دروس في الكفاية - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

اللهم إلّا أن يقال (١) : إن نفي الضرر وإن كان للمنّة ؛ إلّا إنه (٢) بلحاظ نوع الأمة واختيار الأقل بلحاظ النوع منه ، فتأمل (٣).

______________________________________________________

بمعارضته بالقاعدة الجارية في ضرر نفسه ؛ وذلك لعدم توجه الضرر إلى الغير من ناحية الحكم الشرعي حتى يرتفع بقاعدة ؛ بل الضرر أولا وبالذات متوجه إلى نفسه وصاحبه أجنبي عنه. وضميرا «دفعه ، بإيراده» راجعان على الضرر.

والأولى أن يقال : «فليس له» لكونه من موارد لزوم اقتران الجزاء بالفاء.

(١) هذا استدراك على قوله : «ولا منّة على تحمل الضرر لدفعه عن الآخر».

وغرضه : أنه يمكن أن يقال باندراج دوران الضرر بين شخصين ـ الذي قلنا فيه : بعدم لزوم تحمل الضرر عن الغير وإن كان ضرره أكثر ؛ إذ لا منّة على تحمل الضرر لدفعه عن الآخر ، بل في تحمل حرج ومشقة ـ في تعارض ضرري شخص واحد ببيان أن يلاحظ مجموع الأمة بمنزلة شخص واحد ، فحينئذ : يتحقق الامتنان برفع أكثر الضررين. وأما إذا لوحظ كل واحد من الأمة بالاستقلال ؛ كما كان ذلك مبنى قوله : «ولا منّة على تحمل الضرر لدفعه عن الآخر» فلا وجه لتحمل الضرر عن الغير كما تقدم.

ثم إن ما أفاده من احتمال ملاحظة مجموع الأمة شخصا واحدا ذكره الشيخ الأنصاري في الرسالة المستقلة ؛ لكن المصنف تأمل فيه.

(٢) أي : المنّة بتأويلها بالامتنان ، وضمير «منه» راجع على «الأمة».

(٣) الظاهر : أنه إشارة إلى فساد لحاظ مجموع الأمة شخصا واحدا بعد وضوح : كون قاعدة الضرر كسائر القواعد الشرعية ، ووضوح : كون الأحكام انحلالية ؛ بحيث يكون كل واحد من الأشخاص بالاستقلال مكلفا.

وعليه : فلا بد من المصير إلى ما ذكره قبل ذلك من أنه لا منّة على تحمل الضرر لدفعه عن الآخر ، هذا.

وتلخص مما أفاده المصنف «قدس‌سره» في تعارض ضرري شخص واحد أو شخصين : أنه إن كان أحدهما أقل فهو المختار ، وإلّا فالحكم التخيير ، وفي تعارض ضرر نفسه مع ضرر غيره عدم تحمل الضرر عن الغير وإن كان كثيرا ، وفي الضرر المتوجه إلى نفسه عدم إيراده على الغير.

هذا تمام الكلام في قاعدة لا ضرر ، ويليه بحث الاستصحاب وتركنا تطويل الكلام في المقام رعاية للاختصار.

٨١

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ ذكر الفاضل التوني لأصل البراءة شرطين آخرين :

أحدهما : أن لا يكون موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى ، فلا يجري في مثل ما إذا كان لشخص مال على قدر استطاعة الحج على فرض عدم الدين ، فإذا شك في وجود الدين ونفى الدين بأصل البراءة يلزم منه ثبوت الاستطاعة الشرعية ، فيجب عليه الحج ؛ لأن جريان أصل البراءة موجب لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى ، فلا تجرى البراءة ؛ لأن المستفاد من أدلتها : أنها مسوقة للامتنان ، وكونها مستلزمة لثبوت حكم آخر ينافي الامتنان ، فلا تجرى البراءة في المثال المذكور ، لأن شأن أصل البراءة هو نفي الحكم فقط لا النفي من جهة والإثبات من جهة أخرى.

وقيل في وجه عدم جريان البراءة إذا كانت مثبتة لحكم شرعي من جهة أخرى : إنها أصل مثبت ، والأصل المثبت ليس بحجة.

الشرط الثاني : الذي ذكره الفاضل التوني لأصل البراءة ـ هو أنه يعتبر في جريانها أن لا يكون موجبا لضرر الغير ، كما إذا فتح إنسان قفص الطير الذي هو لإنسان آخر ، أو حبس شاته حتى مات ولدها ، أو أمسك رجلا فهربت دابته وضلت ، فإن إجراء أصل البراءة عن الضمان في أمثال هذه الموارد موجب لضرر صاحب الطير والشاة والدابة ، فمثل هذا الأصل لا يجري ؛ لما عرفت من : أن أصل البراءة يكون للامتنان وكونه موجبا للضرر على الغير ينافي الامتنان.

٢ ـ ردّ المصنف على الشرط الأول : أن موضوع الحكم الشرعي تارة : يكون أمرا ظاهريا أو أعم منه ؛ كعدم استحقاق العقوبة الذي هو مقتضى البراءة العقلية والإباحة ، وعدم الحكم الذي هو مقتضى البراءة الشرعية ؛ كما إذا فرض ترتب جواز البيع على كل ما يكون حلالا ولو ظاهرا ، فحينئذ : إذا شك في حرمة شرب التتن ونحوه من الشبهات البدوية ، وبعد الفحص جرت فيه البراءة الشرعية المثبتة لحليته ثبت جواز بيعه أيضا ؛ إذ المفروض : كون موضوع جواز بيعه حليته ولو ظاهرا ، فيترتب عليه جواز البيع ؛ إذ لو لم يترتب جواز البيع على هذه الحلية يلزم تخلف الحكم عن موضوعه وهو محال.

وأخرى : يكون موضوع الحكم أمرا واقعيا ؛ كما إذا ترتب الحكم الشرعي على عدم شيء واقعا لا ظاهرا ولا أعم من الواقع والظاهر ؛ كما إذا فرض أن موضوع وجوب الحج

٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ملكية الزاد والراحلة مع عدم الدين واقعا ، فإن إجراء البراءة عن الدين لا يثبت وجوب الحج ؛ لعدم إحراز موضوعه وهو عدم الدين واقعا بأصالة البراءة عن الدين ، فعدم ترتب الحكم الشرعي على البراءة الشرعية ـ في مثل هذا المثال ـ إنما هو لعدم تحقق موضوعه وهو عدم الدين واقعا ، حيث إن أصل البراءة لا يحرز الواقع.

إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم : أنه لا محصل للشرط الأول الذي ذكره الفاضل التوني ؛ إذ على تقديره لا محيص عن ثبوت الحكم لتحقق موضوعه بأصل البراءة وهو التقدير الأوّل الذي يكون موضوع الحكم الشرعي أعم من الظاهر والواقع.

وعلى تقدير آخر : لا موضوع لذلك الحكم حتى يثبت بأصل البراءة ، وهو التقدير الثاني الذي يكون موضوع الحكم فيه أمرا واقعيا.

