عمدة الأصول - ج ١

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

بالالتفات الإجماليّ كتوسيط عنوان كما في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ فلا ألا ترى أنّ الواضع يلاحظ معنى عامّا مرآة للخصوصيّات ويضع اللفظ بإزائها بحيث يكون كل واحد من الآحاد الخاصّة موضوعا له وهذا العمل أمر ممكن للمستعمل بأن يلاحظ معنى عامّا مرآة للمعنيين أو المعاني الخاصّة فيستعمل اللفظ فيهما أو فيها بحيث يصير كلّ واحد مستعملا فيه وبالجملة اللحاظ والجمع الإجماليّ أمر مقدور للنفس بما أنّها جوهر بسيط بواسطة العناوين العامّة. كما يشهد له الحكم بثبوت شيء لشيء كزيد جالس. فإنّ النفس لا يحكم إلّا مع لحاظ طرفي القضيّة في آن الحكم وإلّا فلا قضيّة فالموضوع والمحمول ملحوظان باللحاظ الاستقلاليّ في آن واحد. وأيضا يشهد له صدور فعلان أو أزيد في آن واحد مع أنّ كلّ فعل ملحوظ باللحاظ الاستقلاليّ فالنفس في آن واحد يلاحظ كلّ واحد منهما وإلّا لم يصدرا عنه مع الاختيار والإرادة. فالتوجه الاستقلاليّ إلى المتعدّد لا مانع منه بل هو واقع كثيرا ما عن كلّ أحد.

هذا تمام الكلام بالنسبة إلى الوجوه العقليّة لامتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وقد عرفت عدم تماميّتها وإمكان استعمال اللفظ في الأكثر مطلقا سواء كان بنحو الحقيقة أو المجاز وسواء كان في المفرد وغيره من التثنية والجمع.

* * *

المقام الثالث : في الوجوه الأدبيّة :

اعتبار الوحدة في الموضوع له أو الوضع

منها : أنّ اعتبار الوحدة في الموضوع له أو الوضع يمنع عن جواز استعمال اللفظ في الأكثر من معنى واحد لا حقيقة ولا مجازا ، أمّا الحقيقة فواضح وأمّا المجاز

٤٨١

فلأنّه أيضا مثل الحقيقة في أنّه لا يجوز التعدّي عمّا حصل الرخصة فيه من العرب بحسب نوعه ولم يثبت الرخصة منهم في هذا النوع من الاستعمال وعليه فالاستعمال في الأكثر غلط.

وفيه أوّلا : أنّه لا وجه لدعوى اعتبار الوحدة في الموضوع له لأنّ ما وضع له اللفظ هو ذوات المعاني ولا مدخليّة لشيء آخر من الأوصاف ذاتيّة كانت أو غير ذاتيّة فالإنسان مثلا موضوع للحيوان الناطق ولا مدخليّة لكلّيّته وغيرها من الأوصاف الذاتيّة وغير الذاتيّة في المعنى. ولذا قال المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره : المتبادر من مسمّيات الألفاظ نفس معانيها حتّى أنّ أوصافها الذاتيّة غير ملحوظة بلحاظها ولا متبادرة بتبادرها. انتهى (١) وعليه فلا يكون المعنى متقيّدا بالوحدة بالمعنى الاسميّ بحسب وضع الواضع ، كما أنّ الوحدة بنحو القضيّة الحينيّة كوضع الواضع اللفظ للمعنى في حال الانفراد كما عن المحقّق القميّ في القوانين فهي أيضا لا تقتضي عدم جواز استعمال اللفظ في غير حال الانفراد ما دام لم تكن الوحدة ولو بالنحو المذكور مأخوذة في الموضوع له فإذا تعدّد الوضع فلا مانع من أن يستعمل اللفظ في المعنيين بعد كون الوضع متعدّدا كما إذا وضع أوّلا لفظ زيد لا بن عليّ ثمّ وضعه بوضع آخر لا بن الحسين. فاستعمال لفظ زيد في كلّ منهما استعمال اللفظ في نفس ما وضع له اللفظ. نعم لو استعمل في مجموع الزيدين بما هو مجموع استعمل في غير ما وضع له ولذا قال في الدرر : فكون الموضوع له في حال الوحدة لا يقتضي إلّا عدم كون المعنى الآخر موضوعا له بهذا الوضع ويتبعه عدم صحّة الاستعمال فيه بملاحظة هذا الوضع ولا يوجب ذلك عدم وضع آخر له ولا عدم صحّة استعماله بملاحظة ذلك الوضع الآخر. (٢)

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٩٠.

(٢) الدرر ١ / ٥٧.

٤٨٢

وثانيا : أنّه لا دليل على مراعاة خصوصيّات عمل الواضع لأنّ اللازم هو تبعيّة الواضع في مجعولاته لا في خصوصيّات عمله. فلو كان الواضع حال الوضع قائما لا يجب القيام حال الاستعمال بعد عدم أخذه في المعنى وهكذا. ولذا قال المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره : وأمّا خصوصيّات الوضع أعني عمل الواضع فغير لازمة المراعاة لوضوح أنّ متابعة كلّ جعل من كلّ جاعل إنّما هي بملاحظة مجعوله لا بملاحظة نفس جعله إذ ليس للجعل جعل آخر. (١)

لا يقال : توقيفيّة الوضع توجب توقيفيّة الاستعمال.

لأنّا نقول : لا حاجة في الاستعمال إلى ترخيص الواضع بعد كون الموضوع له طبيعة المعنى ، لا بشرط الوحدة وكون المستعمل فيه أيضا كذلك.

