عمدة الأصول - ج ١

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

الوضعيّة من السببيّة والمانعيّة والشرطيّة وغيرها يرجع إلى الأحكام التكليفيّة التي هي من عوارض الأفعال فإنّ مرجعيّة اشتغال الذمّة بالضمان إلى وجوب الأداء. والأداء من الأفعال وهكذا مرجعيّة النجاسات إلى وجوب الاجتناب عنها وتطهير الثياب والأبدان منها والاجتناب والتطهير من الأفعال وأيضا مرجعيّة الإرث إلى جواز التصرّف في الميراث فيما يجوز أن يتصرّف المالك فيه ومرجعيّة السببيّة إلى وجوب المسبّب عند وجود السبب فمثلا مرجعيّة سببيّة دلوك الشمس لوجوب الصلاة هو وجوبها عنده وعدمها قبله ، وهكذا.

نعم حيث كانت الآثار الشرعيّة لأنواع الأفعال من الصلاة والصوم والحجّ وغيرها فإسنادها إلى جنسها وهو طبيعة الأفعال لا يخلو عن المسامحة ولكن ذلك لا يضرّ بكون الموضوعات لها الجامع الواحد به يمتاز كلّ علم عن علم آخر ومع تمايز العلوم بالموضوع الجامع لا يبقى إبهام حتّى يرتفع بالجامع المحموليّ أو الغرض الوحدانيّ.

* * *

الخلاصة :

١ ـ إنّ التمايز بين العلوم بالموضوع الجامع الذي لا يندرج تحت جامع آخر وعليه فيندرج موضوع كلّ باب أو كلّ مسألة من علم تحت موضوع واحد بحيث تكون محمولات القضايا أعراضا لذلك فلا يرد على كون تمايز العلوم بالموضوع ما أورده صاحب الكفاية من أنّ لازمه هو كون كلّ باب بل كلّ مسألة من كلّ علم علما على حدّه. فمثل موضوعات أبواب النحو أو مسائلها ككون الفاعل مرفوعا أو المفعول منصوبا تندرج تحت موضوع واحد جامع كلّيّ كالكلمة والكلام من حيث قابليّتهما للإعراب والبناء بحيث يصحّ حمل المرفوع أو المنصوب على الكلمة كما يصحّ حملهما على الفاعل والمفعول.

١٠١

٢ ـ لا حاجة في التمايز بين العلوم إلى ضميمة وحدة الغرض لحصول التمايز بالموضوع وحده بل مع حصول التمايز بالموضوع الكلّيّ الجامع على النحو المذكور فلا يبقى إجمال حتّى يرتفع بالأمر المترتّب على مسائل العلم وأبوابه من الغرض فالتمايز بالموضوع مقدّم رتبة على التمايز بالغرض.

٣ ـ لا مجال لدعوى التمايز بنفس القضايا والمسائل مع تقدّم التمايز بنفس الموضوع الجامع. والاستدلال بأنّ بعض العلوم كعلم الجغرافيا لم يكن في ابتداء الأمر إلّا قضايا قليلة قد تكمّلت بمرور الزمان فلم يكن الموضوع عند المؤسّس المدوّن مشخّصا حتّى يجعل البحث عن أحواله أصدق شاهد إذ العلم بأوضاع الأرض من جبالها ومياهها وبحارها وبلدانها لم يتيسّر إلّا بمجاهدة الرجال قد قام كلّ على تأليف كتاب في أوضاع مملكته الخاصّة به حتّى تمّ العلم ، مندفع بأنّ كلّ علم له موضوع وإن كان قضاياه في أوّل الأمر قليلة ولعلّ موضوع علم الجغرافيا هو أوضاع الأرض من جبالها ومياهها وبحارها وبلدانها ومعادنها ونحوها وإن لم يتمكّن الباحث عن تبيين جميع موارد الموضوع المذكور. وهكذا موضوع علم الفقه هو طبيعة الأفعال التي تتعلّق بها الأحكام الخمسة وكلّ حكم وضعيّ يرجع إلى الأحكام التكليفيّة التي تكون أعراضا لطبيعة الأفعال فمثل اشتغال الذمّة بالضمان يرجع إلى وجوب الأداء وهكذا النجاسات ترجع إلى وجوب الاجتناب عنها.

وبالجملة فمع حصول التمايز بالموضوع الجامع الكلّيّ يرتفع الإجمال فلا يبقى مورد للتمايز بالمسائل أو الأغراض فلا تغفل.

* * *

الجهة الرابعة : في موضوع علم الاصول :

ولا يخفى عليك أنّ مقتضى تعريف علم الاصول بالقواعد الممهّدة لاستنباط

١٠٢

الأحكام الشرعيّة كما ذهب إليه المشهور أو العلم بالقواعد لتحصيل الوظيفة الفعليّة في مرحلة العمل كما ذهب إليه بعض الأعاظم أو القواعد الآليّة التي يمكن أن تقع في كبرى استنتاج الأحكام الكلّيّة الفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة كما ذهب إليه سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره أو صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي ينتهى إليها في مقام العمل كما ذهب إليه صاحب الكفاية أو العلم بالعناصر المشتركة في الاستدلال الفقهيّ خاصّة التي يستعملها الفقيه كالدليل على الجعل الشرعيّ الكلّيّ كما ذهب إليه السيّد الشهيد الصدر قدس‌سره ونظائرها هو أنّ موضوع علم الاصول هو ما يصلح للحجّيّة في تحصيل الأحكام الكلّيّة الفقهيّة.

لأنّ البحث عن القواعد المذكورة يرجع إلى البحث عن صحّة شيء للحجّيّة على الحكم وعدمها وعن حدوده وكيفيّته فالموضوع لعلم الاصول هو ذات الحجّة لتحصيل الأحكام الكلّيّة الفقهيّة.

