عمدة الأصول - ج ١

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

أصالة عدم وضع آخر في عرض الوضع الأوّل هو الحكم بعدم الاشتراك عند الشكّ في أصل تحقّقه وقد يعبّر عن هذا الأصل بأصالة عدم الاشتراك.

ومقتضى أصالة عدم النقل هو الحكم بعدم الوضع الجديد وبقاء اللفظ على الوضع الأوّل. وهاتان أعني أصالة عدم الاشتراك وأصالة عدم النقل ترجعان إلى مقام الوضع ولذا عدّهما الفاضل الإيروانى من الاصول الوضعيّة لأنّ بهما يتعيّن حال الوضع من التعدّد وعدمه ومن النقل وعدمه. (١)

ثمّ إنّهم بنوا بعد الفحص عند الشكّ في الحقيقة والمجاز أو الشكّ في الإضمار وعدمه أو الشكّ في الاستخدام وعدمه على عدم المجاز بأصالة الحقيقة وعلى عدم الإضمار بأصالة عدم التقدير وعلى عدم الاستخدام بأصالة عدم التبعيض في المراد الاستعماليّ.

وهذه الاصول ترجع إلى تعيين المراد الاستعماليّ ولذا عدّت اصولا مراديّة.

ثمّ إنّهم عند الشكّ في الإطلاق والتقييد أو العموم والخصوص بنوا بعد الفحص والتتبّع على الإطلاق والعموم بأصالة عدم التقييد وأصالة عدم التخصيص.

وهاتان ترجعان إلى تعيين المراد الجدّيّ ويمكن عدّهما من الاصول المراديّة أيضا. ثمّ إنّ كلّ هذه الاصول من الاصول العقلائيّة التي تكون من الأمارات العقلائيّة تجري فيما إذا دار الأمر بين المعنى الحقيقيّ وبين إحدى أو الأزيد من هذه الأحوال ولا يرفع اليد عن المعنى الحقيقيّ باحتمال إحدى هذه الأحوال السبعة.

وممّا ذكر يظهر ما في الكفاية حيث خصّ الأحوال بالخمسة منها مع أنّك عرفت أنّها سبعة حيث قال : الثامن أنّه للّفظ أحوال خمسة وهي التجوّز والاشتراك والتخصيص والنقل والإضمار لا يكاد يصار إلى أحدها فيما إذا دار الأمر بينه وبين المعنى الحقيقيّ إلّا بقرينة صارفة عنه إليه.

__________________

(١) نهاية النهاية : ١ / ٢٨.

٢٦١

ثمّ إنّ الظاهر أنّ تلك الاصول العقلائيّة دائرة مدار بناء العقلاء والمتيقّن منها هو ما إذا لم يكن في الكلام ما يصلح للقرينيّة وإلّا فلا مجال لواحد منها.

ولذا قال في مقالات الاصول : وأمّا دورانه بين الإطلاق والتقييد أو الحقيقة والمجاز فمع عدم اقتران الكلام بما يصلح للقرينيّة فلا إشكال في تقديم الإطلاق أو الحقيقة على التقييد والمجاز ومع الاقتران فلا مجال للرجوع إليهما إلّا بناء على التعبّد بأصالة الحقيقة وأصالة الإطلاق بلا احتياج إلى إحراز ظهور في اللفظ ولو بمعونة مقدّمات الحكمة وإتمام هذه الجهة في باب الألفاظ في غاية الإشكال ولو للشكّ في بنائهم على مثل هذه الأحوال من باب التعبّد المحض حتّى مع الشكّ في الظهور فيه. (١)

تبصرة : اشترط جمع من الاصوليّين في جريان أصالة عدم النقل أن يكون الشكّ في أصل النقل وأمّا إذا علم بالنّقل وشكّ في تقدّمه على الاستعمال وتأخّره فلا مجرى لها.

قال في تهذيب الاصول : والحقّ أنّ اعتمادهم عليها إنّما هو فيما إذا شكّ في أصل النقل لامع العلم به والشكّ في تقدّمه على الاستعمال وتأخّره عنه. (٢)

وفي قبالهم جمع آخر ذهبوا إلى التفصيل بين العلم بتاريخ الاستعمال وعدمه فتجرى في الأوّل دون الثاني.

قال في الدّرر : ولو شكّ في تأخّر الاستعمال وتقدّمه إمّا لجهل التاريخ في أحدهما أو كليهما فالتمسّك بأصالة عدم الاستعمال إلى ما بعد زمان الوضع فيثبت بها تأخّر الاستعمال مشكل فإنّه مبنىّ على القول بالاصول المثبتة إمّا مطلقا أو في خصوص المقام مضافا إلى معارضتها بالمثل في القسم الثاني (أي في الجهل بتاريخ كليهما تعارضت

__________________

(١) مقالات الاصول : ١ / ٣٣.

(٢) تهذيب الاصول : ١ / ٦١.

٢٦٢

أصالة عدم الاستعمال إلى ما بعد زمان الوضع الجديد مع أصالة عدم الوضع الجديد إلى ما بعد زمان الاستعمال). نعم يمكن إجراء أصالة عدم النقل فيما إذا جهل تاريخه وعلم تاريخ الاستعمال بناء على أنّ خصوص هذا الأصل من الاصول العقلائيّة فيثبت به تأخّر النقل عن الاستعمال ولا معارض له أمّا على عدم القول بالأصل المثبت في الطرف الآخر فواضح وأمّا على القول به فلأنّ تاريخه معلوم بالفرض واحتمال أن يكون بناء العقلاء على عدم النقل في خصوص ما جهل رأسا لا فيما علم إجمالا وشكّ في تاريخه بعيد لظهور أنّ بنائهم على هذا من جهة أنّ الوضع السابق عندهم حجّة فلا يرفعون اليد عنها إلّا بعد العلم بالثانيّ. (١)

أورد عليه في تهذيب الاصول بأنّ المتّبع لديهم والحجّة هو الظهور لا الوضع بنفسه والعلم بتعاقب الوضعين مع الشكّ في تقدّم الثاني منهما على الاستعمال وتأخّره عنه يمنع عن انعقاده كما هو ظاهر. أضف إلى ذلك أنّه لا معنى للفرق بين الأقسام بعد كون الوضع الأوّل هو المتّبع مع عدم العلم بنقض الوضع الثاني الوضع الأوّل حال الاستعمال. (٢)