وأضعف من ذلك توهّم منع الواضع عن ذلك. ضرورة أنّ كلّ أحد لو راجع نفسه حين كونه واضعا للفظ زيد بإزاء ولده يجد أنّه ليس مانعا من استعمال ذلك اللفظ في غيره ومنعه بعد الوضع لو فرض لا عبرة به ما لم يرجع عن وضعه كما لا يخفى.

وثالثا : كما في بدائع الأفكار أنّه لا مانع من صحّة الاستعمال بنحو المجاز ولو على القول بالقضيّة الحينيّة في اعتبار قيد الوحدة فإنّ استعمال اللفظ في المعنى ولو على خلاف الوضع وإن كان في نفس الموضوع له لا مانع من صحّته كما في صورة استعماله في غير ما وضع له بلحاظ العلاقة فإنّ جميع ذلك ممّا يستحسنه الطبع ولا يفتقر إلى ترخيص الواضع. (٢) وعليه فلا مجال لدعوى عدم صحّة الاستعمال في الأزيد لا حقيقة ولا مجازا.

فتحصّل أنّ الاستعمال في الأزيد استعمال حقيقيّ لعدم مدخليّة الوحدة في المعنى لا

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٩١.

(٢) بدائع الأفكار ١ / ١٥١.

٤٨٣

بالمعنى الاسميّ ولا بالمعنى الحرفيّ ولو سلّم دخالة الوحدة في المعنى بنحو ، فلا نسلّم عدم جواز الاستعمال بنحو المجاز بعد عدم انحصار مجوّزات الاستعمالات المجازيّة في العلاقات المشهورة لكفاية ما يستحسنه الطبع في جواز الاستعمال.

التفصيل بين المفرد والتثنية والجمع

منها : أنّ الاستعمال في الأكثر في المفرد مجاز بخلاف التثنية والجمع فإنّ الاستعمال في الأكثر فيهما حقيقة.

استعمال اللفظ في الأكثر في المفرد

أمّا الأوّل فلما توهّم من أخذ قيد الوحدة في الموضوع له فإذا استعمل في الأكثر لزم إلغاء قيد الوحدة فيكون مستعملا في جزء المعنى بعلاقة الكلّ والجزء فيكون مجازا.

أورد عليه في الكفاية بأنّ الألفاظ لا تكون موضوعة إلّا لنفس المعاني من دون ملاحظة قيد الوحدة وإلّا فمقتضى اعتبار الوحدة في المعنى هو عدم جواز الاستعمال المجازيّ في الأكثر لأنّ الأكثر ليس جزء المقيّد بالوحدة بل يباينه مباينة الشيء بشرط شيء والشيء بشرط لا ، انتهى. وعليه فيكون الاستعمال في الأكثر غلطا.

وفيه ما ذكره استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّ مراد صاحب المعالم ليس هو استعمال اللفظ في مجموع المعنيين بما هو مجموع حتّى يكون المستعمل فيه هو الأكثر المباين للأقلّ بل هو استعمال اللفظ في بعض الموضوع له بالنسبة إلى كلا المعنيين وهو ذات المعنى من دون قيد الوحدة ومن المعلوم أنّه جزء المقيّد بالوحدة فدعوى المجازيّة على تقدير دخالة الوحدة في المعنى بعلاقة الجزء والكلّ ليست بمجازفة فإنكار المجاز حينئذ

٤٨٤

غير سديد ولعلّ إليه يؤول ما في تعليقة الأصفهانيّ قدس‌سره فراجع. (١)

استعمال اللفظ في الأكثر في التثنية والجمع

وأمّا الثاني فلكون التثنية والجمع في قوّة التكرير بالعطف وحيث لا يعتبر فيهما أزيد من الاتّفاق في اللفظ فيجوز استعمالهما في الأزيد من معنى واحد كما يشهد له صحّة التثنية والجمع في الأعلام مع اختلافها ومغايرتها في المعنى. وعليه فيجوز إرادة عين جارية وعين باكية حقيقة من تثنية العين لكفاية اتّحادهما في مجرّد اللفظ.

أورد عليه في الكفاية بما حاصله أنّ التثنية والجمع وإن كانا بمنزلة التكرار في اللفظ إلّا أنّ الظاهر أنّ اللفظ فيهما كأنّه كرّر واريد من كلّ لفظ فرد من أفراد معناه لا أنّه اريد منه معنى من معانيه فإذا قيل مثلا : جئني بعينين ، اريد فردان من العين الجارية لا فردان من المعنيين أعنى العين الجارية والعين الباكية فالتثنية والجمع لإفادة التعدّد من جنس واحد ولظهور صيغتهما في ذلك يؤوّل التثنية والجمع في الأعلام بتأويل المفرد إلى المعنى الذي يكون قابلا للتعدّد كالمسمّى بلفظ زيد في مثل زيدين. (٢)

وتبعه في الدرر حيث قال : وأمّا تجويز البعض ذلك في التثنية والجمع بملاحظة وضعهما لإفادة التعدّد بخلاف المفرد فمدفوع بأنّ علامة التثنية والجمع تدلّ على تكرار ما أفاده المفرد لا على حقيقة اخرى في قبال الحقيقة التي دلّ عليها المفرد كيف ولو كانت كذلك لما دلّت علامة التثنية على التعدّد لأنّ المفرد الذي دخل عليه تلك العلامة أفاد معنى واحدا والعلامة أيضا أفادت معنى واحدا فأين التعدّد المستفاد من علامة التثنية. (٣)

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٩١.

(٢) الكفاية ١ / ٥٦.

(٣) الدرر ١ / ٥٧.

