دروس في الكفاية - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وتوضيح ما أفاده الشيخ لإثبات المقتضي للقول بالاختصاص يتوقف على مقدمة وهي : أن معنى النقض الحقيقي هو رفع الهيئة الاتصالية الحسية الحاصلة في الأشياء ، وإبانة أجزائها كنقض الحبل والغزل ونحوهما مما يكون له هيئة اتصالية حسية ، ومنه قوله تعالى : (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً)(١).

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه إذا تعذر حمله على المعنى الحقيقي فلا بد من حمله على أقرب المجازات ، ويدور الأمر في المقام بين إرادة أحد معنيين مجازيين :

الأول : رفع اليد عن الشيء الثابت مع وجود المقتضي لبقائه لو لا عروض المزيل كالطهارة والزوجية الدائمة.

الثاني : رفع اليد عن مطلق اليقين ؛ وإن لم يكن في متعلقه استعداد الاستمرار ، كاليقين بالزوجية المنقطعة أو بإضاءة السراج إلى ساعتين لقلة زيته.

ومن المعلوم : أن الأقرب إلى المعنى الحقيقي هو الأول أعني : الأمر الثابت الذي فيه اقتضاء البقاء في عمود الزمان ، فكأنه «عليه‌السلام» قال : «لا ترفع اليد عن المتيقن الثابت القابل للاستمرار بالشك في بقائه».

وجه الأقربية : ما تقرر من أن الجملة المشتملة على فعل إذا تعلق به شيء وتعذر الأخذ بمدلول كليهما معا قدم ظهور الفعل على ظهور متعلقة ؛ كما إذا قال المولى : «لا تضرب أحدا» ، فإن ظهور الضرب في الضرب المؤلم حاكم على إطلاق «أحد» الشامل للأحياء والأموات ، وتكون خصوصية الفعل منشأ لتخصيص «أحد» بالأحياء ، ولا يصير عموم المتعلق قرينة على تعميم الضرب لغير الأحياء.

وفي المقام حيث كان إرادة رفع اليد عما من شأنه البقاء أقرب إلى معنى «النقض» الحقيقي ، فلذا يتصرف في عموم المتعلق أعني : «اليقين» ، ويخصص بما فيه استعداد البقاء ، وعليه : فيتم المطلوب وهو اختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع.

وتحصل : أن المنقوض في أخبار الاستصحاب لا بد أن يكون مما يقتضي البقاء ؛ بحيث يكون الشك في بقائه مستندا إلى الشك في وجود الرافع كالنوم وسائر النواقض المعهودة للوضوء. هذا توضيح مرام الشيخ «قدس‌سره».

وأورد عليه المصنف : بالبحث تارة : في مدلول مادة «النقض» ، وأخرى : في هيئة «لا تنقض».

__________________

(١) النحل : ٩٢.

١٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

ومحصل ما أفاده حول المادة : أن النقض الذي هو ضد الإبرام والإحكام إنما أسند إلى نفس اليقين الذي هو أمر مبرم وشيء مستحكم ؛ لكونه أقوى مراتب الإدراك ، لما فيه من الجزم المانع عن احتمال النقيض ، فهو مما يعتقد ببقائه واستمراره ، بخلاف الظن ، فإنه لا يظن باستمراره ؛ بل يظن بزواله.

وبالجملة : فلا حاجة إلى جعل «النقض» مسندا إلى «المتيقن» حتى يقال بعدم صحة إسناده إليه إلا إذا كان المتيقن مما فيه اقتضاء البقاء والدوام ؛ لكونه أقرب المجازات إلى المعنى الحقيقي ؛ بل المسند إليه هو نفس اليقين الذي فيه معنى الإبرام والاستحكام ؛ لما في شرح الإشارات من أن «اليقين هو التصديق بطرف مع الحكم بامتناع الطرف الآخر ، ويعتبر فيه أمور ثلاثة : الجزم ، المطابقة ، والثبات». وعليه : فلا نظر إلى المتيقن حتى يعتبر فيه اقتضاء الدوام.

ويشهد لكون المصحح للإسناد هو اليقين نفسه لا متعلقه المقتضي للبقاء أمور :

أولها : ظهور القضية في ذلك لإسناد النقض فيها إلى نفس اليقين.

ثانيها : أنه لو كان مصحح إسناد النقض إلى اليقين قابلية المتيقن للبقاء لا إبرام اليقين لصح إسناده إلى الحجر الذي يقتضي ثقله بقاءه في مكانه ، بأن يقال : «نقضت الحجر من مكانه» أي : رفعته ، مع عدم صحته وركاكته بلا إشكال.

وعليه : فمصحح الإسناد ثبات اليقين واستحكامه لا غيره.

