عمدة الأصول - ج ١

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

كما إذا كان أحدهما واردا في مورد الاجتماع فلا بدّ وأن يخصّص الآخر لأنّ تخصيص المورد مستهجن فإذا سئل عن جواز إكرام العالم الفاسق وقال في الجواب : «أكرم العلماء» وصدر منه أيضا قبلا أو بعدا : لا تكرم الفسّاق» فلا بدّ وأن يقدّم عموم «أكرم العلماء» ويخصّص به عموم «لا تكرم الفسّاق» وإن كان بينهما عموم من وجه.

وإلّا إذا كان أحد العامّين من وجه له أفراد قليلة بحيث لو خصّص بما عدا مورد الاجتماع يكون إلقاء العامّ قبيحا فاللازم هو تخصيص دليل آخر به لا العكس.

وإلّا إذا كان أحد العامّين في مقام التحديد فيقدّم على الآخر ويكون قرينة على التصرّف فيه وإن لم يكن أخصّ منه وذلك من جهة صيرورته كالنصّ بواسطة كونه في مقام التحديد.

وهكذا الأمر فيما إذا دار الأمر بين التقييدين سواء كان الإطلاق شموليّا أو بدليّا بعد ما عرفت من انعقاد الظهور مع انفصال القيد فإنّهما يتعارضان ولا ترجيح بينهما إلّا بأمثال ما ذكر في دوران الأمر بين التخصيصين فلا تعقل.

* * *

٢٨١

الأمر التاسع : الحقيقة الشرعيّة

ويقع الكلام في مقامات :

المقام الأوّل :

أنّ الوضع التعيينيّ على قسمين : أحدهما : أن يصرّح الواضع بإنشاء العلقة والارتباط بين لفظ ومعنى. وثانيهما : أن يستعمل الواضع لفظا في معنى بداعي إنشاء الارتباط والعلقة بينهما من دون أخذ قرينة وعلاقة المجاز وإن لم يخل عن قرينة كونه فى مقام الوضع.

وكلاهما واقعان من الواضعين ، ألا ترى أنّ الوالد الواضع ربما يصرّح بإنشاء العلقة والارتباط بين لفظ إبراهيم مثلا وولده ويقول : «اسم هذا إبراهيم». كما قد يستعمل لفظ إبراهيم فيه بقصد إنشاء العلقة والارتباط بينهما ويقول مثلا : «جئني بإبراهيم».

ولا إشكال في إمكان الأوّل من الشارع ولكن لم يقع منه لعدم النقل مع أنّه لو كان لبان.

تحقّق الوضع التعيينيّ الاستعماليّ :

ولا مجال للتأمّل في صحّة الثاني من الشارع وإمكان وقوعه منه لأنّ الوضع

٢٨٢

التعيينيّ في لسان الشّارع كما يحصل بالتصريح بإنشائه كذلك يحصل باستعمال اللفظ في غير ما وضع له بقصد الحكاية عنه من دون أخذ قرينة من قرائن المجاز وعلائقه. وليس هذا الاستعمال استعمال حقيقيّ لغويّ لأنّه لم يستعمل في الموضوع له لغة كما ليس باستعمال مجازيّ لخلوّه عن ملاحظة القرائن والمناسبات بل هو استعمال حقيقيّ شرعيّ عند استعمال الشارع إيّاه في معنى شرعيّ من دون أخذ علاقة وقرينة المجاز.

لا يقال : إنّ الاستعمال في الثاني علّة لصيرورة اللفظ حقيقة شرعيّة في المعنى الشرعي فكيف يكون نفس هذا الاستعمال استعمالا حقيقيّا مع أنّ الحقيقية تحصل بالاستعمال وبعبارة اخرى الحقيقة متأخّرة عن الوضع والوضع متأخّر عن الاستعمال المذكور لأنّه حصل بسببه. فلا يمكن أن يكون هذا الاستعمال على نحو الحقيقة لتأخّر المعلول عن العلّة رتبة.

لأنّا نقول : إنّ الوضع والحقيقة وإن كانا متأخّرين عن الاستعمال رتبة ولكنّهما مقارنان زمانا وعليه فالاستعمال مقارن مع زمان وجود الارتباط والعلاقة بين اللفظ والمعنى والتقارن يكفي في كون الاستعمال حقيقة ولا يلزم أن يكون الارتباط والعلاقة بينهما متقدّما على الاستعمال إذ الاستعمال الحقيقيّ هو أن يستعمل اللفظ في معناه وهو حاصل في الفرض الثاني أيضا كما لا يخفى.

إن قلت : إنّ استعمال اللفظ في معنى شرعيّ لا يكون بدون القرينة ولو كانت قرينة المقام.

قلت : نعم ، ولكن هذه القرينة ليست قرينة المجاز وعلاقته بل هو قرينة كونه في مقام الوضع ولا إشكال فيه لأنّ المفروض هو ما إذا علم أنّ الشارع في صدد الوضع الجديد ويستعمل اللفظ في المعنى الشرعيّ كاستعماله في معناه الأصليّ من دون ملاحظة قرينة المجاز وعلاقته بين المعنى الجديد والمعنى الأصليّ.