ولعلّ مراد صاحب الفصول من أنّ الموضوع هو ذات الأدلّة في قبال المشهور الذين ذهبوا إلى أنّ الموضوع هو الأدلّة بما هي أدلّة ذلك أيضا ولكنّ الظاهر من كلمات المتقدّمين وصاحب الفصول أنّ مرادهم من الأدلّة وذاتها هي الأدلّة الأربعة فيفترق قولهم مع ما ذكرناه من أنّ موضوع علم الاصول هو ما يصلح للحجّيّة لعدم اختصاص ما ذكرناه بالأدلّة الأربعة فلا يرد عليه ما اورد على المتقدّمين من أنّ أكثر مباحث الفنّ باحثة عن أحوال غير الأدلّة الأربعة كمباحث العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد وكالمباحث التي يبحث فيها عن عدم حجّيّة القياس والاستحسان أو باحثة عن دليليّة الأدلّة كالمباحث التي يبحث فيها عن حجّيّة الكتاب وحجّيّة العقل ، إذ الموضوع على ما ذكرناه هو ما يصلح للحجّيّة وهو لا يختصّ بالأدلّة الأربعة فلا حاجة إلى التوجيه كما في الفصول بأنّ المباحث الاول إنّما يبحث عنها باعتبار وقوعها في الكتاب والسنّة فعند التحقيق ليس موضوع مباحثهم مطلق تلك الامور بل المقيّد

١٠٣

منها بالوقوع في الكتاب والسنّة إلى أن قال : وأمّا بحثهم عن حجّيّة الكتاب وخبر الواحد فهو بحث عن الأدلّة لأنّ المراد بها ذات الأدلّة لا هي مع وصف كونها أدلّة فكونها أدلّة من أحوالها اللاحقة لها. فينبغي أن يبحث عنها أيضا وأمّا بحثهم عن عدم حجّيّة القياس والاستحسان ونحوهما فيمكن أن يلتزم بأنّه استطراديّ تتميما للمباحث أو يقال المقصود من نفي كونها أدلّة بيان انحصار الأدلّة في البواقي فيرجع البحث عن أحوالها أو أنّ المراد بالأدلّة ما يكون دليلا ولو عند البعض أو ما يحتمل عند علماء الإسلام ولو بعضهم أن يكون دليلا فيدخل فيها الخ. لما عرفت من أنّ الموضوع لا يختصّ بالأدلّة الأربعة كما أنّ الموضوع ليس الحجّة الفعليّة في الفقه حتّى يكون البحث عن الحجّيّة بحثا عن المبادئ بل الموضوع هو ما يصلح للحجّيّة فالبحث عن الحجّيّة بحث عن أحوال ذات الحجّة وأيضا حيث كان الموضوع ذات ما يصلح للحجّيّة لم يكن البحث عن القياس والاستحسان ونحوهما خارجا عن المباحث الاصوليّة لأنّهما ممّا يصلح للحجّيّة ويحتملها. هذا مضافا إلى ما في التوجيه المذكور من الضعف والإشكال وهو أنّ محدوديّة الغرض من البحث عن هذه الامور لا يوجب تقييدا في تلك المباحث فلا وجه لقول صاحب الفصول ـ فعند التحقيق ليس موضوع مباحثهم مطلق تلك الامور بل المقيّد منها بالوقوع في الكتاب والسنّة. ثمّ إنّ مختارنا في الموضوع أولى ممّا في نهاية الاصول من أنّ الموضوع هو الحجّة الفعليّة في الفقه وإليك نصّ كلامه :

إنّ الموضوع على التحقيق عبارة عن عنوان الحجّة في الفقه. إذ بعد ما علمنا بأنّ لنا أحكاما شرعيّة يحصل لنا العلم إجمالا بوجود حجج في البين بها يحتجّ المولى علينا ونحتجّ عليه في إثبات الأحكام الشرعيّة وامتثالها فوجود أصل الحجّة والدليل معلوم لنا والمطلوب في علم الاصول تعيّنات الحجّة وتشخّصاتها كخبر الواحد والشهرة والظواهر ونحوها ففي قولنا خبر الواحد حجّة وإن جعل وصف الحجّيّة محمولا و

١٠٤

لكنّه بحسب الحقيقة هو الموضوع فإنّه الأمر المعلوم والمجهول تعيّناته وأفراده فمحصّل مسائل الاصول هو أنّ الحجّة التي نعلم بوجودها إجمالا لها تعيّنات وأفراد منها خبر الواحد ومنها الشهرة وهكذا فكلّ مسألة يرجع البحث فيها إلى تعيين مصداق للحجّة مسألة اصوليّة كمسألة حجّيّة الخبر والشهرة والإجماع وحجّيّة أحد الخبرين في باب التعارض ومسألة حجّيّة القطع بقسميه من التفصيليّ والإجماليّ فإنّ حجّيّة القطع التفصيليّ وإن كانت أمرا واضحا ولذا لم يتعرّض لها القدماء إلّا أنّ توهّم عدم الحجّيّة في بعض أقسامه أوجب البحث عنها فهي أيضا من مسائل علم الاصول ولا ربط لها بالمسائل الكلاميّة كما في الكفاية وليس الحجّة في اصطلاح الاصوليّ عبارة عن حدّ الوسط بل هي بمعناها اللغويّ أعني ما يحتجّ به المولى على العبد وبالعكس في مقام الامتثال فيكون القطع بقسميه أيضا من مصاديقها حقيقة وعلى هذا فمبحث الاشتغال من مباحث الاصول حيث يرجع البحث فيه إلى البحث عن حجّيّة العلم الإجماليّ وكذلك مبحث حجّيّة الاستصحاب بل ومبحث البراءة أيضا إذ محصّل البحث فيه هو أنّ صرف احتمال التكليف يكفي لتنجيز الواقع ويصحّح احتجاج المولى ومؤاخذته أم لا وكذلك مسألة التخيير حيث أنّ المبحوث عنه فيها أنّه في مقام دوران الأمر بين المحذورين هل يكون الأخذ بأحد الطرفين كافيا في احتجاج العبد على المولى وهكذا البحث عن حجّيّة المفاهيم فإنّ البحث فيها ليس في أصل ثبوت المفهوم بل في حجّيّتها حيث أنّ لذكر القيد الزائد مثل الشرط والوصف وامثالهما ظهورا ما في الدخالة بلا إشكال وإنّما يقع البحث عن حجّيّتها وبالجملة فكلّ مسألة يكون حيثيّة البحث فيها حجّيّة أمر من الامور التي تصلح للحجّيّة أو يتوهّم حجّيّتها فهي مسألة اصوليّة نعم لمّا كان حجّيّة بعض الحجج أمرا واضحا لم يتصدّ القدماء للبحث عنها كمسألة حجّيّة القطع مثلا وكحجّيّة الظواهر حيث أنّ أصل حجّيّة الظواهر كانت أمرا مفروغا عنها وإنّما كان يقع الإشكال في بعض الموارد

