنزيليّ لا يقتضي إلّا التفرّد الحقيقيّ

ومنها : ما ذكره المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره في وجه الاستحالة من أنّ حقيقة الاستعمال إيجاد المعنى في الخارج باللفظ حيث أنّ وجود اللفظ في الخارج وجود لطبيعيّ اللفظ بالذات ووجود لطبيعيّ المعنى بالجعل والمواضعة والتنزيل لا بالذات إذ لا يعقل أن يكون وجود واحد وجودا لماهيّتين بالذات كما هو واضح وحيث أنّ الموجود الخارجيّ بالذات واحد فلا مجال لأن يقال بأنّ وجود اللفظ وجود لهذا المعنى خارجا ووجود آخر لمعنى آخر حيث لا وجود آخر كي ينسب إلى آخر بالتنزيل وليس الاستعمال إلّا إيجاد المعنى بنحو وجوده اللفظيّ خارجا وقد عرفت أنّ الإيجاد والوجود متّحدان بالذات وحيث أنّ الوجود واحد فكذا الإيجاد وبالجملة الاستقلال في الإيجاد التنزيليّ كما هو معنى الاستعمال الذي هو محلّ الكلام يقتضي الاستقلال في الوجود التنزيليّ وليس الوجود التنزيليّ إلّا وجود اللفظ حقيقة فالتفرّد بالوجود التنزيليّ والاختصاص به يقتضي التفرّد بالوجود الحقيقيّ وإلّا لكان وجودا تنزيليّا لها (لهما ظ) معا لا لكلّ منفردا فتدبّر جيّدا. انتهى موضع الحاجة. (٢)

حاصله أنّ وجود المعنى وجود تنزيليّ يحصل من ناحية اعتبار الوجود الحقيقيّ

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٨٩.

(٢) نفس المصدر ١ / ٨٨.

٤٧٦

للفظ وجودا تنزيليّا له وحيث أنّ الوجود الحقيقيّ ليس إلّا واحدا إذ لا يعقل أن يكون الوجود الواحد وجودا حقيقيّا للماهيّتين والمعنيين بعد كون الماهيّة حدّا للوجود وتبعا له في الوحدة والتعدّد يكون الوجود التنزيليّ أيضا واحدا فلا مجال لأن يكون وجود اللفظ مع وحدته وجودا لهذا المعنى خارجا ووجودا آخر لمعنى آخر.

ويقرب منه ما في منتهي الاصول حيث قال : إنّ حقيقة الاستعمال هو إلقاء المعنى إلى الطرف بإلقاء اللفظ وهذا لا يمكن إلّا بأن يكون اتّحاد بين اللفظ والمعنى وحيث أنّ هذا الاتّحاد ليس حقيقيّا لأنّ اللفظ من مقولة والمعنى غالبا من مقولة اخرى فلا بدّ أن يكون اعتباريّا وإن شئت فسمّه بالهوهويّة الاعتباريّة أو بأن اللفظ وجود تنزيليّ للمعنى ولهذا قالوا للشيء أربعة أنحاء من الوجودات وعدّوا منها الوجود اللفظيّ فإذا كان حقيقة الاستعمال كذلك فكيف يمكن أن يكون وجود واحد لطبيعيّ اللفظ وجودا لهذه الماهيّة ووجودا آخر لماهيّة اخرى.

لا يقال : إنّ الذي لا يمكن هو أن يكون وجود واحد شخصيّ وجودا لماهيّتين بالذات لا وجودا تنزيليّا لهما والفرق واضح لأنّ الماهيّة بناء على أصالة الوجود عبارة عن حدّ الوجود فهو تابع في الوحدة والتعدّد للوجود وبناء على أصالة الماهيّة ينعكس الأمر أي الوجود تابع له في الوحدة والتعدّد. وعلى كلّ تقدير لا يمكن أن يكون وجود واحد وجودا للماهيّتين بالذات. وأمّا الوجود التنزيليّ فليس وجودا للشيء حقيقة وإنّما هو صرف اعتبار فيمكن أن يعتبر وجود واحد وجودا لشيئين أو أكثر.