٣ ـ وأما ردّ الشرط الثاني فحاصله : أن المورد إن كان مما يجري فيه قاعدة لا ضرر فلا مجال لجريان أصل البراءة فيه ؛ لكون القاعدة دليلا اجتهاديا والبراءة أصلا عمليا ، وقد ثبت في محله : عدم جريان الأصل العملي مع وجود الدليل الاجتهادي لورود الدليل الاجتهادي أو حكومته على الأصل العملي.

وكيف كان ؛ فلا مورد لأصل البراءة مطلقا ، سواء كانت عقلية أو شرعية لانتفاء موضوعها بالدليل الاجتهادي.

٤ ـ قاعدة لا ضرر ولا ضرار :

وقد جعل المصنف الكلام فيها في جهات :

الأولى : بيان مدركها.

الثانية : بيان شرح مفرداتها مادة وهيئة.

الثالثة : بيان نسبتها مع أدلة الأحكام الأولية :

وأما الجهة الأولى : فقد استدل عليها بأخبار كثيرة ؛ ولكن نكتفي بذكر ما هو أشهرها قصة وأصحها سندا وأكثرها طرقا وأوضحها دلالة ، وهي الرواية المتضمنة لقصة سمرة بن جندب مع الأنصاري. وتفصيل القصة موجود في المتن ، وقد ادعى البعض تواترها إجمالا فلا إشكال في مدركها.

وأما الكلام في الجهة الثانية : فتوضيحها يتوقف على شرح مفردات الألفاظ الواقعة في متن الحديث.

فالضرر هو : النقص في المال أو النفس أو العرض أو الطرف ، ولكنه لا مطلقا بل

٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

خصوص النقص من الشيء الذي من شأنه عدم ذلك النقص ، وعليه : فالتقابل بين النفع والضرر من تقابل العدم والملكة.

وأما الضرار : فقد استعمل في معان :

أحدها : أن الضرار بمعنى الضرر ، فيكون ذكره للتأكيد كما هو مختار المصنف «قدس‌سره».

ثانيها : أن الضرار فعل الاثنين.

ثالثها : أن الضرار هو الجزاء.

وأما كلمة «لا» النافية : فالأصل فيها في مثل تركيب «لا ضرر» ولا رجل هي نفي حقيقة مدخولها حقيقة أو ادعاء بلحاظ نفي آثار تلك الطبيعة تنزيلا لوجودها منزلة العدم عند عدم ترتب الآثار عليها ، وقد اختار المصنف نفي حقيقة الضرر ادعاء تنزيلا لوجود الضرر الذي لا يترتب عليه الأثر منزلة العدم.

توضيح ذلك : أنه لما تعذرت إرادة المعنى الحقيقي وهو نفي الضرر حقيقة ـ لكونه كذبا لوجود الضرر في الخارج ـ دار أمره بين جملة من المعاني منها : إرادة الحكم من الضرر بعلاقة السببية والمسببية ؛ بأن يكون الضرر مستعملا في الحكم بتلك العلاقة ، وهو مختار الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ، ويسمى هذا التصرف بالمجاز في الكلمة.

ومنها : إرادة نوع من طبيعة الضرر حقيقة بنحو المجاز في الحذف ؛ بأن يقال : إن المنفي هو الضرر غير المتدارك كإتلاف مال الغير بدون ضمان مثلا.

ومنها : جعل كلمة «لا» ناهية ؛ بأن يراد من «لا ضرر» الزجر عنه وطلب تركه ؛ ولكن هذا الحمل بعيد ، كما أن حملها على نفي الصفة ـ وهي غير المتدارك ـ بعيد.

فيدور الأمر بين المجاز في الكلمة وبين نفي الحقيقة ادعاء ، والظاهر : أنهما يرجعان إلى معنى واحد وهو نفي الحكم ، غاية الأمر : نفي الحكم في أحدهما يكون ابتداء ، وفي الآخر بلسان نفي الموضوع.

٥ ـ وأما النسبة بين قاعدة لا ضرر وبين أدلة الأحكام الأولية : فهي وإن كانت عموما من وجه ؛ إلّا إنه يقدم لا ضرر عليها للتوفيق العرفي بينه وبينها على ما هو رأي المصنف «قدس‌سره» ؛ بأن يحمل الحكم العنوان الأولي على الاقتضائي ، والحكم المنفي بقاعدة لا ضرر على الفعلي ، وكذا يقدم دليل الحرج والنذر والعهد واليمين وغيرها من العناوين الثانوية أيضا على أدلة أحكام العناوين الأولية ، مع كون النسبة بينهما أيضا هي عموم من وجه.

٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

٦ ـ وقد يعكس الأمر بمعنى : أنه يقدم دليل الحكم الأولي على الحكم بالعنوان الثانوي فيما إذا أحرز بدليل معتبر كون الحكم الأولي مجعولا ، بنحو يكون علة تامة للفعلية لا مقتضيا لها ؛ حتى يمكن رفع فعليته وحمله على الاقتضائي بسبب عروض عنوان ثانوي عليه ؛ كوجوب إنقاذ نبي «صلوات الله عليه» أو وصي «عليه‌السلام» ، فإن هذا الوجوب فعلي مطلقا وإن كان موجبا للضرر أو الحرج على الغير. فلا يحمل على الاقتضائي بالتوفيق العرفي بين دليله ودليل حكم العنوان الثانوي كالضرر وغيره.

٧ ـ وأما حكم تعارض دليل الضرر مع أدلة أحكام العناوين الثانوية غير الضرر كالحرج والنذر واليمين والشرط ؛ كما إذا كان حفر بئر أو بالوعة في ملكه مضرا بجاره وتركه كان حرجا على نفسه.

وكما إذا كان شرب التتن مضرا بحاله وتركه عسرا عليه ، وكما إذا نذر الصلاة في مسجد معين مثلا ، وكان أداؤها فيه مستلزما للضرر ، فحينئذ يقع التعارض بين أدلة النذر والضرر والحرج ، وكل منها عنوان ثانوي ، فلا يتأتى فيها التوفيق العرفي بحمل أحدها على الفعلي والآخر على الاقتضائي ؛ لتساويها في الفعلية والاقتضاء ، وكونها من قبيل الواحد لعرضيتها وعدم طوليتها حتى يوفق بينها بحمل أحدها على الفعلي والآخر على الاقتضائي ، ويعامل مع دليلي العنوانين الثانويين معاملة المتعارضين إن كان المقتضى للحكم في أحدهما دون الآخر ، فيرجح ذو المزية بينهما على الآخر ، وعلى فرض التكافؤ يتخير أو يرجع إلى ما يقتضيه الأصل في المسألة.

وإن كان المقتضى له في كليهما مطلقا حتى في ظرف الاجتماع كإنقاذ الغريقين المؤمنين ، عومل معهما معاملة التزاحم من تقديم ما هو أهم ملاكا ؛ كما إذا كان أحدهما عالما والآخر جاهلا. والتخيير مع عدم إحراز أهمية الملاك في أحدهما.

