عمدة الأصول - ج ١

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

خروج الفرد الفاسد عن عموم تلك الأخبار بنحو التخصّص ولا يتمّ إلّا إذا كان اللفظ موضوعا لخصوص الصحيح.

وأجاب عنه في بدائع الأفكار بأنّ أصالة العموم إنّما يتمسّك بها في مقام الشكّ بخروج بعض أفراد العامّ عن دائرة حكمه لاحتمال تخصيصه وأمّا إذا علمنا بخروج بعض أفراد العامّ عن حكم العامّ وشككنا بطور خروج ذلك الفرد هل هو بنحو التخصيص أو بنحو التخصّص فلا موجب للرجوع إلى شيء من هذه الاصول اللفظيّة لرفع الشكّ في كيفية الخروج أو الاستعمال لأنّ جميع الاصول المذكورة قواعد عقلائيّة يرجع إليها ويؤخذ بها عملا في مقام الشكّ بالمراد في الخطاب. (١)

ثمّ هذا كلّه بناء على تسليم كون هذه الأخبار ظاهرة في ترتّب تلك الآثار على العبادات على نحو العلّيّة حتّى يدّعي الصحيحيّ وضعها للصحيح من جميع الجهات فيخرج الفاسد من عموم هذه الأخبار.

وأمّا إذا قلنا بأنّ المستفاد منها ليس إلّا الترتّب الاقتضائيّ كما يشهد له خروج بعض الشرائط من محلّ النزاع وأنّ الصحيحيّ يدّعي وضعها للصحيح من غير جهة ذلك ، فقد ذهب في بدائع الأفكار إلى أنّ الفاسد حينئذ لا يخرج من موضوع تلك الأخبار حتّى يستدلّ بها على الوضع للصحيح ولذا صحّ التمسّك بتلك الأخبار لإثبات الجامع حتّى على الأعمّيّ. (٢)

ولعلّ وجهه أنّ الفاسد قابل للضميمة فهو بهذه الملاحظة مقتض للآثار المذكورة فمن اكتفى بالأجزاء والشرائط الداخليّة ولم يأت بنيّة القربة كانت صلاته باطلة ولكنّها مقتضية للآثار لأنّها لو ضمّت إليها نيّة القربة لترتّب عليها الآثار.

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ / ١٣٦.

(٢) نفس المصدر ١ / ١٣٧.

٣٨١

ومال إليه المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره حيث قال إنّ أخبار الخواصّ تجدي للصحيحيّ من حيث الأجزاء بل مقتضى النظر الدقيق هو الوضع للأعمّ لأنّ المقتضي لتلك الآثار نفس المراتب المتداخلة وحيثيّة الصدور غير دخيلة في الاقتضاء فالأخبار المتقدّمة بالأخرة دليل للأعمّيّ. (١)

وفيه أنّه وإن تمّ من جهة عدم إفادة مدّعي الصحيحيّ ولكن لا يخلو عن إشكال من جهة أنّ كلّ فاسد لا يكون قابلا للضميمة حتّى يكون مقتضيا للآثار وداخلا في موضوع الأخبار كالمأتيّ به رياء ، نعم يصحّ ذلك بالنسبة إلى بعض أفراد الفاسد ، كما أنّ الفاسد لا يختصّ بما إذا كان فاقدا لشرائط التأثير بل هو أعمّ ممّا يكون فاقدا لبعض الأجزاء والشرائط الداخليّة ، فالاستدلال بتلك الأخبار للأعمّيّ أخصّ من مدّعى الأعمّيّ.

الخامس : حكمة الوضع وهي على ما في تقريرات الشيخ قدس‌سره أنّا إذا راجعنا وجداننا بعد تتبّع أوضاع المركّبات العرفيّة والعادية واستقرائها وفرضنا أنفسنا واضعين للفظ لمعنى مخترع مركّب نجد من أنفسنا في مقام الوضع عدم التخطّي عن الوضع لما هو المركّب التامّ. فإنّه هو الذي يقضي حكمة الوضع وهي مساس الحاجة إلى التعبير عنها كثيرا والحكم عليها بما هو من لوازمه وآثاره أن يكون موضوعا له. وأمّا استعماله في الناقص فلا نجده إلّا مسامحة تنزيلا للمعدوم منزلة الموجود فإنّ الحاجة ماسّة إلى التعبير عن المراتب الناقصة أيضا وليس من دأبهم أن يضعوا لها بأجمعها أسماء مخصوصة كما هو المتعارف في الأوضاع فتوسّعوا في إطلاق اللفظ الموضوع للتمام على تلك المراتب الناقصة من باب المسامحة والتنزيل فليس هناك إلّا مجاز في أمر عقليّ ويرشدك إلى ما ذكرنا ملاحظة استعمال لفظ الإجماع في الاصطلاح على الكاشف عن قول الحجّة مع

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٧١.

٣٨٢

إطباقهم على أنّ المعنى المصطلح عليه عند الخاصّة والعامّة هو اتّفاق جميع الأمّة من أرباب الحلّ والعقد وهو ظاهر. (١)

الحكمة لا تقضي الاختصاص

وفيه أنّا نمنع حصر الحكمة الداعية في وضع الألفاظ لخصوص المركّبات التامّة دون الناقصة لعدم ندرة الحاجة إلى استعمال ألفاظ المركّبات في الناقص أيضا فكما أنّ الحكمة تقضي الوضع للمركّبات التامّة كذلك تقضى الوضع للمركّبات الناقصة التي تحتوي معظم الأجزاء أو الأركان الأربعة فالحكمة دليل الأعمّ.

