عمدة الأصول - ج ١

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

قابلا للانطباق على الأفراد. (١)

وفيه : انّه إن اريد بالاطّراد اطّراد الحمل فهو صحيح ولكنّه ليس كذلك بل المراد منه هو الاطّراد في الاستعمال ومن المعلوم أنّ استعمال لفظ في ضمن المحاورات العرفيّة ليس من باب الحمل لا حملا ذاتيّا ولا حملا شائعا صناعيّا إذ استعمال لفظ الماء في قولهم : شربت الماء ليس حملا اصطلاحيّا على الماء الخارجيّ ولذا كان لفظ الماء مفردا ومعربا وتحليل استعمال الماء في الماء الخارجيّ بالقضيّة تحليل شأني ولا تحصل منه القضيّة الحمليّة الفعليّة.

وقد ذكرنا سابقا أنّ إرجاع صحّة الحمل أيضا إلى التبادر لا وجه له لكفاية العلم الارتكازيّ في التطبيق والحمل وهو حاصل فلا تغفل.

فإذا عرفت عدم استقامة الإثبات المطلق والنفي المطلق فانحصر الأمر في الإثبات في الجملة إذ الاطّراد علامة في بعض الموارد التي لم يحصل العلم بالمعنى الحقيقيّ من طريق تنصيص الواضع أو صحّة الحمل أو الاستعمال المجرّد. فالقول الثالث هو الظاهر كما اختاره استاذنا (الفريد قدس‌سره).

الثالث : في مشخّصات هذه العلامة وهي من جهات :

منها : أنّ علاميّة الاطّراد تختصّ بالكلّيّات لما عرفت من اختصاص عدم الاطّراد بنوع علاقة المجاز وعليه فإذا أردنا أن نعلم أنّ اللفظ حقيقة في هذا الكلّيّ أو ذاك الكلّيّ كان اطّراد اللفظ في كلّ واحد منهما دليلا على كونه حقيقة فيه وعدم اطّراده دليلا على كونه مجازا فيه. فلفظ «الأسد» في الحيوان المفترس» حقيقة لاطّراد استعماله في مصاديقه ومجاز في «الشجاع» لعدم إطلاقه على «النملة الشجاعة» أو «البقّة الشجاعة» وغيرهما من مصاديق الشجاع فهذه العلامة لا ينتفع بها في تشخيص الحقائق عن المجازات في غير

__________________

(١) تهذيب الاصول : ١ / ٦٠.

٢٤١

الكلّيّات لأنّ المجازات في شخص العلاقات أو صنفها مطّردة دون نوعها أو جنسها كما لا يخفى.

ومنها : ما أفاده في نهاية النهاية من أنّ الظاهر أنّ المراد من الاطّراد هو الاطّراد عند أهل اللسان دون المستعلم فإنّه إن صحّ عنده الحمل وأذعن بذلك فمن حمل واحد يستنتج المقصود لدخوله تحت عنوان صحّة الحمل ولا يحتاج إلى تكرّره وإن لم يصحّ أو لم يدرك صحّته فتكرّره لا يجديه شيئا. (١)

يمكن أن يقال : إنّ الإذعان ربما لا يحصل بالحمل الأوّل فيحتاج إلى تكرّر الحمل والاستعمال وعليه فالتكرّر يجديه في بعض الأحيان كما لا يخفى.

ومنها : ما أفاده الشيخ قدس‌سره في عدّة الاصول من تقييد علاميّة عدم الاطّراد للمجاز بما إذا لم يكن مانع عن الاطّراد. حيث قال : ومنها أن يعلم أنّها تطّرد في موضع ولا تطّرد في آخر ولا مانع فيعلم أنّها مجاز في الموضع الذي لا تطّرد فيه وإنّما شرطنا المانع لأنّ الحقيقة قد لا تطّرد لمانع عرفيّ أو شرعيّ ألا ترى أنّ لفظة الدابّة وضعت في الأصل لكلّ ما دبّ ثمّ اختصّت في العرف بشيء بعينها فكذلك لفظه الصلاة في الأصل للدعاء ثمّ اختصّت في الشرع بأفعال بعينها وكذلك لفظة النكاح وما جرى مجرى ذلك فيعلم أنّه حقيقة وإن لم يطّرد لما بيّنّاه من العرف والشرع. (٢)

يمكن أن يقال إنّ المانع إن أوجب النقل عن المعنى الأصليّ إلى المعنى الشرعيّ أو العرفيّ كان المعنى الأصليّ مهجورا وليس استعمال اللفظ فيه حقيقة بالفعل وإن كان كذلك قبل. وعليه فلا مورد لتعليل الاشتراط المذكور بقوله : لأنّ الحقيقة قد لا تطّرد لمانع عرفيّ أو شرعيّ. وإن لم يوجب المانع النقل ، فالحقيقة مطّردة ومجرّد استعمال اللفظ

__________________

(١) نهاية النهاية : ١ / ٢٧.

(٢) عدّة الاصول : ١٦٧ ـ ١٦٨.

٢٤٢

في غير المعنى الحقيقيّ بقرينة الحال أو المقال لا ينافي اطّراد اللفظ في معناه الحقيقيّ من دون حاجة إلى القرينة وإنّما المحتاج إلى القرينة هو استعمال اللفظ في غير معناه الحقيقيّ ولو صار مجازا مشهورا كما لا يخفى.

ومنها : ما أشار إليه المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره من أنّ هذه العلامة علامة قطعيّة لو ثبت عدم اطّراد علائق المجاز كما هو المعروف والمشاهد في جملة من الموارد. (١) انتهى

ظاهره هو عدم الجزم لعلاميّة عدم اطّراد علائق المجاز بنوعها أو جنسها بل هو مبتن على المعروف وهو لا يكفي للجزم ، والمشاهدة ليست إلّا فى جملة من الموارد وهو لا يكفي لبقيّة الموارد إلّا إذا اعتمد على المعروف وهو كذلك ولكنّها علامة قطعيّة في الموارد التي ثبت عدم اطّراد علائقها كما لا يخفى.