٨ ـ أما حكم تعارض الضررين : فهو ـ في تعارض ضرري شخص واحد أو شخصين ـ الأخذ بأقلهما إن كان أحدهما أقلا ؛ وإلّا فالحكم هو التخيير ، وفي تعارض ضرر نفسه مع ضرر غيره عدم تحمل الضرر عن الغير وإن كان كثيرا. وفي الضرر المتوجه إلى نفسه عدم إيراده على الغير.

٩ ـ نظريات المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ بطلان ما ذكره الفاضل التوني من الشرطين الآخرين للبراءة.

٢ ـ تمامية قاعدة لا ضرر سندا.

٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

٣ ـ الضرر والضرار بمعنى واحد ، ومعناهما هو الضرر في مقابل النفع.

٤ ـ كلمة «لا» النافية بمعنى نفي الحقيقة ادعاء.

٥ ـ والنسبة بين دليل نفي الضرر وبين أدلة الأحكام الأولية هي عموم من وجه ، وتقديم لا ضرر على أدلة الأحكام الأولية من باب التوفيق العرفي في بعض الموارد.

٦ ـ قد يعامل مع تعارض لا ضرر مع أدلة العناوين الثانوية معاملة المتعارضين ، وقد يعامل معاملة المتزاحمين.

٧ ـ حكم تعارض ضرري شخص واحد أو شخصين هو : الأخذ بأقل الضررين إن كان ، وإلّا فالتخيير.

٨ ـ وفي تعارض ضرر نفسه مع ضرر غيره عدم تحمل الضرر عن الغير.

٩ ـ في الضرر المتوجه إلى نفسه عدم إيراده على الغير.

٨٦

فصل

في الاستصحاب (١)

______________________________________________________

(١) وقبل الدخول في بيان أدلته ينبغي تقديم أمور :

الأمر الأول : في معنى الاستصحاب لغة واصطلاحا.

الثاني : في أن البحث عن الاستصحاب هل يكون بحثا عن مسألة أصولية أو فقهية.

الثالث : في الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين.

الرابع : في تقسيم الاستصحاب على أنحاء.

الكلام في معنى الاستصحاب

وهو في اللغة : عبارة عن أخذ شيء مصاحبا ، فمعنى : استصحبت هذا الشيء أي : أخذته مصاحبا ، واستصحبت هذا الشخص أي : اتخذته صاحبا ، فإطلاقه على القاعدة المعروفة بالاستصحاب عند الأصوليين إنما هو باعتبار أن العامل بها يتخذ ما تيقن به سابقا صحيبا له إلى الزمان اللاحق في مقام العمل ، فكأن المستصحب يجعل الشيء المشكوك فيه في صحبته ، فإذا شك في بقاء طهارته ـ وقد كان سابقا متطهرا ـ لازم الطهارة وبنى على أنها معه ، ومنه قوله الفقهاء في مقام بيان مبطلات الصلاة : «استصحاب أجزاء ما لا يؤكل لحمه مبطل للصلاة» ، فيكون هذا الاستصحاب بالمعنى اللغوي.

وأما معناه اصطلاحا : فقد عرف في كلمات القوم بتعاريف عديدة.

منها : ما في زبدة الأصول للشيخ البهائي «رحمه‌الله» من أنه «إثبات الحكم في الزمان الثاني تأويلا على ثبوته في الزمن الأول» ، وهو تعريف جيد إلّا من ناحية عدم الإشارة فيه إلى ركني الاستصحاب وهما : اليقين السابق والشك اللاحق.

ومنها : ما اختاره الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» في رسائله بعنوان أنه تعريف أسدّ وأخصر وهو : «أن الاستصحاب إبقاء ما كان» (١) ، ويرد عليه أيضا بعدم الإشارة فيه إلى

__________________

(١) فرائد الأصول ٣ : ٩.

٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ركني الاستصحاب ، مضافا إلى : شموله الإبقاء التكويني لما كان ، بينما متعلق الإبقاء في الاستصحاب إنما هو الحكم الشرعي التعبدي.

اللهم إلا أن يقال : إن طبيعة البحث قرينة على كونه ناظرا إلى التشريع.

ومنها : ما ذهب إليه المصنف «قدس‌سره» وهو : «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه» ، وهذا التعريف مما لا بأس به إن أضيف إليه قيد آخر وهو : عدم كون الحكم بالبقاء مستندا إلى دليل خاص ، حيث إنه لولاه لكان التعريف شاملا لما إذا كان الإبقاء من جهة قيام دليل خاص عليه.

ومنها : ما اختاره المحقق النائيني «قدس‌سره» من : «أن الاستصحاب عبارة عن عدم انتقاض اليقين السابق المتعلق بالحكم أو الموضوع من حيث الأثر ، والجري العملي بالشك في بقاء متعلق اليقين» (١).

وهذا التعريف مضافا إلى كونه تطويلا بلا دليل لا يناسب مقام التعريف ؛ يرد عليه ما ورد على تعريف المصنف من شموله لما إذا كان عدم انتقاض اليقين السابق مستندا إلى دليل خاص.

فالصحيح هو تعريف المصنف «قدس‌سره» بإضافة القيد المزبور. أي : الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه ، من دون قيام دليل خاص عليه.

هذا تمام الكلام في الأمر الأول.

وأما الأمر الثاني ـ وهو كون الاستصحاب من المسائل الأصولية أو غيرها ـ فقد حكم بعض بكونه من المسائل الأصولية يقينا ، وفصل بعض آخر بين الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، والاستصحاب في الشبهات الموضوعية ، فحكم بأنه من المسائل الأصولية على الأول ، ومن القواعد الفقهية على الثاني. وهذا ما يظهر من كلام السيد الخوئي «قدس‌سره» في مصباح الأصول ـ قسم الاستصحاب ـ ص ٦ ، حيث قال : ما حاصله : من أنه على القول باختصاص حجية الاستصحاب بالشبهات الموضوعية وعدم حجيته في الأحكام الكلية كما هو المختار يرجع البحث عنه إلى البحث عن قاعدة فقهية مستفادة من الأخبار ، فيكون الاستصحاب من القواعد الفقهية كقاعدة الطهارة وقاعدة التجاوز ، ويعتبر فيه حينئذ اليقين السابق والشك اللاحق من المقلد ، ولا يكفى تحققهما من المجتهد بالنسبة إلى تكليف المقلد.

__________________

(١) انظر الموسوعة الفقهية الميسرة ٢ : ٤١١.

٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ؛ اليقين والشك من المجتهد يعتبران في جريان الاستصحاب بالنسبة إلى تكليف نفسه ، لا بالنسبة إلى تكليف المقلد ـ إلى أن قال ـ وأما على القول بحجيته في الأحكام الكلية أيضا : فيكون الاستصحاب حينئذ ذا جهتين ، فمن جهة كونه جهة في الأحكام الكلية يكون البحث عنه بحثا عن مسألة أصولية ؛ لإمكان وقوع نتيجة البحث في طريق استنباط الأحكام الشرعية كما هو الملاك في كون المسألة أصولية ، وحينئذ : يعتبر فيه اليقين السابق والشك اللاحق من المجتهد كما في سائر القواعد الأصولية.