يمكن أن يقال : إنّ وضع الواضع معتبر ومتّبع في تعيين اللفظ للمعنى وحصول الارتباط بينهما ما لم يثبت العدول عنه فتعيين الواضع حجّة على الارتباط بينهما ولا يرفع اليد عنها إلّا بقيام الحجّة على العدول كما هو مقتضى البناء المذكور ومن المعلوم أنّ البحث فيما إذا حصل العلم بالوضع الأوّل فكما لا يرفع اليد عنه بمجرّد احتمال النقل كذلك لا يرفع عنه اليد بعد العلم الاجماليّ بالنقل والشكّ في تقدّمه وتأخّره بالنسبة إلى الاستعمال لعدم كون العلم الاجماليّ المذكور حجّة على النقل

__________________

(١) الدرر : ١ / ٤٦.

(٢) تهذيب الاصول : ١ / ٦٢.

٢٦٣

والوضع الجديد حال الاستعمال فرفع اليد عن الوضع الأوّل الذي عرفت أنّه معتبر وحجّة بالعلم الإجماليّ المذكور مع أنّه ليس بحجّة على النقل والوضع الجديد حال الاستعمال هو رفع اليد عن الحجّة بلا حجّة وهو خلاف بناء العقلاء على أنّهم لا يرفعون اليد عن الحجّة إلّا بقيام الحجّة على خلافها.

وممّا ذكر (من أنّ الحجّة هي تعيين الواضع ووضعه وهي باقية ما لم تثبت الحجّة على خلافها) يظهر ما في تهذيب الاصول من نفي الحجّة عن الوضع وحصرها في الظّهور. مع أنّ الظهور متأخّر عن الوضع وتعيين الواضع ومترتّب عليه فما دام علم بقاء الوضع الأوّل بقيام أمارة على البقاء كالبناء المذكور يبقى هذا الظهور أيضا ومنع انعقاد الظهور بتعاقب الوضعين مع الشكّ في تقدّم الوضع الثاني على الاستعمال وتأخّره عنه في غير محلّه فإنّه بدويّ وبعد التأمّل حوله وقيام الأمارة على بقاء الوضع الأوّل يظهر أنّه باق على ظهوره ولا وجه لرفعه بمجرّد تعاقب الوضعين.

وبما ذكر يظهر أيضا ما في بحوث في علم الاصول (١) حيث ذهب إلى انثلام تطابق الظهور الفعليّ والظهور النوعي بمجرّد العلم بالنقل ولم يلتفت إلى أنّ مبنى العقلاء في إجراء أصالة عدم النقل هو عدم رفع اليد عن الحجّة بلا حجّة ووضع الواضع واعتباره الأوّل حجّة فلا يرفع اليد عنه إلّا بالحجّة ولم يستندوا في أصالة عدم النقل إلى الظهور حتّى يقال : لا ينعقد الظهور بسبب تعاقب الحالتين أو ينثلم تطابق الظهور الفعليّ والنوعيّ بمجرّد العلم بالنقل.

هذا مضافا إلى أنّ عدم الانعقاد أو الانثلام بدويّ وبعد التأمّل وبقاء الحجّة انعقد الظهور ولا ينثلم فلا تغفل.

وعليه فلا يرد على صاحب الدّرر إشكال فيما ذكر من أنّ بناء العقلاء على عدم رفع

__________________

(١) بحوث في علم الاصول : ١ / ١٧٢.

٢٦٤

اليد عن الحجّة من دون قيام الحجّة على خلافها.

نعم يرد عليه أنّ مقتضى ما ذكر هو عدم الفرق بين الأقسام فتجري أصالة عدم النقل سواء كان تاريخ الاستعمال معلوما أو مجهولا لأنّ رفع اليد عن الوضع الأوّل في جميع الصور رفع اليد عن الحجّة بلا حجّة.

وتوهّم معارضة أصالة عدم النقل مع استصحاب عدم الاستعمال إلى ما بعد زمان الوضع الجديد فاسد لأنّ استصحاب عدم الاستعمال إلى ما بعد زمان الوضع الجديد غير جار لكونه مثبتا.

هذا مضافا إلى أنّه لو سلّم جريانه فهو معارض مع الأصل لامع الأمارة والمفروض أنّ أصالة عدم النقل من الأمارات.

نعم لو أثبتنا بقاء الوضع الأوّل باستصحاب عدم حدوث النقل الجديد إلى ما بعد زمان الاستعمال لكان للمعارضة مجال. وأمّا مع جريان أصالة عدم النقل التي قد عرفت أنّها من البناءات العقلائيّة فلا مجال لها لأنّ الأصل دليل حيث لا دليل. إن قلت : استصحاب عدم الاستعمال إلى ما بعد زمان الوضع الجديد من البناءات. وعليه يتعارض الأصلان.

قلت : لا دليل ولا قرينة عليه وقياس استصحاب عدم الاستعمال بأصالة عدم النقل كما ترى. وإن ذهب إليه في تهذيب الاصول.

فتحصّل : أنّ أصالة عدم النقل تجري في موارد العلم بالنقل أيضا كما تجري في موارد الشكّ في أصل النقل لوجود ملاك البناء فيها ولعلّه لذا ذهب سيّدنا الاستاذ (المحقّق الداماد قدس‌سره) إلى جريانها مطلقا وهو القول الثالث. فكما أنّ أصالة عدم النقل إلى ما بعد الاستعمال فيما إذا كان الاستعمال معلوما تثبت أنّ الاستعمال وقع في المعنى الأوّل والمنقول عنه كذلك أصالة عدم النقل إلى ما بعد الاستعمال فيما إذا كان وقته مجهولا تثبت أنّ الاستعمال المعلوم إجمالا ومجهولا وقته تحقّق في حال بقاء الوضع

٢٦٥

الأوّل وعدم نقله وكان المراد من المستعمل فيه هو المعنى الأوّل والمنقول عنه. كلّ ذلك لكون أصالة عدم النقل من الأمارات فهي حجّة حتّى في مثبتاتها.