ومنها : ما في الفصول من قوله : والحقّ أنّ المجاز أيضا يطّرد حيثما توجد علاقة معتبرة وهي المناسبة المصحّحة لإعارة لفظ أحدهما للآخر في مصطلح التخاطب فإنّ هذا هو المعيار في سبك المجاز وعليه المدار في الاستعمال وأمّا العلاقات التي ذكروها فهي على إطلاقها لا تعتبر قطعا على ما مرّ تحقيق القول فيه فعدم الاطّراد باعتبارها غير قادح فتسقط العلامة المذكورة رأسا.

وقال في فصل علاقات المجاز : ثمّ اعلم إنّ الأكثر لم يبالغوا في حصر أنواع العلاقة وضبطها كما يشهد به تصفّح كتبهم وكان ذلك تنبيها منهم على أنّ المعتبر في العلاقة إنّما هو تحقّق المناسبة التي يقبل الطبع إطلاق اللفظ الموضوع لأحدهما على الآخر وأنّ الوجوه المذكورة من مظانّها وهذا هو التحقيق الذي ينبغى تنزيل كلماتهم عليه. إلى أن قال : وان اعتبروها بشرط كونها بحيث يقبل الطبع إطلاق لفظ أحدهما على الآخر فاعتبار قبول الطبع مغن عن اعتبار خصوصيّة الموارد فيلغو اعتبارها وإن اعتبروها

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٥٩.

٢٤٣

في الجملة لزم القول بتوقّفه على النقل وقد أشرنا إلى فساده. فظهر ممّا حقّقنا أنّ المعتبر في العلاقة المصحّحة للتجوّز هي المناسبة التي يقبلها الطبع سواء وجدت في ضمن إحدى العلاقات المذكورة أو في غيرها والعلاقات المذكورة إنّما تعتبر إذا تضمّنت هذه المناسبة. (١) انتهى

وفيه : أنّ الاطّراد مع ذلك لا يخلو عن العلاميّة إذ اطّراد الحقيقة يختلف مع اطّراد المجاز لأنّ الأوّل لا يحتاج إلى مئونة بخلاف الثانيّ فإنّه يتوقّف على ملاحظة الحقيقة والمناسبة المصحّحة للمجاز فالاطّراد بلا مئونة علامة الحقيقة والاطّراد بشرط المئونة علامة المجاز.

ومنها : ما في (مقالات الاصول) من أنّ التبادر علامة لوجود الوضع وصحّة السلب علامة عدمه والاطّراد علامة لاستناد التبادر أو صحّة السلب إلى حاقّ اللفظ ورافع استنادهما إلى قرينة حافّة بالكلام ولو بمثل الانصراف الإطلاقيّ حيث أنّ الاستقراء في موارد الاستعمال سلبا أم إيجابا ربما يكشف بحكم ارتكاز الذهن أنّ فهم المعنى سلبا أم إيجابا مستند إلى نفس اللفظ لا قرينة اخرى كما أنّه قد يستفاد هذه الجهة من أمر آخر بحيث لا يحتاج إلى استقراء موارده. (٢)

وبهذا البيان يعلم أنّ الاطراد يحتاج إليه لتشخيص العلامة وهو التبادر المستند إلى حاقّ اللفظ.

وفيه : أنّ الاطّراد لا ينحصر في ذلك بل يمكن أن لا يكون للفظ تبادر وكان ذا احتمالين أو احتمالات فإذا رأيناه مطّردا في أحدها علمنا كونه حقيقة فيه كما لا يخفى فالاطّراد ليس علامة العلامة فقط بل ربما يكون بنفسه علامة للحقيقة كما لا يخفى.

__________________

(١) الفصول : ١٩.

(٢) مقالات الاصول / ٣٠ ط ١٣٥٨.

٢٤٤

ثمرة العلامات

ذهب في مقالات الاصول على ما أوضحه في منتهى الاصول إلى أنّه على فرض تماميّة هذه العلامات لا ثمرة لها إلّا بناء على حجّيّة أصالة الحقيقة تعبّدا بيان ذلك أنّه لو استكشفنا أنّ لفظا بواسطة إحدى هذه العلامات حقيقة في المعنى الفلانيّ ولكن ليس له ظهور فيه بواسطة احتفافه بما يصلح للقرينيّة على خلاف ذلك المعنى فلا فائدة في هذا الاستكشاف إلّا بناء على لزوم الأخذ بالمعنى الحقيقيّ عند الشكّ تعبّدا ولو لم يكن ظاهرا فيه. وأمّا بناء على ما هو التحقيق من أنّ الأخذ دائر مدار وجود الظهور وهو موضوع الحجّيّة سواء كان مستندا إلى حاقّ اللفظ أو إلى القرينة فكونه حقيقة فيه لا فائدة فيه. وبعبارة اخرى المدار على ظهور اللفظ في المعنى سواء كان المعنى الظاهر حقيقيّا أو مجازيّا فإذا أحرزنا الظهور أخذنا به ولا ننظر إلى أنّه معنى حقيقيّ أو مجازيّ كما أنّه لو لم نحرز الظهور لم نأخذ به ولو كان معنى حقيقيّا. (١) انتهى

ثمّ أجاب عنه في منتهى الاصول بأنّ نفس كون اللفظ حقيقة في معنى موجب لحصول الظهور في ذلك المعنى عند الشكّ في المراد وعدم نصب قرينة على خلاف المعنى الحقيقيّ. وبعبارة أخرى أصالة الحقيقة عبارة عن أنّ العقلاء لو شكّوا في أنّ مراد المتكلّم هو المعنى الحقيقيّ أو المعنى المجازيّ حكموا بإرادة المعنى الحقيقيّ ما لم تنصب قرينة على الخلاف فيرون أنّ اللفظ ظاهر فيه وهذا الظهور لا يسلب عنه إلّا بمجيء القرينة على الخلاف ومنشأ هذا الظهور بهذه الكيفيّة هو بناء العقلاء وأهل العرف على ذلك في محاوراتهم. (٢)

__________________

(١) منتهى الاصول : ١ / ٤٣.