فبعد تحقق اليقين السابق والشك اللاحق من المجتهد بالنسبة إلى حكم شرعي كلي كنجاسة الماء المتمم كرّا ، وحرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال يستصحب هذا الحكم الكلي ، ويفتي بنجاسة الماء وحرمة وطء الحائض ، ويجب على المقلد اتباعه من باب رجوع الجاهل إلى العالم.

ومن جهة كونه حجة في الأحكام الجزئية والموضوعات الخارجية يكون البحث عنه بحثا عن مسألة فقهية ، ولا مانع من اجتماع الجهتين فيه ، فإنه يثبت كونه قاعدة أصولية وقاعدة فقهية بدليل واحد وهو قوله «عليه‌السلام» : «لا تنقض اليقين بالشك» (١) ، فإن إطلاقه شامل لليقين والشك المتعلقين بالأحكام الكلية واليقين والشك المتعلقين بالأحكام الجزئية أو الموضوعات الخارجية ، فبدليل واحد يثبت كونه قاعدة أصولية وقاعدة فقهية ، ولا مانع منه أصلا.

وأما الأمر الثالث ـ وهذا الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين ـ فحاصله : أن اليقين والشك متضادان ؛ بل باعتبار خصوصية فيهما متناقضان ؛ لأن اليقين يعتبر فيه عدم احتمال الخلاف ، والشك يعتبر فيه احتمال الخلاف ، وبين هاتين الخصوصيتين تناقض. فلا يمكن اجتماع اليقين والشك في شيء واحد.

فلا بد حينئذ من الالتزام بأحد أمرين : إما الالتزام بوحدة زمان الوصفين وتعدد زمان متعلقهما ، فيكون موردا للاستصحاب.

وإما الالتزام بوحدة زمان المتعلقين وتعدد زمان الوصفين ، فيكون موردا لقاعدة اليقين.

وبعبارة أخرى : أن الشك إذا تعلق ببقاء ما تيقن به فهو الاستصحاب ، وإذا تعلق بأصل حدوث ما تيقن به فهو قاعدة اليقين.

__________________

(١) علل الشرائع ٢ : ٣٦١ / ب. ٨ ، جزء من ح ١ ، تهذيب الأحكام ١ : ٤٢١ / جزء من ح ١٣٣٥ ، الوسائل ٣ : ٤٦٦ / جزء من ح ٤١٩٢.

٨٩

وفي حجيته إثباتا ونفيا أقوال (١) للأصحاب.

______________________________________________________

وأما الأمر الرابع : فهو في تقسيم الاستصحاب على أنحاء :

فتارة : يقسم باعتبار المستصحب ، فإنه قد يكون حكما شرعيا ، وقد يكون غيره ، والحكم الشرعي قد يكون تكليفيا ، وقد يكون وضعيا.

وكذا قد يكون كليا ، وقد يكون جزئيا.

وأخرى : باعتبار منشأ اليقين ، فإنه قد يكون العقل وقد يكون غيره من الكتاب والسنة أو السماع والرؤية ، كما إذا كان المستصحب من الأمور الخارجية.

وثالثة : باعتبار منشأ الشك ، فإنه قد يكون الشك ناشئا من احتمال طروء المانع مع اليقين بوجود المقتضي ، ويسمى بالشك في الرافع ، وقد يكون ناشئا من احتمال انقضاء استعداده ذاتا ، ويسمى بالشك في المقتضي ، وغير ذلك من التقسيمات التي تعرّض لها الشيخ «قدس‌سره» ، وقد وقع الخلاف بينهم في حجية الاستصحاب وعدمها مطلقا ، والتفصيل بين الحكم الشرعي وغيره تارة ، وبين ما كان سبب اليقين بالحكم الشرعي الدليل العقلي وغيره أخرى ، وبين الشك في المقتضي والشك في الرافع ثالثة.

واختار (١) الشيخ «قدس‌سره» التفصيل باعتبارين :

الأول : التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع.

والثاني : التفصيل بين ما كان سبب اليقين بالحكم الشرعي الدليل العقلي وغيره ، فأنكر حجية الاستصحاب في الأول في التفصيلين ؛ وإن كان إرجاع التفصيل الثاني إلى الأول ممكنا. وحيث إن في استقصاء هذه التفاصيل تطويلا بلا طائل ، فالعمدة هو النظر إلى الأدلة التي أقاموها على حجية الاستصحاب فانتظر ما استدل به على حجية الاستصحاب من السيرة والإجماع والأخبار وغيرها.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) «قال في أوثق الوسائل : «قيل : تبلغ الأقوال في المسألة نيفا وخمسين» ، واقتصر الشيخ كصاحب الفصول «قدس‌سرهما» على نقل أحد عشر قولا.

واختار في الفصول التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع ، وعدّه القول الثاني عشر في المسألة ، ولا بأس بالإشارة إلى الأقوال التي تعرض لها الشيخ «قدس‌سره» :

الأول : الحجية مطلقا ، قال في الأوثق : «عزاه الشهيد الثاني (٢) إلى أكثر المحققين».

__________________

(١ ـ ٢) فرائد الأصول ٣ : ٤٨.

٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الثاني : عدم الحجية مطلقا ، قال في الأوثق : «ذهب إليه السيدان وصاحبا المدارك والمعالم».

الثالث : التفصيل بين الوجودي والعدمي. نسب ذلك إلى بعض العامة.

الرابع : التفصيل بين الأمور الخارجية والحكم الشرعي بالاعتبار في الثاني دون الأول ، قال في الأوثق : «حكاه المحقق الخوانساري عن بعضهم ، وقد أنكر المصنف عند التعرض لأدلة الأقوال : وجود قائل بهذا التفصيل».

الخامس : التفصيل بين الحكم الشرعي الكلي وغيره ، بالاعتبار في الثاني دون الأول إلا في عدم النسخ ، قال في الأوثق : «اختاره الأخباريون».

السادس : التفصيل بين الحكم الجزئي وغيره ، فلا يعتبر في غير الجزئي ، حكى الشيخ عن السيد الصدر استظهاره من كلام المحقق الخوانساري ؛ لكن الشيخ في مقام بيان أدلة الأقوال قال : «على تقدير وجود القائل به».

وفي الأوثق : «المستفاد منها ـ أي : من حاشية المحقق الخوانساري ـ هو التفصيل بين الأمور الخارجية وغيرها ، سواء كان حكما جزئيا أم كليا».

السابع : التفصيل بين الأحكام التكليفية والوضعية ، وما يترتب عليها من التكليف بالاعتبار في الثاني دون الأول. حكاه الشيخ عن الفاضل التوني وسيأتي بيانه عند تعرض المصنف للأحكام الوضعية.

الثامن : التفصيل بين ما ثبت بالإجماع وغيره ، بعدم الاعتبار في الأول ، حكي عن الغزالي. ولكن تأمل الشيخ عند بيان الأدلة في صحة النسبة.