وقياس تلك الأصالة بالاصول التعبّدية والحكم بأنّها لا تثبت موضوع الأثر كما «لا يمكن إثبات الملاقاة باستصحاب عدم الكرّيّة أو بالعكس في مورد توارد الملاقاة والكرّيّة على الاخرى بأن نعلم الملاقاة مع النجاسة وحدوث الكرّيّة ولكن لا نعلم تقدّم الملاقاة على الكرّيّة أو الكرّيّة على الملاقاة مع النجاسة فلا يترتّب الأثر المترتّب على الموضوع المركّب من عدم الكرّيّة مع ملاقاة النجاسة للانفعال أو عدم الملاقاة مع الكرّيّة لعدم الانفعال لأنّ أحد أجزائه غير ثابت ولا يثبت بالاستصحاب الجاريّ في الجزء الآخر» في غير محلّه لأنّ الاصول التعبّديّة غير مثبتة بخلاف أصالة عدم النقل فإنّه من الأمارات وعليه كما عرفت أصالة عدم النقل إلى ما بعد الاستعمال سواء كان معلوما أو مجهولا تثبت أنّ الاستعمال وقع قبل وقوع النقل وكان المراد من المستعمل فيه هو المعنى الأوّل والمنقول عنه.

وممّا ذكر يظهر ما في تقريرات المحقّق العراقيّ قدس‌سره حيث فرّق بين صورة العلم بوقت الاستعمال فقال بجريان أصالة عدم النقل مدّعيا بأنّ الموضوع المركّب حينئذ ثابت بالأصل والوجدان لأنّ الاستعمال معلوم بالوجدان وعدم النقل محرز بالأصل. وبين صورة الجهل بوقت الاستعمال والجهل بوقت النقل فقال بعدم جريان أصالة عدم النقل مدّعيا بأنّه لا يمكن إحراز موضوع الأثر بالأصل لأنّ الأصل العدميّ مطلقا سواء كان أصلا عقلائيّا أم أصلا تعبّديّا مفاده جرّ العدم في جميع أجزاء الزمان لا إثباته بالإضافة إلى أمر آخر وعليه لا يمكن إثبات عدم الوضع في حال الاستعمال بالأصل وإن كان الأصل عقلائيّا لا لعدم إمكان إحراز التقيّد والمقارنة بالأصل كي يجاب عنه بأنّ الأصل العقلائيّ وإن كان مثبتا يصحّ التمسّك به بل لأنّ نفس القيد أعني به الاستعمال مشكوك فيه حين إجراء الأصل كالوضع فلا يمكن إحراز موضوع الأثر بالأصل ولذا بنينا على صحّة التمسّك بالأصل المزبور في صورة كون الاستعمال معلوم

٢٦٦

التاريخ إذ بالأصل والوجدان يتحقّق موضوع الأثر. (١)

وذلك لما عرفت من كون أصالة عدم النقل من الأمارات ودعوى عدم إثبات الاستعمال حال بقاء الوضع الأوّل بأصالة عدم النقل لا وجه لها بعد كونه من اللوازم العقليّة حيث أنّ لازم بقاء الوضع الأوّل إلى ما بعد الاستعمال هو كون الاستعمال واقعا حال بقاء الوضع الأوّل والقول بأنّ مفاد الأصل هو جرّ العدم فقط لا جرّ العدم إلى شيء آخر فيه منع بعد كون الشائع من البناء هو ذلك من دون إنكار من العقلاء.

هذا مضافا إلى أنّه لو كان كذلك لم ينتج جريان أصالة عدم النقل فيما إذا كان الاستعمال معلوما وقته أيضا لأنّها مجرّد جرّ عدم النقل لا جرّ عدم النقل إلى زمان الاستعمال المعلوم وقته حتّى يستلزم وقوع الاستعمال حال عدم النقل.

ولذا قال في تهذيب الاصول : ولو قيل إنّ استصحاب العدم هو جرّه فقط لا إلى كذا وكذا فهو مع فساده يستلزم عدم الإنتاج في الصورة الأولى أيضا فإذا أمكن جرّه إلى الزمان المعلوم أمكن جرّه إلى الزمان المعيّن واقعا المجهول عندنا. (٢)

وممّا قدّمنا يتّجه القول الثالث وهو جريان أصالة عدم النقل مطلقا سواء شكّ في النقل أو علم بالنقل وشكّ في التقدّم والتأخّر من دون تفصيل بين العلم بالاستعمال والجهل به. فيجرى أصالة عدم النّقل في جميع تلك الموارد.

لا يقال : مع العلم بالنقل كيف يجري أصالة عدم النقل.

لأنّا نقول : إنّ العلم بالنقل إجماليّ لا تفصيليّ ومعه تحقّق الشكّ في ارتفاع الوضع الأوّل فلا يرفع اليد عن الوضع الأوّل وهو الحجّة بلا حجّة على خلافه إذ مع العلم الإجمالىّ بأصل النقل لا يزول الشكّ في بقاء الوضع الأوّل فكما أنّ العلم بالنقل في

__________________

(١) بدائع الأفكار : ١ / ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٢) تهذيب الاصول : ١ / ٦٣.

٢٦٧

الآتي لا يضرّ بجريان أصالة عدم النقل قبل حصول النقل لتحقّق أركانها من العلم بالحجّة والشكّ في ارتفاعها كذلك العلم الإجماليّ بأصل النقل والاستعمال والشكّ في تقدّم أحدهما على الآخر لا يمنع عن جريان أصالة عدم النقل لتحقّق أركانها من العلم بالحجّة والشكّ في ارتفاعها إلى زمان الاستعمال.

هذا كلّه فيما إذا دار الأمر بين الحقيقة وإحدى أو أزيد من الأحوال المذكورة.