ولذلك قال في بدائع الأفكار إنّا لا نسلّم أنّ العقلاء لا يسمّون في مقام الاختراع إلّا الماهيّة التامّة من حيث الأجزاء والقيود بنظر المخترع لأنّ الغرض من التسمية هي سهولة تفهيم المخاطب ما يريد المتكلّم إفهامه إيّاه ولا شبهة في أنّ العاقل المخترع كما يتعلّق له غرض بالحكم على الصحيح التامّ من مخترعاته فكذلك يتعلّق له غرض بالحكم على الناقص وعلى الأعمّ منه ومن الصحيح من مخترعاته ولا جامع لهذه الأغراض إلّا الوضع للقدر الجامع بين الصحيح والناقص وهو المعنى الأعمّ والشاهد على ذلك هو الوجدان فإنّا نجدهم يستعملون أسماء مخترعاتهم في ناقصها كما يستعملونها في تامّها بلا عناية. (٢)

وهكذا قال الفاضل الايروانيّ قدس‌سره إنّما يكون قضية الحكمة ذلك إذا كانت الحاجة إلى استعمال اللفظ في الناقص نادرة ولكنّها ممنوعة فإنّها إن لم تزد على الحاجة إلى استعمالها في التامّ لم تنقص عنها. (٣)

فحكمة الوضع لا تقضي باختصاص الوضع للصحيح كما لا يخفى فحصر الحكمة في

__________________

(١) تقريرات الشيخ / ٩.

(٢) بدائع الأفكار ١ / ١٣٧.

(٣) نهاية النهاية ١ / ٤٣.

٣٨٣

الوضع للصحيح لا وجه له كما لا وجه لحصر الحكمة بعد تعميمها لغير الصحيح في خصوص الفاقد لشرائط التأثير إذ الحكمة تعمّ مطلق الفاسد ممّا يحتوي لما له المدخليّة في التسمية من معظم الأجزاء.

هل يختصّ الفاسد بالفاقد لشرائط التأثير

وممّا ذكر يظهر ما في نهاية الدراية حيث خصّصه بعد التعميم بالفاقد لشرائط التأثير حيث قال في ردّ تقريب اختصاص الحكمة بالوضع للصحيح : إنّ الظاهر من الطريقة العرفيّة خروج ما له دخل في فعليّة التأثير عن المسمّى في أوضاعهم فتريهم يضعون اللفظ بإزاء معجون خاصّ مركّب من عدّة أشياء من دون أخذ ماله دخل في فعليّة تأثيرها من المقدّمات والفصول الزمانيّة وغيرها في المسمّى بل يضعون اللفظ لذات ما يقوم به الأثر. والظاهر أنّ الشارع لم يسلك في أوضاعه مسلكا آخر كما يشهد له ما ورد في تحديد الوضوء «أنّه غسلتان ومسحتان» من دون أخذ شرائطه في حدّه بل وكذا قوله عليه‌السلام : «أوّلها التكبير وآخرها التسليم» ويشهد له أيضا جميع الأخبار الواردة في بيان الخواصّ والآثار فإنّ الظاهر من هذه التراكيب الواردة في مقام إفادة الخواصّ سوقها لبيان الاقتضاء لا الفعليّة نظير قولهم «السنا مسهل» و «النار محرقة» و «الشمس مضيئة» إلى غير ذلك فإنّ هذه التراكيب ظاهرة في بيان المقتضيات فيعلم منها أنّ موضوع هذه القضايا المسمّى بلفظ الصلاة والصوم نفس ما يقتضي هذه الخواصّ ويؤيّده قوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فإنّ الظاهر اتّحاد المراد من الصلاة عقيب الأمر والصلاة المؤثّرة في النهي عن الفحشاء مع أنّ فعليّة النهي عن الفحشاء موقوفة على قصد الامتثال الذي لا يمكن أخذه فيما وقع في حيّز الأمر مع أنّه من الواضح عدم التجوز بالتجريد كما لا يخفى وممّا ذكرنا ظهر إمكان استظهار اتّحاد طريقتي الشارع والعرف في الأوضاع وأنّ لازمه الوضع لذات ما

٣٨٤

يقتضي الأثر فالشرائط خارجة عن المسمّى. (١)

لما عرفت من أنّ بعد المنع عن حصر الحكمة في الوضع للصحيح تخصيص الوضع بالفاقد لشرائط التأثير لا وجه له لصدق الصلاة على الأعمّيّ على ما يختلّ من ناحية بعض الأجزاء أو الشرائط الداخليّة أيضا كما أنّ أسامي المخترعات تصدق عليها عرفا وإن اختلّ بعض أجزائها أو بعض شرائطها الداخليّة ، ألا ترى صدق السيارة على ما اختلّ بعض أجزائها أو بعض شرائطها الداخليّة وسيأتي إن شاء الله بقيّة الكلام.

هل تدلّ الأخبار على وضع ألفاظ العبادات في خصوص المقتضيات

ثمّ إنّ الاستشهاد بالأخبار المذكورة والآية الكريمة لوضع لفظ الصلاة في خصوص المقتضي لهذه الخواصّ لا يخلو عن إشكال لأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ولا يثبت بذلك وضع اللفظ لخصوصه بل عرفت أنّ حكمة الوضع تقتضي الوضع للأعمّ من ذلك. لا يقال : إنّه في مقام التحديد في مثل قوله عليه‌السلام : «الصلاة أوّلها التكبير وآخرها التسليم.» أو قوله عليه‌السلام «الوضوء هو الغسلتان والمسحتان» لأنّا نقول : إنّه في مقام بيان أجزاء الصلاة المأمور بها وأجزاء الوضوء المأمور به لا في مقام بيان الموضوع له والمسمّى.

وكيف كان فقد عرفت عدم تماميّة هذا الدليل لإثبات وضع ألفاظ العبادات لخصوص الصحيح من العبادات وهذا الدليل يسمّى بحكمة الوضع ولعلّ المقصود من دليل الاعتبار في بعض الكلمات هو ذلك أيضا.