التاسع : التفصيل بين الشك في المقتضي والرافع بعدم الاعتبار في الأول ، استظهره الشيخ من كلام المحقق في المعارج ، واختاره كصاحب الفصول.

العاشر : هذا التفصيل مع اختصاصه بوجود الغاية لا الرافع.

وقد تعرض الشيخ الأنصاري لأكثر هذه الأقوال مع أدلتها ؛ ولكن المصنف لأجل تحرير الأصول أعرض عن التعرض لها واقتصر على الاستدلال على مختاره ، أعني : حجية الاستصحاب مطلقا وتفاصيل أربعة :

أولها : التفصيل في الحكم الشرعي بين كونه مستندا إلى حجة شرعية من الكتاب والسنة ، وبين كونه مستندا إلى حكم العقل.

ثانيها : التفصيل بين الشك في المقتضي والرافع ، وهو خيرة جمع من المحققين منهم الشيخ الأنصاري «قدس‌سره».

٩١

ولا يخفى : أن عباراتهم (١) في تعريفه وإن كانت شتى ؛ إلّا إنها (٢) تشير إلى

______________________________________________________

ثالثها : التفصيل بين الحكم التكليفي والوضعي.

رابعها : التفصيل بين الأحكام الكلية والموضوعات الخارجية ، أشار إليه في طي البحث عن اعتبار وحدة القضيتين موضوعا ومحمولا (١) ، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى.

(١) أشار المصنف «قدس‌سره» قبل الخوض في أدلة اعتبار الاستصحاب إلى أمور ثلاثة أولها : تعريفه ، ثانيها : إثبات كونه مسألة أصولية ، ثالثها : اعتبار وحدة القضيتين المتيقنة والمشكوكة موضوعا ومحمولا : وقوله : «لا يخفى أن عباراتهم» إشارة إلى أول هذه الأمور ، وحاصله : أن الاستصحاب عرف في كلمات القوم بتعاريف مختلفة :

منها : ما عن الشيخ البهائي «قدس‌سره» في الزبدة (٢) وقد تقدم ذكر هذا التعريف.

ومنها : ما عن الفاضل التوني في الوافية من : «أنه التمسك بثبوت ما ثبت في وقت أو حال على بقائه فيما بعد ذلك الوقت ، أو غير تلك الحال» (٣).

ومنها : ما في القوانين من : «أنه كون حكم أو وصف يقيني الحصول في الآن السابق ، مشكوك البقاء في الآن اللاحق» (٤).

ومنها : ما في الفصول من : «أنه إبقاء ما علم ثبوته في الزمان السابق فيما يحتمل البقاء فيه من الزمن اللاحق» (٥).

ومنها : ما في كشف الغطاء من : «أنه الحكم باستمرار ما كان إلى أن يعلم زواله» (٦).

ومنها : غير ذلك مما تقدم بعض تلك التعاريف.

وحيث إن شيئا من هذه التعاريف غير سليم من الخلل ، عدل المصنف «قدس‌سره» إلى تحديده بقوله : «وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه».

(٢) أي : أن التعاريف الواردة في كتب القوم «تشير ...» الخ.

وغرضه : أن اختلاف القوم في تعريف الاستصحاب بتكثير القيود وغير ذلك لم ينشأ

__________________

(١) منتهى الدراية ٧ : ٥ ـ ٧.

(٢) ذكره الشيخ في فرائد الأصول ٣ : ٩.

(٣) الوافية في أصول الفقه : ٢٠٠.

(٤) انظر حاشية على القوانين : ٢٣.

(٥) الفصول الغروية : ٣٦٦.

(٦) كشف الغطاء ١ : ٣٥.

٩٢

مفهوم واحد ومعنى فارد ، وهو الحكم ببقاء حكم (١) أو موضوع ذي حكم (٢) شك في بقائه (٣) إما (٤) من جهة بناء العقلاء على ذلك في أحكامهم العرفية ...

______________________________________________________

عن الاختلاف في حقيقته ومفهومه ؛ بل حقيقته واحدة ، والغرض من التعريف : الإشارة إلى ذلك المفهوم الفارد ، غاية الأمر : أن الجهات المشيرة إليه مختلفة ، فكل واحد من تلك التعريفات يشير إلى ذلك المفهوم الوحداني بالجهة المأخوذة في ذلك التعريف.

(١) هذا في الشبهة الحكمية ، وقوله : «أو موضوع ذي حكم» إشارة إلى جريان الاستصحاب في الشبهة الموضوعية ، ومقتضى التعبد الاستصحابي في الجميع : جعل الحكم المماثل للحكم المشكوك فيه ، أو لحكم الموضوع المشكوك فيه.

(٢) أي : سواء كان الحكم تكليفيا بناء على جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية ، أم وضعيا. وأما اعتبار كون المستصحب حكما أو موضوعا ذا حكم : فلأن الاستصحاب من الأصول العملية التي هي وظائف شرعية للشاك في مقام العمل ، فإذا لم يكن المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا له فلا معنى للتعبد ببقائه.

(٣) أي : شك في بقاء الحكم المتيقن أو موضوعه.

(٤) غرض المصنف «قدس‌سره» : إثبات أن ما ذكره من تعريف الاستصحاب جامع لما يعتبر في التعريف ؛ وذلك لأنه يعتبر في تحديد ما يكون من الحجج الشرعية أمور :

الأول : التئام التعريف مع دليل الاعتبار.

والثاني : اشتمال التعريف على ما يكون دخيلا في حقيقة المعرف ـ بالفتح ـ ومقوما له ؛ إذ بدونه لا يكون التعريف وجها وشارحا للمعرف كما هو ظاهر.

الثالث : كون التعريف جامعا للمباني والأقوال المختلفة حتى يكون مورد النفي والإثبات واحدا ؛ وإلا كان النزاع لفظيا كما سيتضح.

وما أفاده «قدس‌سره» بقوله : «إما من جهة ...» الخ بيان للأمر الأول ، وحاصله : أن دليل اعتبار الاستصحاب ـ من بناء العقلاء على بقاء الحالة السابقة أو النص والإجماع الآتيين ، أو الإدراك العقلي الظني بالبقاء الحاصل من ملاحظة الحالة السابقة ـ منطبق على تعريف المتن ؛ لأن مفاد كل واحد منها هو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه.

وهذا بخلاف أكثر التعاريف ؛ لظهورها في استناد الإبقاء إلى خصوص الظن بالبقاء ، ومن المعلوم : أن هذا لا يلتئم مع كون الاستصحاب أصلا عمليا مستندا إلى الأخبار لا الظن. هذا بيان الأمر الأول.

٩٣

مطلقا (١) ، أو في الجملة (٢) تعبدا (٣) ، أو للظن به الناشئ عن ملاحظة ثبوته سابقا.

وإما (٤) من جهة دلالة النص أو دعوى الإجماع عليه كذلك (٥) ، حسبما تأتي الإشارة (٦) إلى ذلك مفصلا.