ثالثها : صحة إسناد النقض إلى اليقين مطلقا وإن تعلق بأمر لم يحرز اقتضاؤه للبقاء ، ولذا يصح أن يقال : «لا تنقض اليقين باشتعال السراج بالشك فيه» ، حتى إذا لم يحرز اقتضاؤه للبقاء ، كما إذا لم يعلم أن النفط الموجود في السراج كان ليترا واحدا أم نصف ليتر ، فعلى الأول : يكون السراج مشتعلا فعلا ، والشك في اشتعاله حينئذ ينشأ من احتمال رافع له كهبوب الرياح وغيرها ، وعلى الثاني : لا يكون مشتعلا ؛ لفناء الوقود.

وعليه : فلا موجب لجعل المنقوض هو المتيقن الذي فيه مقتضى البقاء والدوام ، بدعوى : كونه أقرب إلى المعنى الحقيقي أعني : الأمر المبرم الحسي ، فيتعين إرادته إذا دار الأمر بينه وبين إرادة مطلق رفع اليد عن شيء ولو لعدم المقتضى له. وذلك لما عرفت من : صحة إسناد النقض إلى نفس اليقين ؛ بل هو المتيقن لأنه ظاهر القضية كما عرفت ، وإذا كان الإسناد بلحاظ نفس اليقين لا المتيقن صحت دعوى عموم اعتبار الاستصحاب للشك في كل من المقتضى والرافع.

١٤٢

متعلقا بما ليس فيه اقتضاء للبقاء والاستمرار لما (١) يتخيل فيه من (٢) الاستحكام ، بخلاف الظن فإنه (٣) يظن أنه ليس فيه إبرام واستحكام وإن كان متعلقا بما فيه اقتضاء ذلك (٤) ، وإلا (٥) لصح أن يسند إلى نفس ما فيه المقتضي له ، مع ركاكة (٦) مثل : «نقضت الحجر من مكانه» ، ولما (٧) صح أن يقال : «انتقض اليقين باشتعال السراج»

______________________________________________________

هذا بعض الكلام في المادة. وأما الهيئة فسيأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى فانتظر.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) تعليل لحسن إسناد النقض إلى اليقين لا المتيقن ، وضمير «منه» راجع على اليقين ، وهذا شروع في مناقشة كلام الشيخ «قدس‌سره» ، وقد عرفت توضيح ما أفاده الشيخ «قدس‌سره».

(٢) بيان للموصول في «لما» وضمير «فيه» راجع على اليقين واستحكامه إنما هو لكونه أجلى أنحاء الإدراكات وأقوى مراتبها.

(٣) أي : فإن الظن لأجل تزلزله وعدم ثباته يظن بعدم استحكامه ، فلا يصح إسناد النقض إليه وإن كان المظنون مما فيه اقتضاء البقاء لو خلى وطبعه ، فلا يقال : «لا تنقض الظن بالوضوء بسبب الشك فيه» ؛ إذ لا إبرام في الظن وهو الرجحان التوأم مع احتمال الخلاف حتى يصح إسناد النقض إليه ، مع أن المظنون وهو الطهارة مما فيه اقتضاء البقاء.

وضمير «فإنه» للشأن ، وضميرا «أنه ، فيه» راجعان على الظن.

(٤) أي : اقتضاء البقاء ، واسم «كان» ضمير راجع على الظن.

(٥) أي : وإن لم يكن مصحح النقض ما في اليقين من الإبرام والاستحكام ـ بل كان المصحح له ما في المتيقن من اقتضاء الدوام والاستمرار ـ لكان استعمال النقض فيما فيه مقتضى البقاء صحيحا مع عدم صحته. وهذا هو الشاهد الثاني المتقدم بقولنا : «ثانيها : أنه لو كان مصحح إسناد النقض ...» الخ ، والضمير المستتر في «يسند» راجع على النقض.

(٦) بل لا يصح استعماله ؛ إذ المراد بنقض الحجر بقرينة «من مكانه» هو نقله إلى مكان آخر ، ومن المعلوم : عدم ورود النقض بمعنى النقل .. نعم ؛ إذا أريد به كسره وإبانة أجزائه فهو صحيح ، لكن لا يلائمه قوله : «من مكانه» ؛ لأن هذه الكلمة قرينة على إرادة النقل من النقض ، وهو غير معهود.

وبالجملة : فإن أريد بنقض الحجر كسره والفصل بين أجزائه كان بمعنى كسر الحجر ، وصحته حينئذ منوطة باستعمال أبناء المحاورة.

(٧) عطف على قوله : «لصح» ، وهذا هو الشاهد الثالث المتقدم بقولنا : «ثالثها : صحة إسناد النقض ...» الخ.

١٤٣

فيما إذا شك في بقائه للشك في استعداده (١) ، مع بداهة صحته وحسنه.