لا يقال : إنّ الحكاية والدلالة مقصودة في الاستعمال على الوجه الآليّ والمعنى الحرفيّ إذ الالتفات يكون بالمعنى الاسميّ نحو نفس المعنى دون اللفظ ودلالته وحكايته. هذا

٢٨٣

بخلاف الوضع فإنّ الحكاية فيه مقصودة على وجه الاستقلال لأنّ حقيقة الوضع هو جعل اللفظ لمعنى بحيث يحكى به عنه عند الاستعمال وهو متوقّف على ملاحظة اللفظ والمعنى وجعل الارتباط والعلقة بينهما ومن البيّن أنّ الجمع بينهما في لحاظ واحد جمع بين اللحاظين.

لأنّا نقول : اجيب عنه بوجوه :

منها : ما في تعليقة الأصفهانيّ قدس‌سره من أنّ التحقيق أنّ إنشاء الوضع حقيقة بمعنى جعل اللفظ بحيث يحكي بنفسه بجعل لازمه وهو جعله حاكيا فعلا بنفسه معقول فالحكاية وإن كانت مقصودة وملحوظة آليّا في الاستعمال إلّا أنّها مقصودة بالاستقلال في مرحلة التسبّب إليها بإنشاء لازمها وجعله ، فتدبّر. انتهى (١)

ولقد أفاد وأجاد فإنّ استعمال اللفظ في المعنى الشرعيّ بعنوان أنّه معناه على سبيل المعاني الحقيقيّة من دون ملاحظة علقة من العلائق والمناسبات المجازيّة يستلزم بدلالة الاقتضاء على أنّ اللفظ موضوع لذلك إذ بدونه لا يمكن هذا الاستعمال الخاصّ كما لا يخفى.

فإنشاء اللازم يستلزم إنشاء الملزوم وهو وضع اللفظ لهذا المعنى كما أنّ إنشاء بيع المبيع من ذي الخيار يستلزم بدلالة الاقتضاء الفسخ إذ بدونه لا يمكن البيع مجدّدا لما باعه قبلا فإنّه بالبيع الأوّل انتقل المبيع عنه إلى المشتريّ فكيف يمكن أن يبيعه ثانيا من شخص آخر بدون إنشاء الفسخ قبلا. وعليه فالإنشاء الواحد يكون بيعا وفسخا أمّا الفسخ فلإنشاء لازمه ولا يمكن إنشاء اللازم من دون إنشاء ملزومه وهو الفسخ فهذا الإنشاء بهذا الاعتبار فسخ وأمّا البيع فهو واضح فإنّ نفس اللازم هو البيع.

وفي المقام يكون الاستعمال في مرحلة حكايته عن المعاني ملحوظا باللحاظ الآليّ

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٤٤.

٢٨٤

وفي مرحلة التسبّب به إلى الوضع ملحوظا باللحاظ الاستقلاليّ ولا مانع من اجتماعهما لتعدّد الجهات كما لا يخفى.

ولكن أورد عليه في منتهى الاصول أوّلا : بأنّ هذا خروج عن الفرض لأنّ الكلام في تحقّق الوضع بنفس الاستعمال لا بشيء آخر.

وثانيا : بأنّ الوضع عبارة عن العلاقة المذكورة ولا يمكن حصول تلك العلاقة جعلا إلّا بتصوّر طرفيها مستقلا وبالمعنى الاسميّ ففي هذا المقام إن لم يكن له تصوّر وإنشاء في البين غير هذا الاستعمال يلزم المحذور المذكور أعني اجتماع اللحاظين. وإن كان تصوّر وإنشاء وجعل في البين غير هذا الاستعمال فيحتاج إلى سبب عرفيّ أو شرعيّ للإنشاء كما في سائر الإنشاءات والمفروض أنّ غير هذا الاستعمال ليس شيء في البين. وإن أراد المدّعي أنّ تلك العلاقة توجد بنفس هذا الاستعمال من دون إنشاء آخر وجعل ذلك الملزوم فهذا واضح البطلان لأنّه لو فرضنا أنّه جعل اللفظ حاكيا عن المعنى في نفسه بدون قرينة في هذا الاستعمال فصرف هذا لا يوجب وجود علاقة وارتباط بين اللفظ والمعنى في عالم الاعتبار من دون أن يتعلّق جعل بنفس تلك العلاقة والارتباط. وهذا واضح جدّا والإنصاف أنّه لو ساعد البناء العرفيّ وعلمنا أنّهم في مقام تسمية أولادهم مثلا يبنون على وجود مثل هذه العلاقة بمثل هذه الاستعمالات فلا بدّ وأن يحمل على أنّ البناء القلبيّ عندهم سبب لحصول تلك العلاقة إذا كان متعقّبا بمثل ذلك الاستعمال. (١)

ويمكن الجواب عنه أوّلا : بأنّ الوضع حاصل بنفس الاستعمال لا بشيء آخر حتّى يلزم الخروج عن الفرض كما أنّ إنشاء الفسخ حاصل بنفس إنشاء البيع المجدّد من ذي الخيار لا بشيء آخر.

__________________

(١) منتهى الاصول : ١ / ٤٩.

٢٨٥

ألا ترى أنّ من قال عند تسمية ولده جئنى بإبراهيم استعمل لفظ إبراهيم في ولده على نحو الاستعمال الحقيقيّ بمعنى أنّه لم يلاحظ علاقة من علائق المجاز وأنشأ بنفس الاستعمال الارتباط والعلاقة بين تلك اللفظة وولده ولا مدخليّة لشيء آخر غير الاستعمال فحديث خلف الفرض لا أصل له.