ولا يخفى : أن هذا المعنى (٧) هو القابل لأن يقع فيه النزاع والخلاف في نفيه

______________________________________________________

وأما الأمر الثاني فتوضيحه : أن اليقين السابق والشك اللاحق ركنان في الاستصحاب ، وقد لوحظ كل منهما في التعريف ، أما الشك في البقاء : فللتصريح به ، وأما اليقين بالحدوث : فلدلالة «بقاء حكم أو موضوع» عليه ، فالتعريف من هذه الجهة تام.

والمشار إليه في قوله : «ذلك» هو الحكم بالبقاء.

(١) يعني : في جميع الموارد من الشك في المقتضي والرافع ، وكون المستصحب حكما أو موضوعا ، وكليا أو جزئيا ، وغير ذلك من التفاصيل المتقدمة.

(٢) إشارة إلى اعتبار الاستصحاب ببناء العقلاء في بعض الموارد كالعمل به في الشك في الرافع ، أو رافعية الموجود خاصة.

(٣) يعني : ولو لم يحصل الظن الشخصي ولا النوعي ببقاء الحالة السابقة المتيقنة ؛ بأن كان بناؤهم رجاء واحتياطا. وعليه : فكل من قوله : «تعبدا أو للظن به» قيد لبناء العقلاء ، يعني : أن بناءهم على إبقاء ما كان إما أن يكون للظن به وإما للتعبد ولو لم يحصل لهم ظن بالبقاء ، وعلى الثاني : يندرج الاستصحاب في الأصول العملية ، وعلى الأول : في الأمارات.

وضميرا «ثبوته ، به» راجعان على الحكم المتيقن أو الموضوع ذي حكم.

(٤) عطف على «إما من جهة ...» الخ. وسيأتي بيانهما عند التعرض للأدلة.

(٥) أي : على الحكم بالبقاء مطلقا أو في الجملة.

(٦) الأولى تبديلها ب «بيان» ونحوه ، إذ لا مناسبة بين الإشارة والتفصيل.

(٧) أي : الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم ، وهذا إشارة إلى الأمر الثالث مما يعتبر في التعريف.

وغرضه : أن المعنى الذي يصح النزاع فيه بحيث يتحد مورد النفي والإثبات ـ كما هو شأن غير الاستصحاب من المسائل الخلافية ـ هو المعنى المذكور أعني : كون الاستصحاب عبارة عن «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه».

وتوضيح ما أفاده : أنه لا ريب في كون الاستصحاب من الأمور المبحوث عنها من

٩٤

وإثباته (١) مطلقا (٢) أو في الجملة ، وفي (٣) وجه ثبوته على أقوال (٤) ، ضرورة : ...

______________________________________________________

زمان القدماء ؛ بل الأقدمين إلى عصرنا هذا ، فأثبته قوم ونفاه آخرون إما مطلقا أو في الجملة كما عرفت في الإشارة إلى الأقوال ، ومن المعلوم : أن اختلاف الأصحاب فيه معنوي ؛ لعدم استحقاق النزاع اللفظي للبحث والنظر ، وفي المقام جهتان تقتضيان الالتزام بتعريف الاستصحاب بما في المتن ، دون غيره من التعاريف.

إحداهما : اقتضاء كون النزاع في أصل اعتبار الاستصحاب وعدمه معنويا لتعريفه بما ذكر ؛ لتوارد النفي والإثبات حينئذ على مفهوم وحداني جامع للمباني المتشتتة في المسألة ، فالقائل بالاعتبار يدعي حجيته بالتحديد المذكور في المتن ، والنافي له ينكر نفس هذا المعنى ، وأن «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ...» غير ثابت ؛ لعدم الدليل عليه لا من الأخبار ولا العقل ولا سيرة العقلاء ، كما أن المفصّل يقول بثبوت اعتباره في الشك في الرافع دون الشك في المقتضي ، والنزاع على هذا معنوي ، بخلاف ما إذا عرف الاستصحاب بأنه «التمسك بثبوت ما ثبت في وقت بعد ذلك الوقت» ، فإنه عليه يكون نفس بناء العقلاء على الأخذ بما ثبت سابقا ، ومن المعلوم : صيرورة النزاع لفظيا حينئذ ؛ إذ المنكر لهذه السيرة قد يقول باعتبار الاستصحاب لكونه حكما لا نفس البناء العملي ، فلم يتوارد النفي والإثبات على أمر واحد حتى يكون النزاع معنويا.

ثانيتهما : اقتضاء أدلة اعتبار الاستصحاب لتعريفه المتقدم.

وبيانه : أن القائلين بحجيته اختلفوا في الاستدلال عليها ، فمنهم من استدل عليها بالأخبار ، ومنهم من تمسك لها ببناء العقلاء ، ومنهم من تشبث بالعقل ، ومنهم من احتج عليها بالإجماع ، والمفهوم الجامع الذي يمكن إثباته بكل واحد من هذه الأدلة هو كونه «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم» لصحة أن يقال بثبوت الحكم بالبقاء بالنص أو بالعقل أو بسيرة العقلاء ، في قبال النافي المنكر لدلالة النص وغيره عليه ، فيتحد مورد النفي والإثبات ، وهذا بخلاف تعريف الفاضل التوني الظاهر في كون الاستصحاب نفس البناء العقلائي بلا حكم في البين ، ومن المعلوم : أن هذا البناء أجنبي عما إذا كان مفاد الأخبار الحكم بالبقاء ، فيصير النزاع حينئذ لفظيا.

(١) هذا الضمير وضميرا «فيه ، نفيه» راجعان على هذا المعنى.

(٢) هذا وما بعده إشارة إلى الأقوال في المسألة ، وقد تقدمت.

(٣) عطف على «في نفيه» ، وهذا إشارة إلى الجهة الثانية المتقدمة بقولنا : «ثانيتهما : اقتضاء أدلة اعتبار الاستصحاب ...» الخ.

(٤) متعلق ب «النزاع والخلاف».

٩٥

أنه (١) لو كان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء على البقاء أو الظن به (٢) الناشئ من العلم بثبوته لما (٣) تقابل فيه الأقوال ، ولما (٤) كان النفي والإثبات واردين على مورد واحد ؛ بل موردين (٥). وتعريفه (٦) بما ينطبق على بعضها وإن كان ربما يوهم أن لا

______________________________________________________

(١) الضمير للشأن ، وهذا تعليل لقوله : «هو القابل لأن يقع ...» يعني : أن الاستصحاب بناء على كونه هو الحكم ببقاء حكم ... مجمع للأقوال المختلفة ، فنفس هذا الحكم بالبقاء ثابت عند بعض وغير ثابت عند آخر وهكذا.

وأما كونه موردا لتقابل الأقوال من جهة الدليل : فلما عرفته آنفا من : أنه إذا لم يكن الاستصحاب بمعنى «الحكم ببقاء حكم ...» لم تتقابل الأقوال فيه من ناحية دليل اعتباره ؛ إذ المثبت للاستصحاب بمعنى الحكم بالبقاء غير المثبت له بمعنى بناء العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة ؛ لمغايرة الحكم الشرعي بالبقاء لبناء العقلاء.

(٢) أي : بالبقاء الناشئ هذا الظن من العلم بثبوت حكم أو موضوع ذي حكم.

