عمدة الأصول - ج ١

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

الإشارة والضمائر والموصولات كسائر الأسماء موضوعة لنفس المعنى وإفهامه عند الإشارة الخارجيّة أو الذهنيّة إليه. وهو المتبادر منها ويشهد له وقوعها مخبرا عنها ومسندا إليها مع أنّها لو انسلك في عداد المفاهيم الحرفيّة لما صحّ الإخبار عنها والإسناد إليها وتأويل المخبر عنه في مثل هذا قائم إلى طرف الإشارة والمشار بها إليه في ذهن السامع لا يساعده العرف العامّ والخاصّ كما لا يخفى وممّا ذكر ينقدح الفرق بين إحضار الموضوع بالإشارة الخارجيّة إليه بالإصبع ونحوه وبين ذكر اسم الإشارة لأنّ الأوّل إشارة إلى الحاضر والثاني دلالة عليه وإفهامه وإحضاره في ذهن السامع فدعوى عدم الفرق بينهما محلّ منع وأمّا قيام الإشارة الخارجيّة مقام أسماء الإشارة أو الضمائر أو الموصولات وبالعكس فلا يدلّ على كونها في عداد المعاني الحرفيّة لأنّ قيامها مقامها تابع لمدلولها فإن كان اسما فهي بمنزلته وإن كان حرفا فهي بمنزلته كما قامت إشارات الأخرس مقام العقود والإيقاعات والأسماء والحروف وعليه فمجرّد قيام أحدهما مقام الآخر لا يكون دليلا على أحد الطرفين فلا تغفل.

ثمّ إنّه لا يخفى عليك أنّ الوضع للمعنى عند الإشارة الخارجيّة إليه مساوق لكون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا لأنّ المعنى عند الإشارة إليه ذهنا أو خارجا خاصّ متشخّص لعدم الإشارة الخارجيّة أو الذهنيّة والمخاطبة إلّا إلى المتشخّص الخاصّ ولا يكون كلّيّا كما ذهب إليه المحقّق الاصفهانيّ قدس‌سره. وأمّا جعل الوضع عامّا والموضوع له والمستعمل فيه عامّا والتشخّص ناشئا عن طور الاستعمال بحيث تحصل الإشارة باستعمال نفس الألفاظ ففيه أنّه جمع بين المتباينين فإنّ الإشارة من باب الإيجاد والإنشاء والدلالة على المعنى من باب الحكاية فكيف يمكن أن يجتمعا بلفظ واحد فانحصر الأمر فيما ذكرناه عن المحقّق الأصفهانيّ من أن الإشارة حاصلة من الخارج نحو المعنى واللفظ موضوع للمعنى الذي اشير إليه بالإشارة الخارجيّة أو الذهنيّة ومن المعلوم أنّ الوضع حينئذ يكون عامّا والموضوع له خاصّا فلا تغفل.

١٤١

ثمّ إنّ ظاهر تهذيب الاصول هو التفصيل بين ضمائر الخطاب والتكلّم وبين ضمائر الغيبة ، حيث قال : وأمّا ضمائر الخطاب والتكلّم فليست للإشارة قطعا متّصلها ومنفصلها وبل الثاني موضوع لنفس التكلّم بهويّته المعيّنة كما أنّ الأوّل موضوع للمخاطب بهويّته الشخصيّة ولجميع هذه مرادفات في جميع الألسنة تعطى معناها. (١) انتهى

يمكن أن يقال : لا يخلو الخطاب والتكلّم أيضا عن الإشارة ولذا يقرن بالإشارة الخارجيّة إلى المخاطبين أو إلى نفسه ، بيده وبالجملة لا فرق بين هذا وأنت وأنا في إفادة الإشارة وعليه فلا وجه للتفرقة في الضمائر بين ضمائر الغياب وضمائر الخطاب والتكلم فإنّ كانت موضوعة للإشارة فكلّها كذلك وإن لم يكن كذلك فكلّها أيضا كذلك.

ولذا أردفها في نهاية الاصول مع ضمائر الغائب وقال : ونظير ذلك الضمائر والموصولات فيشار بضمير المتكلّم إلى نفس المتكلّم وبضمير المخاطب إلى المخاطب وبضمير الغائب إلى المرجع المتقدّم ذكره حقيقة أو حكما فيوجد بسببها في وعاء الاعتبار امتداد موهوم بين المتكلّم ونفسه أو المخاطب أو ما تقدّم ذكره. (٢)

حقيقة الموصولات :

ذهب في تهذيب الاصول إلى أنّ حكم الموصولات أيضا حكم الإشارات والضمائر لأنّها أيضا اشير بها إلى ما هو معروض الصلة فالموصولات وضعت أيضا للإشارة والإشارة كما عرفت ممّا لا تستقلّ مفهوما ووجودا.

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ٤١.

(٢) نهاية الاصول ١ / ٢٢.

١٤٢

وإليك نصّ كلامه : الظاهر أنّها لا تفترق عن ألفاظ الإشارة وأخواتها في أنّها موضوعة لنفس الإشارة إلى المبهم المتعقّب بصفة ترفع إبهامه. إلى أن قال : هذا في غير من وما وأيّ وأمّا فيها فالظاهر أنّها أسماء وضعت لعناوين مبهمة والأمر سهل. (١)

يمكن أن يقال لا فرق بين من آمن وبين الذي آمن ، فإن كان الأوّل اسما فالثاني كذلك وإن كان الثاني من الحروف فالأوّل مثله فلا وجه للتفرقة بينهما.

هذا كلّه بناء على كونها موضوعة لإيجاد الإشارة وأمّا بناء على كونها موضوعة للمبهم المتعقّب بالصفة فحكمها حكم الإشارات والضمائر في كونها أسماء موضوعة للمعاني الجزئيّة لأنّ معانيها هي التي تكون مبهمة وتتعقّب بالصفات المزيلة للإبهام. نعم يكون الوضع فيها أيضا عامّا والموضوع له خاصّا كما لا يخفى وقد عرفت أنّ هذا البناء أقرب إلى الفهم العرفيّ وأدبيّات كلّ عرف لظهور عدم الفرق بين قولنا من آمن فهو من أهل الجنّة والذي كفر فهو من أهل النار وبين قولنا المؤمنون هم أهل الجنّة والكافرون هم أهل النار في كون المسند إليه مذكورا في الجملة لا أنّ المسند إليه هو طرف الإشارة وهو غير مذكور في الكلام فلا تغفل.