(٢) نفس المصدر.

٢٤٥

وبالجملة هذه العلامات موجبة للظهور فيما لا قرينة في الكلام فالظهور ناش منها فكيف يستغنى منها.

لا يقال : إنّ الظهور ناش من أصالة الحقيقة لا من العلامات.

لأنّا نقول : إنّ التبادر أو صحّة الحمل أو الاطّراد أو الاستعمال المجرّد يوجب ظهور اللفظ في المتبادر والمستعمل فيه بدون القرينة أو ما يكون قابلا لأن ينطبق على الموضوع ولكن مع ذلك لاحتمال كونها من غير ناحية اللفظ مجال إذ المفروض هو حصول الظنّ لا العلم وعرف العقلاء لا يعتنون بهذا الاحتمال ويجرون أصالة الحقيقة أي أصالة عدم القرينة ومدخليّة شيء آخر. فبعد تحقّق العلامة وجريان الأصل يحكم بكون المراد هو الموضوع له ويكون حقيقة. وعليه فالبحث عن العلامات بحث عن محقّقات الظهور فلا يكون ذلك بلا فائدة كما لا يخفى.

* * *

الخلاصة :

١ ـ علائم الحقيقة والمجاز متعدّدة ؛ منها : تنصيص الواضع كالآباء بالنسبة إلى أسامى أولادهم أو الحكومة بالنسبة إلى أسامى الشوارع أو الأزقّة أو المخترعين بالنسبة إلى أسامي ما اخترعوه لأنّهم هم الواضعون ويكونون أعرف بفعلهم من غيرهم.

ومنها : النقل المتواتر لكيفيّة الوضع فإنّ التواتر يفيد العلم وهو حجّة بل يلحق به الشياع المفيد للعالم. ربما يقال : إنّه لا مناقشة فيه إلّا في وجوده ولكنّه لا وقع لها بعد ملاحظة كثرة الألفاظ التي تكون كذلك كلفظة الماء والتراب والبرد والحرّ والجنّ والإنس وغيره.

ومنها : تنصيص مهرة الفنّ كقول اللغويّ إذا كان خبرة تشخيص الحقيقة والمجاز

٢٤٦

والدليل عليه هو بناء العقلاء على حجّيّة قول أهل الخبرة لا الانسداد إذ لا انسداد مع وجود الطرق الأخر ولا الخبر الواحد لتقييده بالعدالة والتعدّد اللهم إلّا أن يقال دليل اعتبار أخبار الآحاد هو بناء العقلاء والبناء ثابت على حجّيّة أخبار الثقات ولا ملزم لاعتبار العدالة كما أنّ أخبار الآحاد عند العقلاء حجّة ولو في الموضوعات ولا دليل على اعتبار التعدّد إلّا في بعض الأبواب كباب الشهادة والتمسّك بموثّقة مسعدة بن صدقة «الأشياء كلّها على ذلك حتّى تستبين أو تقوم بها البيّنة ... الحديث» لاعتبار التعدّد منظور فيه لاحتمال أن يكون المقصود من البيّنة هو معناها اللغويّ لا معناها الاصطلاحيّ فحينئذ لصحّ الاعتماد على أخبار الثقات ولكن الإشكال فيه أنّه ليس بنفسه علامة للحقيقة والمجاز بل يرجع إلى سائر العلائم كالتبادر عند المستعملين أو تنصيص الواضع أو غيرهما وعليه فلا يكون أخبار الثقات في عداد سائر العلائم هذا بخلاف ما إذا كان حجّيّته من باب كون من أهل الخبرة فإنّه حينئذ يكون في عداد سائر الطرق ولا حاجة إلى العدالة ولا إلى التعدّد في الرجوع إلى المتخصّص كما لا يخفى. ثمّ إنّ تنصيص أهل الخبرة حجّة تعيينيّة ما دام لم يعارضه قول مثله وإلّا فإن أمكن الجمع تعيّن وإلّا فإن كان التعارض بين النفي والإثبات تعيّن القول بالإثبات ما لم ينقضه الآخر بما يترجّح به عليه لأنّ مرجع الإثبات إلى الاطّلاع ومرجع النفي إلى عدم الاطّلاع غالبا وإلّا فالتعويل عند العقلاء على ما كان الظنّ معه أقوى كالمعتضد بالشهرة أو بأكثريّة اطّلاع نقلته أو حذاقتهم أو نحو ذلك.

أمّا ولو تعارض أقوال مهرة الفنّ من دون ترجيح لأحد المتعارضين على الآخر فالحكم هو التساقط كما هو القاعدة في تعارض الأمارات والطرق مع قطع النظر عن التعبّد الخاصّ بالأخذ بأحدهما كما في اخبار الثقات والعدول. اللهمّ إلّا أن يقال إنّ التساقط مع التعارض وعدم الترجيح فيما إذا كان المقصود من المراجعة إلى الأمارات والطرق هو إدراك الواقع لا الأخذ بالحجّة وإلّا فالحكم هو التخيير كما نقول به في

٢٤٧

تعارض أقوال أصحاب الفتاوى وذلك للفرق بين أخبار العدول والثقات وبين الأخذ بالفتوى فإنّ المقصود في الأوّل هو الأخذ بجميعها لإدراك الواقع بخلاف الثاني فإنّ الاخذ بجميع الفتاوي ليس بواجب وإنّما الواجب هو الأخذ بفتوى واحد منهم لتحصيل الحجّة.

وهكذا نقول في المقام : إنّ المقصود من الرجوع إلى أهل الخبرة هو الأخذ بالحجّة وهي حاصلة بالأخذ بقول واحد منهم وليس المقصود هو الأخذ بأقوال جميع أهل الخبرة كما لا يخفى وعليه فمفاد أدلّة حجّيّة أقوال أهل الخبرة في اللغات هو الحجّيّة التخييريّة عند التعارض وعدم الترجيح.