(٣) جواب «لو كان» ، وضمير «بثبوته» راجع على «حكم أو موضوع ذي حكم».

(٤) عطف على «لما تقابل» ومفسر له ، وقد تقدم بيانه.

(٥) مع أن النزاع في أمر يقتضي معلومية مورد النزاع ، وعليه : فلا مناص من اختيار ما ذكره من التعريف دون سائر ما ذكروه.

(٦) أي : وتعريف الاستصحاب ، والمراد بالموصول في «بما ينطبق» تعريف الاستصحاب.

وغرضه من هذا الكلام : الاعتذار عن بعض تعاريف الاستصحاب بعد إثبات كون تعريفه الصحيح الذي يكون مجمعا للأقوال المتشتتة هو ما تقدم بقوله : «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ...» الخ. فقوله : «وتعريفه بما ينطبق» إشارة إلى وهم ودفع ذكرهما في حاشية الرسائل أيضا في التعليق على تعريف الفاضل التوني للاستصحاب.

وأما الوهم فهو : أن تعريف الاستصحاب بأنه «التمسك بثبوت ما ثبت في وقت أو حال على بقائه» يوهم عدم كونه هو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم ؛ بل الاستصحاب هو نفس البناء العملي على الحالة السابقة لظهور «التمسك بثبوته ...» في أن الاستصحاب نفس الاعتماد على ثبوته السابق في إبقائه عملا ، مع عدم كون الاستصحاب نفس التمسك بثبوت ما ثبت ، بل ما به التمسك ؛ لأن الاستصحاب بناء على حجيته من باب الظن ـ كما هو مبنى التعريف المزبور ـ هو الظن بالبقاء أو الظن بالملازمة بين الثبوت والبقاء ، والمناسب له أن يقال : إنه التمسك بما ثبت بمعنى : إبقاء ما ثبت وعدم الانفكاك عنه عملا.

٩٦

يكون هو الحكم بالبقاء بل ذاك الوجه (١) إلا إنه (٢) حيث لم يكن بحد (٣) ولا برسم ؛ بل من قبيل شرح الاسم (٤) كما هو الحال في التعريفات غالبا (٥) لم يكن له (٦) دلالة

______________________________________________________

وبعبارة أخرى : حيث إن المستصحب ـ بالكسر ـ هو المكلف ففعله إبقاء ما ثبت تعويلا على ثبوته في السابق ، وهذا الإبقاء هو الحكم بالبقاء الذي أفاده الماتن ، وأما تعريفه ب «التمسك بثبوت ما ثبت» فظاهر في جعل نفس الثبوت السابق حجة ودليلا على ثبوته في اللاحق ، وهذا ليس هو الاستصحاب المصطلح ، فإن كون الثبوت السابق أمارة على البقاء لا ربط له بفعل المكلف أعني : إبقاء ما ثبت. هذا حاصل الوهم.

وأما الدفع فهو : أن منافاة تعريف الفاضل التوني لما في المتن من كونه «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ...» مبنية على كون هذه التعريفات حقيقة أي : مبنية لمطلب «ما» الحقيقية ، وأما بناء على كونها تعريفات لفظية أي : مبنية لمطلب «ما» الشارحة ـ كما هو كذلك ـ فلا يرد عليها إشكال أصلا ضرورة : كون مقصود الجميع الإشارة إلى ما هو المعلوم المرتكز عند الكل من الحكم بالبقاء ، وليست هذه التعاريف في مقام حقيقة الاستصحاب حتى يكون اختلاف الحدود كاشفا عن اختلاف ماهية المحدود.

وضمير «بعضها» راجع على الأقوال أي : بعض الأقوال دون جميعها ؛ لانطباق تعريف الفاضل التوني وغيره على استناد حجية الاستصحاب إلى الظن ، ومن المعلوم : أن مثله أجنبي عن تعريفه بالحكم بالبقاء كما عرفت في تقريب الوهم.

(١) أي : الوجه المذكور في التعريف من أنه نفس «التمسك بثبوت ما ثبت ...» الخ ، أو «كون حكم أو وصف يقيني الحصول ...» ؛ لعدم كون الاستصحاب ـ بناء على هذين التعريفين ـ هو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم.

(٢) هذا إشارة إلى دفع التوهم ، وقد تقدم بقولنا : «وأما الدفع ...» الخ. وضمير «أنه» كالمستتر في «لم يكن» راجع على التعريف.

(٣) وهو التعريف بالفصل القريب ، والرسم هو التعريف بالخاصة ، فإن كانا مع الجنس القريب فتام وإلا فناقص.

(٤) الظاهر : أن مقصوده من شرح الاسم هو التعريف اللفظي ، فالعبارة لا تخلو من مسامحة.

(٥) نبّه على ذلك في مواضع من الكتاب ؛ كبحث الواجب المطلق والمشروط والعام والخاص.

(٦) أي : لتعريف الاستصحاب بما ينطبق على بعض الأقوال. وقوله : «لم يكن» جواب «حيث».

٩٧

على أنه (١) نفس الوجه ، بل للإشارة إليه (٢) من هذا الوجه ، ولذا (٣) لا وقع للإشكال على ما ذكر في تعريفه بعدم الطرد أو العكس ، فإنه لم يكن به (٤) إذا لم يكن (٥) بالحد أو الرسم بأس (٦).

فانقدح (٧) : أن ذكر تعريفات القوم له وما ذكر فيها من الإشكال بلا حاصل (٨) وتطويل بلا طائل.

ثم لا يخفى (٩) : أن البحث في حجيته مسألة أصولية ، حيث يبحث فيها لتمهيد

______________________________________________________

(١) أي : أن الاستصحاب نفس الوجه ، وهو البناء العملي المذكور في تعريف بعضهم له.

(٢) أي : إلى الاستصحاب ، يعني : أن غرض من عرفه بالبناء العملي هو تحقق هذا البناء في الاستصحاب ، وليس بصدد بيان أن هويته هذا البناء حتى ينافي تعريف المصنف له بأنه هو الحكم بالبقاء.

(٣) يعني : ولأجل كون التعريف من قبيل شرح الاسم لا وقع للإشكال على التعريفات بعدم الطرد تارة وعدم العكس أخرى ؛ إذ مورد هذه الإشكالات هو التعريف الحقيقي المبيّن لمطلب «ما» الحقيقية دون التعريف اللفظي المبيّن لمطلب «ما» الشارحة.

(٤) هذا الضمير وضمير «فإنه» راجعان على «ما ذكر في تعريفه».

(٥) اسمه ضمير مستتر راجع على قوله : «ما ذكر».

(٦) اسم «يكن» في قوله : «لم يكن به».

(٧) هذه نتيجة عدم كون تعريفات القوم للاستصحاب حقيقية ؛ إذ لا يبقى حينئذ مجال للإشكال عليها طردا أو عكسا ، فلا جدوى للمناقشة فيها أصلا. وضمير «له» راجع على الاستصحاب ، وضمير «فيها» على «تعريفات» ، و «ما» الموصول معطوف على «تعريفات».