١٠٥

التي حصل فيها للكلام نحو اضطراب واختلال كالعامّ المخصّص أو اللفظ المستعمل كثيرا في المعنى المجازيّ ونحو ذلك وكيف كان فهذه المسائل كلّها مسائل اصوليّة نعم بعض المباحث التي لم يكن المبحوث عنه فيها حيثيّة الحجّيّة تكون خارجة من الاصول وتدخل في سلك المبادئ كمسألة مقدّمة الواجب ومبحث الضدّ وأمثالهما فتدبّر وقد تلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ موضوع علم الاصول هو عنوان الحجّة في الفقه ومحصّل مسائله تشخيص مصاديق الحجّة وتعيّناته ولذلك ترى الشافعيّ يبحث في رسالته التي ألّفها في هذا الفنّ عن حجّيّة الحجج الشرعيّة من الكتاب والسنّة فتأمّل في المقام فإنّه بالتأمّل حقيق. (١)

وجه الأولويّة أنّ العلم الإجمالىّ بوجود الحجج ينحلّ بعد معلوميّة تعداد من الحجج فيصير البحث في بقيّة الموارد بحثا عمّا يصلح للحجّيّة لا تعيّنات معلوم الحجّيّة فالموضوع العامّ هو ما يصلح للحجّيّة لا الحجّة المعلومة الفعليّة.

ولعلّ منشأ ذهابه إليه هو تصحيح ما ذهب إليه المشهور من أنّ موضوع علم الاصول هو الأدلّة بما هي أدلّة لا ذات الأدلّة كما ذهب إليه صاحب الفصول حتّى يكون البحث عن حجّيّة الخبر الواحد مثلا بحثا عن تعيّنات معلوم الحجّيّة وأحوالها ولا يكون بحثا عن ثبوت الحجّة واللاحجة حتّى يكون من المبادئ.

ولكنّك عرفت ما فيه لانحلال العلم الإجماليّ بتعداد معلوم من الحجج وصيرورة البحث عن البواقي بحثا عن نفس الدليليّة والحجّيّة لا عن أحوالها فلم يتمّ ما ذهب إليه المشهور فالموضوع هو «ما يصلح للحجّيّة على الحكم الكلّيّ الفقهيّ» لا معلوم الحجّيّة.

هذا مضافا إلى ما فيه من الإشكال في إخراج مسألة مقدّمة الواجب ومبحث الضدّ وأمثالهما عن المسائل الاصوليّة وإدخالها في سلك المبادئ مع أنّه يمكن تقريبها

__________________

(١) نهاية الاصول / ١١ ـ ١٢.

١٠٦

بنحو تكون هذه المسائل أيضا من المسائل الاصوليّة وهو أن يقال إنّ وجوب ذي المقدّمة هل يكون حجّة على وجوب المقدّمة أم لا فالبحث عنه يكون بحثا عمّا يصلح للحجّيّة على الحكم الكلّيّ الفقهيّ أيضا وهكذا الأمر في مبحث الضدّ بأن يقال إنّ الأمر بالشيء هل يكون حجّة على المنع عن الضدّ أم لا يكون فالبحث عنه أيضا بحث عمّا يصلح للحجّيّة على الحكم الكلّيّ الفقهيّ ولعلّه أشار إليه بالأمر بالتدبّر.

وكيف كان فالموضوع المذكور أعني «ما يصلح للحجّيّة» ينطبق على جميع القواعد المبحوث عنها في علم الاصول عدا عدّة من المباحث التي لا يكون البحث فيها عن الكبريات التي يمكن أن تقع في تحصيل الحجّة على الفقه كالبحث عن أدوات العموم أو أنّ المشتقّات ظاهرة في من تلبّس بالمبدإ أو تعمّ من انقضى عنه المبدأ ونحوهما فإنّها بحث عن الصغريات لا عن حجّيّة الظهورات. وعليه فمع انطباق الموضوع المذكور على جميع القواعد الاصوليّة عدا ما ذكر فلا وجه لإنكار الموضوع في علم الاصول كما يظهر من بعض الأعاظم حيث قال : «والظاهر أنّ علم الاصول ليس له موضوع أصلا بل هو عبارة عن جملة مسائل وقواعد متشتّته جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض الذي لأجله دوّن ذلك العلم على اختلاف ما يحصل منها من حيث القطع بالحكم الواقعيّ أو التعبّد به أو الوظيفة الشرعيّة عند الشكّ في الحكم أو الوظيفة العقليّة التي يرجع إليها أخيرا كلّها تحصّل غرضا واحدا وهو تحصيل الوظيفة الفعليّة في مقام العمل وهذا المقدار يكفي في معرفة علم الاصول.» (١)

ثمّ إنّ الجامع المذكور أعني ما يصلح للحجّيّة على الحكم الكلّيّ الفقهيّ ينطبق على جميع موضوعات المسائل كالخبر والشهرة والخبرين المتعارضين والاستصحاب والبراءة والتخيير وحجّيّة المفاهيم وغير ذلك لأنّ كلّها ممّا يصلح للحجّيّة على الحكم

__________________

(١) مصابيح الاصول ١ / ٢٢٢.