ثمّ إنّ ظاهر الفصول هو تقييد جواز الرجوع إلى أهل الخبرة بما إذا لم يكن طريق آخر كالتبادر إلى معرفة حقايق الألفاظ ومجازاتها وإلّا فلا سبيل إلى التعويل فيه على النقل لأنّه في حكم التقليد مع التمكّن من الاجتهاد.

وفيه أنّ ذلك صحيح فيما إذا لم يتوقّف الاجتهاد على الفحص والتتبّع والمئونة وإلّا فيجوز الرجوع في المقام على قول أهل الخبرة كما يجوز لمن تمكّن من الاجتهاد أن يقلّد فيما لم يجتهد بداع من الدواعي.

ومنها الاستعمال المجرّد عن قرائن المجاز فإنّه شاهد على أنّ المستعمل فيه هو الحقيقة وإلّا لزم أن يكون الاستعمال المذكور غلطا وهو لا يناسب حكمة المستعمل (بكسر الميم).

وعليه فإذا راينا لفظا استعمل في المحاورات العرفيّة في معنى من دون ضمّ قرينة المجاز إليه كان ذلك شاهدا على أنّ معناه هو ذلك وحينئذ إن لم نحتمل النقل فنحكم بكونه موضوعا له وأمّا مع احتمال النقل فنحكم بذلك بضميمة أصالة عدم النقل.

ولا فرق فيما ذكر بين كون موارد الاستعمال متّحدا أو متعدّدا ونحكم في صورة التعدّد بالاشتراك اللفظيّ بين المعاني المتعدّدة.

٢٤٨

ولا ضير في ذلك احتياج كلّ واحد إلى القرينة المعيّنة فإنّها ليست قرينة المجاز ولعلّ طريقة أئمّة اللغة ونقلة المعاني هي ذلك فعن ابن عباس الاستناد في معنى الفاطر إلى مجرّد الاستعمال وكذا عن الاصمعيّ في معنى «الدهاق» فكذا الحال فيمن عداهم فإنّهم لا زالوا يستشهدون في إثباتها إلى مجرّد الاستعمالات الواردة في الأشعار وكلمات العرب ويثبتون المعاني اللغويّة بذلك ولا زالوا ذلك ديدنا لهم من قدمائهم إلى متأخّريهم كما لا يخفى على من له أدنى خبرة بطريقتهم.

ولذلك لا مانع من أن يقال إنّ الأصل في الاستعمال هو الحقيقة فيما إذا لم يكن مصحوبا بقرينة من القرائن وعلائق المجازيّة وإليه مال العلّامة الشعرانيّ قدس‌سره في حاشية مجمع البيان.

وقد عرفت أنّ مقتضى الأصل المذكور هو الحقيقة من دون فرق بين كون موارد الاستعمال متّحده أو متعدّدة إذ ملاك الحمل على الحقيقة هو صون الكلام عن الغلطيّة وهو موجود في كلتا الصورتين فلا وجه لدعوى اختصاص الأصل المذكور بما إذا كانت موارد الاستعمال متّحدة كما في هداية المسترشدين.

والاستدلال لاختصاص الأصل المذكور بما إذا كانت موارد الاستعمال متّحدة بترجيح المجاز على الاشتراك خروج عن محلّ الكلام لأنّ المفروض فيما إذا لم يكن الاستعمال مصحوبا بقرينة من قرائن المجاز ودار الامر بين الاشتراك والغلط لخلوّ الاستعمال عن العلاقات المجازيّة فالاستعمال في المتعدّد مع خلوّه عن قرائن المجاز شاهد الاشتراك صونا لكلام الحكيم عن اللغويّة والغلطيّة.

ثمّ إنّ ذلك الأصل لا يكون مشروطا بالفحص والتتبّع عن موارد الاستعمال إلحاقا له بالخطاب الشرعيّ حيث إنّه لا يكون دليلا للفقيه إلّا بعد بذل الجهد والفحص عن المعارض.

وذلك لأنّ الاستعمال المجرّد عن العلاقات المجازيّة لا يحتاج في شهادته على كون

٢٤٩

المستعمل فيه هو الموضوع له للفظ إلى التتبّع والتفحّص عن سائر موارد استعماله وقياسه بالخطاب الشرعيّ في غير محلّه لأنّ حجّيّة الدليل الاجتهاديّ متوقّفة على الفحص والتتبّع عن المخصّص والمقيّد والشرط وغيره فلا يمكن الأخذ بمدلول الدليل الاجتهاديّ إلّا بعد الفحص المذكور ولكن شهادة الاستعمال المجرّد في المقام لا يتوقّف على أيّ شيء آخر كما لا يخفى فلا وجه لما في الفصول من اشتراط ذلك الأصل بالتتبّع عن سائر موارد استعماله وممّا ذكر يظهر أيضا لزوم حمل ما اشتهر من أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز على موارد اخرى التي لا تكون اللفظ مجرّدا عن العلائق المجازيّة لما عرفت من أنّ المقام لا احتمال فيها للمجازيّة بعد فرض كونه خاليا عن أيّ علاقة من العلائق المجازيّة فلا مورد لكون الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز بعد عدم احتمال المجازيّة كما لا يخفى.

وعلى ما حقّقناه في المقام يظهر أنّ الأصل في الاستعمال المجرّد عن العلائق المجازيّة هو الحقيقة ولا ضير في التعبير عن ذلك بأصالة الحقيقية أيضا لأنّه أحد معاني أصالة الحقيقة كما ربما يقال ويراد بها أنّ المتكلّم أراد المعنى الحقيقيّ فيما إذا علم المعنى الحقيقيّ تفصيلا وجهل المراد فيحمل على المعنى الحقيقيّ عند التجرّد عن القرائن والعلاقات المجازيّة لظهوره فيه ورجحانه ولأنّ مبنى المحاورات عليه فلا تغفل.

ومنها التبادر وهو انسباق المعنى من حاقّ اللفظ فقطّ من دون حاجة إلى قرينة احرى حاليّة كان أو مقاليّة ومن المعلوم أنّه دليل على كون المعنى المذكور هو الموضوع له إذ لا سبب لهذا الانسباق إلّا الوضع بعد فرض عدم دخل قرينة اخرى على هذا الانسباق.