تكملة :

ولا يخفى عليك أنّ الحروف على قسمين : أحدهما : حاكيات تدلّ على معان واقعيّة جزئيّة متدلّية متقوّمة بالأطراف كما عرفت. وثانيهما : موجدات إذ ليس لها واقعيّات موجودة ولو بنحو التدلّي والربط حتّى تحكي عنها بل توجد بها المعاني المتدلّية الجزئيّة كحروف القسم والتأكيد والتحضيض والردع فإنّها وضعت آلة لإيجاد هذه المعاني من دون حكاية عن الواقع المحفوظ قبلا مع قطع النظر عن ظرف التكلّم ولكن

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ٤٠.

١٤٣

اختلافهما في الحكاية والإيجاد لا يوجب اختلافا في حقيقة الاندكاكيّة لأنّها على كلّ تقدير معنى جزئيّ اندكاكيّ إذ الكلّيّ بما هو كلّيّ قابل للصدق على الكثيرين لا يوجد في الخارج بل كلّ موجود بالحروف أمر جزئيّ شخصيّ وعليه فلا يوجب في الوضع تفاوتا بينهما بل الوضع في كلّ واحد من القسمين عامّ والموضوع له خاصّ فلا تغفل.

* * *

المقام الثالث : مفاد الإنشاء والإخبار :

ذهب المحقّق الخراسانيّ قدس‌سره في الكفاية إلى وحدة الجملة الإنشائيّة مع الجملة الخبريّة في طبيعيّ المعنى الموضوع له وأنّ الاختلاف فيهما إنّما هو في دواعي الاستعمال كما أنّ الاختلاف في المعنى الحرفيّ والاسميّ عنده في اللحاظ الآليّ والاستقلاليّ لا في المعنى الموضوع له فالجملة تكون إنشائيّة فيما إذا كان داعيه هو قصد إيجاد المعنى وخبريّة فيما إذا كان داعيه هو قصد الحكاية وحيث أنّ الدواعي خارجة عن حريم المعنى كان قوله : بعت ، لإنشاء البيع مع قوله : بعت ، للإخبار عنه متّفقين في المعنى الموضوع له والمستعمل فيه. ثمّ تأمّل المحقّق الخراسانيّ في ذلك عند إتمام كلامه.

ولعلّ وجه التأمّل هو ما أشار إليه سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّ مقتضى مختار المحقّق الخراسانيّ هو اشتراك الجملة بين الخبريّة والإنشائيّة بحيث يحتاج تعيين كلّ واحد منهما إلى قرينة معيّنة وهو كما ترى لما نراه بالوجدان من أنّ الجملة كقوله بعت إذا لم تكن معها قرينة الإنشاء ظاهرة في الإخبار من دون حاجة إلى قرينة معينة وهذه آية كون الجملة موضوعة للإخبار وقصد الحكاية لا للإنشاء أو للأعمّ منهما بل يمكن أن يقال الجملة الخبرية التي استعملت لإفادة الإنشاء لا تخرج عن معناها الحقيقيّ أيضا لأنّها لا تخلو عن الإخبار أيضا ادّعاء فمثل قوله : يعيد ، إخبار عن إعادته ادّعاء لشدّة إرادته بالإعادة فيدلّ على مطلوبيّة الإعادة بالملازمة وهكذا في قوله :

١٤٤

بعت ، إخبار عن انتقاله في الزمن السابق ادّعاء لشدّة إرادته بالبيع والانتقال فيدلّ على قصد إنشائه البيع بالملازمة فتأمّل. نعم صيغة افعل ونحوه وضعت لإنشاء البعث وإيجاده فمثل صيغة اضرب مفادها بعث المخاطب نحو الضرب لكن لا بما هو بعث ملحوظ بذاته بل بما هو نسبة بين المتكلّم والمخاطب والمادّة فكما أنّ الشخص إذا حرّك شخصا آخر نحو الضرب تحريكا خارجيّا لا يكون الملحوظ في حال تحريكه إلّا المادّة أعني المخاطب والضرب وأمّا نفس تحريكه فهو غير ملحوظ ولا مقصود بالأصالة والذات حال البعث فكذلك صيغة اضرب ونحوها موضوعة بإزاء البعث الغير الملحوظ استقلالا.

ثمّ ينقدح ممّا ذكر ما في كلام المحقّق الاصفهانيّ قدس‌سره من تصديق المحقّق الخراسانيّ فيما أفاده في الجمل الخبريّة والإنشائيّة المتّحدة لفظا وهيئة نحو بعت الإخباريّ والإنشائيّ حيث قال : أمّا الجمل المتّحدة لفظا وهيئة نحو بعت الإخباريّ والإنشائيّ فالمستعمل فيه نفس نسبة إيجاد المضمون إلى المتكلّم وهذه النسبة الإيجاديّة الواقعة بين المضمون أعني المادّة والمتكلّم قد يقصد الحكاية عنها وقد لا يقصد الحكاية عنها بل يقصد ثبوتها. (١)

وذلك لما عرفت من أنّ الجملة الخبريّة بدون القرينة ظاهرة في الإخبار وإرادة الإنشاء منها محتاجة إلى القرينة وهذه آية عدم وحدتهما في المعنى ثمّ إنّ الجملة الإنشائيّة ولو باعتبار الملازمة بعد الإخبار الادّعائيّ المذكور آنفا آلة لإيجاد شيء من الاعتباريّات كقولهم بعت في مقام إنشاء عقد البيع والتاء فيه تدلّ على كون الصدور منتسبا إلى المتكلّم فيكون معنى هيئة الجملة هو نفس الإيجاد الذي هو صرف التعلّق بالفاعل ومحض الإضافة بينه وبين الفعل في مقابل الإيجاد التكوينيّ الخارجيّ هذا

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٣٠.