١٠٧

الكلّيّ الفقهيّ ومعه فلا حاجة إلى انطباقه على المحمولات كما ذهب إليه في نهاية الاصول بعد تمهيد مقدّمات طويلة ولعلّ منشأ ذلك هو تخيّل أنّ الموضوع هو الحجّة المعلومة الفعليّة فحيث لم يكن موضوعات المسائل كالمذكورات حججا فعليّة تكلّف في أخذ الجامع من المحمولات لأنّ صورة البحث في العلوم ليست إثبات الموضوع للمحمول بل الأمر بالعكس. هذا مضافا إلى أنّ الموضوع العامّ ليس بحجة معلومة فعليّة أيضا لما عرفت من انحلال الحجّة المعلومة بتعداد من الحجج المعلومة بل هو ما يصلح للحجّيّة وهو يصدق على موضوعات المسائل.

هذا مضافا إلى أنّ بعض المحمولات منفيّ الحجّيّة كالقياس والشهرة والاستحسان ونحوها فإنّها ليست بحجّة فكيف يؤخذ من هذه المحمولات الحجّة الفعليّة هذا بخلاف موضوعاتها فإنّ القياس أو الشهرة أو الاستحسان ونحوها ممّا يصلح ويحتمل للحجّيّة على الحكم الكلّيّ الفقهيّ إذ المراد من الصلاحيّة هو الإمكان والاحتمال وهما موجودان فيها مع قطع النظر عن الأدلّة الناهية والمانعة كما لا يخفى.

وأيضا بعد ما عرفت من أنّ الموضوع هو ما يصلح للحجّيّة من دون اختصاص بالأدلّة الأربعة لا يرد عليه ما أورده صاحب الكفاية على من ذهب إلى أنّ الموضوع هو ذات الأدلّة الأربعة كصاحب الفصول إذ بناء على ما ذكرناه موضوع العلم هو نفس موضوع المباحث الاصوليّة كالخبر لا السنّة المحكيّة بالخبر وعليه فمسألة الخبر الواحد والتعادل والتراجيح عين موضوع العلم وليس بخارج عنه من دون حاجة إلى إرجاعه إلى السنّة الواقعيّة كما لا يخفى.

* * *

الخلاصة :

١ ـ موضوع علم الاصول هو «ما يصلح للحجّيّة على الأحكام الكلّيّة الفقهيّة» إذ

١٠٨

مرجع التعاريف كالعلم بالقواعد الممهّدة كما ذهب إليه المشهور أو العلم بالقواعد التي يمكن أن تقع كبرى للشكل القياسيّ الذي رتّب لتحصيل الحجّة على الحكم الكلّيّ الفقهيّ كما هو المختار أو العلم بالقواعد الآليّة التي يمكن أن تقع في كبرى استنتاج الأحكام الكلّيّة الفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة كما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره وغير ذلك ، إلى العلم بما يصلح للحجّيّة على الأحكام الكلّيّة الفقهيّة فالموضوع لعلم الاصول هو ذات الحجّة وذات الحجّة لا يختصّ بالأدلّة الأربعة ولذلك يشمل موضوع علم الاصول لما لا يبحث عن أحوال الأدلّة الأربعة كالبحث عن العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد لأنّها ممّا يصلح للحجّيّة على الأحكام الكلّيّة الفقهيّة مع أنّها ليست من مختصّات الأدلّة الأربعة فلا وجه لدعوى استطراد هذه المباحث.

وحيث كان الموضوع هو ما يصلح للحجّيّة فكلّ شيء تدّعى حجّيّته وإن لم تساعده الأدلّة يشمله موضوع علم الاصول كالقياس والاستحسان لأنّه أيضا ممّا يصلح للحجّيّة فلا وجه لدعوى استطراد هذه المباحث نعم لو قلنا بأنّ الموضوع في علم الاصول هو ما يكون حجّة فعليّة كان القياس ونحوه خارجا عن موضوع علم الاصول ولكن عرفت أنّ الموضوع هو ما يصلح للحجّيّة على الأحكام الكلّيّة الفقهيّة ولا وجه لتقييد الحجّيّة بالفعليّة كما يظهر من نهاية الاصول.

وعليه فموضوع علم الاصول يشمل جميع القواعد الكلّيّة المبحوث عنها في علم الاصول كحجّيّة المفاهيم نعم البحث عن مدلول أدوات العموم أو المشتقّات ونحوهما من صغريات الظهورات فالبحث عنها ليس بحثا اصوليّا بل يكون من المبادئ فإنّ كبرى هذه الظهورات وهي حجّيّة الظهورات تقع في الشكل القياسيّ لاستنتاج الأحكام الكلّيّة.

٢ ـ ولا يخفى عليك أنّ بعد اتضاح أنّ موضوع علم الاصول هو ما يصلح لأن يكون حجّة على الأحكام الفقهيّة الكلّيّة لا مجال لأن يجعل الموضوع هو الحجّة التي

١٠٩

نعلم بوجودها إجمالا فنبحث عن تعيّناتها وأفرادها كما في نهاية الاصول وإلّا فبعد انحلال الحجّة المعلومة إجمالا بعدّة من موارد الحجج التفصيليّة فلا يصحّ البحث عن صلاحيّة الموارد الاخرى لكونها حجّة على الأحكام والمعلوم خلافه فالموضوع هو ما يصلح للحجّيّة وهو ينطبق على جميع القواعد المبحوث عنها في علم الاصول عدا موارد تكون من المبادئ كالبحث عن الأدوات أو المشتقّات ونحوهما كما عرفت.