(٨) خبر «أن» ، و «تطويل» بالرفع معطوف على «بلا حاصل» هذا تمام الكلام في الأمر الأول ، وهو تعريف الاستصحاب.

(٩) هذا إشارة إلى الأمر الثاني الذي تعرض له قبل بيان الأدلة ، وهو إثبات كون الاستصحاب من مسائل علم الأصول لا من مباديه ، ولا قاعدة فقهية ، ولا بأس قبل توضيح كلامه بذكر ضوابط المسألة الأصولية والفقهية والقاعدة الفقهية إجمالا فنقول :

أما ضابط المسألة الأصولية : فهو ما يكون دخيلا في الاستنباط بنحو دخل الجزء الأخير من العلة التامة ، فيخرج ما عدا علم الأصول طرا عن هذا التعريف وإن كان لجملة

٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

من العلوم دخل أيضا في الاستنباط كالعلوم العربية والرجال وغيرهما ؛ لكن دخلها ليس دخل الجزء الأخير ؛ بل الدخل الإعدادي على التفصيل المقرر في محله.

وأما ضابط القاعدة الفقهية ـ كقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» وعكسها ، و «كل شرط مخالف للكتاب والسنة باطل». و «كل حكم ضرري أو حرجي مرفوع» ، و «من ملك شيئا ملك الإقرار به» إلى غير ذلك ـ فهو كالمسألة الأصولية من حيث استنباط الأحكام الفرعية منها ؛ لكنها تمتاز عنها في أن المسألة الأصولية لا تتعلق أولا وبالذات بالعمل كحجية الخبر والظواهر وغيرهما ، بخلاف القاعدة الفقهية ، فإنها تتعلق بعمل المكلف بلا واسطة ؛ كحكم الفعل الضرري والحرجي وغير ذلك.

وأما ضابط المسألة الفقهية : فهو أيضا ما يتعلق بالعمل بلا واسطة ، ويكون نتيجة للمسألة الأصولية ؛ إلا إن أمر تطبيقها بيد العامي ، لا المجتهد لأن وظيفة الفقيه الإفتاء بالحكم الكلي ، كحرمة شرب الخمر ، ووجوب التصدق ، ونحوهما ، وأما تطبيق عنواني الخمر والتصدق على أفرادهما فهو أجنبي عن وظيفة المجتهد.

والفرق بين المسألة الفقهية والقاعدة الفقهية أيضا ـ بعد اشتراكهما في تعلق كل منهما بالعمل بلا واسطة كما مر ـ هو : أن موضوع المسألة الفقهية نوع واحد كالخمر والخل والماء والحنطة ، وغيرها من الطبائع التي هي موضوعات المسائل الفقهية.

بخلاف القاعدة الفقهية ، فإن موضوعها ما يندرج تحته أنواع عديدة كعنوان الضرر والحرج ، و «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» ، فإن الضرر والحرج مثلا يندرج تحتهما الصلاة والوضوء والصوم والبيع وغيرها ، وكذا «ما يضمن» لاندراج جميع العقود المعاوضية تحته ، من دون فرق في ذلك بين كون محمولها حكما واقعيا أوليا ؛ كقاعدة «ما يضمن» ، وبين كونه حكما واقعيا ثانويا ؛ كقاعدتي الضرر والحرج ونحوهما ، وبين كونه حكما ظاهريا ؛ كقاعدتي الفراغ والتجاوز وأصالة الصحة وغيرها.

إذا عرفت ضوابط القاعدة الفقهية والمسألة الأصولية والفقهية فاعلم : أن الاستصحاب يجري تارة : في الحكم الأصولي ؛ كاستصحاب حجية العام بعد الفحص عن المخصص ، واستصحاب عدم وجود المعارض.

وأخرى : في الحكم الكلي الفرعي ؛ كنجاسة الماء المتغير الذي زال تغيره من قبل نفسه وحرمة العصير الزبيبي إذا غلى واشتد قبل ذهاب ثلثيه إذا شك في حليته وحرمته.

وثالثة : في الموضوعات الخارجية ؛ كاستصحاب حياة زيد أو عدالته مثلا وكالجاري

٩٩

قاعدة تقع في طريق استنباط الأحكام الفرعية (١).

______________________________________________________

في الأحكام الجزئية ؛ كاستصحاب نجاسة ثوبه ببول بعد غسله مرة في الكثير للشك في اعتبار التعدد حتى في الغسل به.

أما الجاري في الأحكام الجزئية والموضوعات الخارجية : فليس مسألة أصولية ، ويقتضيه قول المصنف في تعريف علم الأصول في أول الكتاب : «ومسائل الأصول العملية في الشبهات الحكمية».

وأما الجاري في القسمين الأولين : فحاصل ما أفاده «قدس‌سره» فيهما هو : أن الاستصحاب من المسائل الأصولية ، سواء كان من الأصول العملية التي هي وظيفة الشاك ، ويكون الشك موضوعها ، أم من الأدلة الظنية.

أما على الأول : فلانطباق ضابط المسألة الأصولية عليه ؛ إذ يقال : «إن نجاسة الماء المتغير الذي زال تغيره بنفسه أو بعلاج مما شك في بقائه ، وكل ما شك في بقائه فهو باق ، فينتج بقاء نجاسة الماء المزبور» ، والحكم بنجاسته في هذه الصورة حكم كلي فرعي يتعلق بالعمل ، فالاستصحاب حينئذ قاعدة مهدت لاستنباط الأحكام الفرعية ، وكل ما كان كذلك فهو مسألة أصولية.

وأما الاستصحاب الجاري في المسألة الأصولية كالحجية : فكونه من مسائل علم الأصول أظهر ؛ إذ ليس مجراه حكما فرعيا حتى يتوهم كونه من القواعد الفقهية.

وأما على الثاني ـ وهو كون الاستصحاب بناء العقلاء على ما علم ثبوته سابقا ـ فلأن البحث عن حجيته بحث عن ثبوت التلازم بين الحدوث والبقاء عند العقلاء وعدمه ، وعلى تقدير ثبوته : فهل هذا البناء منهم حجة أم لا؟

وكذا بناء على اعتباره من باب الظن بالملازمة ، فإنه يبحث فيه تارة : عن وجود هذا الظن وأخرى : عن حجيته ، ومن المعلوم : أن البحث عن دليلية الظن بالبقاء كالبحث عن حجية غيره من سائر الظنون أصولي لا فقهي ؛ لعدم كون مفاده حكم العمل بلا واسطة كالبحث عن حجية خبر الواحد.

(١) وكل ما كان كذلك فهو مسألة أصولية ؛ لما تقدم في تعريف علم الأصول بأنه «صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام ، أو التي ينتهي إليها في مقام العمل» ، فالاستصحاب الجاري في الموضوعات الجزئية كحياة المفقود وعدالة زيد ، وكذا الجاري في الأحكام الجزئية كحلية هذا المائع أو طهارة هذا الثوب ليس مسألة أصولية ؛ بل هو من الأحكام الفرعية كقاعدتي الفراغ والتجاوز.

١٠٠