١٤٥

بخلاف الجملة الخبريّة فإنّها للحكاية عن نفس الوجود التكوينيّ كهيئة ضربت الحاكية عن الضرب التكوينيّ الخارجيّ والفرق بين الجملة الإنشائيّة والخبريّة في أنّ الإنشائيّة آلة الإيجاد والخبريّة حكاية عن الموجود ففي ما كانت الجملة إنشائيّة وآلة للإيجاد صحّ أن يقال إنّ المستعمل فيه نفس نسبة إيجاد المضمون إلى المتكلّم وأمّا إذا كانت الجملة خبريّة فالمستعمل فيه ليس نفس نسبة إيجاد المضمون إلى المتكلّم بل هو الحكاية عن نسبة إيجاد المضمون إلى المتكلّم وعليه فلا يصحّ قول المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره في بعت الإخباريّ والإنشائيّ أنّ المستعمل فيه فيهما نفس نسبة إيجاد المضمون إلى المتكلّم فلا تغفل.

اختصاص الحكاية بالجمل الخبريّة :

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الحكاية مختصّة بالجمل الخبريّة دون الإنشائيّة ولذلك اختصّت الاولى باعتبار المحكيّ بالصدق والكذب لأنّ لها الواقع فيمكن انطباقها عليه وعدمه دون الثانية لأنّها آلة للإيجاد وليس لها واقع خارجيّ حتّى يمكن الحكاية عنه وتتّصف الجملة الإنشائيّة باعتبار مطابقتها معه ولا مطابقتها ، بالصدق والكذب بل واقع الجملة الإنشائيّة هو الذي يحصل بالجملة الإنشائيّة وليس أمرا منحازا عنها كواقع الجملة الخبريّة وعليه فبالجملة الإنشائيّة توجد الواقعيّات الجزئيّة كما أنّ بالحروف أو أسماء الإشارة توجد النسب الجزئيّة والإشارات الجزئيّة. ولذلك لا مجازفة في أن يقال إنّ الوضع في هيئة الجمل الإنشائيّة يكون عامّا والموضوع له والمستعمل فيه يكون خاصّا كالمعاني الحرفيّة إذ حقيقة ما يوجد بالجمل الإنشائيّة معاني جزئيّة كالإشارات الجزئيّة الحاصلة بأسمائها أو أدواتها.

لا يقال : إنّ مفاد صيغ الأوامر يكون كلّيّا كقوله اضرب فإنّه بعث نحو الضرب الكلّيّ.

١٤٦

لأنّا نقول : نعم ولكن الكلّيّ هو طرف الإنشاء إذ المنشأ بقوله اضرب البعث نحو الضرب والبعث الجزئيّ وإنّما الكلّيّ هو المبعوث إليه وهو الضرب فلا تغفل.

كما أنّه لا مجازفة في أن يقال إنّ الوضع في هيئة الجمل الخبريّة أيضا كذلك لأنّ الحكاية التي تكون داخلة في حريم المعاني ليست معنا مستقلّا كالأسماء بل هي أمر كالمعاني الحرفيّة ولذا يلتفت المخبر إلى المخبر به لا إلى إخباره فنفس الحكاية كالإشارة والإنشاء جزئيّ وغير ملتفت إليها بخلاف المحكيّ.

ثمّ ذهب المحقّق العراقيّ على ما في تقريراته إلى أنّ الجمل الإنشائيّة كالجملة الخبريّة حاكية وإنّما الفرق بينهما بالمحكي عنه لا بالحاكي. حيث قال : والتحقيق أنّ الفرق بين الإنشاء والإخبار في مثل تلك الجمل المزبورة (أراد بالإشارة إلى الجمل المزبورة الجمل المشتركة مثل قولهم بعت ، ثمّ ألحق بهذه الجمل المشتركة الجمل المختصّة كافعل وقمت) إنّما هو بالمحكيّ عنه لا بالحاكي وذلك لأنّ كلّ جملة يكون لها محكيّ عنه بالذات ومحكيّ عنه بالعرض ، أمّا المحكيّ عنه بالذات فهو نفس المفهوم الذي تتصوّره النفس عند تصوّر الجملة الحاكية وأمّا المحكيّ عنه بالعرض فهو نفس الخارج الذي يفني المتكلّم بتلك الجملة مفهومها فيه وإلّا كان قاصدا لنفس النطق والتلفّظ غير قاصد للكشف به عن معنى ما في الخارج ومثل هذا الكلام لا يوصف بالإنشاء ولا بالإخبار وإنّما يوصف بهما الكلام الذي قصد المتكلّم إفناء مفهومه في المحكيّ عنه بالعرض فالخبر والإنشاء يشتركان في هذا القدر من الحكاية والمحكيّ عنه وإنّما يفترق الخبر عن الإنشاء بكون المحكيّ عنه بالعرض في الخبر في مثل بعت وأنت حرّ الطبيعيّ المنطبق على أمر جزئيّ خارجيّ مفروغ الوجود موضوعا كان أو محمولا أو نسبة يريد المتكلّم بكلامه الكشف عنه وإعلام السامع به ولو بتعدّد الدالّ والمدلول. إلى أن قال : لهذا تجدهم يقولون إنّ الخبر ما كان لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه وهذا بخلاف الإنشاء فإنّه يحكي بهيئته ومادّة المسند فيه عن طبيعيّ النسبة

١٤٧

وطبيعيّ المسند الحاكيان عن إيقاع المادّة ونسبتها غير المفروغ وقوعهما بل يرى وجودهما معلولين لنفس هذا الإنشاء. (١)

وفيه أنّ النسبة في مثل قول من أنشأ البيع وقال : بعت ، لا تحكي عن الإيقاع ولا الطبيعيّ الحاكي عنه وإلّا لزم أن يكون سابقا عليه بل يكون آلة ووسيلة لإيجاد البيع فالجملة الإنشائيّة لا تحكي عن شيء بل هو إنشاء وإيجاد اعتباريّ. ولعلّ منشأ هذا القول هو الخلط بين إخطار المعنى المستعمل فيه وقصده وبين الحكاية عنه فإنّه من قال في مقام الإنشاء بعت أخطر معنى البيع في ذهنه وقصده ثمّ أنشأ هذه الحقيقة لا أنّه حكى عن هذه الحقيقة قبل تحقّقها باستعمال الهيئة والمادّة فإنّه مستحيل فمن جعل الجمل الإنشائيّة إيقاعيّة فلا وجه لذهابه إلى الحكاية عن المعنى الايقاعيّ فالحكاية والإنشاء لا يجتمعان فلا تغفل.