٤٨٥

وفيما ذكر مواقع للنظر : منها : ما أورده استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّ تأويل المفرد في الأعلام إلى المسمّى تعسّف ولذا عدل عنه في المعالم وقال بكفاية الاتّحاد في اللفظ في استعمال التثنية والجمع حقيقة. ومنها : ما في المقالات من أنّ توهّم تأويلهما بالمسمّى وهو أيضا من الطبائع القابلة للتكرار مدفوع باستلزامه نكارة العلم الشخصيّ عند تثنيته مع أنّهم يرتّبون أيضا آثار المعرفة. (١) ومنها : ما في نهاية النهاية من أنّ مفهوم المسمّى ليس بمسمّى ولا ذي علاقة بالمسمّى فكيف يسوغ الاستعمال فيه. انتهى (٢). توضيح ذلك أنّ الأعلام الشخصيّة موضوعة للأشخاص ومسمّاها هي الأشخاص لا مفهوم المسمّى فليس مفهوم المسمّى بمسمّى ولا علاقة بين الشخص ومفهوم المسمّى حتّى يستعمل اللفظ الموضوع للفرد المعين في المفهوم الكلّيّ الذي هو مفهوم المسمّى. وعليه فاستعمال اللفظ في المسمّى ليس بحقيقة ولا مجاز بل هو غلط ولا يقاس استعمال اللفظ الموضوع للشخص في لمفهوم الكلّيّ باستعمال اللفظ الموضوع للكلّيّ في فرد من أفراده كما لا يخفى.

وأمّا ما ذهب إليه الفاضل الإيروانيّ في توجيه التثنية والجمع في الأعلام من جواز استعمالهما في اللفظ لا في المعنى كما في «ضرب فعل ماض» وبعد الاستعمال في اللفظ ثنّي أو جمع. وقد أفادت الأداة تكرّر أفراد الطبيعة المرادة من المدخول أعني بها طبيعة اللفظ. وفيما نحن فيه أيضا يصحّ مثل ذلك فيقال عينان وعيون ويراد به فردان أو أفراد من هذا اللفظ لكنّ المراد حينئذ لا يكون نفس اللفظ بما هو بل بما هو فان في المعنى كما في إرادة المعلوم من العلم فبالمآل يكون المراد هو المعنيان لكن بهذه المئونة لا باستعمال اللفظ في المعنيين ابتداء كما توهّم أو في المسمّى بالعين كما في متن الكفاية.

__________________

(١) المقالات ١ / ٥٠.

(٢) نهاية النهاية ١ / ٥٩.

٤٨٦

انتهى (١).

ففيه أنّه أيضا لا يخلو عن التعسّف وإن لم يكن منافيا لما استظهر منهما من ظهورهما في إفادة التعدّد من جنس واحد. هذا مضافا إلى أنّه مستلزم لنكارة العلم الشخصيّ عند تثنيته أو جمعه مع أنّهم يرتّبون عليه آثار المعرفة ولعلّه هو الوجه في تأمّل المحقّق الأصفهانيّ في هذا التوجيه على ما في تعليقته على الكفاية. أضف إليه أنّ التثنية والجمع في الأعلام على ما ذكر يكون من المجازات وكانت العلاقة فيها هي حسن الطبع وهو كما ترى لإباء العرف عن مجازيّتهما لاستعمالهما في معانيهما من دون عناية كما لا يخفى.

وممّا ذكر يظهر ما في المقالات أيضا حيث قال بعد منع تأويلهما بالمسمّى : وحينئذ الأولى في أمثال المقام أن يقال بأنّ علامة التثنية فيها دالّة على تكرّر طبيعة مدخوله إمّا بنفسه وبمعناه وهنا بلحاظ تكرّر اللفظ في ضمن فردين الحاكي كلّ منهما عن شخص معناه ... إلى أن قال : بل يجري مثل ذلك في تثنية أسماء الإشارة المتوغّلة في التعريف كهذين مثلا بحيث لا معنى فيها للتأويل بالمسمّى أصلا. انتهى (٢) لما عرفت من أنّ استعمال اللفظ في اللفظ من المجازات ويحتاج إلى مئونة وعناية. فاستعماله في طبيعة مدخوله بنفسه مجاز والوجدان على خلافه واللازم في التثنية هو إفادة تعدّد المعنى ولو من جنسين وعليه فاللفظ مستعمل في المعنى مطلقا سواء كان اسم جنس أو علم خاصّ والمصحّح للتثنية والجمع هو الاتّفاق اللفظيّ في الأعلام.

فالتحقيق أنّ التثنية موضوعة للاثنينيّة ولو من المتخالفين وهكذا الجمع وعليه ليس وحدة الجنس دخيلة في معنى التثنية والجمع ولذا يصحّ إطلاقهما على المتخالفين

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) مقالات الاصول ١ / ٥٠.

٤٨٧

جنسا كالمرأة والرجل والجنّ والإنس ونحوهما من دون عناية ومئونة فهل ترى في رجوع الضمير في قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). (١) إلى الجنّ والإنس مع أنّهما من جنسين مئونة وعناية؟ وليس ذلك إلّا لكون الجمع أو التثنية لإفادة المتعدّد ولو من الأجناس المختلفة.