* * *

١١٠

الأمر الثاني : في الوضع

والكلام فيه يقع في مقامات :

المقام الأوّل : حقيقة الوضع :

واختلف في حقيقته فذهب في الفصول إلى أنّه تعيين اللفظ للمعنى على وجه يصحّح الاستعمال من غير اعتماد على تعيينه لمعنى آخر انتهى. وتبعه سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال : حقيقة الوضع على ما يظهر من تعاريفها عبارة عن جعل اللفظ للمعنى وتعيينه للدلالة عليه انتهى. (١) وهو الظاهر أيضا من نهاية الاصول (٢) وكيف كان يشهد له ما نراه في وضع الأعلام الشخصيّة فإنّ الأب أو الجدّ مثلا يعيّن لفظا خاصّا للوليد على وجه يصحّح استعمال اللفظ المعيّن فيه من دون ملاحظة تعيينه لمعنى آخر فكأنّه ليس معناه إلّا إيّاه. وليس الصادر من الواضع في الأعلام الشخصيّة إلّا تعيين لفظ لذاك وهكذا يكون الأمر في واضع اللغة من دون فرق. نعم ، اللازم في واضع الأعلام الشخصيّة وواضع اللغة هو أن يكونا في موضع ومحلّ من

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٤.

(٢) نهاية الاصول ١ / ١٣.

١١١

الاعتبار حتّى يعتنى بوضعهما ويتّبع الوضع فمثل الأب والجدّ ممّن يكون له الرئاسة في الاسرة لهما وضع الأعلام ويتّبع عند الأهل والأقرباء بل الناس ، كما أنّ واضع اللغة ممّن يكون له مهارة الفنّ والأدب يتّبع عنه لأنّ أمر الوضع إليه عند الناس وإلّا فلا يعتنى بوضعه كوضع الأطفال بعض الألفاظ لبعض الأشياء فصلاحيّة الاتباع من الشرائط لا وجود الاتباع الخارجيّ كما يظهر من نهاية الاصول حيث قال : إنّ اختصاص اللفظ بالمعنى وارتباطه به لا يكفي في تحقّقه صرف تعيين الواضع ما لم يتّبع فإنّ صرف التعيين لا يوجب انس اللفظ بالمعنى بحيث إذا سمع فهم منه. (١)

لأنّ بعد العلم بتخصيص الواضع الذي يصلح للتبعيّة عنه يحصل الانس بين اللفظ والمعنى وإن لم يتحقّق الاتباع الخارجيّ بعد فالوضع هو تخصيص اللفظ وتعيينه للمعنى ممّن يصلح لأن يتّبع وهذا التخصيص والتعيين يؤول في الحقيقة إلى اعتبار الواضع الارتباط والاختصاص بين طبيعة لفظ خاصّ وطبيعة معنى خاصّ فالارتباط والاختصاص أمر اعتباريّ يحصل بفعل الواضع وهو تخصيصه وتعيينه اللفظ بالنسبة إلى معناه فكما أنّ العلم نصب على رأس الفرسخ ليدلّ على الفرسخ وينتقل منه إلى الفرسخ كذلك اللفظ وضع للمعنى ليدلّ عليه وينتقل منه إليه غاية الأمر أنّ الوضع في العلم المنصوب حقيقيّ خارجيّ وفي اللفظ اعتباريّ.

ولعلّه لذا قال المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره : أنّ الاختصاص والارتباط من لوازم الوضع لا عينه ولا حاجة في وجوده إلّا إلى اعتبار من الواضع وممّا ذكر يظهر ما في الكفاية حيث فسّر الوضع بنفس الاختصاص والارتباط مع أنّه من لوازمه كما عرفت.

__________________

(١) نفس المصدر.

١١٢

اتّحاد حيثيّة الدلالة الشأنيّة مع الانتقال الشأنيّ :

ثمّ إنّ حيثيّة الارتباط والاختصاص بين اللفظ ومعناه هي حيثيّة دلالة اللفظ على معناه شأنا وحيثيّة الانتقال منه إليه شأنا ولا فرق بين حيثيّة دلالة اللفظ على معناه والانتقال منه إليه وبين حيثيّة دلالة سائر الدوالّ كالعلم المنصوب على رأس الفرسخ فإنّه أيضا للانتقال من النظر إليه إلى أنّ هذا الموضع رأس الفرسخ وعليه فبعد اعتبار الواضع ذلك الارتباط والاختصاص يتحقّق الانتقال من اللفظ إلى معناه بالفعل للواضع ولمن علم بوضعه من دون حاجة إلى شيء آخر ولذا قال المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله حيث عرفت اتحاد حيثيّة دلالة اللفظ على معناه وكونه بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه مع حيثيّة دلالة سائر الدوالّ تعرف أنّه لا حاجة إلى الالتزام بأنّ حقيقة الوضع تعهّد ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى كما عن بعض أجلّة العصر فإنّك قد عرفت أنّ كيفية الدلالة والانتقال في اللفظ وسائر الدوالّ على نهج واحد بلا إشكال فهل ترى تعهّدا من ناصب العلم على رأس الفرسخ بل ليس هناك إلّا وضعه عليه بداعي الانتقال من رؤيته إليه فكذلك فيما نحن فيه غاية الأمر أنّ الوضع هناك حقيقيّ وهنا اعتباريّ.

والعجب من «بعض الأعاظم» في محاضراته (حيث جعل المعنى المذكور معنا دقيقا خارجا عن أذهان عامّة مع أنّه لا غموض فيه) لما عرفت من أنّ تعيين الواضع اللفظ على المعني كتعيين ناصب العلم على رأس الفرسخ فهل هذا المعنى أمر دقيق خارج عن الأذهان؟ والأعجب من ذلك أنّه أورد عليه إشكالا ثانيا بأنّ وضع اللفظ ليس من سنخ الوضع الحقيقيّ كوضع العلم على رأس الفرسخ والوجه في ذلك هو أنّ وضع العلم يتقوّم بثلاثة أركان : الركن الأوّل : الموضوع وهو العلم. الركن الثاني : الموضوع عليه وهو ذات المكان. الركن الثالث : الموضوع له وهو الدلالة على كون المكان