نعم من زعم عدم معقوليّة جعل الجمل إنشائيّة وإيقاعيّة فلا مناص له إلّا أن يجعل الجمل الإنشائيّة حاكية عن شيء في النفس كالإرادة أو التمنّي أو الترجّي ونحوها كما ذهب إليه صاحب الدرر قدس‌سره حيث قال : وأمّا الإنشائيّات فكون الألفاظ فيها علّة لتحقّق معانيها مما لم أفهم له معنى محصّلا ضرورة عدم كون تلك العلّيّة من ذاتيّات اللفظ وما ليس علّة ذاتا لا يمكن جعله علّة لما تقرّر في محلّه من عدم قابليّة العلّيّة وأمثالها للجعل. والذي اتعقّل من الإنشائيّات أنّها موضوعة لأن تحكي عن حقائق الإرادة الموجودة في النفس مثلا هيئة افعل موضوعة لأن تحكي عن حقيقة الإرادة الموجودة في النفس فإذا قال المتكلّم اضرب زيدا وكان في النفس مريدا لذلك فقد أعطت الهيئة المذكورة معناها وإذا قال ذلك ولم يكن مريدا واقعا فالهيئة المذكورة ما استعملت في معناها نعم بملاحظة حكايتها عن معناها ينتزع عنوان آخر لم يكن

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ / ٦٤.

١٤٨

متحقّقا قبل ذلك وهو عنوان يسمّى بالوجوب وليس هذا العنوان المتأخّر معنى الهيئة إذ هو منتزع من كشف اللفظ عن معناه ولا يعقل أن يكون عين معناه. (١)

ولكن لا يخفى عليك ضعف هذه المزعمة حيث أنّ ما لا معنى له هو جعل شيء علّة تكوينيّة لشيء آخر لعدم قابليّة العلّيّة التكوينيّة وأمثالها للجعل بل هي متوقّفة على واجديّة شيء لمراتب المعاليل حتّى يكون علّة لها فإن كان شيء واجدا لتلك المراتب كان علّة وإلّا فلا يمكن أن يكون علّة لأنّ فاقد الشيء لا يكون معطيا له والواقع لا ينقلب عمّا عليه. وأمّا جعل شيء علّة اعتباريّة لشيء آخر فهو بمكان من الإمكان فيما إذا اعتبره العقلاء وعليه فلا إشكال في اعتبار الجمل أو هيئة افعل علّة لتحقّق شيء اعتباريّ كإنشاء البعث أو إنشاء التمليك والتملّك أو إنشاء التزويج والتزوّج أو غير ذلك ممّا ينشأ بالعقود والإيقاعات. لأنّ الامور الاعتباريّة لا تتوقّف على الواقعيّة الخارجيّة بل تتوقّف على الاعتبار العقلائيّ هذا بخلاف التكوينيّة أو الامور الانتزاعيّة فإنّها تابعة للواقعيّات الخارجيّة فما ليس بعلّة تكوينيّة لشيء ليس بعلّة له وإن اعتبر علّة له وما ليس بالنسبة إلى شيء آخر فوقه أو تحته أو غيرهما من الامور الانتزاعيّة لم يصر كذلك وإن اعتبر كذلك لأنّ الواقعيّات لا تنقلب عمّا هي عليه ، كما لا يخفى. وبالجملة فلا حكاية في الجمل الإنشائيّة وصيغ الأمر والنهي بل كلّها معتبرة عند العقلاء آلة للإيجاد الإنشائيّ. نعم تدلّ هذه الجمل والصيغ بدلالة الاقتضاء على أنّ المتكلّم بها مريدا لما أنشأه بها ولكن هذه الدلالة دلالة اقتضائيّة عقليّة ولا تعدّ إخبارا وحكاية فإنّها من باب الدلالة اللفظيّة لا العقليّة.

والعجب مما ذهب إليه استاذنا الفريد قدس‌سره من أنّ قصد التحقّق في الإنشاءات متأخّر عن قصد تفهيم المعنى وذلك لأنّ الإنشاءات ألفاظ وضعت لإنشاء المعاني فيستعملها

__________________

(١) الدرر ١ / ٧١.

١٤٩

المتكلّم والمنشئ بقصد الإنشاء والتحقّق. وأمّا قصد تفهيم المعاني فلا واقع له كما يشهد به الوجدان فمثل قوله بعت الإنشائيّ يدلّ على إنشاء البيع لا أنّه يدلّ أوّلا على تفهيم المعنى وهو البيع ثمّ يدلّ ثانيا ومتأخّرا عنه على إنشاء البيع ، هذا مضافا إلى عدم معقوليّة ذلك لأنّ البيع الذي يكون متأخّرا كيف يخبر عن تحقّقه بالفعل قبل تحقّقه.

ولعلّ مراده ممّا ذكر أنّ ألفاظ الإنشاء ألفاظ موضوعة لمعاني الألفاظ المهملة ولكن الدلالة حينئذ تكون دلالة تصوّريّة لا دلالة تصديقيّة حكائيّة كما لا يخفى. وكيف كان فلا إشكال في إمكان اعتبار الجمل الإنشائيّة إيجاديّة وإيقاعيّة وآلة للإنشاء وأمّا إثبات ذلك فيكفيه بناء العقلاء على ذلك في معاملاتهم وعقودهم وإيقاعاتهم الرائجة فإنّهم استعملوا الألفاظ بقصد الإيجاد لا بقصد الحكاية كما أنّ جعل المناصب كمنصب القضاوة أو الوزارة ونحوهما تكون كذلك فإنّ الجاعل إذا قال جعلتك قاضيا أو وزيرا قصد إنشاء هذه المناصب لا مجرّد الإخبار عن إرادته لهذه المناصب أو بنائه عليها ولعلّه من هذا الباب قوله عليه‌السلام (في مقبولة عمر بن حنظلة) : ... فإنّي قد جعلته عليكم حاكما. فتدبّر جيدا.