ولا يذهب عليك أن التبادر المذكور ليس هو التبادر الإطلاقيّ الحاصل بمعونة مقدّمات الحكمة فإنّه ليس من حاقّ اللفظ ولذلك قالوا إنّ تبادر الوجوب النفسيّ والعينيّ والتعينيّ من إطلاق صيغة الأمر ليس علامة لكون الصيغة حقيقة فيها فإنّه

٢٥٠

تبادر الامور المذكورة ليس من حاقّ اللفظ بل مستفادة من مقدّمات الحكمة فالتبادر المذكور ليس علامة للحقيقة كما أن تبادر المعنى المجازيّ بسبب احتفاف اللفظ بالقرينة لا يكون دليلا على الحقيقة وهذا هو الفرق بين المعنى الحقيقيّ والمجاز المشهور فإنّ في الثاني لا بدّ من ملاحظة الشهدة وهي قرينة على التجوّز بخلاف المعنى الحقيقيّ فإنّ التبادر فيه لا يحتاج إلى القرينة وممّا ذكر يظهر الفرق أيضا بين المنقول والمجاز المشهور فإنّ في المنقول يتبادر المعنى من المنقول من دون حاجة إلى ملاحظة قرينة اخرى بخلاف المجاز المشهور فإنّه يحتاج إلى ملاحظة الشهرة كما عرفت.

لا يقال إنّ التبادر المستفاد من حاقّ اللفظ مشترك بين الوضع التعيينيّ الذي يدلّ على كون المستعمل فيه هو الموضوع له والوضع التعيّنيّ الذي لا يكون وضعا في الحقيقة إذا الوضع على ما عرفت هو تعيين اللفظ للمعنى ولا تعيين في التعيّنيّ لأنّا نقول إنّ تبادر المعنى من حاقّ اللفظ بضميمة أصالة عدم النقل يكون دليلا على أنّ المعنى المتبادر منه هو الموضوع له في أصل الوضع وهذا الأصل من الاصول العقلائيّة التي تثبت بها المعنى الأصليّ كما أنّ السيرة قائمة على إجراء أصالة عدم النقل فيما إذا شكّ في أنّ المعني شرعيّ أم لا.

هذا كلّه فيما إذا علم استناد التبادر إلى حاقّ اللفظ وأمّا مع احتمال وجود القرينة أو قرينيّة الموجود فالظاهر من الكلمات أنّ التبادر لا يكون علامة للحقيقة لعدم إحراز استناده إلى حاقّ اللفظ وعدم بناء على أصل آخر لإحراز استناد المذكور نعم اكتفى في هداية المسترشدين بالظنّ بانتفاء القرينة كالظنّ بالاستناد وإن انضمّ إليه بعضى القرائن مستدلّا بوجود البناء عليه.

وفيه أنّ مورد البناء هو الظنون الحاصلة من حاقّ الألفاظ وأمّا إذا توسّط شيء آخر غير الألفاظ كأصالة عدم القرينة أو عدم قرينيّة الموجود فهو متفرّع على إحراز جريانه وهو أوّل الكلام.

٢٥١

ولكنّ الانصاف أنّ البناء على عدم وجود القرينة عند الشكّ في وجودها والأخذ بظهور اللفظ ثابت وإن احتمل استناد الظهور إلى القرينة.

ولذلك لم يعطّل عرف العقلاء في تشخيص معاني الألفاظ فيما إذا أخذوها من المستعملين بمجرّد احتمال وجود القرينة وليس ذلك إلّا لجريان أصالة عدم القرينة عند الشكّ فيه كما نصّ عليه في نهاية النهاية والفصول واستاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره ويشهد له ندرة العلم بالاستناد إلى حاقّ اللفظ في استعمال أهل اللسان إذ احتمال الاستناد إلى القرينة موجود في كثير من الموارد فلو لم يكن بناء على أصالة عدم القرينة لاختلّ الأمر في تشخيص المعاني الحقيقيّة من طريق التبادر.

ثمّ إنّ التبادر يقع محلّ شبهة وإشكال من جهات مختلفة أجابوا عنها ولكن يمكن الإيراد عليه بأنّ التبادر مسبوق بالارتكاز وهو حاصل بالاستعمال المجرّد من أهل اللسان أو تنصيص الواضع أو تنصيص مهرة فنّ الحقيقة ومن المعلوم أنّ هذه الامور علائم الحقيقة قبل التبادر فلا تصل النوبة إلى أن يكون التبادر علامة للحقيقة مع أنّه لا يحصل إلّا بتلك الامور.

اللهمّ إلّا أن يقال إنّ التبادر من اللوازم الخاصّة لوجود الحقيقة فإذا تحقّق التبادر كان ذلك ملازما لوجود الحقيقة وعليه فلا مانع من جعل التبادر علامة للحقيقة وإن كان رتبة علاميّة الاستعمال المجرّد أو تنصيص الواضع أو تنصيص مهرة فنّ الحقيقة متقدّمة عليه ولا بأس بتعدّد العلامة في عرض واحد أو مع اختلاف الرتبة إذ ربما يفيد بعضها لمن التفت إليه ولم يلتفت إلى غيره من العلائم وإن كان موقوفا عليه بحسب الواقع فلا تغفل.

ومنها صحّة الحمل وعدم صحّة السلب والمراد من صحّة الحمل هو أن يتصوّر المعنى الذي اريد كشف حاله ويحمل اللفظ بماله من المعنى الارتكازيّ عليه فلو كان حمله عليه صحيحا كشف عن كون المعنى المذكور هو معنى اللفظ وإلّا لم يصحّ الحمل.