فتحصّل أنّ التعسّف في الوجوه المذكورة يوجب القول بكفاية الاتّحاد اللفظيّ في استعمال التثنية والجمع حقيقة كما ذهب إليه صاحب المعالم فالتثنية لإفادة الاثنينيّة والجمع لإفادة الجماعة سواء كان من جنس واحد أو أجناس مختلفة فلا وجه لدعوى ظهورهما في إفادة التعدّد من جنس واحد ، نعم يرد عليه كما في الكفاية أنّه مع عدم لزوم التأويل والمجاز واستعمال اللفظ في معناه الحقيقيّ وكفاية الاتّحاد في اللفظ في استعمالهما حقيقة بحيث جاز إرادة عين جارية وعين باكية من تثنية العين حقيقة لا يكون استعمالهما من باب استعمال اللفظ في الأكثر لأنّ هيئة التثنية إنّما تدلّ على إرادة المتعدّد ممّا يراد من مفردهما فيكون استعمالهما وإرادة المتعدّد من معانيه استعمالا لهما في معنى واحد كما إذا استعملا واريد المتعدّد عن معنى واحد منهما فلا فرق بين استعمال اللفظ في التثنية والجمع وإرادة المتعدّد من معنى واحد وبين استعماله فيهما وإرادة المتعدّد من معانيه لأنّ صيغتهما في كلتا الصورتين مستعملتان في معنى واحد وهو إرادة المتعدّد ممّا يراد من مفردهما لأنّ هذا المعنى يصدق على الصورتين. فالتثنية تدلّ على الاثنينيّة سواء كانت من جنس واحد أو من جنسين والجمع تدلّ على الجماعة سواء كانت من جنس واحد أو من جنسين وعليه فصيغة التثنية والجمع لم يستعملا في الأكثر من معناهما بل مستعملان في كلتا الصورتين في معناهما. نعم لو اريد مثلا من

__________________

(١) الإسراء / ٨٨.

٤٨٨

«عينين» ، فردان من الجارية وفردان من الباكية كان من استعمال العينين في المعنيين إلّا أنّ حديث التكرار لا يكاد يجدي في ذلك أصلا فإنّ فيه إلغاء قيد الوحدة المعتبرة أيضا ضرورة أنّ التثنية عنده إنّما تكون لمعنيين أو لفردين بقيد الوحدة والفرق بينها وبين المفرد إنّما يكون في أنّه موضوع للطبيعة وهي موضوعة لفردين منها أو معنيين.

هذا كلّه بناء على ما ذهب إليه صاحب المعالم من دخالة الوحدة في المعنى وأمّا مع عدم دخالتها لا في التثنية والجمع ولا في المفرد يجوز استعمال اللفظ في الأكثر في المفرد وفي التثنية والجمع على نحو الحقيقة من دون تفصيل لو ثبت الاشتراك فيهما وإلّا فيجوز استعمال اللفظ في الأكثر على نحو المجاز كما لا يخفى.

وهم ودفع :

ربما يتوهّم أنّ الأخبار الدالّة على أنّ للقرآن بطونا سبعة أو سبعين تدلّ على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.

ويمكن الدفع بما في الكفاية من أنّه أجنبيّ عن المقام إذ لا دلالة لتلك الأخبار على أنّ إرادة البطون المذكورة من باب استعمال اللفظ فيها وإرادتها منه. فلعلّ إرادتها في أنفسها لا من اللفظ حال استعمال اللفظ في معنى واحد. وعليه فإرادة البطون وإن كان في عرض إرادة معنى اللفظ ولكن لم يستعمل اللفظ فيها حتّى يكون من المقام أو لعلّ المراد من البطون لوازم معنى الواحد المستعمل فيه اللفظ وإن كان أفهامنا قاصرة عن إدراكها فإرادة البطون حينئذ كان في طول إرادة معنى اللفظ ولا يكون البطون مستعملا فيها حتّى يكون من المقام.

وفيه : كما أفاد استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره أنّ إرادة البطون حال الاستعمال من دون استعمال اللفظ فيها لا ارتباط لها بالقرآن ومفاهيمه ولا تعدّ بطونا له ولمعناه بل هي معان مرادة مقارنة لإرادة معاني القرآن مع أنّ البطون المتعدّدة القرآنيّة تكون من محسّنات القرآن وامتيازاته. ولذلك قال في نهاية الاصول : لا وجه لعدّ الصور

٤٨٩

الإدراكيّة المتحقّقة في ذهن المخاطب حين استعمال اللفظ في معناه بطونا لهذا المعنى مع عدم الارتباط بينها وبين هذا المعنى. انتهى موضع الحاجة. (١)

بل يمكن منع صدق البطون باعتبار كونها من لوازم المعنى وإن كانت اللوازم المتعدّدة للمعاني من امتيازاتها ولكن صدق البطون عليها كما في نهاية الاصول بلا وجه (٢) اللهمّ إلّا أن يقال إنّ خفاء بعض اللوازم كخفاء بعض المصاديق يصحّح صدق البطون عليها. قال في نهاية الدراية : وربما يمكن إصلاح تعدّد البطون بتعدّد المحقّقات والمصاديق لمعنى واحد مثلا الطريق والميزان لهما معنى معروف وهما ما يسلك فيه ويوزن به ومحقّقاتهما كثيرة منها الطريق الخارجيّ وما له كفّتان ومنها الإمام عليه‌السلام حيث أنّه السبيل الأعظم والصراط الأقوم الذي لا يضلّ سالكه وإرادة المصاديق المتعدّدة في كلّ مورد بحسبه لا تنافي الاستعمال في معنى واحد يجمع شتاتها ويحوي متفرّقاتها. (٣)

وإليه يؤول ما أفاده استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّه يمكن أن يكون المراد من البطون أنّ للمعاني والمداليل الكلّيّة القرآنيّة مصاديق خفيّة مستورة عن الأذهان قد اطلقت عليها الألفاظ القرآنيّة كما اطلقت على مصاديقها الظاهريّة مع أنّ الاستعمال ليس إلّا في مفهوم واحد كلّيّ. ألا ترى أنّ العقد والعهد اطلق على المعاهدة والميثاق الذي وقعت بين الأرواح وبينه تعالى في عالم الذرّ وأنّ الطعام اطلق على العلم في مثل قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) أو اطلق الميزان على ولاية مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد كونها معيارا لمراتب الإيمان وهكذا. فكلّ مصداق خفيّ بطن من بطونه التي لا يعلمها إلّا الراسخون في العلم وبعبارة اخرى كما في نهاية الاصول أنّ

__________________

(١) نهاية الاصول ١ / ٥٦.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نهاية الدراية ١ / ٩٤.