ثمّ إنّه بعد ملاحظة أدلّة الصحيحيّ وعدم تماميّتها تصل النوبة إلى ملاحظة أدلّة الأعمّيّ وإليك جملة منها :

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٧١.

٣٨٥

أدلّة الأعمّيّ :

ولا يخفى عليك أنّه نسب في هداية المسترشدين القول بالأعمّ إلى العلّامة في غير موضع من النهاية وولده فخر المحقّقين في الإيضاح والشهيد الثاني والشيخ البهائيّ وجماعة من الفضلاء المعاصرين من الخاصّة وإلى القاضي ابي بكر وابي عبد الله البصريّ وغيرهم من العامّة واستدلّوا لذلك بوجوه :

الأوّل : التبادر بدعوى أنّه لا يتبادر من ألفاظ العبادات إلّا معظم الأجزاء اورد عليه بأنّ تصوير الجامع على القول بالأعمّ مشكل ومعه كيف يصحّ دعوى التبادر لأنّ التبادر فرع إمكان تصوير الجامع وهو أوّل الكلام.

وفيه : أنّ الإشكال في إمكان تصوير الجامع لا وقع له بعد ما مرّ من صحّة تصوير الجامع بمعظم الأجزاء والشرائط بنحو الإبهام واللابشرط فراجع.

فالمنساق بعد إمكان تصوير الجامع هو الأعمّ من الفاسد كما ذهب إليه استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره تبعا لما في الدرر من أنّ الإنصاف أنّا لا نفهم من الصلاة ونظائرها إلّا الحقيقة التي تنطبق على الصحيح والفاسد. (١)

ولكن مع ذلك لا يخلو الاستدلال بالتبادر في المقام عن إشكال وهو كما مرّ في دعوى تبادر الصحيح احتمال أن يكون التبادر غير مستند إلى حاقّ اللفظ وعلى تقدير التسليم يمكن أن يكون اطلاقيّا وحاصلا من كثرة الاستعمال فلا دليل لنا لإثبات كونه كذلك في صدر الإسلام وفي استعمالات الشارع.

وممّا ذكر يظهر كيفية الاستدلال بعدم صحة السلب عن الأعم أو الفاسد والإشكال فيه بما أورد على التبادر فلا حاجة إلى ذكره.

اللهمّ إلّا أن يراد بالتبادر تبادر معظم الأجزاء بعد معلومية اتّحاد طريقة الشارع

__________________

(١) الدرر ١ / ٥١.

٣٨٦

مع طريقة العرف في عدم اختصاص ألفاظ مخترعاته بالتامّة منها لدليل الحكمة كما يلي.

الثاني : حكمة الوضع وهي كما مرّ أنّ الحكمة كما تقتضي الوضع للمركّبات التامّة كذلك تقتضي الوضع للمركّبات الناقصة لأنّ الحاجة إلى الإفادة والاستفادة بالنسبة اليهما محقّقة ولا وجه لاختصاص الوضع بأحدهما مع كثرة الحاجة في كليهما فكما أنّ بناء المخترعين ليس على اختصاص أسماء مخترعاتهم بالكامل منها بل يطلقونها على ما يختلّ بعض أجزائها اليسيرة من دون عناية وملاحظة علاقة كذلك يكون بناء الشارع لعدم اتّخاذه طريقا آخر لإفادة مراداته. وبهذه الملاحظة نستكشف أنّ الشارع وضع ألفاظ العبادات للأعمّ من الصحيح منها.

قال في المقالات : الأقوى المصير إلى الأعمّ من جهة أنّ بناء العرف عند اختراعهم لشيء من الآلات والمعاجين ليس في مقام التسمية الاقتصار على خصوص المؤثّرة لما يرى بالوجدان في مثل الساعة وأمثالها من الآلات المخترعة والمعاجين والأدوية حيث أنّه ليس ديدنهم على صحّة سلب الاسم عنها بمجرّد اختلال جزء يسير منها ومن المعلوم أنّ للشارع في مقام تسميته لمخترعاته ليس ديدن مخصوص بل هو من هذه الجهة يمشي مشيهم حسب ارتكاز الذهن في أخذ اللاحق طريقة السابقين في أمثال هذه الجهات النوعيّة وحينئذ لو كان لأحد طريقة مخصوصة لا بدّ وأن ينبّه فمع عدم البيان مقتضى الحكمة اتّحاد الطريقتين. (١)

فبوحدة الطريقة نستكشف عدم اختصاص ألفاظ العبادات بالمركّبات التامّة بل هي موضوعة للأعمّ منها والمقصود من الأعمّ مع وسعة أطرافه كما يظهر أيضا من ملاحظة ألفاظ المخترعات هو معظم الأجزاء لتبادره منها وصحّة إطلاقها عليه من

__________________

(١) مقالات الاصول ١ / ٤٤.

٣٨٧

دون عناية وملاحظة علاقة فتدبّر جيّدا.

الثالث : استكشاف الأعمّ من عدم تبادر الصحيح والفاسد : قال في نهاية النهاية : يكفي للمستدلّ أن يستدلّ بعدم تبادر خصوص الصحيح فإنّه أمارة المجاز في خصوص الصحيح وحيث لم يكن خصوص الفاسد أيضا متبادرا بل لا يحتمل الوضع لخصوصه فيستكشف من ذلك أنّ الموضوع له ليس خصوص هذا ولا خصوص ذلك وأنّ هناك جهة جامعة بين القسمين هي الموضوع له فبالطريق المذكور يمكن أن يستدلّ على إثبات أصل وجود الجامع ثمّ إثبات الوضع له. (١)

ولكن أنّى لنا بإثبات وجود ذلك في صدر الإسلام وعهد الشارع ولعلّه صار هكذا بالإطلاق والاستعمال في مرور الزمان والمفروض انّه لا أصل لنا فيه.