هذا مضافا إلى أنّه لو كان الأوامر مستعملة في الحكاية عن الأمر النفسانيّ وهو الإرادة لما كان فرق في المعنى بين : أنا أريد منك الضرب وبين : اضرب مع أنّ الفرق بينهما واضح جدّا ، إذ الثاني المعبّر عنه بالفارسيّة بقولنا : بزن ، بعث لا صرف الحكاية عن إرادة الضرب فلا تغفل.

* * *

الخلاصة :

١ ـ الوضع باعتبار نفس اللفظ ينقسم إلى أربعة :

الأوّل : أن يلاحظ الواضع طبيعة لفظ معيّن بمادّته وهيئته ثمّ يضعها بإزاء المعنى

١٥٠

بحيث لا يحتاج في تعيين مصاديقه للمعنى إلى وضع آخر وذلك واقع شائع فالوضع حينئذ باعتبار اللفظ عامّ والموضوع وهو نفس اللفظ أيضا عامّ.

الثاني : أن يلاحظ الواضع مصاديق طبيعة اللفظ المعيّن بمادّته وهيئته بواسطة نفس طبيعة اللفظ ثمّ يضع خصوص مصاديقها للمعنى حينئذ يكون الوضع عامّا والموضوع خاصّا وهذا غير واقع إذ لا حاجة إليه بعد إمكان الأوّل.

الثالث : أن يلاحظ شخص لفظ خاصّ ويضعه للمعنى فالوضع خاصّ والموضوع أيضا خاصّ وهو فاسد فإنّ لازمه هو عدم وضع سائر أفراد طبيعة اللفظ وإنّما تكون مشابهة للموضوع والموضوع لفظ خاصّ من هذه الطبيعة وهو كما ترى.

الرابع : أن يلاحظ الواضع شخص لفظ خاصّ ثمّ يجعله وجها للطبيعة الكلّيّة من هذا اللفظ ثمّ يضع الطبيعة الكلّيّة للمعنى فيكون الوضع خاصّا والموضوع عامّا وهو غير ممكن لأنّ الشخص لا يحكي إلّا عن حصّة من الكلّيّ وعليه فلا يكون وجها للطبيعة الكلّيّة فالوضع الشائع هو القسم الأوّل فمن يسمّى ابنه عليّا يرى طبيعة لفظ عليّ بمادّته وهيئته ثمّ يضعها لابنه.

٢ ـ الوضع باعتبار المعنى يقسّم أيضا إلى أربعة : فإنّ الواضع إمّا أن يلاحظ طبيعة المعنى العامّ ويضع اللفظ في قباله كأسماء الأجناس وإمّا يلاحظ هيئة شخص خاصّ ويضع اللفظ له كأسماء الأعلام والأشخاص ولا ريب في وقوعهما وشيوعهما.

وإمّا يلاحظ الواضع طبيعة المعنى العامّ ويضع اللفظ في قبال مصاديق تلك الطبيعة وهو أمر ممكن لأنّ العامّ من وجوه المصاديق ومعرفة وجه الشيء معرفته بوجه.

فالوضع حينئذ يكون عامّا والموضوع له خاصّا ويصير من المشتركات اللفظيّة لأنّ المشترك اللفظيّ عبارة عن كون لفظ واحد موضوعا لمعاني متعدّدة سواء كان بوضع واحد أو بأوضاع متعدّدة.

١٥١

وإمّا يلاحظ الخاصّ ويريد أن يضع اللفظ للعامّ ولكنّه غير ممكن فإنّ الخاصّ بما هو خاصّ لا يمكن أن يكون وجها للعامّ ولا سائر الأفراد لأنّ الخاصّ حصّة من العامّ ولا غير.

٣ ـ ربما يشكل في إمكان القسم الثالث من أنحاء أقسام الوضع باعتبار المعنى بأنّ عنوان العامّ كالإنسان لا يحكي إلّا عن حيثيّة الإنسانيّة دون ما يقارنها من العوارض والخصوصيّات لخروجها عن حريم المعنى والحكاية فرع الدخول في الموضوع له والاتّحاد الخارجيّ بين حيثيّة الإنسانيّة والمقارنات لا يصحّح حكاية عنوان العامّ عنها وإلّا لزم أن تكون الأعراض حاكية عن جواهرها وهو كما ترى.

فتحصّل أنّ المشخّصات غير داخله في مفهوم العامّ وعليه فكيف يحكي مفهوم العامّ عنها مع أنّ الحكاية فرع الدخول فلا يمكن أن يكون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الفرديّة للعامّ تتحقّق بنفس تحصّص الطبيعة من دون حاجة إلى المشخّصات والعوارض ولو كانت غير منفكّة عن الحصص واللازم في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ هو ملاحظة الحصص المحقّقة في الخارج دون سائر المشخّصات والجامع الكلّيّ الذي يحكي عن حصصه يكفي للحكاية عن الحصص لأنّه وجهها.

٤ ـ ومن مصاديق القسم الثالث الوضع في المعاني الحرفيّة وأسماء الإشارات والموصولات.

لأنّ المعاني الحرفيّة جزئيّات حقيقيّة ربطيّة مصداقيّة متحقّقة بتبع الطرفين وليس لها كالمعاني الاسميّة جامع كلّيّ ينطبق على أفراده وإلّا لزم الخلف في اندكاكيّتها وعليه فالوضع فيها يكون من باب الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ خلافا لما ذهب إليه في الكفاية حيث جعل الإسم والحرف متّحدان في المعنى والآليّة والاستقلال من

١٥٢

أنحاء الاستعمال مع أنّ الآليّة والاستقلاليّة من ذاتيّات المعاني والفرق بين الإسم والحرف فرق جوهريّ وذاتيّ وليس من ناحية الاستعمال لأنّ المعاني الحرفيّة معان مندكّة في الأطراف دون المعاني الاسميّة وهكذا الأمر بالنسبة إلى أسماء الإشارة فإنّها إمّا موضوعة لنفس الإشارة أي إيجادها إلى الحاضر من دون كون المشار إليه داخل في معناه وإن توقّفت الإشارة على حضور المشار إليه حقيقة أو حكما كتوقّف الإشارة الخارجيّة بالاصبع ونحوها على حضور طرف الإشارة ومثلها أسماء الضمائر فإنّها وضعت لنفس الإشارة إلى الغائب أو إلى المخاطب أو إلى المتكلّم ومجرّد توقّفها على الطرف الغائب أو المخاطب أو المتكلّم لا يكون دليلا على دخول الأطراف في حقيقتها ففي الصورة المذكورة أعني وضع أسماء الإشارة أو أسماء الضمائر لنفس الإشارة يكون الوضع فيها كالوضع في المعاني الحرفيّة لأنّ الإشارة الموجدة بأسماء الإشارة أو أسماء الضمائر جزئيّة.