٢٥٢

والمقصود من عدم صحّة السلب أنّ حين يكون حمل اللفظ بما له من المعنى الارتكازيّ على المعنى الذي اريد كشف حاله صحيحا لا يصحّ سلب اللفظ عنه فإذا كان حمل إنسان مثلا بما له من المعنى الارتكازيّ على زيد في قولهم زيد إنسان صحيحا لا يصحّ سلب الإنسان من زيد فيعلم من ذلك أنّ زيدا من مصاديق الإنسان وأفراده الحقيقيّة للزوم الاتّحاد الوجوديّ في الحمل الشائع الصناعي فصحّة الحمل أو عدم صحّة السلب من دون قرينة من قرائن المجاز علامة الحقيقة إذ لا تكون هذه إلّا من جهة كون الموضوع من المصاديق الحقيقيّة للمحمول أو متّحدا مع مفهوم المحمول كما في الحمل الأوّليّ كقولهم الإنسان حيوان ناطق كما أنّ عدم صحّة الحمل وصحّة السلب علامة المجاز كما لا يخفى. ثمّ إنّ الظاهر أنّ المراد بصحّة الحمل وعدم صحّة السلب أن يكونا كذلك عند نفسه لا عند غيره وإلّا يرجع هذه العلامة إلى علائم أخر كتنصيص أهل اللغة واللسان إذا لعلم بهما لا يحصل حينئذ إلّا بتصريح الغير فيرجع إلى تنصيصهم أو التبادر عندهم أو غير ذلك.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ ملاك العلاميّة هو اتّحاد المصداق مع الكليّ في الوجود أو اتّحاد المفهومين مع عدم قرينة من قرائن المجاز.

وممّا ذكر يظهر أنّه لا وقع لما اورد عليه بأنّه لا يصحّ سلب شيء من المفاهيم المتّحدة في المصداق عن بعض آخر كالإنسان والضاحك مع أنّ شيئا منهما لم توضع بإزاء المفهوم الآخر ولا يكون حقيقة فيه وذلك لأن الكلّيّين المساويين كالإنسان والضاحك لا اتّحاد مفهوميّ بينهما كي يكون الحمل ذاتيّا ولا اتّحاد وجوديّ بينهما كاتّحاد الكلّيّ مع مصداقه حتّى يكون عدم صحّة السلب دليل الحقيقة إذ ليس وجود الإنسان بما هو وجود وجودا للضاحك كزيد وإنسان بل يتصادقان في وجود واحد والفرق أنّ زيدا لا وجود له إلّا وجود الإنسان متشخّصا بالمتشخّصات فيعلم منه أنّ المعنى الموجود بوجود زيد هو معنى الإنسان بخلاف المعنى الموجود بوجود الضاحك فإنّه

٢٥٣

ليس معنى الإنسان ولا يكون وجود الضاحك بما هو وجودا للانسان ووجودا للضاحك وإن تصادقا على وجود واحد.

عليه فعدم كون صحّة السلب في مثل الكلّيّين المساويين دليلا على كون معنى الإنسان هو الضاحك وبالعكس لعدم وجود الملاك وهو اتّحاد وجوديّ كاتّحاد الكلّيّ مع مصداقه فلا تغفل وأيضا ينقدح ممّا ذكر أنّه لا وقع لما قيل من أنّ الحمل الذاتيّ لا يكشف إلّا عن اتّحاد الموضوع والمحمول ذاتا ومغايرتهما اعتبارا ولا نظر في ذلك إلى حال الاستعمال وأنّه حقيقيّ أو مجازيّ مثلا حمل الحيوان الناطق على الإنسان فيما اريد به حقيقيّ أو مجازيّ وكذلك صحّة الحمل الشائع الصناعيّ لا تكشف إلّا عن اتّحاد المحمول مع الموضوع خارجا لأنّ الملاك في صحّة الحمل الشائع هو الاتّحاد في الوجود الخارجيّ وأمّا أنّ استعمال اللفظ في المحمول على نحو الحقيقة أو المجاز فهى لا تدلّ عليه.

وذلك لما عرفت من أنّ الاتّحاد بين الموضوع والمحمول مع تجرّد اللفظ عن القرينة يكون علامة ودليلا على أنّ استعمال لفظ المحمول في الموضوع حقيقة لا مجرّد الاتّحاد الذاتيّ أو الوجوديّ ولا مجرّد الاستعمال فاذا رأى المستعمل صحّة الحمل مع تجرّد اللفظ عن القرينة يكفي ذلك في حكمه بكون اللفظ حقيقة فيه إذ لو لم يكن كذلك لاحتاج إلى إقامة قرينة المجاز والمفروض هو عدمه.

فاتّحاد الموضوع مع المحمول مفهوما مع تجرّده عن قرينة المجاز في مثلا «الإنسان حيوان ناطق» أو اتّحاد المعنى المتقرر في مرتبة ذات الموضوع كزيد مع ما للمحمول من المعنى كالإنسان في «زيد إنسان» مع تجرّده عن قرينة المجاز شاهد على أنّ الحمل فيه حقيقة فلا تغفل.

وأيضا يظهر ممّا ذكر أنّه لا وجه لما يقال من أنّ التحقيق أن الاستكشاف واستعلام الحال حاصل من التبادر الحاصل من تصوّر الموضوع السابق على الحمل وسلبه

٢٥٤

فيكون إسناده إلى الحمل أو سلبه في غير محلّه ، توضيح ذلك أنّ الحاكم المستعلم بحمله لا بدّ أن يتصوّر الموضوع أولا بما له من المعنى الارتكازيّ حتّى يجده متّحدا مع المعنى المشكوك فيه في مفهومه ثمّ يحمل المحمول المتصوّر على الموضوع المعلوم حملا أوّليّا ولو لا ذلك لما كان لحكمه وزن ولا قيمة وعندئذ إذا وجده في عالم التصوّر متّحدا معه قبل حمله فقد علم بوضع اللفظ للمعنى ولم يبق لتأثير صحّة الحمل في رفع الستر مجال.