١١٣

رأس الفرسخ وهذا بخلاف الوضع في باب الألفاظ فإنّه يتقوّم بركنين : الأوّل : الموضوع وهو اللفظ ، الثاني : الموضوع له وهو دلالته على معناه ولا يحتاج إلى شيء ثالث ليكون ذلك الثالث هو الموضوع عليه وإطلاقه على المعنى الموضوع له لو لم يكن من الأغلاط الظاهرة فلا أقلّ من أنّه لم يعهد في الإطلاقات المتعارفة والاستعمالات الشائعة مع أنّ لازم ما أفاده هو أن يكون المعنى هو الموضوع عليه. (١) انتهى. وأنت خبير بأنّ طبيعة الألفاظ موضوعة على طبيعة المعاني. فالمعاني هي التي وضعت الألفاظ عليها ليدلّ عليها وهذا أمر لا خفاء له. هذا مضافا إلى أنّ في التشبيه يكفي مجرّد المشابهة ولا حاجة إلى الاتحاد بين المشبّه والمشبّه به في جميع الجهات. فمجرّد كون المشبّه به ذا أركان ثلاثة دون المشبّه لا يضرّ في أصل مشابهتهما في الوضع كما لا يخفى.

والأعجب من ذلك أنّه أورد في محاضراته أيضا على اعتباريّة الارتباط بين اللفظ والمعنى بأنّ المراد إن كان اعتبار ذلك في الخارج من دون وجود اعتبار الملازمة في ذهن المخاطبين فهو غير معقول إذ لم يطّلع المخاطب عن الملازمة حتّى ينتقل من سماع اللفظ إلى المعنى ومع وجود اعتبار الملازمة في أذهانهم فهو لغو إذ مع اطّلاعهم على الملازمة الذهنيّة لا حاجة إلى اعتبار الملازمة في الخارج وإن كان المراد اعتبار الملازمة في الذهن فان اختصّ بذهن العالم بالملازمة فهو تحصيل الحاصل وإن كان أعمّ منه فهو لغو إذ الجاهل لم يطّلع عنها حتّى ينتقل عن سماع اللفظ إلى المعنى وذلك لما حقّقناه من أنّ الواضع اعتبر الارتباط بين طبيعة اللفظ وطبيعة المعنى من دون أخذ الوجود في طرفي الارتباط فالوجود خارجا أو ذهنا أجنبيّ عن طرفي الارتباط الاعتباريّ في الوضع والارتباط الاعتباريّ في الوضع كسائر الاعتبارات موجودة في

__________________

(١) المحاضرات ١ / ٤٤.

١١٤

وعاء الاعتبار فمن علم بها بعد الاعتبار ترتّب الآثار عليها وفي المقام إذا علم المستعمل بالارتباط الاعتباريّ انتقل من اللفظ إلى المعنى فلا تغفل.

عدم الحاجة إلى الالتزام والتعهّد :

ثمّ لا يخفى عليك أنّ المقدور بالواسطة مقدور ، فكما أنّ جعل الملكيّة أو الزوجيّة مقدور بواسطة صيغة الإيجاب ويجعلها الجاعل بواسطة صيغة الإيجاب من دون حاجة إلى القول بانتزاعيّة الملكيّة أو الزوجيّة من الأحكام التكليفيّة كما ذهب إليه جماعة بتوهّم عدم مقدوريّة جعل الاعتباريّات ، كذلك في المقام يكون اعتبار الاختصاص والارتباط بين طبيعة اللفظ وطبيعة المعنى أمرا مقدورا بواسطة تعيين اللفظ على المعنى من دون حاجة إلى شيء آخر كالالتزام والتعهّد بأنّه متى أراد معنى وتعقّله وأراد إفهام الغير تكلّم بلفظ كذا حتّى إذا التفت المخاطب إلى هذا الالتزام ينتقل إلى ذلك المعنى عند استماع ذلك اللفظ منه كما في الدرر. (١) فارتباط اللفظ والمعنى مجعول اعتباريّ بواسطة تعيين الواضع الذي له صلاحيّة الاتباع ولا حاجة في الاعتبار المذكور إلى الالتزام المذكور وجعل الاختصاص والارتباط أمرا انتزاعيّا منه كما هو الواضح. وربما يوجّه الالتزام المذكور بما حكي عن صاحب الدرر في تعليقات الدرر بأنّ جعل العلاقة بين اللفظ وذات المعنى لا يوجب إلّا انتقال السامع متى سمعه وتصوّره إليه وأمّا إسناده التصوّر إلى المتلفّظ كما هو الغرض العمدة من الوضع ـ وإلّا فصرف انتقاش المعنى التصوّريّ والخطور بالبال ليس ثمرة للوضع فقطّ بل يحصل بقول : ما وضعت ، فإنّه يوجب تذكّر السامع متى سمع اللفظ ـ فلا دليل عليه. (٢)

__________________

(١) الدرر ١ / ٣٥.

(٢) نفس المصدر ١ / ٢٤٣.

١١٥

حاصله أنّ الالتزام المذكور لازم في إسناد تصوّر المعنى إلى المتلفّظ.

ولكن يمكن أن يقال أوّلا : أنّ إسناد المعنى إلى المتلفّظ من الامور المتأخّرة عن الوضع ولا مجال لتفسير الوضع بما يتأخّر عنه وثانيا : أنّه يكفي في الإسناد أصالة عدم اللغويّة في كلام المتكلّم التي عبّر عنها بأصالة الاستعمال كما أنّه يحتاج في إسناد تصديق المعنى الحقيقيّ وإرادته دون سائر المعاني إلى أصالة الحقيقة. وثالثا : بأنّ غرض الوضع وإن كان هو قصد التفهيم وإبراز المقاصد بالألفاظ إلّا أنّه حكمة الوضع وليس دخيلا في قوام الوضع وحقيقته فالوضع غير قصد التفهيم وإبراز المقاصد بالألفاظ وممّا ذكر يظهر أنّه لا وجه لتفسير الوضع بالالتزام المذكور كما يظهر من محاضرات الاصول حيث قال : ومن هنا أي أنّ الغرض منه قصد التفهيم وإبراز المقاصد بها ظهر أنّ حقيقة الوضع هي التعهّد والتباني النفسانيّ. (١)