فالوضع عامّ والموضوع له خاصّ وأمّا إن قلنا بأنّ ألفاظ الإشارة أو الضمائر كسائر الأسماء موضوعة لنفس المعاني عند الإشارة الخارجيّة أو الذهنيّة فالأمر أيضا كذلك فإنّ المعاني المشار إليها معان جزئيّة ويكون الوضع فيها عامّا والموضوع له خاصّا.

ومما ذكر يظهر حكم أسماء الموصولات أيضا فإنّها إمّا موضوعه لإيجاد الإشارة إلى المبهم المتعقّب بصفة ترفع الإبهام ومن المعلوم أنّ الإيجاد ليس بكلّيّ بل جزئيّ.

وإمّا موضوعة لنفس المبهم المتعقّب بالصفة مع الإشارة فيكون المشار إليه جزئيّا وعلى كلّ تقدير يكون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا.

٥ ـ ذهب صاحب الكفاية إلى أنّ الجمل الإنشائيّة والجمل الإخبارية كلتيهما متّحدتين في المعنى الموضوع له والمستعمل فيه وإنّما الاختلاف بينهما في الدواعي فإنّ الدواعي في الإنشائيّة هو إيجاد المعنى وفي الخبريّة هو الحكاية عن وجود المعنى و

١٥٣

لكنّ الدواعي خارجة عن حريم المعنى.

ولا يخفى عليك أنّ ما ذهب إليه خلاف الوجدان فإنّه لو كان كذلك لاحتاج كلّ واحد منهما إلى قرينة معيّنة ولا تكون الجملة ظاهرة في أحدهما بدون القرينة المعيّنة مع أنّا نرى ظهور الجملة في الخبريّة من دون حاجة إلى القرينة المذكورة وإرادة الإنشاء محتاجة إلى القرينة وليس ذلك إلّا لكون الجملة المشتركة كقولنا بعت وأجرت موضوعة للإخبار وقصد الحكاية كما أنّ الجملة المختصّة بالإنشاء كقولنا اضرب وأكرم ظاهرة في الإنشاء وقصد الإيجاد.

ثمّ إنّ الجمل الإنشائيّة حيث كانت آلة للإيجاد لا للحكاية كما هو المشهود ولذا لا تتّصف بالصدق والكذب فالموجد بها ليس إلّا الجزئيّات كما توجد بالحروف وأسماء الإشارات النسب الجزئيّة والإشارات الجزئيّة وعليه فلا مجازفة في إلحاق الجمل الإنشائية بأسماء الإشارات والضمائر والمعاني الحرفيّة في كون الوضع فيها عامّا والموضوع له خاصّا إذ حقيقة ما يوجد بها معان جزئيّة ولا حكاية للجمل الإنشائيّة عن الموجود الخارجيّ حتّى يصحّ باعتبار ذلك توصيفها بالصدق والكذب نعم تدلّ الجمل والصيغ الإنشائيّة بدلالة الاقتضاء على أنّ المتكلّم بها مريدا لما أوجده بها ولكن من المعلوم أنّ هذه الدلالة دلالة الاقتضاء التي حكم بها العقل ولا تكون مستفادة من اللفظ حتّى تكون الجملة حاكية عنها بل يمكن أن يقال إنّ الجمل الخبريّة وإن كانت حاكية ولكن وضع هيأتها يكون من باب الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ لأنّ الحكاية التي تكون داخلة في حريم المعنى ليست معنا مستقلّا كمعاني الأسماء بل هي أمر كالمعاني الحرفيّة ولذا لا يلتفت المخبر إلى نفس الحكاية بل يلتفت إلى المخبر به فنفس الحكاية كالإشارة من الجزئيّات والمفروض أنّ وضع هيئة الجمل الخبريّة لنفس الحكاية فالوضع فيها أيضا عامّ والموضوع له خاصّ.

* * *

١٥٤

الأمر الثالث : مصحّح الاستعمالات المجازيّة

يقع البحث في هذا الأمر في أنّ حسن استعمال الألفاظ في المعاني المجازيّة تابع للوضع أو الطبع. ولا يخفى عليك أنّ صاحب الكفاية ذهب إلى أنّ الأظهر هو الثاني لشهادة الوجدان بحسن الاستعمال في ما يناسب ما وضع له ولو مع منع الواضع عنه وباستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه ولو مع ترخيصه. هذا مضافا إلى ما ذكره سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّ الواضع كثيرا ما يغفل عمّا يناسب ما وضع له فلا معنى لأن يكون حسن الاستعمال تابعا للوضع كما لا يخفى وزاد صاحب الكفاية فيما سيأتي دليلا آخر وهو أنّه لو كان حسن الاستعمال بالوضع لا بالطبع لزم أن يكون المهملات التي اريد بها النوع أو الصنف أو المثل في نحو هذه الاستعمالات : (ديز مهمل) أو (ديز في قولهم ديز مهمل مبتدأ) ، موضوعة مع أنّها ليست بموضوعة وإطلاقها على النوع أو الصنف أو المثل ليس إلّا من باب حسن الطبع.