وأمّا الحمل الشائع فلا يكون علامة إلّا إذا كان شائعا ذاتيّا لكونه كاشفا عن المصداق الحقيقيّ كما في قولنا البياض أبيض لا عرضيّا وحينئذ إن كان المستعلم مردّدا في كون الحمل ذاتيّا أو عرضيّا لم يكن له استكشاف الوضع من مجرّد الحمل وإن كان عالما بكونه حملا ذاتيّا وأنّه من قبيل حمل الكلّيّ على بعض مصاديقه الحقيقيّة فقد علم المعنى قبل الحمل إذ العلم بكونه مصداقا حقيقيّا ذاتيّا مستلزم للعلم بكونه موضوعا للطبيعة المطلقة. انتهى

وذلك لأنّ تصوّر الموضوع والمحمول إجمالا يكفي في صحّة الحمل ولا يلزم أن يكون تصوّرهما تفصيلا بل يجوز أن يحصّل التفصيل بالحمل وعليه فلا منافاة بين أن يكون الموضوع أو المحمول قبل الحمل متبادرا في أصل معناه وبين أن لا يعلم حدوده بالتفصيل إلّا بالحمل ولذلك يمكن أن لا يعلم باتّحادهما قبل الحمل فإذا رأى صحّة حمل المحمول على الموضوع حدث له العلم التفصيليّ بحدود المعنى مثلا إذا شككنا في حدود معنى الصعيد فإذا رأينا صحّة حمله على الحجر وغيره ممّا عدا التراب علمنا بالتفصيل حدود معناه وارتفع الشكّ.

هذا مضافا إلى أنّ وجدان الاتّحاد في عالم التصوّر لا يمكن إلّا بالحمل أيضا كالحمل في القضيّة الملفوظة إذ القضيّة الذهنيّة قبل التلفّظ بها كالقضيّة الملفوظة تفيد حمل المحمول على الموضوع وعليه فلا مورد لقوله «وعندئذ إذا وجده في عالم التصوّر

٢٥٥

متّحدا معه قبل حمله فقد علم بوضع اللفظ للمعنى ولم يبق لتأثير صحّة الحمل في رفع الستر مجال.»

ثمّ لا يخفى عليك مغايرة صحّة الحمل وعدم صحّة السلب مع علامة سابقة وهي الاستعمال المجرّد فإنّ الحمل في المقام حاصل من المستعلم بخلاف الاستعمال المجرّد فإنّه حاصل من أهل المحاورة نعم ربما يتّحد استعمالهم مع حمل الشيء على شيء بصورة القضيّة من دون قرينة المجاز وفي هذه الصورة يتّخذ صحّة الحمل مع استعمال المجرّد فلا تغفل.

ربما يفصّل بين الحمل المتداول على ألسنة اللغويّين كحمل أحد اللفظين المترادفين بماله من المعنى على الآخر مثل قولهم «الغيث هو المطر» وبين الحمل الأوّليّ المستعمل في الحدود المشتمل على حمل الذاتيّات على الذات مثل قولهم «الإنسان حيوان ناطق» فإنّ في الأوّل يمكن استكشاف وضع اللفظ للمعنى المعلوم عند من استعمل هذا الحمل دون الثاني فإنّ مفهوم «حيوان ناطق» مفهوم مركّب مفصّل وبما أنّه كذلك يمتنع أن يكون هو مفهوم الإنسان لأنّ مفهوم كلّ لفظ مفرد بسيط مجمل.

اجيب عنه بأنّ الغرض من الحمل ليس إثبات وضع اللفظ لذلك المفصّل بل لماهيّة بسيطة يكون هذا المفصّل حدّا لها بحيث إذا انحلّت رجعت إليه.

ومنها الاطّراد وعدمه والامتن في تعريفه هو أن يقال إنّه إذا اطّرد استعمال لفظ في أفراد كلّيّ بحيثيّة خاصّة كالإنسان باعتبار الإنسانيّة في بكر وخالد وغيرهما من أفراد الكلّيّ البدليّ من القطع بكون الكلّيّ في كليهما غير موضوع لكلّ فرد فرد على حدة كان ذلك دليلا على وجود علاقة الوضع بين الافراد وبين ذلك الكلّيّ وعلم أنّ الكلّيّ موضوع للطبيعيّ من المعنى أو للبدليّ منه واستعماله في الأفراد استعمال حقيقيّ لا مجازيّ إذ علائق المجاز ليست مطّردة والاطّراد دليل علاقة الوضع وهي كلّيّة مطّردة دون علاقة المجاز ألا ترى أنّ علاقة المجاز في اطلاق الأسد على الرجل الشجاع هو

٢٥٦

الشجاعة وتلك العلاقة ليست بمطّردة وإلّا لزم أن يطلق الأسد على مطلق مصاديق الشجاع كالنملة الشجاعة والبقّة الشجاعة مع أنّه ليس كذلك فنوع العلاقة في المجاز ليس مطّردا بخلاف علاقة الوضع كما عرفت.

ولذلك قال المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره في تعريف الاطّراد هو ما إذا اطلق لفظ باعتبار معنى كلّيّ على فرد يقطع بعدم كونه من حيث الفرديّة من المعاني الحقيقيّة لكنّه يشكّ أنّ ذلك الكلّيّ كذلك أم لا فإذا وجد صحّة الإطلاق مطّردا باعتبار ذلك الكلّيّ كشف عن كونه من المعاني الحقيقيّة لأنّ صحّة الاستعمال فيه وإطلاقه على أفراده مطّردا لا بدّ أن تكون معلولة لأحد الأمرين إمّا الوضع وإمّا العلاقة وحيث لا اطّراد لأنواع العلائق المصحّحة للتجوّز ثبت الاستناد إلى الوضع فنفس الاطّراد دليل على الحقيقة وإن لم يعلم وجه الاستعمال على الحقيقة كما أنّ عدم الاطّراد في غير مورد يكشف عن عدم الوضع له وإلّا لزم تخلّف المعلول عن العلّة لأن الوضع علّة صحّة الاستعمال مطّردا.

وهذه العلامة علامة قطعيّة لو ثبت عدم اطّراد علائق المجاز كما هو المعروف والمشاهد في جملة من الموارد.