وثانيا : بأنّ اجتماع اللحاظين في شيء واحد مع تعدّد الملحوظين لا أساس له وذلك لأنّ الملحوظ باللحاظ الآليّ هو استعمال اللفظ في معناه بما هو حاك عنه وإنشاء الحكاية به والملحوظ باللحاظ الاستقلاليّ هو مرحلة التّسبب به إلى ملزومه وهو إنشاء الوضع والعلاقة بين اللفظ وهذا المعنى وهذان أمران مختلفان فلا مانع من اجتماع اللحاظين فيهما ، فالآليّة والاستقلاليّة ليسا في شيء واحد ومعه لا مناقضة.

وثالثا : بأنّ الوجه في كون إنشاء الحكاية باستعمال اللفظ في معناه إنشاء الوضع وإيجاد العلقة بين اللفظ وهذا المعنى الجديد هو ما عرفت من أنّ هذا الاستعمال الكذائيّ من دون ملاحظة علقة من علائق المجاز لا يمكن إلّا أن يسبقه رتبة إنشاء الوضع والعلقة بين اللفظ والمعنى كما أنّه لا يمكن إنشاء البيع المجدّد من ذي الخيار إلّا أن يسبقه رتبة إنشاء فسخ البيع الأوّل وبما ذكر يظهر كيفيّة دلالة إنشاء اللازم على إنشاء الملزوم بدلالة الاقتضاء فلا وجه لقوله : «فصرف الاستعمال لا يوجب وجود علاقة وارتباط بين اللفظ والمعنى في عالم الاعتبار» كما لا يخفى.

ورابعا : بأنّ الغفلة عن اللفظ حين الاستعمال ليست إلّا من جهة عدم الداعي إلى الالتفات إليه وإلّا فيمكن الالتفات إلى اللفظ مع كونه مستعملا في معناه كما هو واقع في ألفاظ الفصحاء والبلغاء فاللفظ الواحد من جهة حكايته عن المعنى لم يلحظ إلّا لحاظا آليّا ومن جهة نفسه يكون ملحوظا باللحاظ الاستقلاليّ ولعلّ إليه أشار سيّدنا المجاهد الإمام الخمينيّ قدس‌سره في تهذيب الاصول ، حيث منع لزوم الغفلة عن اللفظ حين

٢٨٦

الاستعمال دائما. (١)

ومنها : ما في المحاضرات من أنّ الوضع سواء كان بمعنى التعهّد والالتزام النفسانىّ أو بمعنى اعتبار نفسانيّ على تمام أنحائه في مرتبة متقدّمة على الاستعمال. أمّا على الأوّل فواضح ضرورة أنّ التعهّد والتبانيّ بذكر لفظ خاصّ عند إرادة تفهيم معنى ما يكون مقدّما على الاستعمال لا محالة من دون فرق بين أن يكون إبراز هذا التعهّد بمثل كلمة وضعت أو نحوها الدالة على التعهّد بالمطابقة أو يكون المبرز نفس الاستعمال الدالّ على ذلك بالالتزام بمعونة القرينة. وأمّا على الثاني فلأنّ اعتبار الملازمة أو نحوها بين لفظ خاصّ ومعنى ما مقدّم على الاستعمال بالضرورة وإن كان المبرز لذلك الاعتبار نفس الاستعمال مع نصب القرينة على ذلك وكيف كان فالاستعمال متأخّر عن الوضع لا محالة ونظير ذلك الهبة فإنّه تارة يبرزها بجملة : وهبتك ، الدالّة عليها بالمطابقة واخرى يبرزها بجملة : خذ هذا الثوب ، مثلا ، الدالّة عليها بالالتزام. إلى أن قال : وعليه فالوضع يحصل قبل الاستعمال فإذا كان كذلك فالاستعمال استعمال في الموضوع له. ثمّ لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ الوضع ليس عبارة عن مجرّد أمر نفسانيّ من تعهّد واعتبار ملازمة ونحو ذلك بل للإبراز دخل في حقيقة الوضع جزءا أو قيدا وبدونه لا يتحقّق الوضع. إلى أن قال : فلا يكون هذا الاستعمال استعمالا في غير ما وضع له ... (٢)

وفيه : أنّ مجرّد الأمر النفسانيّ من دون دخالة الألفاظ أو ما يقوم مقامها لا اعتبار به في الإنشاءات والاعتباريّات. ومن المعلوم أنّ الوضع الذي هو إيجاد العلاقة والارتباط بين اللفظ والمعنى من الامور الاعتباريّة كالبيع والإجارة الّتي ونظائرهما من الامور لا تتحقّق بدون الألفاظ وما يقوم مقامها وعليه فالوضع ليس نفس التّعهد

__________________

(١) تهذيب الاصول : ١ / ٦٥.

(٢) المحاضرات : ١ / ١٢٧ ـ ١٢٩.

٢٨٧

والتباني أو نفس اعتبار نفسانيّ حتّى يكون متقدّما زمانا على الاستعمال بل للاستعمال في هذا المقام دخل في تحقّقه فحينئذ لا محيص عن إشكال اجتماع اللحاظين إلّا بما مرّ من المحقّق الأصفهانيّ فلا تغفل.