دوران الأمر بين نفس الأحوال : بعد العلم بعدم الاستعمال في الحقيقة

إذا دار الأمر بين نفس الأحوال ففي الكفاية أنّ الاصوليّين وإن ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوها إلّا أنّها استحسانيّة لا اعتبار بها إلّا إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك. انتهى

أشار إلى بعض هذه الوجوه الاستحسانيّة في مبادئ الاصول حيث قال : النقل أولى من الاشتراك لاتّحاد المعنى في النقل دائما فيحصل الفهم بخلاف المشترك. والمجاز أولى من الاشتراك لأنّ اللفظ إن تجرّد عن القرينة حمل على الحقيقة وإلّا فعلى المجاز والإضمار أولى من الاشتراك لأنّ صحّته مشروطة بالعلم بتعيينه بخلاف المشترك. والتخصيص أولى من الاشتراك لأنّه خير من المجاز والمجاز أولى من النقل لافتقار النقل إلى الاتّفاق عليه بين أهل اللغة والإضمار أولى منه لما تقدّم والتخصيص أولى من النقل لأنه خير من المجاز والمجاز أولى من الإضمار لكثرته والتخصيص أولى من المجاز لاستعمال اللفظ مع التخصيص في بعض موارده ومن الإضمار لأنّه أدون من المجاز. (١)

ومن المعلوم أنّ هذه الوجوه لا اعتبار لها إلّا إذا أوجبت ظهورا للفظ في المعنى بسبب الأقربيّة أو كثرة الاستعمال حتّى صار اللفظ مع القرينة الصارفة عن المعنى

__________________

(١) مبادئ الاصول : ٧٥.

٢٦٨

الحقيقيّ ظاهرا فيه فحينئذ لا إشكال في حجّيّة الظهور ومع عدم إيجابها للظهور يصير اللفظ عند تعارض الأحوال مجملا إذ المعنى الحقيقيّ غير مراد على المفروض ولا ترجيح لإحدى هذه الأحوال.

نعم يمكن دعوى وجود البناء في بعض موارد تعارض الأحوال :

منها : ما إذا دار الأمر بين النقل وغير الحقيقة السابقة من التخصيص أو التقييد أو الإضمار أو المجاز.

قال في مقالات الاصول : إذا دار الأمر بين النقل وغير الحقيقة السابقة فأصالة عدم النقل تحرز البقيّة. (١)

وفيه : أنّ أصالة عدم النقل معارضة بأصالة عدم التقدير عند دوران الأمر بين النقل والإضمار فتتساقطان فيحصل الإجمال لأنّ كلّ أصل من الاصول اللفظيّة من الأمارات ولا يكون بعضها أصلا تعبّديّا حتّى يحكم بارتفاع موضوعها بجريان الأمارة في طرف آخر.

بل تعارض أصالة عدم النقل بأصالة الحقيقة في ما إذا دار الأمر بين النقل والمجاز إذ مقتضى أصالة عدم النقل هو المجاز ومقتضى أصالة الحقيقة في الاستعمالات هو النقل.

اللهم إلّا أن يقال : إنّ أصالة الحقيقة لا تجرى إلّا في الحقيقة الأوّليّة السابقة والمفروض في المقام هو عدم إرادة الحقيقة السابقة فافهم.

وممّا ذكر يظهر أيضا وجه التعارض فيما إذا دار الأمر بين النقل والتخصيص أو التقييد لأنّ المراد من التخصيص والتقييد هو المجاز أيضا لأنّ التخصيص أو التقييد على مبنى قدماء الاصوليّين استعمال الكلمة في بعض مصاديقه ومن المعلوم أنّه مجاز.

__________________

(١) مقالات الاصول : ١ / ٣٥.

٢٦٩

نعم لو اريد بهما تخصيص الإرادة الجدّيّة أو تقييدها كما هو مذهب سلطان العلماء والمتأخّرين ، لا تستعمل الكلمة حينئذ في غير معناها وأمكن أن يقال حينئذ بتقدّم أصالة عدم النقل لأنّ الأمر يدور حينئذ بين النقل والحقيقة الأوّليّة ومن المعلوم أنّه كلّما دار الأمر بين الحقيقة والنقل تجري فيه أصالة عدم النّقل.

قال سيّدنا الاستاذ (المحقّق الداماد قدس‌سره) إذا شكّ في الصلاة أنّها منقولة عن الدعاء إلى الأركان المخصوصة أو مستعملة في معناها الأصليّ وهو الدعاء واريد بها الأركان المخصوصة بتعدّد الدالّ والمدلول فالبناء على التخصيص أو التقييد ما دام لم يصل إلى تخصيص الأكثر أو تقييده لجريان أصالة عدم النقل هذا.

ولكنّه يرجع حينئذ إلى المقام الأوّل من دوران الأمر بين الحقيقة والنقل إذ المفروض في المقام الثاني هو دوران الأمر بين نفس الأحوال لا الحقيقة والأحوال الأخر.

هذا مضافا إلى إمكان دعوى المعارضة أيضا بأصالة عدم قرينة التخصيص أو التقييد.

اللهم إلّا أن يكون في الكلام ما يصلح للقرينيّة فلا بناء حينئذ على أصالة عدم القرينة في مثله فلا معارض لأصالة عدم النقل كما لا يخفى.

ومنها : ما إذا دار الأمر بين الاشتراك وبقيّة الأحوال التي لا تساعد إرادة الحقيقة.

قال المحقّق العراقيّ قدس‌سره : إذا دار الأمر بين الاشتراك وبقيّة الأحوال المعارضة على خلاف الحقيقة فمقتضى أصالة عدم تعدّد الوضع يثبت سائر الأحوال. (١)

وفيه : أوّلا : أنّ الاستعمال ان لم يكن مع قرينة سائر الأحوال فهو علامة الحقيقة لما مرّ من أنّ الاستعمال المجرّد عن القرائن وعلائق المجاز علامة الحقيقة في المتّحد والمتعدّد

__________________

(١) نفس المصدر.

٢٧٠

وإلّا لزم أن يكون غلطا لأنّ المفروض عدم وجود علاقة وقرينة للمجاز وعليه فلا مجال لأصالة عدم الاشتراك مع وجود علامة الحقيقة التي مع إثباتها كان اللفظ مشتركا فيها وفي معناه الحقيقيّ الذي لم يكن طرفا للدوران.

وإن كان الاستعمال مع القرينة والعلاقة للمجاز فهو مجاز ولا مجال لاحتمال الاشتراك والدوران بينه وبين المجاز.