وقال في نهاية الاصول أنّه إن سمّى رجل ولده زيدا مثلا واتّفق شجاعة هذا الولد بحيث صار معروفا بها صارت من أظهر خواصّه نرى بالوجدان صحّة استعمال لفظ زيد واستعارته لمن اريد إثبات شجاعته وإن لم يطّلع على ذلك أب الولد (الذي هو الواضع) بل لو اطّلع وصرّح بالمنع عنه كيف ولو احتاج إلى إجازة الواضع ووضعه

١٥٥

شخصا أو نوعا لم يكن ذلك استعمالا مجازيّا بل يكون على نحو الحقيقة لسبب وضع على حده. (١)

وحينئذ فلا يصحّ تقسيم الاستعمالات إلى الحقيقة والمجاز فإنّ كلّ مورد مع الوضع ، فيصير الألفاظ مشتركا لفظيّا وهو كما ترى.

ثمّ ربما يقال : لا مجال للنزاع المذكور بعد إمكان أن نلتزم بما نسب إلى السكّاكيّ لأنّ التصرّف في الأمر العقليّ وهو جعل ما ليس بفرد للمعنى فردا له ادّعاء وعليه فلا يستعمل اللفظ في غير معناه حتّى يكون مجازا.

أورد عليه في تهذيب الاصول من أنّ هذا القول في خصوص الاستعارة لا عموم المجازات. هذا مضافا إلى أنّه يشترك مع قول المشهور في كون الاستعمال في غير الموضوع له لوضوح أنّ استعمال اللفظ في المصداق الحقيقيّ للموضوع له بخصوصه مجاز فكيف بالفرد الادّعائيّ فما ذهب إليه من أنّ الادّعاء المزبور يجعله حقيقة لغويّة غير تامّ.

وفيه أنّ اللفظ على مبنى السكّاكيّ ليس مستعملا في خصوص الفرد الادّعائيّ بل هو مستعمل في معناه الكلّيّ ومنطبق عليه وعليه فلا يشترك مع قول المشهور من المجاز في الكلمة نعم هو مع ذلك لا يكون استعمالا حقيقيّا لأنّ الحقيقيّ من الاستعمال هو الذي تكون الدلالة فيه على المعنى بنفسه لا بالقرينة وبناء على مجاز السكّاكيّ ليست الدلالة بنفسها كما لا يخفى. وعليه فالنزاع في أنّ حسن هذه الاستعمالات هل يكون بالوضع أو بالطبع باق على حاله وهذا الإشكال بعينه وارد على ما أفاده صاحب الوقاية كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّه ذهب في تهذيب الاصول إلى ما أفاده صاحب الوقاية في عامّة المجازات من

__________________

(١) نهاية الاصول ١ / ٢٤.

١٥٦

أنّها استعارة كانت أو مجازا مرسلا ، مفردا كانت أو مركّبا ، كناية كانت أو غيرها ، لم تستعمل إلّا فيما وضع له غاية الأمر ما هو المراد استعمالا غير ما هو مراد جدّا وإن شئت قلت إنّه لتطبيق ما هو الموضوع له على غيره إمّا بادّعاء كونه مصداقا له كما في الكلّيّات أو كونه عينه كما في الأعلام ثمّ قال والفرق بين ما ذكره صاحب الوقاية وما ذهب إليه السكّاكيّ ومن تبعه مضافا إلى ما عرفت من أنّ المستعمل فيه بالإرادة الاستعماليّة هو نفس الموضوع له على رأى صاحب الوقاية قدس‌سره وإن كان الجدّ على خلافه دون ما ذهب إليه السكّاكيّ فإنّ المتعلّق للإرادة عنده استعماليّة كانت أو جدّية شيء واحد ، أنّ الادّعاء على المذهب الأخير وقع قبل الإطلاق ثمّ اطلق اللفظ على المصداق الادّعائيّ ولكن على ما رآه صاحب الوقاية وقع بعد استعمال اللفظ حين تطبيقه الطبيعة الموضوع لها على المصداق ، إلى أن قال : وتجد تحقيق الحال في المجاز المركّب ممّا ذكرنا أيضا فإنّك إذا قلت للمتردّد : «أراك تقدّم رجلا وتؤخّر اخرى» وعلمت أنّ مفرداتها لم تستعمل إلّا في معانيها الحقيقيّة وأنّه ليس للمركّب وضع على حدة ليكون أجزائه بمنزلة حروف الهجاء في المفردات ليستعمل في معنى لم يوضع له تعرف أنّك لم تتفوّه بهذا الكلام إلّا بعد ادّعاء ذوقك أنّ هذا الرجل المتردّد المتحيّر شخص متمثّل كذلك وأنّ حاله وأمره يتجلّى في هذا المثل كأنّه هو ، هذا قضاء الوجدان وشهادة الذوق السليم بل ما ذكرنا في المركّبات من الشواهد على المدّعى وبه يحفظ لطائف الكلام وجمال الأقوال في الخطب والأشعار. (١) انتهى

وفيه أوّلا أنّ ما ذكره لا يعمّ جميع المجازات لعدم إرادة المعنى الموضوع له في استعمال اللفظ في النوع أو الصنف أو المثل ، فضرب في قولنا : (ضرب فعل ماض) استعمل في النوع لا في معناه وإلّا لما كان مبتدأ إذ الأفعال لا تصلح لأن تكون مبتدأ

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ٤٤ ـ ٤٥.

١٥٧

مع أنّ استعمال اللفظ في النوع أو الصنف أو المثل من الاستعمالات المجازيّة بلا إشكال ولا خلاف أو لعدم حسن إرادة المعنى الموضوع له وادّعاء الفرديّة لفرد بالنسبة إليه كما في مثل : و (اسأل القرية) ، إذ استعمال القرية في معناها وادّعاء كون الأهل عين القرية وإطلاقها عليهم بارد جدّا وتخيّل أنّ القرية قابلة للسؤال وموجود ذو شعور وإطلاقها على الأهل مستلزم لتغيّر المعنى الموضوع له كما لا يخفى.