٤٩٠

البطون عبارة عن المعاني المختلفة والمراتب المتفاوتة التي تستفاد من الآيات بحسب اختلاف مراتب الناس ودرجاتهم فإنّ أرباب النفوس الكاملة يستفيدون من الآيات الشريفة ما لا يخطر ببال المتوسّطين فضلا عن العوامّ وأرباب النفوس الناقصة. فالبطون السبعة أو السبعون إشارة إلى اصول المراتب الكماليّة لنفوس البشر التي باختلافها تختلف مراتب الاستفادة من الآيات القرآنيّة فافهم. (١)

وأضف إلى ذلك احتمال أن يكون البطون هي المعاني التي أرادها الله تعالى من تركيب خاصّ من الحروف المهموسة أو تركيب خاصّ من الحروف الأبجد التي لا يعلمها إلّا الراسخون في العلم لا من استعمال الألفاظ المستعملة في معانيها الظاهريّة وعليه فيتعدّد الدالّ والمدلول كما لا يخفى وكيف كان فأمر البطون على كلّ تقدير خارج وأجنبيّ عن استعمال اللفظ في الأكثر من معنى واحد.

* * *

المقام الرابع : في ثمرة البحث :

إذا عرفت ذلك كلّه وظهر لك إمكان استعمال اللفظ في الأكثر من معنى واحد وأحرزت أنّ المتكلّم في مقام البيان وأطلق لفظ المشترك وجب حمل المشترك عند الإطلاق على جميع معانيه إذا لم يأت في الكلام ما يعيّن بعض المعاني.

قال في نهاية الاصول : ثمّ اعلم أنّه على فرض القول بجواز استعمال اللفظ في الأكثر من معنى واحد عقلا ووضعا وجب حمل المشترك عند الإطلاق على جميع معانيه إذا لم يكن في البين ما يعيّن بعضها وذلك لما عرفت من كون هذا النحو من الاستعمال على فرض جوازه بنحو الحقيقة والمفروض عدم وجود قرينة معيّنة فلا محالة يكون المراد

__________________

(١) نهاية الاصول ١ / ٥٦.

٤٩١

هو الجميع نظير العمومات المحمولة على جميع الأفراد عند عدم القرينة على الخصوص. (١)

يشكل ذلك بما أفاده استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره بأنّ ارتكاز العرف على عدم حمل لفظ المشترك على جميع معانيه فيما إذا لم يقم قرينة على إرادة جميعها إذ لا بناء للعقلاء على ذلك وإنّما البناء فيما إذا دار الأمر بين الاستعمال الحقيقيّ والمجازيّ فإنّهم بنوا على الاستعمال الحقيقيّ ، انتهى.

ويمكن الجواب عنه بأنّ دعوى ثبوت البناء على العموم والإطلاق فيما إذا كان المتكلّم في مقام البيان وأطلق لفظا تكفي في صحّة دعوى وجود البناء على إرادة العموم وجمع المعاني في المقام ولا حاجة إلى إحراز البناء منهم على خصوص المورد فتأمّل. فإذا أحرز أنّ المتكلّم في مقام البيان لا الإجمال واطلق لفظا مشتركا يصحّ إرادة الجميع منه بنحو استعمال اللفظ في الأكثر من معنى واحد وحيث لم يذكر معه قرينة تفيد تعيين بعض المعاني فهو يفيد العموم كسائر الألفاظ العامّة بالذات أو بالعرض كوقوعها في النفي كالنكرة. وعليه فإذا قال المولى لعبده : أحسن زيدا وكان في مقام البيان لا الإجمال ولم يقم قرينة على اختصاص الاسم المذكور بشخص خاصّ أفاد عموم لفظ زيد المفروض كونه مشتركا بين عدّة فيجب على العبد إحسان جميع الأفراد الّذين يسمّون بزيد ولا عذر له في ترك إحسان بعضهم كما لا يخفى.

وأيضا يمكن الاستغناء باستعمال اللفظ في الأكثر من معنى واحد عن التقدير أو بعض المجازات. ألا ترى أنّ السجود في قوله تعالى : (اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ...) إلى قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ). اسند إلى الإنسان وغيره من

__________________

(١) نفس المصدر ١ / ٥٥ ـ ٥٦.

٤٩٢

المذكورات. فإن اريد بالسجود : الخضوع المطلق ولو بنحو الخضوع التكوينيّ فلا يستقيم مع قوله : وكثير من الناس ، فإنّ مطلق الخضوع لا يختصّ بالكثير بل جميع أفراد الناس وسائر الموجودات يكونون خاضعين بالخضوع التكوينيّ. فالخضوع مختلف باختلاف الموارد ، تكوينيّ باعتبار غير ذوى الشعور وتشريعيّ خاصّ باعتبار ذوي الشعور ولذا اضطرّوا إلى تقدير : يسجد ، عند قوله : وكثير من الناس ، مع أنّه لا حاجة إلى التقدير بعد جواز استعمال اللفظ في الأكثر من معنى واحد فالسجود استعمل في المعنيين بدليل إسناده إلى الشجر والدوابّ وإسناده إلى كثير من الناس. وهكذا «الصلاة» في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) ، اسندت إلى الله بمعنى الرحمة وإلى غيره بمعنى طلب الرحمة وهي مشتركة بينهما. ولا يصحّ إسنادها إلى الله تعالى بمعنى الثاني كما لا يصحّ إسنادها إلى غيره بمعنى الأوّل ولذا اضطرّوا إلى تقدير : «يصلّى» بعد قوله : «إنّ الله» مع أنّه لا حاجة إليه بعد جواز استعمال لفظ المشترك في الأكثر من معنى واحد فاسناده إلى الله تعالى وإلى غيره تعالى دليل إرادتهما واستعماله فيهما.