ربما يقال إنّ التبادر علامة لوجود الوضع وصحّة السلب علامة عدمه والاطراد علامة لاستناد التبادر أو صحّة السلب إلى حاقّ اللفظ ورافع استنادهما إلى قرينة حافّة بالكلام ولو بمثل الانصراف الإطلاقيّ حيث أن الاستقراء في موارد الاستعمال سلبا أم إيجابا ربما يكشف بحكم ارتكاز الذهن أنّ فهم المعنى سلبا أم إيجابا مستند إلى نفس اللفظ لا قرينة اخرى كما أنّه قد يستفاد هذه الجهة من أمر آخر بحيث لا يحتاج إلى استقراء موارد.

وفيه أنّ ذلك صحيح فيما إذا كان تبادر المعنى محرزا وشكّ في استناده إلى حاقّ اللفظ أو غيره وأمّا إن لم يكن اللفظ متبادرا في المعنى وكان اللفظ ذا احتمالين أو

٢٥٧

احتمالات فالاطّراد في أحدهما أو أحدها دليل كونه حقيقة فيه فحينئذ لا وجه لجعل الاطّراد علامة للعلامة بل هو بنفسه يكون علامة الحقيقة فلا تغفل.

ثمّ إنّ هذه العلامة تختصّ بالكلّيّات دون غيرها فإنّ الاطّراد في غير الكلّيّات جار في غير الحقيقة أيضا فاطّراد الأعلام منقوض باطّراد شخص مشابهة زيد الشجاع بالأسد أو صنفها كمشابهة الرجل الشجاع فإن كان إطلاق الأعلام مطّردا كان إطلاق الأسد على زيد الشجاع أو على الرجل الشجاع أيضا مطّردا فالاطّراد لا يختصّ بالأعلام حتّى يكون علامة للحقيقة هذا بخلاف الكلّيّات وأنواع العلاقات فإنّ الاطّراد مختصّ بالكلّيّات مطلقا سواء كانت كلّيّات شموليّة أو كلّيّات بدليّة وأمّا نوع العلاقة فقد عرفت أنّه لا يطّرد إذ لا يصحّ إطلاق الأسد على النملة الشجاعة أو البقّة الشجاعة فاطّراد لفظ الأسد في أفراد الحيوان المفترس دليل على كونه حقيقة في الحيوان المتفرس بخلاف أفراد الشجاع فإنّ لفظ الأسد لا يطّرد إطلاقه في جميع أفراده وعليه فإطلاقه على بعض أفراده دون بعض آخر دليل على كون إطلاقه على الشجاع مجازا فلا تغفل.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ المراد من الاطّراد هو الاطّراد عند أهل اللسان دون المستعلم فإنّه إنّ صحّ عنده الحمل وأذعن بذلك فمن حمل واحد يستنتج المقصود لدخوله تحت عنوان صحّة الحمل ولا يحتاج إلى تكرّره واطّراده وإن لم يصحّ أو لم يدرك صحّته فتكرّره لا يجديه شيئا.

اللهم إلّا أن يقال أنّ الإذعان ربما لا يحصل بالحمل مرّة بل يحتاج إلى تكرّر الحمل وعليه فالتكرير قد يجديه في بعض الأحيان ولا يختصّ الاطّراد عند اهل اللسان فافهم.

ثمرة العلامات

ربما يقال إنّ العلامات المذكورة على فرض تماميّتها لا ثمرة بها إلّا بناء على أصالة

٢٥٨

الحقيقة تعبّدا فحينئذ لو استكشفنا أنّ لفظا بواسطة إحدى هذه العلامات حقيقة في معنى يمكن الأخذ به إن لم يكن له ظهور فيه بواسطة احتفافه بما يصلح للقرينيّة على خلافه.

ولكنّ التحقيق هو أنّ الأخذ دائر مدار وجود الظهور وهو موضوع الحجّيّة سواء كان مستندا إلى حاقّ اللفظ أو إلى القرينة وعليه فلا حاجة إلى إثبات كونه حقيقة فيه أو مجازا كما أنّه لو لم يكن ظاهرا فيه لم يجز الأخذ به سواء قامت العلامة على الحقيقة أو لم تقم انتهى.

وفيه أنّ العلامات المذكورة موجبة للظهور فيما لم تكن قرينة في الكلام فالظهور ناش منها ومعه كيف يستغنى منها وعليه فالبحث عن العلامات بحث عن محقّقات الظهور ومقوّماته وأصالة الحقيقة وأصالة عدم القرينة من الاصول العقلائيّة اللفظيّة التي تفيد الظهور لأنّها من الأمارات العقلائيّة ولا بناء لهم فيما لا تفيد الظهور وعليه ففرض قيام الاصول اللفظيّة مع عدم حصول الظهور النوعيّ كما ترى.

* * *

٢٥٩

الأمر الثامن : في تعارض الأحوال

ولا يخفى عليك أنّ الأحوال العارضة على الألفاظ في مقام الاستعمال مختلفة :

فإنّها باعتبار تعدّد وضعها لمعانيها وعدمه تنقسم إلى مشترك وغير مشترك.

وباعتبار بقائها على الوضع الأوّل وعدمه تنقسم إلى منقول وغير منقول.

وباعتبار استعمالها فيما وضع له وغيره تنقسم إلى حقيقة ومجاز.

وباعتبار احتياج صحّة الكلام إلى تقدير وعدمه تنقسم إلى إضمار وغير إضمار.

وباعتبار اتّحاد ما يراد باللفظ مع ما يراد بالضمير وعدمه تنقسم إلى استخدام وغيره.

وباعتبار اقتران معناها بخصوصيّة زائدة وعدمه تنقسم إلى مطلق ومقيّد وعموم وخصوص.

ولا إشكال في جواز المصير إلى إحدى هذه الأحوال من الاشتراك أو النقل أو غيرها وترتيب آثارها عند قيام أمارة معتبرة عليها مطلقا سواء كانت قطعا أو ظنّا.

وأمّا إذا لم تقم الأمارة المعتبرة على ذلك فالبناء على عدم هذه الأحوال. إذ مقتضى

٢٦٠