وثانيا أنّه يرد على جميع الموارد ما في هداية المسترشدين من أنّ ذلك أيضا نحو من التصرّف في اللفظ حيث أنّ المقصود منه حقيقة غير معناه الحقيقيّ وإن جعل إرادة معناه الحقيقيّ واسطة في الانتقال إليه. (١)

اللهمّ إلّا أن يقال إنّ هذا التصرّف في ناحية أصالة الجدّ والإرادة الجدّيّة دون اللفظ والمعنى اللذين كانا محلّ تصرّف الواضع ولذلك يمكن أن يقال إنّ المتجوّز لم يتصرّف في تأسيس الواضع وجعله أعني به ربط اللفظ بالمعنى وإنّما تصرّف فيما يرجع إلى المستعمل نفسه أعني به تطبيق ذلك المعنى الذي وضع اللفظ له على ما ليس من مصاديقه في الواقع لفائدة ما وأمر تطبيق المعاني الكلّيّة على مصاديقها لا يرجع إلى الواضع كما أنّ تطبيق الموضوعات ذات الأحكام الشرعيّة على مصاديقها لا يرجع أمره إلى الشارع بل إلى نظر المكلّف في الثاني وإلى نظر المستعمل في الأوّل.

ولكن مقتضى التأمّل والتحقيق هو أنّ ذلك نحو تصرّف في اللفظ إذ اللفظ الموضوع للمعنى لو خلّي وطبعه لا نطبق على مصاديقه الحقيقيّة لا الادّعائيّة فصرف اللفظ عن هذا الطبع وتطبيقه على الأفراد الادّعائيّة يوجب خروج اللفظ عمّا يقتضيه طبع الوضع ويحتاج إلى القرينة فكلّ دلالة تحتاج إلى القرينة ليست دلالة حقيقيّة إذ الحقيقة هي ما دلّ على المعنى بنفسه لا بالقرينة وهو كاف في المجازيّة ولو كانت مجازا

__________________

(١) هداية المسترشدين / ٣٧.

١٥٨

عقليّا وذهنيّا وللنزاع في كون حسن هذه الاستعمالات بالوضع أو بالطبع مجال وإن شئت قل إنّ الواضع اشترط أن يستعمل هذا اللفظ بما له من المفهوم فانيا في مصداقه الحقيقيّ فيرجع ذلك الاشتراط إلى تخصيص الوضع بحصّة من ذلك المعنى. (١)

وكيف كان فممّا ذكر يظهر أيضا أنّ المركّب الذي اريد به المعنى المجازيّ مجاز أيضا وإن استعملت مفرداتها في معانيها الموضوعة لها ابتداء إذ المقصود منها ليس معانيها الحقيقيّة ولذا قال في هداية المسترشدين : فلا يبعد أن يقال بكون ما اشتمل عليه من المفردات مجازا أيضا وإن استعملت في معانيها الموضوعة لها ابتداء إذ المقصود منها حينئذ إحضار معناها التركيبيّ والانتقال منها إلى المعنى المجازيّ فلا يكون معانيها الحقيقيّة هي المقصودة بالإفادة فدعوى كونها إذن مستعملة في معانيها الحقيقيّة وأنّ التجوّز إنّما هو في المركّبة كما في شرح التخليص ليست على ما ينبغي إلّا أن يبنى على كون المناط في استعمال اللفظ في المعنى كونه مرادا من اللفظ ابتداء وإن اريد الانتقال منه إلى غيره وقد عرفت ما فيه. انتهى (٢)

وعليه فالمفردات في مثل قولهم : (أراك تقدّم رجلا وتؤخّر اخرى) وإن استعملت في معانيها الحقيقيّة ابتداء ولكن مع ذلك لا يكون الاستعمال المذكور حقيقيّا لأنّ المعاني الحقيقيّة ليست مقصودة بالإفادة. فلا يصحّ جعل المركّبات كالمركّب المذكور من الشواهد على دعوى كون الاستعمال فيما إذا انطبق المعنى على الفرد الادّعائيّ حقيقيّا بل هو كالاستعمالات الكنائيّة يكون من المجازات وكيف كان فللنزاع في أنّ حسن الاستعمال المجازيّ تابع للوضع أو الطبع مجال سواء قلنا بالتصرّف في ناحية المراد لا المستعمل فيه كما ذهب إليه صاحب الوقاية أو قلنا بما قال السكّاكيّ في الاستعارة أو

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ / ٨٧.

(٢) هداية المسترشدين / ٣٦.

١٥٩

قلنا بالمجاز في الكلمة كما ذهب إليه المشهور أو قلنا بالجميع بحسب اختلاف الموارد كما هو الأقرب.

ثمّ إنّ المراد من الطبع الذي يكون مصحّحا للاستعمالات المجازيّة هو طبع نوع المستعملين في كلّ لغة لا بعض الآحاد والشواذ وهو يعرف باستقراء الاستعمالات والنظر في الطريقة الجارية في المحاورات.

ثمّ لا يخفى عليك أنّه كما لا حاجة في حسن الاستعمال المجازيّ إلى ترخيص الواضع بحسب الموارد وآحاد المجاز كذلك لا حاجة فيه إلى ترخيصه في نوع العلاقة المصحّحة للاستعمال بل اللازم هو الرجوع إلى طبع نوع المستعملين فما حسّنه يجوز استعماله وما لم يحسّنه لا يجوز سواء كان من الآحاد أو من أنواع العلاقات المجازيّة إذ ربما يكون نوع العلاقة موجودا ومع ذلك لا يكون الاستعمال حسنا عند المستعملين ألا ترى أنّ استعمال اليد في الإنسان حسن كما في الحديث المشهور «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» دون استعمال الرجل فيه فإنّه لم يحسن مع حصول العلاقة أعني علاقة الكلّ والجزء فيه أيضا. وأيضا لا دليل على حصر العلاقات في المذكورات في علم المعاني والبيان إذ يمكن أن تزيد عليها في الآتي بحسب الاستعمالات والمحاورات كما لا يخفى ولعلّ استعمال اللفظ في النوع أو الصنف أو الشخص يكون كذلك لعدم العلاقات المعدودة فيه مع أنّه من الاستعمالات المجازيّة.

* * *

الخلاصة :

١ ـ حسن الاستعمالات المجازيّة تابع للطبع لا للوضع لشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيما يناسب ما وضع له ولو مع منع الواضع عنه واستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه ولو مع ترخيص الواضع ولغفلة الواضع كثيرا ما عمّا يناسب ما وضع له فلا

١٦٠