ومنها : ما حكى عن المحقّق العراقيّ قدس‌سره من أنّ الملحوظ باللحاظ الاستقلاليّ هو طبيعة اللفظ وهو الملتفت إليه وما هو ملحوظ بالنظر الآليّ وغير ملتفت إليه هو شخص اللفظ فلم يجتمع اللحاظان في موضوع واحد.

وأورد عليه في منتهى الاصول بأنّه أجنبيّ عن محلّ بحثنا لأنّ كلامنا الآن في استعمال اللفظ في معنى وإلقائه وإرادة ذلك المعنى كقوله «أعطني ولدي محمّدا» مثلا ، إذا أراد التسمية بهذا الاسم بنفس هذا الاستعمال ومعلوم أنّ في هذا الاستعمال لا نظر له استقلاليّا إلى اللفظ أصلا لا إلى شخصه ولا إلى نوعه ولا إلى طبيعته كما هو المفروض. انتهى (١)

يمكن أن يقال : بناء على ما مرّ من المحقّق الاصفهانيّ إنّ الملزوم هو ايجاد العلقة والارتباط بين طبيعة اللفظ والمعنى. والمستعمل أراد باستعمال شخص اللفظ في معناه حصول ذلك الارتباط بين طبيعة اللفظ والمعنى وعليه فالقول بأنّه لا نظر له استقلاليّا إلى اللفظ أصلا لا إلى شخصه ولا إلى نوعه ولا إلى طبيعته صحيح في مرتبة استعمال شخص اللفظ في معناه لا في مرتبة جعل الملزوم فلا تغفل.

* * *

المقام الثاني : في وقوع الوضع الشرعيّ وإثباته :

استدلّ بتبادر المعاني الشرعيّة من المحاورات الصادرة عن الشارع وأيّده في

__________________

(١) منتهى الاصول : ١ / ٤٧.

٢٨٨

الكفاية بأنّه ربما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية واللغوية. ألا ترى أنّه ليس بين الصلاة شرعا والصلاة بمعنى الدعاء علاقة. ومجرّد اشتمال الصلاة شرعا على الدعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء والكلّ بينهما. انتهى

وجه تأييد التبادر بذلك هو اشتراط استعمال الجزء في الكلّ بأمرين أحدهما : كون المركّب مركّبا حقيقيّا. وثانيهما : كون الجزء بالنسبة إلى الكلّ جزءا رئيسيّا كالرقبة بالنسبة إلى البدن. وهما ليسا بموجودين في استعمال الصلاة في المعنى الشرعيّ لأنّ جزء المعنى الشرعي هو الدعاء وهو ليس من الأركان بالنسبة إلى أفعالها وأذكارها. هذا مضافا إلى أنّ المركّب مركّب اعتباريّ لا حقيقيّ.

ولعلّ وجه التعبير بالتأييد دون الدليل هو امكان الاكتفاء باستحسان الطبع في صحّة الاستعمالات المجازيّة فلا حاجة إلى وجود العلاقة كما مرّ أو احتمال أن يكون استعمال الصلاة في المعنى الشّرعيّ من باب إطلاق الكلّيّ على الفرد لأنّ الصّلاة تجىء بمعنى العطف والميل أيضا. فإنّ كلّ صلاة محقّق لطبيعيّ العطف والميل إذ العبد بتخضّعه للرب عطف إلى ربّه ومال إليه كما أنّ الرب برحمته ومغفرته للعبد عطف على مربوبه ومال إليه.

وعليه كما في تعليقة الأصفهانيّ قدس‌سره فلا تجوّز حتّى يجب ملاحظة العلاقة بل تستعمل في معناها اللغوي ويراد محقّقه الخاصّ بقرينة حال أو مقال. (١)

وكيف كان فالاستدلال بالتبادر لإثبات الوضع الشرعيّ محلّ منع.

أوّلا : بما أفاده سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّ مجرّد التبادر لا يدلّ على ذلك بل يحتاج إلى انضمام عدم كون التبادر من جهة كثرة الاستعمال وإلّا يكون التّبادر المذكور مفيدا للوضع التعيّنيّ لا الوضع التعيينيّ الاستعماليّ.

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٤٦.

٢٨٩

وثانيا : بما أفاده في الكفاية من أنّ احتمال كون التبادر المذكور مسبوقا بالتبادر في العرف السابق مانع عن الوثوق بثبوت الحقيقة الشرعيّة بمعنى الوضع التعيينيّ بل الوضع التعيّنيّ أيضا.