نعم : لو كان الاستعمال مع ما يصلح للقرينيّة بحيث شكّ في كونه حقيقة أو مجازا لم يكن اللفظ مجرّدا حتّى يحمل على الحقيقة ولم تعلم القرينيّة حتّى يحمل على المجاز فيمكن إثبات المجاز بأصالة عدم تعدّد الوضع.

وثانيا : أنّ أصالة عدم تعدّد الوضع تكون معارضة مع أصالة الحقيقة عند دوران الأمر بين الحقيقة والمجاز فإنّ مقتضى أصالة عدم تعدّد الوضع أنّ الاستعمال استعمال مجازيّ ومقتضى أصالة الحقيقة الجارية في الاستعمالات هو أنّ اللفظ مستعمل في معناه الحقيقيّ فتتعارضان فتتساقطان فيحصل الإجمال.

ومن هذا الباب إذا دار الأمر بين الاشتراك والتخصيص أو التقييد بناء على مذهب القدماء فإنّ الكلمة حينئذ على تقدير التخصيص أو التقييد مستعملة في بعض مصاديقها ومن المعلوم أنّها مجاز.

بل من هذا الباب أيضا إذا دار الأمر بين الاشتراك والإضمار بناء على أنه من المجازات حيث اسند فيه الفعل إلى غير ما هو له كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ). إذ السؤال لا يسند إلى غير ذوى العقول إلّا من باب المجاز في الإسناد لإفادة نكتة كوضوح أمر وغيره. فإذا شكّ في الاشتراك والإضمار في مثله يدور الأمر فيه بين كون لفظ القرية موضوعا لأهل القرية ومشتركا فيه وفي القرية أو مستعملا في الأهل مجازا فتتعارض أصالة عدم تعدّد الوضع مع أصالة الحقيقة وعدم إرادة المجاز فيحصل الإجمال.

٢٧١

وأمّا بناء على عدم كون الإضمار من المجازات لتقدير المسند إليه كتقدير الأهل في قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) فتتعارض أصالة عدم تعدّد الوضع مع أصالة عدم التقدير واستعمال القرية في الأهل من باب الاشتراك فتتساقطان فيحصل الإجمال.

ومنها : ما إذا دار الأمر بين التقييد والتخصيص.

قال في منتهى الاصول : نذكر وجه تقديم الأوّل على الثاني مفصّلا في مبحث التعادل والتراجيح. (١)

وقال في مبحث التعادل والتراجيح : إذا كان أحد الدليلين عامّا اصوليّا والآخر إطلاقا شموليّا كقوله : «أكرم العلماء» حيث أنّه عام اصوليّ مقدّم على قوله : «لا تكرم الفاسق» في مادّة الاجتماع أي العالم الفاسق. والسرّ في ذلك أنّ شمول العامّ الاصوليّ لمورد الاجتماع بالوضع وشمول الإطلاق الشموليّ له بالإطلاق ومقدّمات الحكمة. ومن تماميّة مقدّمات الحكمة عدم القرينة على التقييد ويكفي في القرينيّة شمول العموم لمورد الاجتماع بالوضع من دون اشتراطه بشيء. إلى أن قال : وعلى هذا القياس حال الإطلاق البدليّ مع العامّ الاصوليّ فلو قال : «أكرم عالما» وقال أيضا : «لا تكرم الفسّاق» فشمول الإطلاق البدليّ لمورد الاجتماع أي العالم الفاسق بالإطلاق وشمول العامّ الاصولي له بالوضع فيكون مانعا عن تحقّق الإطلاق.

وزاد عليه دوران الأمر بين تقييد الإطلاق البدليّ وتقييد الإطلاق الشموليّ. وقال : إذا كان أحد المتعارضين من قبيل الإطلاق الشموليّ والآخر من قبيل الإطلاق البدليّ كما إذا قال : «اكرم عالما» فإنّه إطلاق بدليّ كما تقدّم. وقال أيضا : «لا تكرم الفاسق» فإنّه إطلاق شمولىّ لما تقدّم من انحلال النهي إلى قضايا متعدّدة حسب تعدّد أفراد موضوعه أي متعلّق متعلّقه كقوله : «لا تشرب الخمر» والمثال المذكور أي «لا تكرم الفاسق». فتقييد

__________________

(١) منتهى الاصول : ١ / ٤٤.

٢٧٢

الإطلاق البدليّ مقدّم على تقييد الإطلاق الشموليّ وإن كان كلاهما بمقدّمات الحكمة وذلك من جهة أنّ جريان مقدّمات الحكمة في الإطلاق الشموليّ يمنع عن جريان مقدّمات الحكمة في الإطلاق البدليّ بخلاف العكس لأنّ الإطلاق البدليّ عبارة عن تعلّق التكليف بصرف الوجود وحيث أنّ جميع وجودات الطبيعة في ضمن وجودات جميع الأفراد متساوي الأقدام في انطباق صرف الوجود عليها فالعقل يحكم بالتخيير في مقام التطبيق بواسطة إجراء مقدّمات الحكمة. ولكن الإطلاق الشموليّ في طرف المعارض يخرج هذا الفرد الذي هو مورد الاجتماع عن كونه متساوي الأقدام مع سائر الأفراد في انطباق صرف الوجود عليه لابتلائه بالحكم المنافي مع هذا الحكم فجريان مقدّمات الحكمة في الإطلاق البدليّ مشروط بشرط وهو تساوي أقدام الأفراد بخلاف الجريان في الإطلاق الشموليّ فإنّه ليس مشروطا بشرط لأنّ الإطلاق الشموليّ عبارة عن تعلّق الحكم بوجود الطبيعة السّارية وهذا المقدار مشترك بين العامّ الاستغراقيّ والإطلاق الشموليّ. (١)

وفيه أوّلا : كما أشار إليه في الدرر : (٢) أنّ عدم البيان الذي اعتبر في تحقّق الإطلاق هو عدم البيان المتّصل لا الأعمّ منه ومن المنفصل.