وبالجملة (٢) : لا يكاد يشك في أن اليقين كالبيعة والعهد إنما يكون حسن إسناد النقض إليه بملاحظته (٣) لا بملاحظة متعلقه ، فلا موجب (٤) لإرادة ما هو أقرب إلى الأمر المبرم أو أشبه بالمتين المستحكم مما فيه اقتضاء البقاء ، لقاعدة «إذا تعذرت (٥) الحقيقة فأقرب المجازات» ، بعد تعذر إرادة مثل ذاك الأمر (٦) مما يصح إسناد النقض إليه حقيقة.

فإن قلت (٧) : نعم ؛ ولكنه حيث لا انتقاض لليقين في باب الاستصحاب حقيقة ،

______________________________________________________

(١) أي : شك في بقاء الاشتعال من جهة الشك في استعداد السراج له ، فقوله : «للشك» متعلق ب «شك في بقائه».

(٢) هذه نتيجة ما أثبته من الشواهد الثلاثة على كون المسند إليه نفس «اليقين» وأن مصحح الإسناد هو إبرام اليقين وثباته واستحكامه في نفسه مهما كان متعلقه.

(٣) أي : بملاحظة اليقين ، وقد أسند النقض إلى العهد والبيعة لما فيهما من ثبات الوصلة ، فمنه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ)(١) و (لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها)(٢) وكذا في نقض البيعة. وضمير «إليه» راجع على اليقين.

(٤) يعني : بعد صحة إسناد النقض إلى نفس اليقين لا موجب لما ذكره الشيخ «قدس‌سره» من إرادة المتيقن ـ الذي فيه اقتضاء البقاء ـ من اليقين. وقد عرفت : أن أساس كلامه «قدس‌سره» كان على إثبات إسناد النقض إلى المتيقن ، وكون خصوص ما فيه استعداد البقاء أقرب إلى معنى النقض. لكنك عرفت أيضا : أنه لا أساس له ، وأن مصحح الإسناد هو استحكام اليقين ، لا متعلقه حتى يفصل بين ما فيه استعداد الدوام وغيره ، ومن المعلوم : أن وصف اليقين بما هو اعتقاد جازم لا يفرق فيه بين تعلقه بما يبقى في عمود الزمان وما لا يبقى ، فالمناط هو اليقين بما أنه مرتبة راسخة من العلم غير قابلة للزوال.

(٥) تعليل للمنفي وهو قوله : «إرادة كما نقص عليه الشيخ «قدس‌سره»».

(٦) أي : ذاك الأمر المبرم المحسوس.

(٧) المستشكل يريد إثبات مقالة الشيخ «قدس‌سره» من اختصاص حجية الاستصحاب بالشك في الرافع ، وعدم حجيته في الشك في المقتضي ، ولا يخفى أن

__________________

(١) الرعد : ٢٥.

(٢) النحل : ٩١.

١٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا الإشكال ليس تتمة لكلام الشيخ وإن كان مرتبطا بأصل دعواه ، وإنما هو إشارة إلى دليل آخر على اختصاص أخبار الاستصحاب بالشك في الرافع ، ذكره المصنف في حاشية الرسائل بقوله : «نعم ؛ يمكن تقريب دلالة الأخبار على الاختصاص بالشك في الرافع بوجه أدق وأمتن ، وهو : أنه قد عرفت : أن استعمال لفظ النقض فيها إنما هو بلحاظ تعلقه باليقين ، وقد عرفت أيضا : أنه لا يصح النهي عنه بحسبه إلا فيما إذا انحل اليقين حقيقة واضمحل كما هو في مورد قاعدة اليقين ، أو مسامحة كما في الشك في الرافع في مورد الاستصحاب ...» الخ. حاشية الرسائل ، ص ١٩٠.

وتوضيحه : أنه لا ريب في امتناع تعلق وصفي اليقين والشك بأمر واحد في زمان واحد لكونهما متضادين ، فلا بد من اختلاف زمانيهما أو متعلقيهما ، فإن اتحد المتعلق وتغاير زمان حصول اليقين والشك ـ بحيث تعذر اجتماعهما ـ كان مورد قاعدة اليقين ، كما إذا تيقن يوم الجمعة بعدالة زيد ثم شك يوم السبت في عدالته ؛ بنحو انتقض يقينه السابق بسبب سراية الشك إلى العدالة في يوم الجمعة.

وإن تعدد المتعلق واتحد زمان حصول الوصفين ؛ بأن تعلق اليقين بحدوث الشيء والشك في بقاء ذلك الحادث كان مورد الاستصحاب ؛ لاجتماع اليقين والشك زمانا في الاستصحاب ؛ لأنه في حال شكه في البقاء يكون متيقنا بالحدوث.