كما صرّح به في نهاية الاصول حيث قال : وبالجملة كان سنخ هذه العبادات متداولا في أعصار الجاهلية أيضا وكان يستعمل فيها هذه الألفاظ المخصوصة وعلى طبقها أيضا جرى استعمال الشارع غاية الأمر أنّه تصرّف في كيفيّتها وأجزائها وشرائطها كما ثبت ذلك بالدّلائل الخاصّة. (١)

وأكّده في تهذيب الاصول حيث قال بعد ذكر الآيات النازلة في أوائل البعثة كقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ). وقوله تعالى : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) وغيرها. كلّها شواهد بيّنة على أنّ ألفاظ العبادات كلّها معلوم المفهوم لدى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ومعاصريه من الكفّار. وكانوا يفهمون معانيها بلا معونة قرينة. فإثبات الوضع (الشرعيّ) موقوف على ثبوت كون العبادات من مخترعات شرعنا وأنّها لم تكن عند العرب المتشرّعة في تلك الأزمنة بمعهودة وأنّى لنا بإثباته. (٢)

نعم يمكن أن يقال أنّ استعمال ألفاظ العبادات في معانيها الشرعيّة في العرف السّابق لا يمنع عن صيرورتها حقيقة شرعيّة في الأركان المخصوصة المعتبرة في شرع الإسلام بعد استعمال الشارع تلك الألفاظ فيها بداعى وضعها لخصوص هذه الأفراد من الأركان دون الأركان العامّة في العرف السابق ومن المعلوم أنّ الأركان المخصوصة المعتبرة في شرعنا تغاير الأركان المخصوصة في العرف السابق وإن كانتا مشتركتين في أصل اشتمالهما على الأركان.

__________________

(١) نهاية الاصول : ١ / ٣٨.

(٢) تهذيب الاصول : ١ / ٦٤ ـ ٦٥.

٢٩٠

اللهم إلّا أن يقال : إنّ تبادر المعاني الشرعيّة المعتبرة عند شارعنا لا يثبت الوضع التعيينيّ الاستعماليّ بعد احتمال أن يكون منشأ التبادر هو كثرة الاستعمال مع تعدّد الدالّ والمدلول إلى أن يحصل الانس مع المراد فصارت ألفاظ العبادات متعيّنة فيها ومنصرفة إليها. بل جزم بذلك في نهاية الدراية حيث قال : لا ريب في أنّ كثيرا ما إفادة الخاصّ بدالّين في مقام الطلب وبيان الخواصّ والآثار والحكاية والمحاورات المتعارفة توجب اختصاص اللفظ بالمعنى الخاصّ في أيّام قلائل ومنع بلوغ الكثرة في لسان الشارع ومتابعيه إلى حدّ يوجب الاختصاص مكابرة واضحة. (١)

وعليه فالقول بالوضع الشرعيّ سديد وإن لم يعلم أنّه بالوضع الاستعماليّ أو بالوضع التعيّنى المظنون وقوعه. ولكن الانصاف هو الحكم بوقوع الوضع التعيينيّ الاستعماليّ في الجملة كاستعمال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلمة أهل البيت عليهم‌السلام في خصوص أهل بيت النبوّة وهم الخمسة الطيّبة والأئمّة الأطهار من ولدهم عليه‌السلام.

* * *

المقام الثالث : في ثمرة البحث :

قال في الكفاية : وأمّا الثمرة بين القولين فتظهر في لزوم حمل الألفاظ الواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على معانيها اللغويّة مع عدم الثبوت وعلى معانيها الشرعيّة على الثبوت فيما إذا علم تأخّر الاستعمال. انتهى

فحينئذ إن علمنا تأخّر الاستعمال عن الوضع التعيينيّ أو التعيّنيّ حملت الألفاظ على المعانى الشرعيّة بلا كلام. وإنّما الكلام فيما إذا لم يعلم تأخّر الاستعمال ؛ ذهب في الكفاية

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٤٨.

٢٩١

في هذه الصورة إلى أنّ أصالة عدم الاستعمال ليكون متأخّرا عن الوضع الشرعيّ تكون معارضة مع أصالة عدم الوضع الشرعيّ ليكون متأخّرا عن الاستعمال. هذا مضافا إلى أنّه لا دليل على اعتبارها تعبّدا إلّا على القول بالأصل المثبت ولم يثبت بناء من العقلاء على التأخّر مع الشكّ وأصالة عدم النقل إنّما كانت معتبرة فيما إذا شكّ في أصل النقل لا في تأخّره فتأمّل. انتهى

ولعلّ وجه التأمّل هو ما مرّ في الفصل السابق من جريان أصالة عدم النقل مطلقا سواء علم بأصل النقل أو لم يعلم لوجود ملاك بناء العقلاء من عدم جواز رفع اليد عن الحجّة ما لم يعلم الحجّة الناقضة لها وعليه فمع جريانها حملت ألفاظ العبادات في صورة عدم العلم بتاريخ استعمالها على معانيها اللغويّة دون المعاني الشرعيّة.

ولكن الثمرة المذكورة فيما إذا شكّ في إرادة المعاني الشرعيّة من ألفاظ العبادات أو إرادة المعانى اللغويّة وأمّا إذا كان المراد منها واضحا فلا ثمرة عمليّة في البحث كما لا يخفى ولذا قال في تهذيب الاصول على كلّ حال الثمرة المعروفة أو الفرضيّة النادرة الفائدة ممّا لا طائل تحتها عند التأمّل حيث أنّا نقطع بأنّ الاستعمالات الواردة في مدارك فقهنا إنّما يراد منها هذه المعاني الّتي عندنا. (١)

وقال في المحاضرات : لا ثمرة للبحث عن هذه المسألة أصلا فإنّ ألفاظ الكتاب والسنّة الواصلتين إلينا يدا بيد معلومتان من حيث المراد فلا نشكّ في المراد الاستعماليّ منهما ولا يتوقّف في حملهما على المعاني الشّرعيّة. (٢)

* * *

__________________

(١) تهذيب الاصول : ١ / ٦٥.