خلافا لما في الفصول من الالتزام بتقدير الفعل في الآيتين مع أنّ التقدير خلاف الأصل ودعوى شهادة الاستقراء على عدم الاستعمال في الأزيد وكون إرادة الأكثر خلاف المتفاهم العرفيّ كما في المحاضرات (١) ممنوعة إذ المتفاهم المذكور في غير لفظ المشترك وأمّا فيه فهو أوّل الكلام وعليه فدعوى ظهور لفظ المشترك في الأكثر من معنى واحد إذا كان المتكلّم في مقام البيان وأطلق ولم يأت بالقرينة المعيّنة ليست بمجازفة.

* * *

__________________

(١) المحاضرات ١ / ٢٠٩.

٤٩٣

الخلاصة :

يقع الكلام في مقامات :

المقام الأوّل : في محلّ النزاع وهو ما إذا استعمل لفظ واحد في معنيين مستقلّين أو المعاني المستقلّة بحيث يكون الاستعمال الواحد بمنزلة الاستعمالين أو الاستعمالات ويكون كلّ واحد من المعنيين أو المعانى مرادا على حياله واستقلاله دون ما إذا استعمل اللفظ في مجموع المعنيين كالعامّ المجموعيّ أو أحدهما لا بعينه كالفرد المردّد أو الجامع بينهما أو بين المعاني كالكلّيّ لأنّ المستعمل فيه في أمثال هذه الموارد ليس متعدّدا ويكون خارجا عن محلّ النزاع.

المقام الثاني : في وجوه الامتناع وهي على قسمين :

أحدهما : الوجوه العقليّة منها : أنّه لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد لحاظ اللفظ وجها وفانيا في المعنيين أو الأزيد إذ بعد كون اللفظ آلة ووجها لمعنى والنظر بالذات إلى المعنى يستحيل أن يكون آلة لحاظ لمعنى آخر وإلّا لزم اجتماع المثلين في شيء واحد.

وفيه : أنّ الاستعمال من باب العلامة والدلالة لا الفناء وعليه فلا مانع من أن يجعل لفظ واحد موضوع للمعاني المختلفة علامة لأزيد من معنى واحد في عرض واحد من دون حاجة إلى تكرار اللفظ أو لحاظه في كلّ استعمال لحاظا على حدة وحديث فناء اللفظ في معناه لا واقعيّة له ومجرّد كون النظر إلى المعاني بالأصالة نوعا دون الألفاظ لا يكون قرينة على جعل اللفظ فانيا في معناه كما أنّ سراية الحسن والقبح من المعاني إلى الألفاظ لا يكون شاهدا على الفناء المذكور لإمكان كون ذلك من جهة الارتباط الأكيد الحاصل بين اللفظ والمعنى بالوضع بل اختيار لغة من بين اللغات أو مراعاة فصاحتها حين الاستعمال ينافي دعوى الفناء كما لا يخفى.

٤٩٤

ومنها : أنّ حقيقة الاستعمال هو إلقاء المعنى إلى الطرف بإلقاء اللفظ وهذا لا يمكن إلّا بأن يكون اتّحاد بين اللفظ والمعنى وحيث أنّ هذا الاتّحاد ليس حقيقيّا لأنّ اللفظ من مقولة والمعنى غالبا من مقولة اخرى فلا بدّ أن يكون اعتباريّا وإن شئت فسمه بالهوهويّة الاعتباريّة أو الوجود التنزيليّ للمعنى ولهذا قالوا للشيء أربعة أنحاء من الوجودات وعدّوا منها الوجود اللفظيّ فإذا كان حقيقة الاستعمال كذلك فكيف يمكن أن يعتبر وجود واحد لطبيعيّ اللفظ وجودا لهذه الماهيّة ووجودا آخر لماهيّة اخرى.

وفيه أولا أنّ الاستعمال ليس إلّا التكلّم بالدالّ على المعنى بحسب الوضع أو بحسب القرائن لا إيجاد المعنى في الخارج باللفظ وعليه فاعتبار وجود اللفظ وجودا للمعنى أو اعتبار الهوهويّة والتنزيل بينهما خارج عن حقيقة الاستعمال ويحتاج إلى مئونة زائدة ولا التفات للمتكلّم إليه ولا شاهد ولا دليل عليه.

وثانيا أنّ الوجود التنزيليّ ليس إلّا بالاعتبار لا بالذات والحقيقة وعليه فتعدّد الموضوع له أو المستعمل فيه وجعل اللفظ الواحد مرآتا لتلك المعاني بالمواضعة الاعتباريّة لا يستلزم كون شيء واحد حقيقيّ ذا وجودين أو ذا وجودات إذ الوجود الاعتباريّ لا يوجب التكثّر في الوجود الواقعيّ بل هو يحتاج إلى تكثّر الاعتبار وهو خفيف المئونة إذ الاعتبار في تكثّره وسعته وضيقه وعمومه وخصوصه تابع لنظر المعتبر فيجوز له أن ينزّل أمرا واحدا منزلة أمرين أو امور ويترتّب عليه آثار المتعدّد فلا تغفل.