لأنّا نقول : نعم لا مانع من أن يكون الوجود الواحد وجودا اعتباريّا لعدّة أشياء مجتمعة وأمّا على سبيل الاستقلال والانفراد فلا يمكن لأنّ معنى اعتبار الاتّحاد بين اللفظ وهذا المعنى هو أن يكون الاثنان واحدا وحيث أنّ وجود اللفظ وجود شخصيّ فليس هناك وجود آخر حتّى يتّحد مع ذلك المعنى الآخر. ولا يقاس بمقام

٤٧٧

الجعل لأنّه هناك يعتبر الواضع الاتّحاد بين طبيعيّ اللّفظ والمعاني المختلفة بالنوع أو بالشخص ففي الحقيقة مرجع ذلك الجعل والاعتبار إلى أنّ كلّ وجود من وجودات هذه اللفظة متّحد مع معنى من هذه المعاني وهذا غير مقام الاستعمال حيث أنّه يوجد وجودا واحدا من طبيعيّ اللفظ ويجعله وجودا تنزيليّا لهذا المعنى ويفنيه فيه ويلقي المعنى بإلقائه وليس وجود آخر في البين حتّى يلقي المعنى الآخر بإلقائه. انتهى موضع الحاجة منه. (١)

وفيه أوّلا : أنّ الاستعمال ليس إلّا التكلّم بالدالّ على المعنى بحسب الوضع أو بحسب القرائن لا إيجاد المعنى في الخارج باللفظ وعليه فاعتبار وجود اللفظ وجودا للمعنى أو اعتبار الهوهويّة والتنزيل بينهما خارج عن حقيقة الاستعمال ويحتاج إلى مئونة زائدة ولا التفات للمتكلّم إليها ولا شاهد ولا دليل عليه وسراية الحسن والقبح من المعنى إلى اللفظ لازم أعمّ لإمكان أن يكون ذلك من جهة الارتباط الأكيد الحاصل بالوضع بين اللفظ والمعنى لا من جهة الهوهويّة والتنزيل بينهما فلا يكون السراية من شواهد الاعتبارات المذكورة كما لا يخفى.

وثانيا : كما في تهذيب الاصول أنّ مبنى ما ذكر ما هو عن بعض أهل الذوق من أنّ الوجود اللفظيّ من مراتب وجود الشيء وهو إن صحّ ليس معناه إلّا كونه موضوعا للمعنى ومرآتا له بالمواضعة الاعتباريّة وعليه لو كان الموضوع له متعدّدا أو المستعمل فيه كذلك لا يلزم منه كونه ذا وجودين أو كونه موجودين إذ المفروض أنّه وجود تنزيليّ واعتباريّ وهو لا يوجب التكثّر في الوجود الواقعيّ فكون شيء وجودا تنزيليّا لشيء لا يستنبط منه سوى كونه بالاعتبار كذلك لا بالذات والحقيقة. (٢)

__________________

(١) منتهى الاصول ١ / ٧٠ ـ ٧١.

(٢) تهذيب الاصول ١ / ٩٦.

٤٧٨

لا يقال : إنّ اعتبار الوحدة بين اللفظ والمعنى مع كون وجود اللفظ وجودا شخصيّا لا يجامع مع اعتبار آخر بين نفس اللفظ ومعنى آخر مع عدم تصوّر وجود آخر لذلك اللفظ حتّى يتّحد مع المعنى الآخر لأنّ الاعتباريّات تابعة للتكوينيّات فكما أنّ الوجود الحقيقيّ لا يمكن أن يكون وجودا للماهيّتين كذلك الوجود التنزيليّ.