وممّا ذكر يظهر ما في المحاضرات أيضا حيث قال : إنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة هو أنّ إطلاق لفظ الصلاة على جميع أفرادها الصحيحة والفاسدة على نسق واحد من دون لحاظ عناية في شيء منها فلا فرق بين قولنا : صلّى صلاة صحيحة او تلك الصلاة صحيحة وبين قولنا : فلان صلّى صلاة فاسدة او هذه الصلاة فاسدة وهكذا. وحيث أنّ الاستعمالات المتشرّعة تابعة للاستعمالات الشرعيّة فتكشف تلك عن عموم المعنى الموضوع له عند الشارع المقدّس أيضا. (٢)

لما عرفت من أنّ التبعيّة في الاستعمالات لا يلازم وضع الشارع للأعمّ لإمكان أن يكون استعمال الشارع في الأعمّ من جهة القرينة ثمّ صار اللفظ بالتكرّر والاستعمال حقيقة في الأعمّ وبالجملة لا يتمّ الاستدلال بالتبادر أو صحّة السلب أو بعدم تبادر الصحيح والفاسد لعدم إمكان إثبات تلك الامور في عهد الشارع فلا تغفل.

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ٤٣.

(٢) المحاضرات ١ / ١٦٩.

٣٨٨

ثمّ إنّ الفرق بين التبادر وصحّة السلب وبين عدم تبادر الصحيح والفاسد واضح لأنّ في الامر الثالث لا مدخليّة فيه للتبادر في كشف الحقيقة بل نصل من نفي التبادر في خصوص الصحيح وخصوص الفاسد إلى كشف الأعمّ.

الرابع : صحّة التقسيم إلى الصحيح والسقيم : إنّه قد استدلّ للأعمّيّ بصحّة تقسيم ألفاظ العبادات إلى الصحيحة والسقيمة. ولو لا وضعها للأعمّ لزم تقسيمها إلى أنفسها وإلى غيرها كما في تقريرات الميرزا الشيرازيّ قدس‌سره.

وبعبارة اخرى كما في الدرر : نرى أنّ لفظ الصلاة في قولنا الصلاة إمّا صحيحة أو فاسدة ليس فيه تجوّز وملاحظة علاقة صوريّة بين ما أردنا من اللفظ وبين المعنى الحقيقيّ له وهذا ظاهر عند من راجع وجدانه وأنصف.

أورد عليه في تقريرات الميرزا الشيرازيّ قدس‌سره بأنّ صحّة التقسيم إنّما تكون علامة إذا علم كونها مبتنية على الحقيقة والواقع لا التجوّز والتأويل والمسلّم إنّما هو وقوع التقسيم وهو أعمّ من صحّته على وجه تكون علامة ولو قيل أنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة فيثبت به أنّ التقسيم إنّما هو بالنظر إلى المعنى الحقيقيّ فجوابه قد مرّ أنّه أعمّ وأنّه لا دليل على اعتبار هذا الأصل في مقام العلم بالمراد مع الشكّ في صفته. (١)

ويمكن الجواب عنه بما افاده استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّ الاستعمال مع انضمام أصالة عدم القرينة والعلاقة من شواهد الحقيقة فإنّ الظهور حينئذ يكون مستندا إلى حاقّ اللفظ ولا حاجة مع أصالة عدم القرينة إلى أصالة الحقيقة حتّى يقال بأنّها تجري فيما إذا شكّ في المراد بين المعنى الحقيقيّ والمجازيّ لا فيما إذا علم المراد وشكّ في كونه حقيقة أو مجازا.

هذا مضافا إلى ما في نهاية النهاية من إمكان أن يدّعى صحّة تقسيم هذا اللفظ

__________________

(١) التقريرات ١ / ٤٠٢.

٣٨٩

بمدلوله الحقيقيّ الأوّليّ. (١)

فيعرف بصحّة التقسيم أنّه أعمّ من الفاسد. وعليه فلا حاجة إلى أصالة الحقيقة ولا إلى أصالة عدم القرينة.

ولعلّ إليه يؤول ما في بدائع الأفكار حيث قال : بما أنّ التقسيم المزبور إنّما يقصد به المعنى الارتكازيّ من لفظ العبادة لا المعنى المستعمل فيه فقط تكشف صحّته عن كون المقسم هو المعنى الارتكازيّ لهذا اللفظ وبما ذكرنا يندفع ما قيل من أنّ التقسيم إنّما هو من شئون المعنى لا من شئون اللفظ فصحّته تكشف عن عموم المعنى لا عن الوضع لهذا المعنى العامّ ولكن لمّا كان التقسيم المزبور لمعنى اللفظ الارتكازيّ لا للمعنى من حيث هو كشف صحّته عن عموم معناه الارتكازيّ وهو المطلوب. (٢)

هذا غاية ما يمكن في تصحيح هذا الاستدلال.

ولكنّه لا يخلو من إشكال وهو أنّ بعد تسليم كون التقسيم باعتبار حاقّ اللفظ ومدلوله الحقيقيّ الأوّليّ أو معناه الارتكازيّ أنّى لنا بإثبات ذلك في عهد الشارع ولعلّه من ناحية الإطلاق في العهد المتأخّر عن عهد الشّارع.

ولذلك قال المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره صحّة الاستعمال بلا ضمّ ضميمة عندنا لا عبرة بها وعند الشارع ومعاصريه لا طريق إليها. انتهى

وأما ما في الكفاية من أنّه إنّما يشهد على أنّها للأعمّ لو لم تكن هناك دلالة على كونها موضوعة للصحيح وقد عرفتها فلا بدّ أن يكون التقسيم بملاحظة ما يستعمل فيه اللفظ ولو بالعناية.

فهو كما ترى إذ لا مجال له بعد ما عرفت من عدم دلالة الأدلّة التي استدلّ بها على

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ٤٣.

(٢) بدائع الأفكار ١ / ١٣٢.

٣٩٠

كونها موضوعة للصحيح.