(٢) المحاضرات : ١ / ١٣٤.

٢٩٢

الخلاصة :

١ ـ إنّ الوضع التعيينيّ يكون على قسمين أحدهما أن يصرّح الواضع بإنشاء العلقة والارتباط بين لفظ ومعنى وثانيهما أن يستعمل الواضع لفظا في معنى بداعي إنشاء الارتباط والعلقة بينهما من دون أخذ قرينة وعلاقة من القرائن والعلائق المجازيّة وهما أمران واقعان من الواضعين ألا ترى أنّ الوالد الواضع قد يصرّح بجعل العلقة والارتباط بين لفظ إبراهيم مثلا وولده ويقول سمّيته ابراهيم وقد لا يصرّح بذلك وإنّما يستعمل لفظ إبراهيم في ولده بقصد إنشاء العلقة والارتباط بينهما ويقول مثلا لخادمه جئني بإبراهيم.

ولا وقع بعد وقوعهما للإشكال في إمكان الثاني باستلزامه الجمع بين اللحاظين في شيء واحد فإنّ الحكاية والدلالة مقصودة في الاستعمال على الوجه الآليّ والمعنى الحرفيّ إذ الالتفات يكون بالمعنى الاسميّ نحو نفس المعنى دون اللفظ ودلالته وحكايته هذا بخلاف الوضع فإنّ الحكاية فيه مقصودة على وجه الاستقلال لأنّ حقيقة الوضع هو جعل اللفظ لمعنى بحيث يحكى به عنه عند الاستعمال وهو متوقّف على ملاحظة اللفظ والمعنى وجعل الارتباط والعلقة بينهما ومن البيّن أنّ الجمع بينهما في لحاظ واحد جمع بين اللحاظين.

وذلك لأنّ استعمال اللفظ في المعنى على نحو استعمال اللفظ الموضوع في معناه من دون إقامة قرينة وعلاقة من علائق المجاز يدلّ بدلالة الاقتضاء على إنشاء العلقة والارتباط بين اللفظ والمعنى بالاستعمال إذ بدونه لا يمكن هذا الاستعمال الخاصّ كما أنّه إنشاء بيع المبيع من ذي الخيار على نحو بيع سائر أملاكه يدلّ بدلالة الاقتضاء على إنشاء الفسخ بنفس البيع إذ بدونه لا يمكن البيع مجدّدا لما باعه قبلا.

وعليه فللاستعمال جهتان طوليّتان من جهة يدلّ على إنشاء الارتباط والعلقة

٢٩٣

ومن جهة يدلّ على المعنى ويحكى عنه فلا يلزم اجتماع اللحاظ الآليّ والاستقلاليّ في شيء واحد.

وإليه يؤول ما أفاده المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره من أنّ التحقيق أنّ إنشاء الوضع حقيقة لمعنى جعل اللفظ بحيث يحكي بنفسه بجعل لازمه وهو جعله حاكيا فعلا بنفسه معقول فالحكاية وإن كانت مقصودة وملحوظة آليّا فى الاستعمال إلّا أنّها مقصودة بالاستقلال في مرحلة التسبّب إليها بإنشاء لازمها وجعله.

٢ ـ هل يقع الوضع بقسميه من الشارع أم لا؟ لم يعهد منه عليه الصلاة والسلام أن يصرّح بجعل العلقة والارتباط بين لفظ ومعنى وعليه فالوضع التصريحيّ غير ثابت وأمّا الوضع الاستعماليّ فلا يبعد دعواه في مثل استعمال ألفاظ العبادات في معانيها الشرعيّة من الأركان المخصوصة والأجزاء المعيّنة المعتبرة في شرع الإسلام فإنّ استعمال الشارع تلك الألفاظ فيها من دون إقامة قرينة وعلاقة من العلائق المجازيّة لا يكون إلّا لإرادة وضعها لخصوصها ولا ينافي ذلك كون ألفاظ العبادات معلوم المفهوم لدى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ومعاصريه من الكفّار والأقوام فإنّهم كانوا يفهمون معانيها بلا معونة قرينة لأنّ إرادة الأركان المخصوصة والأجزاء المعيّنة المعتبرة في شرع الإسلام لا تساعد المعاني المعهودة لها في السابق لأنّها إمّا أركان مخصوصة بالشرع السابق والمعلوم عدم إرادتها وإمّا المعاني الكلّيّة القابلة لانطباقها على غير الأركان والأجزاء المعتبرة في شرعنا وهي أيضا غير مرادة باستعمالها.

اللهم إلّا أن يقال المقصود من تلك الألفاظ هو معانيها الكلّيّة المعهودة ولكن تدلّ على الأركان والأجزاء المعتبرة في شرعنا من جهة تعدّد الدالّ والمدلول فلا يثبت بنفس الاستعمال الوضع التعيينيّ الاستعماليّ نعم لا بأس بأن يقال إنّ كثيرا ما إفادة الخاصّ بدالّين في مقام الطلب وبيان الخواصّ والآثار والحكاية والمحاورات المتعارفة توجب اختصاص اللفظ بالمعنى الخاصّ في أيّام قلائل ومنع بلوغ الكثرة في لسان

٢٩٤

الشارع ومتابعيه إلى حدّ يوجب الاختصاص مكابرة واضحة.