لأنّا نقول : إنّ قياس الوجود التنزيليّ بالوجود الحقيقيّ والقول بأنّ تعدّد الوجود التنزيليّ محال كما يكون تعدّد الوجود الحقيقيّ محالا في غير محلّه. إذ امتناع صيرورة الوجود الواحد وجودا بالذات للماهيّتين والمعنيين لا يستلزم امتناع صيرورة وجود واحد بالذات وجودين تنزيليّين للمعنيين والماهيّتين ألا ترى صحّة تنزيل أحد التوائم بالأفراد الأخر منهم ويقال أنّه كأنّه هم أي كأنّه هو وهو وهو مع أنّ أحد التوائم الذي يكون هو المشبّه ليس له إلّا وجود واحد ولكن اعتبر له الوجودات التنزيليّة وليس ذلك إلّا لكون الاعتبار خفيف المئونة وبنظر المعتبر ولذا نمنع تبعيّة الاعتباريّات للتكوينيّات. ألا ترى اعتبار الإشاعة أو الفرد المردّد مع أنّه لا خارجيّة لهما إذ ليس في الخارج إلّا المتعيّنات كما لا يخفى.

قال في بدائع الأفكار في وجه امتناع صيرورة الوجود الواحد وجودا بالذات للماهيّتين دون صيرورة وجود واحد بالذات وجودين تنزيليّين للمعنيين أنّ امتناع الأوّل ذاتيّ وهو من القضايا التي قياساتها معها لأنّ فرض الماهيّتين هو فرض الوجودين ...

وأمّا الثاني أعني به تنزيل شيء منزلة شيء آخر فهو يتبع في سعته وضيقه وعمومه وخصوصه نظر المعتبر فيجوز له أن ينزّل أمرا واحدا منزلة أمرين ويترتّب عليه أثر التعدّد ... إلى أن قال : وعليه فلا يبقى مجال لادّعاء امتناع صيرورة الوجود

٤٧٩

الواحد الخارجيّ وجودين تنزيليّين لمعنيين. انتهى موضع الحاجة. (١)

لزوم الجمع بين اللحاظين المستقلّين في آن واحد

ومنها : ما حكي عن المحقّق النائينيّ قدس‌سره من أنّ حقيقة الاستعمال ليست إلّا عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ وإلقائه إلى المخاطب خارجا ومن هنا لا يرى المخاطب إلّا المعنى فإنّه ملحوظ أوّلا وبالذات واللفظ ملحوظ بتبعه وفان فيه وعليه فلازم استعمال اللفظ في المعنيين على نحو الاستقلال تعلّق اللحاظ الاستقلاليّ بكلّ واحد منهما في آن واحد كما لو لم يستعمل اللفظ إلّا فيه ومن الواضح أنّ النفس لا تستطيع على أن تجمع بين اللحاظين المستقلّين في آن واحد ولا ريب في أنّ الاستعمال في أكثر من معنى واحد يستلزم ذلك والمستلزم للمحال محال لا محالة. (٢)

وفيه أوّلا : كما مرّ أنّ حقيقة الاستعمال ليست إلّا عبارة عن التكلّم بالدوال على المعاني لا إيجاد المعاني بالألفاظ وإلّا فالإيجاد أمر قصديّ ومحتاج إلى الالتفات مع أنّه لا التفات ولا قصد للمستعملين والمتكلّمين ولو ارتكازا إلى إيجاد المعاني كما لا يخفى. ومجرّد كون الغرض من الاستعمال هو تفهيم المعاني لا يلزم أن يكون الاستعمال إيجاد المعاني لحصول الغرض بتكلّم الدوالّ واستماعها بعد العلم بعلقة الوضع بين الدوالّ والمعاني.

وثانيا : أنّ منع الاستطاعة للجمع بين اللحاظين المستقلّين أو اللحاظات المستقلّة في آن واحد إن اريد به الجمع بينهما أو بينها بالالتفات التفصيليّ إلى كلّ واحد منهما أو منها فهو صحيح بالنسبة إلى النفوس العادية وأمّا إن اريد به مطلق الجمع ولو

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ / ١٤٨.

(٢) المحاضرات ١ / ٢٠٦.

٤٨٠