الخامس : صحّة تقييد ألفاظ العبادات بالصحّة والبطلان : استدلّ للأعمّيّ بصحّة تقييدها بكلّ من القيدين أعني الصحّة والبطلان ولو لا وضع تلك الألفاظ للأعمّ لزم التّناقض فيما إذا تقيّدت بالفاسدة والتكرار فيما إذا تقيّدت بالصحيحة.

وأورد عليه في تقريرات الميرزا الشيرازيّ قدس‌سره بما أورد على صحّة تقسيمها إلى الصحيح والسقيم.

ويجري فيه الجواب والإشكال حرفا بحرف كما لا يخفى.

السادس : إطلاق ألفاظ العبادات في جملة من الأخبار : استدلّ للأعمّ بإطلاق لفظ الصلاة وغيرها من العبادات في جملة من الأخبار ؛

منها : قوله عليه‌السلام : «بني الإسلام على الخمس : الصلاة والزكاة والحجّ والصوم والولاية ولم يناد بشىء كما نودي بالولاية فأخذ الناس بالأربع وتركوا هذه فلو أنّ أحدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة.»

فإنّ قوله عليه‌السلام : «فأخذ الناس بالاربع ...» ظاهر في الأربعة المتقدّمة من الصلاة والزكاة والحجّ والصوم وحيث أنّ عبادات هؤلاء فاسدة فلا بدّ أن يراد من الأربع : الفاسدة ولو لا ذلك لم يكن تارك الولاية آخذا بالأربع أيضا لأنّ المفروض أنّها كلّها صحيحة وليست بفاسدة مع أنّ الرواية صريحة في أنّهم أخذوا بها.

وأورد عليه الشيخ في التقريرات بأنّ هذا مجرّد استعمال ولا دليل فيه على المطلوب إذ لا وجه لإنكار الاستعمال في الأعمّ كما أنّه لا نفع لإثباته.

هذا مضافا إلى أنّ ما بني الإسلام عليه ليس بفاسد والرواية تدلّ على أنّ هؤلاء أخذوا بأربعة ممّا بني الإسلام عليه فلا بدّ من أن يكون المراد من الأربعة هو خصوص الصحيح منها. ولا ينافي ذلك بطلان عبادة منكري الولاية إذ لعلّ أخذهم بها إنّما كان بحسب اعتقادهم لا حقيقة ومجرّد البطلان لا يقتضي استعمالها في الفاسد أو الأعمّ

٣٩١

وهكذا الأمر في قوله «فلو أنّ أحدا صام نهاره ...» أي صام باعتقادهم.

وممّا ذكر من أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة يظهر الجواب عن مثل قوله عليه‌السلام للذين جهلوا بالقبلة : «صلّوا إلى أربع جهات» مع أنّ المعلوم بطلان ثلاثة منها فالمستعمل فيه. وقوله عليه‌السلام «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس ...» إذ المستعمل فيه أعمّ وإلّا لزم أن يكون الاستثناء منقطعا وهو خلاف الأصل.

ومنها قوله عليه‌السلام «دعي الصلاة أيّام أقرائك.»

فإنّه لا بدّ أن يكون المراد بها الفاسدة إذ لو لم يكن كذلك وكان المراد بها الصحيحة لزم عدم صحّة النهي عنها لأنّ مرجعه إلى النهي عمّا لا يكون مقدورا لها لعدم تمكّنها من الصلاة مع الطهارة التي يمتنع حصولها بأقسامها في زمان حصول نقيضها أو ضدّها وهو حدث الحيض.

واجيب عنه : مضافا إلى أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة بما في التّقريرات وتبعه في الكفاية من أنّه يمكن أن يكون المستعمل فيه في مثله خصوص الصحيحة ويكون النهي إرشادا إلى عدم وقوع العبادة المعهودة في أيّام الحيض ، وعدم القدرة عليها ، وهل هذا إلّا مثل قولك : «السورة جزء للصلاة» أو «التكفير مانع عنها» ونحو ذلك ولا ريب أنّ المراد بها في هذه العبارة أعني السورة جزء للصلاة أو التكفير مانع عنها هي الصحيحة فكذا فيما نحن فيه من غير فرق. إلّا أنّ التعبير عن ذلك المطلب إنّما وقع بعبارة النهي المفيد للإرشاد. (١)

لا يقال : كما عن هداية المسترشدين إنّ الإرشاد كالمولويّ إنشاء بعث والبعث يستدعي محلّا قابلا كالنهى الشرعيّ وعلى فرض عدم القدرة فالبعث إلى الصحيح سواء كان إرشاديّا أو مولويّا لغو وقبيح كما أنّ خطاب من لا بصر له بقوله : «لا تنظر»

__________________

(١) التقريرات ١ / ٧٣.

٣٩٢

لغو وقبيح.

لأنّا نقول : نعم ولكن ذلك فيما إذا لم يترتّب على الخطاب فائدة اخرى وفي المقام تكون فائدة الإرشاد هو إفادة شرطيّة الطهارة عن الحيض ومانعيّة الحيض فلا يكون الإرشاد لغوا أو قبيحا ولو لم يكن المحلّ قابلا.

ولذلك قال المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره إنّ فائدة الإرشاد هو إفادة شرطيّة الطهارة عن الحيض فإنّ المراد من استعمال الصلاة في الصحيحة استعمالها في تامّ الأجزاء والشرائط المجعولة حال الاستعمال ومن الواضح أنّ الطهارة عن الحيض إنّما جعلت شرطا بمثل هذا الدليل فالصلاة المستعملة في المستجمع للأجزاء والشرائط غير الطهارة عن الحيض قد استعملت في الصحيحة حال جعل الشرط فصحّ حينئذ أن ينهى عن الصلاة بذلك المعنى إرشادا إلى عدم ترتّب فائدة عليها لفقد شرطها أعنى الطهارة عن الحيض فهو جعل لشرطيّة الطهارة ببيان لازمها وهو الفساد حال الحيض. (١) فاللفظ مستعمل في الصحيح والنهي يكون إرشاديّا والمقصود من النهي عن الصلاة مع حدث الحيض يكون هو الإرشاد إلى مانعيّة الحيض واشتراط الطهارة عن الحيض. هذا كلّه مع كون النهي إرشادا وأمّا إذا كان النهي مولويّا فقد تسلّموا عدم صحّته إلّا على تقدير الأعمّ.