إذ مع الاتّصال لا ينعقد الظهور فيتقيّد انعقاد الظهور بعدم البيان أو القرينة. هذا بخلاف البيان المنفصل فإنّ ظهور كلّ دليل في مفاهيمه ينعقد فيدور الأمر بين الظهورين ويتقدّم أقواهما على الآخر إن كان وإلّا فيتعارضان.

نعم تتوقّف الإرادة الجدّيّة على الفحص وملاحظة التقييد أو التخصيص ولكن ذلك لا ينافي انعقاد الظهور الاستعماليّ من دون توقّف على المقيد أو المخصّص

__________________

(١) نفس المصدر : ٢ / ٥٦ ـ ٥٦٩.

(٢) الدرر : ٢ / ٦٨٠.

٢٧٣

المنفصل كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ التفرقة بين الإطلاق البدليّ والإطلاق الشموليّ مع تقييد كلّ واحد منهما على جريان مقدّمات الحكمة كما ترى ، لمساواتهما في ملاحظة الشرط وعدمه فإنّ المنافي إن لوحظ وقيد المتعلّق بعدم المنافي فهو جار بعينه في متعلّق الإطلاق الشموليّ. وإن لم يتقيّد المتعلّق بعدم المنافي في طرف الإطلاق الشموليّ فالأمر أيضا كذلك في الإطلاق البدليّ ولا يزيد أمر الإطلاق الشموليّ عن العامّ الاصوليّ وقد عرفت أنّ الظهور الإطلاقيّ مع العامّ الاصوليّ المنفصل منعقد فكيف لا ينعقد الظهور الإطلاقيّ مع الإطلاق الشموليّ المنفصل.

ومجرّد كون الإطلاق الشموليّ عبارة عن تعلّق الحكم بوجود الطبيعة السارية وهذا المقدار الذي هو مشترك بين العام الاستغراقيّ والإطلاق الشموليّ لا يمنع عن انعقاد الظهور الإطلاقيّ كما لا يمنع عنه العامّ الاصوليّ.

وثالثا : أنّ التقييد أو التخصيص بمعناهما عند المتأخّرين ليسا من أحوال الألفاظ إذ لا يلزم من تقييد المطلق أو تخصيص العامّ مجاز إذ التصرّف في ناحية المراد لا في ناحية المستعمل فيه كما حقّقه سلطان العلماء قدس‌سره وعليه فعدّهما من أحوال الألفاظ مسامحة. وعلى فرض التسامح لا يختصّ الدوران بالمذكورات لإمكان الدوران أيضا بين التخصيصين كما إذا كان المتعارضان عامّين من وجه فالتصرّف في كلّ طرف تخصيص فحينئذ لا ترجيح لأحدهما على الآخر إلّا إذا كان فيه أمر يوجب قوّة الظهور بالنسبة إلى الآخر كما إذا كان أحدهما واردا في مورد الاجتماع فلا بدّ وأن يخصّص الآخر لأنّ تخصيص المورد قبيح فإذا سئل عن جواز إكرام العالم الفاسق وقال في الجواب «أكرم العلماء» وصدر منه أيضا قبلا أو بعدا «لا تكرم الفسّاق» فلا بدّ وأن يقدّم عموم «أكرم العلماء» ويخصّص عموم «لا تكرم الفسّاق» وإن كان بينهما عموم من وجه.

٢٧٤

وإلّا إذا كان أحد العامّين من وجه له أفراد قليلة بحيث لو خصّص بما عدا مورد الاجتماع يكون إلقاء العامّ قبيحا فاللازم حينئذ هو تخصيص دليل آخر به لا العكس.

وإلّا إذا كان أحد العامّين في مقام التّحديد فيقدّم على الآخر ويكون قرينة على التصرّف فيه وإن لم يكن أخصّ منه وذلك من جهة صيرورته كالنصّ بواسطة كونه في مقام التحديد وإلى غير ذلك من الأحوال المذكورة في باب التّعادل والتراجيح.

بل الأمر كذلك في ما إذا دار الأمر بين التقييدين سواء كان الإطلاق شموليّا أو بدليّا بعد ما عرفت من انعقاد الظهور مع انفصال المقيّد فإنّهما يتعارضان ولا ترجيح لأحدهما على الآخر إلّا بأمثال ما عرفت في التخصيص.

ورابعا : أنّ التخصيص والتقييد بمعناهما عند المتقدّمين مجاز فإنّ التصرّف حينئذ في ناحية المستعمل فيه لا في ناحية المراد وعليه يكون التخصيص والتقييد أو التخصيصين أو التقييدين من الأحوال ولكن لا ترجيح لأحدهما على الآخر إذا دار الأمر بينهما بعد انعقاد الظهور في كلّ واحد منهما في معناه وأصالة عدم التخصيص تكون معارضة بأصالة عدم التقييد في طرف آخر فيما إذا دار الأمر بين التخصيص والتقييد أو بأصالة عدم التخصيص فيما إذا دار الأمر بين التخصيصين كما أنّ أصالة عدم التقييد تكون معارضة بالأصل الجاريّ في طرف آخر لنفى التخصيص أو التقييد فبعد التعارض والتساقط يحصل الإجمال إلّا في الموارد التي يترجّح التخصيص أو التقييد في طرف بمثل ما مرّ فلا تغفل.

* * *

الخلاصة :

١ ـ الأحوال العارضة على الألفاظ الموضوعة في مقام الاستعمال مختلفة : وتنقسم إلى مشترك وغير مشترك ومنقول وغير منقول وحقيقة ومجاز وإضمار وغير إضمار

٢٧٥

واستخدام وغير استخدام ومطلق ومقيّد وعامّ وخاصّ.

أمّا الأوّل فباعتبار تعدّد الوضع وعدمه وأمّا الثاني فباعتبار بقائها على الوضع الأوّل وعدمه وأمّا الثالث فباعتبار استعمالها فيما وضع له وعدمه وأمّا الرابع فباعتبار التقدير وعدمه وأمّا الخامس فباعتبار اتّحاد ما يراد من اللفظ مع ما يراد من اللفظ مع ما يراد من الضمير وعدمه وأمّا السادس والسابع فباعتبار اقتران معناها بخصوصيّة زائدة وعدمه.