هذا مضافا إلى ما أورد عليه بعض مشايخنا من أنّ أخذ الالتزام في حقيقة الوضع كما عن النهاونديّ وصاحب الدرر ومن تبعهما ممنوع من جهة أنّ لازمه عدم تمشّي الوضع ممّن يعلم أنّه لا يبتلي بالاستعمال حتّى يتعهّد باستعمال الألفاظ عند إرادة المعنى وتعقّله وقصد تفهيمه كالعالم الذي يسأل عنه انتخاب الاسم ووضعه للمولود للتبرّك وهو خلاف الوجدان. اللهمّ إلّا أن يكتفى بالالتزام إمّا من نفسه أو من المستعمل ولكن مقتضاه هو عدم تحقّق الوضع قبل التزام المستعمل أو وكالته أو إمضائه لما أتى به الواضع في حقّه وهو كما ترى. على أنّ الالتزام المذكور لو كان دخيلا في حقيقة الوضع لزم أن يكون استعمالات المستعملين من دون التعهّد المذكور استعمالات مجازيّة ولا أظنّ الالتزام بذلك.

__________________

(١) المحاضرات ١ / ٤٤.

١١٦

تحليل الوضع والدلالة :

ثمّ لا يخفى عليك أنّ ما اخترناه في حقيقة الوضع يتحصّل في أنّ الواضع يعيّن اللفظ للمعنى لاعتبار الاختصاص والارتباط بينهما فالوضع هو تعيين اللفظ بإزاء المعنى والتعيين هو فعل صادر من الواضع كالإيجاب الصادر من البائع والاختصاص والارتباط أمر اعتباريّ يحصل في وعاء الاعتبار بالتعيين المذكور كالملكيّة الحاصلة بفعل الموجب فالوضع أمر تكوينيّ وهو التعيين. والارتباط والاختصاص وهو لازم الوضع والتعيين امر اعتباريّ وهو المعبّر عنه بالدلالة الشأنيّة إذ هذه الرابطة الاعتباريّة بحيث إذا علم المخاطب بأحدهما ينتقل إلى الآخر. ثمّ إنّ الدلالة الفعليّة يتوقّف على العلم بهذا الاعتبار فمن علم به وارتكز في نفسه أنّ الواضع اعتبر الاختصاص والارتباط بين اللفظ والمعنى متى سمع اللفظ انتقل منه إلى المعنى وحصل الدلالة الفعليّة فالارتباط الاعتباريّ ليس بوضع بمعناه المصدريّ بل هو حاصل منه كما أنّ الدلالة الفعلية ليست بنفسها وضعا بل متأخّرة عن الوضع بمراتب متعدّدة ؛ الاولى : هو تعيين الواضع لفظا للمعنى والثانية : اعتبار الارتباط والاختصاص بينهما ، والثالثة : هو علم السامع بتلك الامور ، والرابعة : هو الانتقال من اللفظ إلى المعنى. فالتكوينيّ هو نفس التعيين وأمّا الارتباط فهو ليس إلّا أمرا اعتباريّا ولا يحتاج حصوله إلى التكرّر كما لا يخفي.

وممّا ذكر يظهر ما في كلام السيّد الشهيد الصدر قدس‌سره حيث قال : والتحقيق أنّ الوضع يقوم على أساس قانون تكوينيّ للذهن البشريّ وهو أنّه كلّما ارتباط شيئان في تصوّر الإنسان ارتباطا مؤكّدا أصبح بعد ذلك تصوّر أحدهما مستدعيا لتصوّر الآخر وهذا الربط بين تصوّرين تارة بصورة عفويّة كالربط بين سماع الزئير وتصوّر الأسد الذي حصل نتيجة التقارن الطبيعيّ المتكرّر بين سماع الزئير ورؤية الأسد واخرى

١١٧

يحصل بالعناية التي يقوم بها الواضع إذ يربط بين اللفظ وتصوّر معنى مخصوص في ذهن الناس فينتقلون من سماع اللفظ إلى تصوّر المعنى والاعتبار الذي تحدّثنا عنه في الاحتمال الثاني ليس إلّا طريقة يستعملها الواضع في إيجاد ذلك الربط والقرن المخصوص بين اللفظ وصورة المعنى فمسلك الاعتبار هو الصحيح ولكن بهذا المعنى وبذلك صحّ أن يقال أنّ الوضع قرن مخصوص بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى بنحو أكيد لكي يستتبع حالة اثارة أحدهما للآخر في الذهن. (١)

والظاهر من كلامه أنّ الوضع هو نفس القرن والمقارنة بين تصوّر اللفظ والمعنى بحيث يستتبع تصوّر أحدهما تداعى تصوّر الآخر وهذا القرن ليس أمرا اعتباريّا بل هو أمر تكوينيّ ويؤيّد ذلك ما قاله بعض مقرّريه من أنّ الواضع بحسب الحقيقة يمارس عمليّة الإقران بين اللفظ والمعنى بشكل أكيد بالغ وهذا الاقتران البالغ إذا كان على أساس العامل الكمّيّ (كثرة التكرار) سمّي بالوضع التعيّنيّ وإذا كان على أساس العامل الكيفيّ سمّي بالوضع التعيينيّ فالوضع ليس مجعولا من المجعولات الانشائيّة والاعتباريّة كالتمليك بعوض المجعول في باب البيع مثلا وإنّما هو أمر تكوينيّ يتمثّل في إشراط مخصوص بين اللفظ والمعنى المحقّق لصغرى قانون الاستجابة الشرطيّة الذي هو قانون طبيعيّ وقد يستخدم الإنشاء لإيجاد هذا الإشراط كما في الوضع التعيينيّ ولكن هذا لا يعني أنّ الإشراط هو المنشأ بل نفس الإنشاء بما هو عمليّة تكوينيّة تصدر خارجا يحقّق الإشراط المطلوب. (٢)

ولا يخفى عليك أنّ الوضع عنده هو نفس الإشراط وهو الاقتران بين اللفظ والمعنى وهو أمر تكوينيّ ولو من ناحية الإنشاء مع أنّ الوضع التعيينيّ عندنا هو تعيين

__________________

(١) دروس في علم الاصول ، الحلقة الثانية / ٧٨.