لكن ذهب استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره إلى إمكان أن يكون النهي مولويّا مع إرادة الصحيحة لو لا الحيض من لفظ الصلاة فإنّ الصلاة الصحيحة بهذا المعنى مقدورة ولا مانع من النهي عنه بالنهي المولويّ ولعلّ هذا هو المستفاد من بعض الروايات لأنّ الظاهر منها بقرينة كونها في مقام بيان السنن والأحكام الشرعيّة التكليفيّة مضافا إلى وحدة السياق مع سائر الفقرات أيضا هو الحرمة الذاتيّة المولويّة لا الإرشاديّة كما في

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٧٣.

٣٩٣

معتبرة يونس بن عبد الرحمن عن غير واحد سألوا أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحائض والسنّة في وقته فقال إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنّ في الحائض ثلاث سنن إلى أن قال : فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلّي ... الحديث. (١)

وكما في خبر خلف بن حمّاد إن كان من الحيض فليمسك عنها بعلها ولتمسك عن الصلاة ... الحديث. (٢)

لا يقال : إنّ لازم كون النهي عن الصلاة مولويّا هو حرمة الإتيان بما يسمّى صلاة عرفا ولو أخلّ بما لا يضرّ الإخلال به بالتسمية عرفا ولا أظنّ أن يلتزم به المستدلّ بالرواية المذكورة كما في الكفاية.

لأنّا نقول : إنّ المنهيّ عنه هو الصلاة الصحيحة لو لا حدث الحيض فلا يعمّ غيرها ولعلّ اللام في «الصلاة» هو لام العهد وعليه فالقول بالحرمة الذاتيّة لا يستلزم حرمة مسمّى الصلاة عرفا ولو أخلّ ببعض أجزائها أو شرائطها ما لم يخلّ بالتسمية عرفا بل المحرّم هو الإتيان بالصلاة الكاملة لو لا الحيض التي كانت معهودة قبل الحيض فلا تغفل.

وعليه فالنهي المولويّ عن الصحيحة لو لا الحيض ممكن ومع الإمكان لا يصار إلى الإرشاد لظهور النهي في المولويّ ولا يلزم من مولويّة النهي عدم القدرة لأنّ المقصود من النهي هو الصلاة الصحيحة لو لا الحيض والمفروض أنّها مقدورة فمع جواز كون المستعمل فيه هو الصلاة الكاملة لو لا الحيض لا يصلح مثل هذه الأخبار للاستدلال للأعمّ كما لا يخفى.

السابع : أنّه لو كانت ألفاظ العبادات أسامي للصحيحة لزم فيما إذا نذر أو حلف أن

__________________

(١) الوسائل ٢ / ٥٣٨.

(٢) نفس المصدر ٢ / ٥٣٦.

٣٩٤

لا يصلّي في مكان مكروه أو مباح من وجود الشيء عدمه وبطلان التالي قاض ببطلان المقدّم.

بيان الملازمة : أنّه على القول بالصحيح يكون متعلّق الحلف في كلام الحالف هو الصحيح فيصير منهيّا عنه لحصول الحنث بفعله.

والنهي يقتضي الفساد فيكون متعلّق الحلف فاسدا وذلك يوجب عدم تعلّق الحلف بها.

فلزم من تعلّق الحلف به عدم تعلّق الحلف به مع أنّه لا شبهة في صحّة تعلّق الحلف والنذر بترك الصلاة في مكان تكره فيه الصلاة وحصول الحنث بفعلها وليس ذلك إلّا لكون ألفاظ العبادات موضوعة للأعمّ.

وعليه فالمحذور المذكور يكون من تبعات كون ألفاظ العبادات أسامي للصحيحة بخلاف ما إذا كانت للأعمّ فإنّه لا يلزم من تعلّق الحلف به محذور كما لا يخفى.

وفيه : أوّلا : كما في (التقريرات) أنّ الفساد إنّما يقتضي عدم تعلّق الحلف به إذا كان المتعلّق مع قطع النظر عن الحلف فاسدا لأنّ المقصود هو ترك الصلاة الصحيحة بناء على القول بالصحيح وأمّا الفساد الذي جاء بواسطة تعلّق الحلف بتركه فهو لا يقتضي عدم تعلّق الحلف به بل هو من آثار تعلّق الحلف به فهو لا ينافي تعلّقه به بل يؤكّده. (١)

إذ الأثر دليل وجود المؤثّر فكيف يكون منافيا لوجوده.

وتبعه في الكفاية حيث قال مع أنّ الفساد من قبل النذر لا ينافي صحّة متعلّقه فلا يلزم من فرض وجودها عدمها. (٢)

__________________

(١) التقريرات / ١٤.

(٢) الكفاية ١ / ٤٩.

٣٩٥

وعليه فلا مانع من تعلّق الحلف بترك الصلاة الصحيحة لو لا الحلف أو النذر.

نعم يشكل ذلك على مختار صاحب الكفاية من تخصيص الصحيح بالمؤثّر الفعليّ إذ حينئذ يلزم من فرض وجود النذر أو الحلف عدمه. لأنّ بتعلّق النذر أو الحلف به يخرج المتعلّق عن المؤثّر الفعليّ ولا يصدق عليه عنوان الصحيح بالحمل الشائع مع أنّ المنذور أو المحلوف عليه بناء على مختاره هو الصحيح بالحمل الشائع بالفعل.