بل الانصاف هو الحكم بوقوع الوضع التعيينيّ الاستعماليّ من الشارع المقدّس كما تشهد له الروايات المتظاهرة والمتواترة الدالّة على استعمال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلمة أهل البيت في أهل بيت النبوّة وهم الخمسة الطيّبة والأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام فلا تغفل.

٣ ـ إنّ ثمرة البحث المذكور تظهر في لزوم حمل الألفاظ الواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على معانيها اللغويّة لو لم نقل بالحقيقة الشرعيّة التعيينيّة أو التعيّنيّة كما تظهر في لزوم حملها على معانيها الشرعيّة إن قلنا بثبوت الحقيقة الشرعيّة سواء كان التعيينيّة أو التعيّنيّة إن علم تأخّر الاستعمال عن الوضع الشرعيّ كما لا يخفى ولذا نقول بأنّ المراد من كلمة أهل البيت في لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائمّة الأطهار عليه‌السلام هو أهل بيت النبوّة بعد علمنا بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصّصها بهم وضعا استعماليّا كما هو الظاهر أو صارت منصرفة إليهم بكثرة الاستعمال فيهم في تعدّد الدالّ والمدلول في عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا لا كلام فيه وإنّما الكلام فيما إذا لم يعلم بتأخّر الاستعمال ذهب في الكفاية في هذه الصورة إلى أنّ أصالة عدم الاستعمال ليكون متأخّرا عن الوضع الشرعيّ تكون معارضة مع أصالة عدم الوضع الشرعيّ ليكون متأخّرا عن الاستعمال هذا مضافا إلى أنّه لا دليل على اعتبارها تعبّدا إلّا على القول بالأصل المثبت ولم يثبت بناء من العقلاء على التأخّر مع الشكّ واصالة عدم النقل إنّما كانت معتبره فيما إذا شكّ في أصل النقل لا في تأخّره فتأمّل.

ولعلّ وجه التأمّل هو ما مرّ في الفصل السابق من جريان أصالة عدم النقل مطلقا سواء علم بأصل النقل أو لم يعلم لوجود ملاك جريانه وهو بناء العقلاء من عدم جواز رفع اليد عن الحجّة ما لم يعلم بالحجّة الناقضة لها.

وعليه فمع جريان أصالة عدم النقل حملت ألفاظ العبادات وغيرها ممّا ثبتت فيها الحقيقة الشرعيّة في صورة عدم العلم بتاريخ استعمالها على معانيها اللغويّة دون المعاني

٢٩٥

الشرعيّة والذي يسهل الخطب أنّ تلك الألفاظ ظاهرة في المعاني الشرعيّة في أكثر الموارد ولذلك صرّح غير واحد بعدم الثمرة للبحث عن هذه المسألة أصلا فإنّ ألفاظ الكتاب والسنة الواصلتين إلينا يدا بيد معلومتان من حيث المراد فلا شكّ في المراد الاستعماليّ منهما ولا يتوقّف في حملهما على المعاني الشرعيّة.

* * *

٢٩٦

الأمر العاشر : في الصحيح والأعمّ

يقع الكلام في المقامين :

المقام الأوّل : في أسامي العبادات

ولا يخفى عليك أنّه وقع الخلاف هنا في أنّ ألفاظ العبادات هل هى أسام لخصوص العبادات الصّحيحة أو الأعمّ منها وقبل أن ندرس أدلّة القولين نذكر جهات :

الجهة الاولى في تحرير محلّ النزاع :

ولا يخفى أنّه لا شبهة في تأتّي الخلاف وإمكان النزاع على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة أو المتشرّعة فإنّه يمكن أن يختلف القائلون بهما في أنّ ألفاظ العبادات الواقعة في لسان الشّارع أو المتشرّعة هل هي أسام لخصوص الصحاح من العبادات أو الأعمّ منها.

وأمّا على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة أو المتشرّعة فربما يناقش في تأتّي الخلاف وإمكانه بعد وضوح استعمالها في لسان الشارع أو المتشرّعة في كلّ من الصحيحة والفاسدة كصلاة الحائض وصوم الوصال وصيام العيدين ونحوها إذ

٢٩٧

صحّة استعمال ألفاظ العبادات أو وقوعه في كلّ من المعنيين مجازا على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة أو المتشرّعة ليست ممّا يقبل التشكيك ليكون محلّ الكلام والخلاف والردّ والإيراد لإذعان الطرفين بوقوع الاستعمال في الصحيحة والفاسدة مجازا بلا كلام.

ولذا صرّح بعض بأنّ القابل للنزاع بناء على ثبوت الحقيقة الشرعيّة هو تعيين ما وضع له اللفظ سواء كان على سبيل التعيين أو التعيّن ومع البناء على نفيها فلا مجال للنزاع فيها إذ موضوع استعمالها في كلّ من الأمرين بمكان لا يحتاج إلى البيان. (١)

هذا مضافا إلى أنّ التعبير بالأسامي في تعريف عنوان البحث يدلّ تلويحا أو تصريحا بأنّ محلّ البحث هو ما إذا كان هناك وضع لأنّ الأسامي لا يكون الأسامي بدون الوضع وعلى تقدير عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة بمعنييها فلا وضع بل هو مجرّد الاستعمال المجازيّ ولا كلام فيه.