٢ ـ لا إشكال في جواز المصير إلى إحدى هذه الأحوال وترتيب آثارها عند قيام أمارة معتبرة عليها وأمّا إذا لم تقم قرينة على إحداها فمقتضى الأصل هو عدم هذه الأحوال من الاشتراك والنقل والمجاز والإضمار والاستخدام والتقييد والتخصيص فيما إذا دار الأمر بين الحقيقة وإحدى أو الأزيد من الأحوال المذكورة وذلك لأنّ الأصل هو عدم الاشتراك وعدم النقل وقد يعبّر عن الأصل بالأصل الوضعيّ لأنّ به يتعيّن حال الوضع من التعدّد وعدمه ومن النقل وعدمه. وهكذا مقتضى الأصل عند الشكّ في إرادة الحقيقة والمجاز هو عدم إرادة المجاز وقد يعبّر عن الأصل المذكور بأصالة الحقيقة.

ومقتضى الأصل عند الشكّ في الإضمار وعدمه أو الاستخدام وعدمه هو عدم الإضمار وعدم الاستخدام.

ومقتضى الأصل عند الشّك في التقييد والتخصيص بعد الفحص هو الإطلاق والعموم.

فكلّ هذه الأحوال منفيّة بالاصول المذكورة ولا يرفع اليد عن المعنى الحقيقيّ المطلق باحتمال هذه الأحوال.

٣ ـ تلك الاصول من الاصول العقلائيّة التي تدور مدار بناء العقلاء فيها على ما إذا لم يكن في الكلام ما يصلح للقرينيّة وإلّا فلا مجال لإحداها.

٢٧٦

٤ ـ هل يشترط في جريان أصالة عدم النقل أن يكون الشكّ في أصل النقل أم لا يشترط بل تجري فيما إذا علم بالنقل وشكّ في تقدّمه على الاستعمال وتأخّره؟

ذهب بعض إلى الاشتراط مطلقا وذهب آخر إلى عدم الاشتراط مطلقا وثالث إلى التفصيل بين العلم بتاريخ الاستعمال فلا تجري والأوسط هو المختار وذلك لأنّ بناء العقلاء على أنّهم لا يرفعون اليد عن الحجّة إلّا بقيام الحجّة على خلافها ومن المعلوم أنّ وضع الواضع معتبر ومتّبع في تعيين اللفظ للمعنى وحصول الارتباط بينهما ما لم يثبت العدول عنه فتعيين الواضع حجّة على الارتباط بينهما ولا يرفع اليد عن تلك الحجّة إلّا بقيام الحجّة على العدول كما هو مقتضى البناء المذكور فكما لا يرفع اليد عنها بمجرّد احتمال النقل كذلك لا يرفع اليد عنها بالعلم الإجماليّ بالنقل والشكّ في التقدّم والتأخّر بالنسبة إلى الاستعمال وعليه فتحقّق الشكّ في ارتفاع الوضع الأوّل حال الاستعمال وبناء العقلاء على عدم رفع اليد عن الحجّة بلا حجّة ومقتضى هذا البناء هو الحكم ببقاء الوضع الأوّل حال الاستعمال فكما أنّ العلم بالنقل في الآتي لا يضرّ بجريان أصالة عدم النقل قبل حصول النقل لتحقّق أركانها من العلم بالحجّة والشكّ في الارتفاع حال الاستعمال فكذلك العلم الإجماليّ بأصل النقل والاستعمال والشكّ في التقدّم والتأخّر لا يمنع عن جريانها لتحقّق أركانها من العلم بالحجّة والشكّ في ارتفاعها حال الاستعمال.

ومع جريان أصالة عدم النقل يبقى ظهور اللفظ في معناه الحقيقيّ ولا ينثلم هذا الظهور بالعلم الإجماليّ بوقوع النقل والشكّ في التقدّم والتأخّر بعد حفظ أركان أصالة عدم النقل من العلم بالحجّة والشكّ في ارتفاعها حال الاستعمال فدعوى انثلام الظهور لا وجه لها بعد جريان أصالة عدم النقل كما لا يخفى.

وتوهّم المعارضة بين أصالة عدم النقل مع استصحاب عدم الاستعمال إلى ما بعد زمان الوضع الجديد فاسد لأنّ استصحاب عدم الاستعمال إلى ما بعد زمان الوضع

٢٧٧

الجديد حيث لا أثر شرعيّ له فهو مثبت هذا مضافا إلى أنّه لو سلّم جريانه فهو لا يعارض مع الأمارة والمفروض أنّ أصالة عدم النقل من الأمارات العقلائيّة ولا يقاس أصالة عدم النقل بالاصول التعبّديّة فتحصّل أنّه لا فرق في جريان أصالة عدم النقل بين الأقسام فتجري سواء كان الاستعمال معلوما أو مجهولا لأنّ رفع اليد عن الوضع الأوّل في جميع الصور رفع اليد عن الحجّة بلا حجّة فلا وجه للقول بعدم الجريان مطلقا كما لا وجه للتفصيل ولا تغفل.

٥ ـ إذا دار الأمر بين نفس الأحوال كما إذا دار الأمر بين النقل والاشتراك وبين المجاز والاشتراك وبين الإضمار والاشتراك وبين التخصيص والاشتراك بناء على أنّ التخصيص مجاز وبين المجاز والنقل وبين المجاز والإضمار وبين التقييد والتخصيص بناء على كونهما من المجازات وغير ذلك فقد ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوها من أنّ النقل أولى من الاشتراك لأنّ اللفظ إن تجرّد عن القرينة حمل على الحقيقة وإلّا فعلى المجاز والإضمار أولى من الاشتراك لأنّ صحّته مشروطة بالعلم بتعيينه بخلاف المشترك والتخصيص أولى من الاشتراك لأنّه خير من المجاز والمجاز أولى من النقل لا فتقار النقل إلى الاتّفاق عليه بين أهل اللغة إلى غير ذلك.