(٢) بحوث في علم الاصول ١ / ٨٢.

١١٨

اللفظ للمعنى عمّن له حقّ التعيين وهو أمر تكوينيّ يقصد به اعتبار الارتباط بين اللفظ والمعنى وليس الإشراط والإقران بين اللفظ والمعنى فعل الواضع وإنّما فعله هو التسمية وبعد فعله وعلم السامع أو المخاطب بذلك يحصل الانتقال من اللفظ إلى المعنى من جهة العلم بالملازمة الاعتباريّة وإن أراد أنّ التعيين فعل تكوينيّ فلا كلام فيه لأنّ تعيين لفظ لمعنى كنصب علم على رأس الفرسخ أمر تكوينيّ وقد ذكرنا أنّ تعيين اللفظ للمعنى أمر تكوينيّ وإن أراد منه أنّ الارتباط والاختصاص أمر تكوينيّ ففيه منع جدّا إذ ليس له مطابق في الأعيان فإنّ الموضوع والموضوع له طبيعيّ اللفظ والمعنى دون الموجود منهما في الخارج أو في الذهن بل هو من الامور الاعتباريّة التي يعتبرها الواضع عند اجتماع الشرائط كسائر الاعتباريّات التي يعتبرها العرف أو الشارع فبعد تحقّق هذه الاعتبار بالوضع وهو تعيين اللفظ للمعنى تتحقّق الدلالة الشأنيّة والانتقال من أحدهما إلى الآخر لمن علم بهذا الاعتبار هذا مضافا إلى أنّ الاستجابة الشرطيّة تتقوّم بالتكرار مع أنّ الواضع لم يتكرّر الوضع حتى تتحقّق الاستجابة المذكورة كما لا يخفى. بل الواضع اعتبر الارتباط بين اللفظ والمعنى وجعل الملازمة بينهما بالتعيين وتخصيص اللفظ به مرّة واحدة ولا يتوقّف هذا الاعتبار على رؤية الناس ومشاهدتهم بل كثيرا ما لم يطّلعوا عليه إلّا بعد الاعتبار فقياس المقام بموارد اقتران الطبيعيّ بين الشيئين في مشهد الناس كما ترى.

ولعلّ ما ذكره يناسب الوضع التعيّنيّ فإنّ كثرة التلفّظ بلفظ خاصّ وإرادة معنى خاصّ منه ولو مع القرينة توجب الانس والملازمة بينهما تكوينا في الأذهان بحيث إذا سمع أحدهما انتقل إلى الآخر وفي الوضع التعيّنيّ إقران تصوّر المعنى بتصوّر اللفظ يتكرّر بحيث يربط بينهما ربطا تكوينيّا في أذهان المخاطبين ومعه إذا تصوّر أحدهما تداعى تصوّر الآخر ولكن الوضع التعيّنيّ ليس بوضع حقيقة لأنّ الوضع بمعناه المصدريّ ليس إلّا هو تعيين اللفظ للمعنى وتخصيصه به والوضع بمعنى حاصل

١١٩

المصدر يكون نفس الارتباط الاعتباريّ الحاصل بتعيين الواضع وأمّا الوضع التعيّنيّ فهو ليس إلّا إقران تصوّر اللفظ مع تصوّر المعنى في الاستعمالات المتكرّرة تكوينا بحيث يحصل القرن والانس بينهما تكوينا على نحو يتداعى تصوّر أحدهما تصوّر الآخر وتسميته بالوضع مسامحة فافهم.

التنزيل والهوهويّة :

ثمّ إنّ الوضع على المختار هو تعيين اللفظ للمعنى لاعتبار الاختصاص والارتباط بينهما كما أنّ نصب العلم على رأس الفرسخ لاعتبار الاختصاص بينه وبين الوصول إلى حدّ الفرسخ فكما أنّ في الثاني لا تنزيل بين العلم المنصوب والفرسخ ، كذلك في الوضع ، لا تنزيل بين اللفظ والمعنى بحيث يجعل اللفظ وجودا لفظيّا للمعنى بل التنزيل المذكور يحتاج إلى مئونة زائدة ولا دليل ولا شاهد عليه عدا ما استشهد به عليه من سراية القبح والحسن من المعنى إلى اللفظ مع أنّها لازم أعمّ ، إذ السراية معقولة أيضا فيما إذا كان اللفظ علامة على المعنى فلا تختصّ بصورة التنزيل والهوهويّة. ألا ترى أنّ العلم المنصوب للعزاء يوجب الحزن. وعدا ما في منتهى الاصول من أنّه لا شك في أنّ إلقاء اللفظ إلقاء المعنى عند إلقاء المراد إلى الطرف ومعلوم أنّ إلقاء شيء ليس إلقاء شيء آخر إلّا فيما إذا كانت بينهما هو هويّة واتّحاد. (١)

مع أنّ إلقاء المعاني يكون من جهة ارتباطها بالألفاظ ارتباطا أكيدا لا من جهة أنّ الألفاظ تكون وجودا لفظيّا للمعاني كما أنّ الانتقال من العلم المنصوب إلى حدّ الفرسخ من جهة الارتباط الذي يكون بينهما ارتباطا مؤكّدا لا من جهة تنزيل العلم المنصوب بمنزلة حدّ الفرسخ وبالجملة الارتباط المذكور بين اللفظ والمعنى وبين

__________________

(١) منتهى الاصول ١ / ١٥.

١٢٠