ويؤكّد ذلك استدلال الطرفين بالتبادر وعدم صحّة السلب وغيرهما من خواصّ الحقيقة التي لا تنفكّ عن الوضع.

تصوير النزاع باعتبار اختلاف مراتب المجاز

ولكن اجيب عن هذه المناقشات :

أمّا عن الأوّل : فبأنّ مجرّد وضوح الاستعمال في كلّ واحد من الصحيحة والفاسدة لا ينافي جريان النزاع على تقدير عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة لجواز اختلاف مراتب المجازات فيصحّ أن ينازع في أنّ المجاز الغالب في لسان الشارع هل هو الصحيح على

__________________

(١) راجع هداية المسترشدين / ٩٩.

٢٩٨

وجه يحمل عليه اللفظ عند وجود الصارف عن المعنى الحقيقيّ أو الأعمّ. (١)

وعليه أمكن على تقدير عدم القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة أن يدّعي بعض أنّ غلبة الاستعمال وكثرتها في الأعمّ وبعض آخر أنّ تلك الغلبة في الصحيح. وثالث أنّ غلبة الاستعمال وكثرتها في كليهما بحيث توجب التوقّف. فالنزاع بهذا النحو متصوّر.

بل يصحّ تصوير النزاع أيضا على تقدير العدم بأن يدّعي القائل بالصحيح أنّ الاستعمال في الفاسد ليس مجازا في الكلمة زائدا على المجاز اللازم من استعمال اللفظ في الصحيحة بل إنّما الاستعمال في الفاسدة من وجوه الاستعمال في الصحيحة تنزيلا لها منزلتها بوجه من وجوه صحّة التنزيل من تنزيل ما هو المعدوم من الأجزاء والشرائط متنزلة الموجود كالمجاز السكّاكيّ ويدّعي القائل بالأعمّ مساواتهما في المجازيّة بحيث يكون اللفظ على التقديرين مجازا في الكلمة. وجعل الشيخ قدس‌سره هذا التصوير أولى من التصوير السابق (٢).

ولعلّ وجه الأولويّة هو بعده عن بعض الإشكالات. والله العالم.

ولكنّه لا يخلو هذا التصوير الأخير عن إشكال وهو كما في تعليقة الأصفهانيّ قدس‌سره أنّ لازم المساواة على القول بالأعمّ هو التوقّف وهو ينافي غرض الأعمّيّ فالصحيح في تقريب مقالة الأعمّيّ أنّ اللفظ دائما مستعمل في الأعمّ وإفادة خصوصيّة الصحيحة والفاسدة بدالّ آخر. (٣)

اللهم إلّا أن يقال : إنّ المراد من المساواة ليس هو دعوى الغلبة في كليهما حتّى توجب التوقّف بل لعلّ المراد أنّ المجاز في الصحيح والأعمّ كليهما مجاز في الكلمة على القول الأعمّيّ والقول الصحيحيّ ، لا أنّ المجاز في الصّحيح مجاز في الكلمة والمجاز في

__________________

(١) راجع تقريرات الشيخ قدس‌سره / ١.

(٢) نفس المصدر

(٣) نهاية الدراية / ٤٩.

٢٩٩

الأعمّ مجاز عقلىّ سكّاكىّ وعليه فالأعمّىّ يدّعى الغلبة في الأعمّ والصحيحيّ يدّعي الغلبة في الصحيح. فدعوى الغلبتين ليست من طرف واحد حتّى توجب التوقّف بل كلّ طرف يدّعي غلبة الاستعمال فيما اختاره ولا إشكال في أنّه لا يوجب التوقّف كما لا يخفى.

إشكال صاحب الكفاية

واستشكل في الكفاية على ما ذهب إليه الشيخ من «جواز اختلاف مراتب المجازات فيصحّ أن ينازع في انّ المجاز الغالب في لسان الشارع هل هو الصحيح على وجه يحمل اللفظ عليه عند وجود الصارف عن المعنى الحقيقيّ أو الأعمّ» بما حاصله انّ ذلك لا يصحّ إلّا إذا علم أنّ العلاقة اعتبرت أوّلا بين الصحيح والمعاني اللغويّة حتّى يجعله أصلا في مقابل الاعمّ أو علم أنّ العلاقة اعتبرت أوّلا بين الأعمّ والمعاني اللغويّة حتّى يجعله أصلا في مقابل الصحيح وهو غير ثابت. وأيضا لا يصحّ جعل طرف أصلا بحيث ينزّل كلامه عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغويّة وعدم قرينة اخرى معيّنة للآخر إلّا إذا استقرّ بناء الشارع في محاوراته عند عدم نصب قرينة أخرى على إرادته بحيث كان هذا البناء قرينة على إرادة هذا الطرف من غير حاجة إلى قرينة معيّنة اخرى وأنّى لهم بإثبات ذلك. (١)

ملاحظات في كلام صاحب الكفاية

وفيه : أوّلا : أنّ البحث في مقام الثبوت وإمكان وقوع النزاع لا في مقام إثبات طرف من أطراف النزاع وعليه فيمكن دعوى كلّ طرف بأنّ الشارع اعتبر علاقة المجاز

__________________

(١) الكفاية ١ / ٣٤ ـ ٣٥.

٣٠٠