إلّا أنّها وجوه استحسانيّة لا اعتبار بها إلّا إذا كانت موجبة لصيرورة اللفظ ظاهرا فيه فمع عدم إيجابها للظهور تعارضت الأحوال ويصير اللفظ مجملا إذ المعنى الحقيقيّ لم يرد على المفروض ولا ترجيح لاحدى الأحوال المتعارضة على الاخرى اللهمّ إلّا أن يدّعى وجود البناء في بعض موارد تعارضها على تعيين إحدى الأطراف كما قال في مقالات الاصول إذا دار الأمر بين النقل وغير الحقيقة السابقة فأصالة عدم النقل يحرز البقيّة.

وفيه أنّ أصالة عدم النقل معارضة مع أصالة عدم التقدير عند دوران الأمر بين النقل والإضمار لأنّ كلّ واحد منهما من الاصول اللفظيّة فالإجمال باق على حاله وكما

٢٧٨

قال أيضا إذا دار الأمر بين الاشتراك وبقيّة الأحوال المعارضة على خلاف الحقيقة مقتضى أصالة عدم تعدّد الوضع يثبت سائر الأحوال.

وفيه أيضا أنّه إن كان الاستعمال غير مقرون بقرينة سائر الأحوال فالمتعيّن هو الاشتراك لما مرّ من أنّ الاستعمال المجرّد علامة الحقيقة مطلقا سواء كان المستعمل فيه متّحدا أو متعدّدا وإلّا لزم أن يكون الاستعمال غلطا وهو لا يصدر عن المتكلّم الحكيم وإن كان الاستعمال مقرونا بقرينة سائر الأحوال فهو مجاز ولا مجال لاحتمال الاشتراك والدوران بينه وبين المجاز نعم لو كان مع ما يصلح للقرينيّة بحيث شكّ في كونه حقيقة أو مجازا لم يكن الاستعمال مجرّدا حينئذ حتّى يحمل على الحقيقة ولم يعلم قرينيّة الموجود حتّى يحمل على المجاز فيمكن حينئذ إثبات المجاز بأصالة عدم تعدّد الوضع إن كانت أصلا عقلائيّا فافهم.

ثمّ إنّه إذا دار الأمر بين التقييد والتخصيص فقد يقال إن كان أحد الدليلين عامّا اصوليّا والآخر إطلاقا شموليّا كقوله أكرم العلماء حيث إنّه عامّ اصوليّ مقدّم على قوله لا تكرم الفاسق في مادّة الاجتماع أي العالم الفاسق والسرّ في ذلك أنّ شمول العامّ الاصوليّ لمورد الاجتماع بالوضع وشمول الإطلاق الشموليّ بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ومن تماميّة مقدّمات الحكمة عدم قرينة على التقييد ويكفى في القرينيّة شمول العموم لمورد الاجتماع بالوضع من دون اشتراطه بشيء.

وهكذا الأمر إن كان أحدهما عامّا اصوليّا والآخر إطلاقا بدليّا فلو قال أكرم عالما وقال أيضا لا تكرم الفساق فشمول الإطلاق البدليّ لمورد الاجتماع أي العالم الفاسق بالإطلاق وشمول العامّ الاصوليّ له بالوضع فيكون مانعا عن تحقّق الإطلاق.

والحق بذلك أيضا الإطلاق الشموليّ والإطلاق البدليّ كما إذا قال أكرم عالما فإنّه إطلاق بدليّ كما تقدّم وقال أيضا لا تكرم الفاسق فإنّه إطلاق شموليّ لما تقدّم من انحلال النهي إلى قضايا متعدّدة حسب تعدّد أفراد موضوعه أي متعلّق متعلّقه كقوله

٢٧٩

لا تشرب الخمر والمثال المذكور أي لا تكرم الفاسق وعليه فتقيد الإطلاق البدليّ مقدم على تقيّد الشموليّ وإن كان كلاهما بمقدّمات الحكمة. لأنّ جريان مقدّمات الحكمة في الإطلاق البدليّ مشروط بشرط وهو تساوي أقدام الأفراد بخلاف الجريان في الإطلاق الشموليّ فإنّه ليس مشروطا بشرط لأنّ الإطلاق الشموليّ عبارة عن تعلّق الحكم بوجود الطبيعة السارية وهذا المقدار مشترك بين العامّ الاستغراقيّ والإطلاق الشموليّ.

فالعامّ الاصوليّ مقدّم في جميع الصور على الإطلاق سواء كان شموليّا أو بدليّا كما أنّ الإطلاق الشموليّ مقدّم على الإطلاق البدليّ إذا دار الأمر بينهما.

يمكن أن يقال أوّلا إنّ المعتبر في تحقّق الإطلاق والظهور الاستعماليّ هو عدم البيان المتّصل لا الاعم منه ومن المنفصل إذ مع الاتّصال لا ينعقد الظهور فيتقيّد انعقاد الظهور بعدم البيان أو القرينة هذا بخلاف البيان المنفصل فإنّ ظهور كلّ منعقد فيدور الأمر بين الظهورين ويتقدّم الأقوى منهما إن كان وإلّا فيتعارضان ولعلّ منشأ ذلك هو توقّف الإرادة الجدّيّة على الفحص والتتبّع وملاحظة القيود ولكن ذلك لا ينافي انعقاد الظهور الاستعماليّ قبل الفحص والتتبّع كما لا يخفى.

وثانيا إنّ التفرقة بين الإطلاق البدليّ والإطلاق الشموليّ مع تقيّد كلّ واحد منهما بعدم جريان مقدّمات الحكمة كما ترى لمساواتهما في ملاحظة الشرط المذكور وعدمه.

وثالثا أنّ التقييد والتخصيص ليسا عند المتأخّرين من أحوال الألفاظ إذ لا يلزم من تقييد المطلق أو تخصيص العامّ مجاز في الكلمة لأنّ التصرّف في ناحية المراد لا المستعمل فيه كما حقّقه سلطان العلماء قدس‌سره وعليه فعدّهما من أحوال الألفاظ مسامحة.

وعلى فرض التسامح لا يختصّ الدوران بهما لإمكان الدوران أيضا بين التخصيصين كما إذا كان المتعارضان عاميّن من وجه فالتصرّف في كلّ طرف تخصيص فحينئذ لا ترجيح لأحدهما على الآخر إلّا إذا كان فيه أمر يوجب قوّة الظهور بالنسبة إلى الآخر

٢٨٠