ومنها : أنّ حقيقة الاستعمال ليست إلّا عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ وإلقائه إلى المخاطب خارجا ومن هنا لا يرى المخاطب إلّا المعنى فإنّه الملحوظ أوّلا وبالذات واللفظ ملحوظ بتبعه وفان فيه.

ولازم ذلك أنّ استعمال اللفظ في الأزيد من معنى على نحو الاستقلال يوجب تعلّق اللحاظ الاستقلاليّ بكلّ واحد منهما في آن واحد كما لو لم يستعمل اللفظ إلّا فيه

٤٩٥

والنفس لا تستطيع على أن تجمع بين اللحاظين المستقلّين في آن واحد والمستلزم للمحال محال لا محالة.

وفيه أوّلا ما عرفت من منع كون الاستعمال من باب إيجاد المعنى باللفظ ومجرّد كون الغرض من الاستعمال هو تفهيم المعاني لا يستلزم أن يكون باب الاستعمال من باب إيجاد المعاني لحصول الغرض بتكلّم الدوالّ واستماعها بعد العلم بعلقة الوضع بين الدوالّ والمعاني.

وثانيا : أنّا نمنع عدم استطاعة النفس للجمع بين اللحاظين المستقلّين أو اللحاظات المستقلّة في آن واحد ألا ترى أنّ الواضع يلاحظ عنوانا عامّا مرآة للأفراد ويضع اللفظ بإزاء كلّ واحد من الأفراد بحيث يكون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا فكما أنّ هذا الأمر ممكن في حقّ الواضع فكذلك يكون في حقّ المستعمل فيجوز له أن يلاحظ عنوانا عامّا مرآة للمعاني المتعدّدة فيستعمل اللفظ الواحد فيها بحيث يصير كلّ واحد منها مستعملا فيه.

وثانيهما : الوجوه الأدبيّة : منها : أنّ اعتبار الوحدة في الموضوع له أو الوضع يمنع عن جواز استعمال اللفظ في الأكثر من معنى واحد لا حقيقة ولا مجازا أمّا الحقيقة فواضح وأمّا المجاز فلأنّه مثل الحقيقة في أنّه لا يجوز التعدي عما حصلت الرخصة فيه من العرب بحسب نوعه والمفروض أنّه لم تثبت الرخصة منهم في هذا النوع من الاستعمال.

وفيه أوّلا : أنّه لا وجه لدعوى اعتبار الوحدة في الموضوع له لأنّ الموضوع له اللفظ هو نفس ذوات المعاني من دون تقييدها بالوحدة ووضع الألفاظ لمعانيها في حال الانفراد لا يقتضي عدم جواز استعمالها في غير حال الانفراد ما لم تكن الحالة المذكورة مأخوذة فيها إذ غايته أنّ المعنى الأخر لا يكون موضوعا له اللفظ بهذا الوضع ولا يستلزم أن لا يكون اللفظ موضوعا بوضع آخر له.

٤٩٦

هذا مضافا إلى أنّه لا دليل على لزوم مراعاة خصوصيّات عمل الواضع لأنّ اللازم هو تبعيّة الواضع في مجعولاته لا في خصوصيّات عمله.

وثانيا أنّ الاستعمال بنحو المجاز لا يتوقّف على الترخيص لعدم انحصار مجوّزات الاستعمالات المجازيّة في العلاقات المشهورة بل يصحّحه وجود ما يستحسنه الطبع.

ومنها : أنّ الاستعمال في المفرد مجاز دون التثنية والجمع لأنّ المفرد اخذ فيه قيد الوحدة فاستعماله في الأكثر يوجب إلغاء قيد الوحدة فيكون مستعملا في جزء المعنى بعلاقة الكلّ والجزء وهو مجاز. هذا بخلاف التثنية والجمع فإنّهما في قوّة التكرير بالعطف وحيث لا يعتبر فيهما أزيد من الاتّفاق في اللفظ يجوز استعمالهما في الأزيد من معنى واحد كما يشهد له صحّة التثنية والجمع في الأعلام مع مغايرتها في المعنى.

وفيه أوّلا ما عرفت من منع اعتبار الوحدة في الموضوع له لا في المفرد ولا في التثنية والجمع فاستعمال المفرد في الأكثر لا يوجب استعمال اللفظ في جزء المعنى كما لا يكون كذلك في التثنية والجمع.

وثانيا أنّ التثنية وإن كانت لإفادة الاثنينيّة والجمع لإفادة الجماعة مطلقا سواء كانت من جنس واحد أو أجناس مختلفة ولكن إرادة المعاني المتغايرة منهما لا يوجب استعمالهما في الأكثر أصلا لأنّ هيئة التثنية والجمع إنّما تدلّ على إرادة المتعدّد ممّا يراد من مفرد هما فيكون استعمالهما وإرادة المتعدّد من معانيهما استعمالا لهما في معنى واحد كما أنّه كذلك إذا استعملا واريد المتعدّد من معنى واحد منهما وليس ذلك إلّا لكون التثنية والجمع لإفادة المتعدّد ولو من الأجناس المختلفة وعليه فلا فرق بين استعمال اللفظ في التثنية والجمع وإرادة المتعدّد من معنى واحد وبين استعماله فيهما وإرادة المتعدّد من معانيهما المختلفة لأنّ صيغة الجمع والتثنية مستعملتان في كلتي الصورتين في معنى واحد وهو إرادة المتعدّد ممّا يراد من مفردهما وهذا المعنى يصدق في الصورتين وعليه فلو اريد من العينين فرد من الجارية وفرد من الباكية لم يستعمل لفظ العينين

٤٩٧

في الأزيد من معنى التثنية كما إذا اريد من العينين فردان من الجارية نعم لو اريد من لفظ العينين فردان من الجارية وفردان من الباكية كان من استعمال العينين في الأزيد من المعنى فإن ثبت الاشتراك فهو على نحو الحقيقة بعد ما عرفت من عدم دخالة قيد الوحدة لا في المفرد ولا في التثنية والجمع وإلّا فهو استعمال مجازيّ كما لا يخفى.