وثانيا : أنّه لو صحّ ذلك أي لزوم المحذور المذكور لا يقتضي إلّا عدم صحّة تعلّق النذر (أو الحلف) بالصحيح لا عدم وضع اللفظ له شرعا وهو مشترك الورود بين القول بالصحيح والقول بالأعمّ.

ولذا قال في المقالات : إنّ هذا النقض يرد على الأعمّيّ أيضا لو كان الناذر قاصدا للصحيح منها كما هو الغالب. (١)

وإليه يؤول ما في تهذيب الاصول حيث قال إنّ ما وضع تحت النذر هو الصحيح من الصلاة وإن قلنا بمقالة الأعمّيّ في أصل الوضع إذ المكروه في تلك الأمكنة ما هو مكتوب على المكلّفين لا الأجزاء الرئيسة ولا الصورة المعهودة فيصير الإشكال مشترك الورود. (٢)

فالإشكال ناش من جهة تعلّق النذر أو الحلف بالصحيح سواء كان الموضوع له هو الصحيح أو الأعمّ منه فلا وجه لتخصيص الإشكال بصورة كون اللفظ موضوعا للصحيح فهذا التالي الفاسد ليس من لوازم القول بالصحيح بل من لوازم إرادة الصحيح.

قال استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره : لو كان نظر المستدلّ إلى أنّ الناذر أو الحالف إذا قصد

__________________

(١) مقالات الاصول ١ / ٤٥.

(٢) تهذيب الاصول ١ / ٨٥.

٣٩٦

ترك مسمّى عنوان الصلاة بمعناها عند العرف المتشرّعة أفتى العلماء بصحّة النذر وحنثه بفعل الصلاة من دون تفصيل بين كون الموضوع له صحيحا حتّى يقال بعدم انعقاد النذر لاستلزام وجوده لعدمه وبين كونه الأعمّ حتّى يقال بانعقاده وعدم لزوم المحذور المذكور لتمّ الاستدلال لأنّ فتوى العلماء حينئذ كاشف عن كون المسمّى عند المتشرّعة هو الأعمّ وإلّا لما أفتوا بالصحّة كما لا يخفى.

وفيه : أوّلا : أنّ ما وقع في الاستدلال هو نذر ترك الصلاة أو الحلف على ترك الصلاة لا ترك مسمّى الصلاة.

وثانيا : أنّ فتوى من حكم بالصحّة لعلّه من جهة كونهم قائلين بالوضع للصحيح بضميمة ما عرفت من عدم لزوم المحذور المذكور من الفساد العارض بالنذر أو الحلف نعم يلزم ذلك المحذور إذا كان المتعلّق فاسدا مع قطع النظر عن الحلف أو النذر.

وثالثا : أنّه لو تمّ الاستدلال بالتقريب المذكور فلا يفيد إلّا كون الأعمّ هو معناه عند المتشرّعة وأمّا أنّه هو معناه عند عرف الشارع فلا دليل عليه.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ الاستدلال بصحّة النذر أو الحلف على ترك الصلاة للوضع للأعمّ محلّ إشكال من ناحية اخرى أيضا وهي كما في بدائع الأفكار : أنّ المسلّم عند الفقهاء هو اشتراط صحّة النذر وانعقاده بكون متعلّقه راجحا وعليه فلا يمكن القول بصحّة نذر ترك الصلاة في المواضع والأحوال المكروهة لأنّ فعل الصلاة في غير الأماكن المحرّم إيقاعها فيها لا ريب برجحانه ولذا أوّل الفقهاء كراهة الصلاة وجملة من العبادات الاخرى بكون ذلك الفرد منها أقلّ ثوابا من غيره. نعم لو تعلّق النذر بترك الخصوصيّة المتشخّصة للفرد المزبور أو الموجبة لكون الحصّة فردا للصلاة مثلا أعني بها تشخّصها بالوقوع في الحمّام مثلا لكان حينئذ لانعقاد النذر وجه مقبول وسرّ معقول إذ عليه يكون متعلّق النذر غير ترك العبادة وهو أمر لا إشكال برجحانه في نظر الشرع وقد يكون ذلك هو سرّ فتوى الفقهاء بانعقاد النذر المزبور وبذلك تعرف

٣٩٧

أنّ النذر لم يتعلّق بترك نفس الصلاة ليستكشف من صحّته وانعقاده كون المسمّى هو الأعمّ إذ استكشاف ذلك ينوط بفساد الصلاة من ناحية النهي الناشئ من النذر وأمّا النهي المتوجّه إلى ملازمها لا يوجب فسادها كما هو واضح. (١)

والحاصل أنّ نذر ترك الصلاة أو الحلف على تركها لا يصحّ لعدم الرجحان في متعلّق النذر ولعدم الإباحة في متعلّق الحلف ونذر ترك الصلاة أو حلفه مع ملاحظة خصوصيّة مشخّصة كوقوعها في الحمّام وإن كان صحيحا ولكن لا يفيد بطلان الصلاة وفسادها على تقدير وضع ألفاظ العبادة لخصوص الصحيح لأنّ النهي عن الملازم لا يوجب الفساد وإنّما المفسد هو النهي المتعلّق بنفس ترك الصلاة والمفروض أنه غير موجود.