فتحصّل أنّه لا مانع عقلا ونقلا عن جواز الاستعمال في أكثر من معنى واحد.

وهم ودفع :

ربما يتوهّم أنّ الأخبار الدالّة على أنّ للقرآن بطونا سبعة أو سبعين تدلّ على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.

ويمكن دفعه بأنّ إرادة البطون ليس من باب استعمال اللفظ فيها وإرادتها منه لاحتمال أن يكون من لوازم المعنى وصدق البطون من جهة خفائها وعليه فاللفظ حتّى يوجب استعمال اللفظ في الأكثر من معنى واحد أو لاحتمال أن يكون المراد من البطون أنّ للمعاني والمداليل الكلّيّة القرآنيّة مصاديق خفيّة مستورة عن الأذهان قد اطلقت عليها الألفاظ القرآنيّة كما اطلقت على مصاديقها الظاهريّة وعليه فاللفظ لا يستعمل إلّا في مفهوم واحد كلّيّ أو لاحتمال أن يكون المراد من البطون هو الإشارات التي استفيدت من الحروف المقطّعة أو حروف الأبجد أو التركيبات الخاصّة من الحروف كالمهموسة وغيرها.

المقام الثالث في ثمرة البحث : ولا يخفى عليك أنّ بعد فرض إمكان استعمال اللفظ في الأكثر من معنى واحد فإن احرز أنّ متكلّما في مقام البيان لجميع المعاني التي يكون اللفظ مشتركا فيها وجب حمل اللفظ المشترك عند الإطلاق على جميع معانيه بعد ذلك الإحراز فإذا قال : أحسن زيدا ، ونعلم أنّه أراد إحسان كلّ زيد من أصدقائه وجب حمل زيد الذي كان مشتركا بين عدّة من أصدقائه على إرادة جميع معانيه واستعماله في الأزيد من معنى واحد وهذا الإحراز هل يحصل بمجرّد إطلاق الكلام و

٤٩٨

عدم ما يعيّن بعض المعاني أم لا يحصل ، ذهب بعض إلى الأوّل بدعوى أنّ هذا الاستعمال على فرض جوازه حيث كان بنحو الحقيقة والمفروض عدم وجود قرينة معيّنة فلا محالة يكون المراد هو الجميع نظير العمومات المحمولة على جميع الأفراد عند عدم القرينة على الخصوص ويشكل ذلك بأنّ ارتكاز العقلاء على الخلاف عند عدم قيام قرينة فإنّهم لا يحملون اللفظ المشترك على جميع معاينة اللهمّ إلّا أن يقال : أنّ الارتكاز المذكور في غير اللفظ المشترك فإنّهم لا يحملون اللفظ الموضوع لمعنى على أزيد من معناه وعليه فقيام البناء على إرادة البعض يكفي في المقام أيضا فتأمّل. وكيف كان فإن حمل اللفظ المشترك عند الإطلاق على جميع معانيه فثمرة البحث واضحة وإلّا فلا ثمرة عد ما يمكن أن يقال بأنّ جواز استعمال اللفظ في الأكثر من معنى واحد يوجب الاستغناء عن التقدير ومجاز الحذف في مثل قوله تعالى : (اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ...) إلى قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ...) الآية فإنّ قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) شاهد على أنّ المراد من السجود المسند إليه غير السجود المسند إلى غيره إذ الخضوع التكوينيّ وعليه فمعنى السجود مختلف باختلاف الموارد تكوينيّ باعتبار غير ذوي الشعور وتشريعيّ خاصّ باعتبار ذوي الشعور فمن ذهب إلى عدم جواز استعمال لفظ السجود في الأزيد من معنى واحد اضطرّ إلى تقدير يسجد عنه قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) مع أنّه لا حاجة إليه بعد جواز استعمال اللفظ في الأكثر من معنى واحد.

* * *

٤٩٩

الأمر الثالث عشر : البحث في المشتقّ

والبحث في المشتق يقع في مقامات :

المقام الأوّل :

في تحرير محلّ النزاع ولا يخفى عليك أنّ الاصوليّين اتّفقوا على أنّ إطلاق لفظ المشتقّ فعلا على من يتلبّس بالمبدإ في الاستقبال مجاز بعناية الأول والمشارفة كإطلاق المجتهد على من يكون قريب الاجتهاد.

واتّفقوا أيضا على أنّ إطلاق المشتقّ حقيقة على المتلبّس بالمبدإ في الحال كصدق المجتهد على من يكون بالفعل مجتهدا.

وأجمعوا أيضا على أنّ إطلاق المشتقّ حقيقة على من كان متلبّسا في الأمس باعتبار تلبّسه في الأمس أو على من يتلبّس في الغد باعتبار تلبّسه في الغد. كقولهم : كان زيد ضاربا أمس ، أو سيكون غدا ضاربا ، إذا كان متلبّسا بالضرب في الأمس في المثال الأوّل ومتلبّسا به في الغد في المثال الثاني.

ولكن اختلفوا في أنّ المشتق حقيقة في خصوص من تلبّس بالمبدإ أو فيما يعمّه ومن انقضى عنه المبدأ. فمن ذهب إلى الأوّل جعل إطلاقه على من انقضى عنه المبدأ

٥٠٠