بل الظاهر من تهذيب الاصول أنّ النهي العارض على ذات الصلاة من جهة تعلّق النذر بترك ذات الصلاة على فرض تعلّقه وصحّته لا يوجب كون ذات الصلاة محرّمة أيضا إذا المحرّم هو عنوان تخلّف النذر المنطبق على الفرد بالعرض ـ فتأمّل ـ كما أنّ الواجب بالذات هو طبيعة الصلاة المنطبقة على الفرد الخارجيّ بالذات. ومن هنا ذكرنا في محلّه أنّ النذر المستحبّات مثل صلاة الليل وغيرها لا يوجب اتّصافها بالوجوب بعناوينها بل الواجب هو الوفاء وصلاة الليل مثلا باقية على استحبابها. (٢)

وعليه فتكون الصلاة المتعلّق بتركها النذر أو الحلف على فرض تعلّقه وصحّته من موارد اجتماع الأمر والنهي إذ عنوان الصلاة تكون مأمورا بها وعنوان حنث النذر أو الحلف يكون منهيّا عنه وكلا العنوانين منطبق على مصداق واحد ومقتضى القاعدة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب اجتماع الأمر والنهي هو جواز الاجتماع لأنّ متعلّق

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ / ١٣٤ ـ ١٣٥.

(٢) تهذيب الاصول ١ / ٨٧ ـ ٨٦.

٣٩٨

الأحكام هو العنوان وهو في المقام متعدّد فلا يدلّ النهي عن التخلّف على فساد الصلاة اللهمّ إلّا أن يقال مقتضى ما روي من أنّ الله تعالى لا يطاع من حيث يعصى هو بطلان الصلاة ولعلّ أشار إليه بقوله فتأمّل ـ في تهذيب الاصول ـ.

وكيف كان فما ذهب إليه المستدلّ من بطلان الصلاة من جهة النهي العارض لها بالنذر أو الحلف على تركها في الأمكنة المكروهة ممنوع بأنّ النهي لا يكون عن نفس الصلاة بل يكون عن العنوان الملازم أو يكون بعنوان تخلّف النذر ومن المعلوم أنّها لا يوجبان البطلان.

فالاستدلال المذكور لا يتمّ من جهات فلا تغفل.

فتحصّل لحدّ الآن أنّ تصوير الجامع على كلا القولين ممكن وأنّ الأقوى هو الأعمّ أخذا بدليل الحكمة كما مرّ.

* * *

المقام الثاني في أسامي المعاملات :

ويقع الكلام هنا في امور :

الأوّل : في تحرير محلّ النزاع :

ذهب المشهور إلى عدم جريان النزاع في كون ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيحة أو الأعمّ بناء على وضعها للمسبّبات لعدم اتّصافها بهما بل بالوجود تارة وبالعدم اخرى. وتبعهم في الكفاية وأوضح الأصفهانيّ وجه مختارهم في تعليقته على الكفاية بقوله : إنّ الإيجاب والقبول المستجمعين للشرائط إذا حصلا حصلت الملكيّة الحقيقيّة والعقد المزبور بلحاظ تأثيره في وجود الملكيّة وقيام الملكيّة به قيام المعلول بالعلّة محقّق للتمليك الحقيقيّ والتمليك الحقيقيّ فعل تسبيبيّ ولا يصدق على نفس العقد

٣٩٩

إذ التمليك والملكيّة من قبيل الإيجاد والوجود فهما متّحدان بالذات ومختلفان بالاعتبار. فكما أنّ وجود الملكيّة ليس متّحدا مع العقد كذلك المتّحد معه ذاتا فافهم جيّدا. فحينئذ إن قلنا بأنّ البيع موضوع للتمليك الحقيقيّ أي ما هو بالحمل الشائع تمليك أو للتمليك الذي لا يصدق في الخارج إلّا على المتّحد مع وجود الملكيّة ذاتا كما هو الظاهر فلا محالة لا يجري فيه النزاع لعدم أثر لمثله كي يتّصف بلحاظ ترتّب الأثر عليه بالصحّة وبلحاظ عدم ترتّبه عليه بالفساد. إلى أن قال : وأمّا توهّم أنّ نفوذه (أي صحّته) لازم وجوده باعتبار ترتّب الآثار التكليفيّة والوضعيّة على الملكيّة فلا توجد إلّا مترتّبة عليها آثارها فيتّصف بالصحّة دون الفساد فمدفوع بأنّ نسبة تلك الآثار إلى الملكيّة نسبة الحكم إلى موضوعه لا نسبة المسبّب إلى سببه فضلا عن نسبة المسبّب إلى الأمر التسبيبيّ فلا يتّصف الملكيّة مع عدم كونها مؤثّرة في تلك الأحكام بالصحّة. فإن قلت : سلّمنا أنّ البيع هو إيجاد الملكيّة الحقيقيّة إلّا أنّ إيجاد الملكيّة أمر وإمضاء العرف أو الشرع أمر آخر فإن أمضاه الشارع أو العرف اتّصف بالصحّة وإلّا بالفساد. قلت : الملكيّة الشرعيّة أو العرفيّة ليست من المقولات الواقعيّة بل المعقول نفس اعتبار الشرع أو العرف هذا المعنى لمن حصل له السبب. ومن الواضح أنّ اعتبار كلّ معتبر لا واقع له وراء نفسه وهو أمر قائم بالمعتبر بالمباشرة وليس من حقيقة البيع في شيء حيث أنّه من الامور التسبيبيّة ، بل الشارع والعرف المعتبران للملكيّة ربما يجعلان سببا ليتوسّل به إلى اعتبارهما فإذا تسبّب الشخص بما جعله الشارع مثلا سببا لاعتباره فقد أوجد الملكيّة الاعتباريّة بالتسبيب ولا حالة منتظرة بعد حصول الملكيّة الشرعيّة بعلّتها التامّة الشرعيّة كي يقال بأنّ إيجاد الملكيّة أمر وإمضائه أمر آخر وإن أوجد ما هو سبب لاعتبار العرف فقطّ فالملكيّة الشرعيّة حقيقة لم توجد بعدم سببها وليس التمليك العرفيّ سببا بالإضافة إلى الملكيّة الشرعيّة حتّى يكون ترتّبها عليه مناط صحّته وعدمه مناط فساده وعلى أيّ حال فالقابل للتأثير وعدمه هو السبب دون

٤٠٠