إذا عرفت هذا فاعلم : أن صحة إسناد النقض إلى اليقين في قوله «عليه‌السلام» : «لا تنقض اليقين بالشك» تتوقف على كون الشك ناقضا لليقين وهادما له حقيقة ؛ كنقض النوم مثلا للطهارة ، وهذا المعنى إنما يتصور في قاعدة اليقين ؛ لسراية الشك فيها إلى اليقين وانمحاء الصورة العلمية عن لوح النفس دون الاستصحاب ؛ لبقاء اليقين على حاله ، ضرورة : أن الشك في الاستصحاب يكون في البقاء دون الحدوث ، فالشك مجتمع مع اليقين لا ناقض له حتى يصح النهي عن نقضه به ، وحيث إن الشارع الأقدس طبّق هذه الجملة على الاستصحاب في مضمرة زرارة من اليقين بالوضوء والشك في انقضاضه بالخفقة والخفقتين ، فلا جرم يكون إسناد النقض إلى اليقين بعناية المجاز وهي : أن متعلق اليقين لما كان من شأنه البقاء لوجود مقتضيه كان كأنه متيقن البقاء في آن الحدوث ، فاليقين تعلق بحدوثه حقيقة وببقائه اعتبارا ، نظير ثبوت المقبول كالنطفة بثبوت القابل كالإنسان ، فإن ثبوت المقبول بالذات ثبوت للقابل بالعرض ، واليقين بالمقبول يقين بالقابل اعتبارا ، فذلك اليقين السابق بالحدوث ذاتا يقين ببقائه اعتبارا لأجل قابليته للبقاء ،

١٤٥

فلو لم يكن هناك اقتضاء البقاء في المتيقن لما (١) صح إسناد الانتقاض إليه بوجه ولو مجازا ، بخلاف ما إذا كان (٢) هناك ، فإنه (٣) وإن لم يكن معه أيضا (٤) انتقاض حقيقة ؛ إلّا (٥) إنه صح إسناده إليه مجازا ، فإن اليقين معه (٦) ، كأنه تعلق بأمر مستمر مستحكم قد انحل وانفصم بسبب الشك فيه من جهة الشك في رافعه.

______________________________________________________

والمفروض : أن اليقين بالبقاء قد ارتفع وتبدل بالشك وصح بالمسامحة أن يقال : إنه اضمحل ، ويصح حينئذ النهي عنه بحسب العمل.

وهذا بخلاف الشك في المقتضي ؛ لعدم انحلال اليقين فيه لا حقيقة ولا مسامحة.

والحاصل : أن اليقين في الاستصحاب وإن لم ينقض حقيقة ، فالإسناد لا يخلو من مسامحة ؛ إلا إنه فرق بين تعلق اليقين بما هو من شأنه البقاء والدوام وما ليس كذلك ، إذ في الأول يتعلق الشك بعين ما تعلق به اليقين ، فيقوى شباهته بما إذا انتقض اليقين حقيقة كما في قاعدة اليقين ، بخلاف الثاني ؛ إذ لا يصح أن يقال : لو لا الشك في الرافع لكان على يقين في البقاء.

هذا بيان ما أفاده المصنف هنا وفي الحاشية ، وقد عرفت : أنه وجه آخر لتخصيص أخبار الاستصحاب بموارد إحراز المقتضي والشك في الرافع ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٧ ، ص ١٠٢ ـ ١٠٣».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) جواب «لو لم يكن» ، وجملة الشرط والجواب جواب لقوله : «حيث لا انتقاض». ومحصله : أن إسناد النقض في باب الاستصحاب إلى اليقين ليس حقيقيا ؛ لبقاء اليقين بالحدوث على حاله ، والإسناد المجازي منوط بكون المتيقن مما يقتضي البقاء والدوام.

(٢) أي : إذا كان اقتضاء البقاء محرزا في المستصحب.

(٣) الضمير للشأن ، وضمير «معه» راجع على اقتضاء البقاء في المتيقن.

(٤) أي : كما إذا لم يكن من شأن المتيقن البقاء والاستمرار ، و «انتقاض» اسم «يكن» والتعبير بالنقض كما في الصحيحة أولى من التعبير بالانتقاض.

(٥) استدراك على قوله : «وإن لم يكن» ، وضمير «أنه» للشأن ، وضمير «إليه» راجع على اليقين ، يعني : أن مصحح الاستعمال المجازي في إسناد النقض إلى اليقين إنما يوجد في خصوص مورد إحراز المقتضي والشك في الرافع.

(٦) أي : مع اقتضاء المتيقن للبقاء ، وضمير «كأنه» راجع على اليقين.

١٤٦

قلت (١) : الظاهر أن وجه الإسناد هو لحاظ اتحاد متعلقي اليقين الشك ذاتا وعدم

______________________________________________________

(١) هذا جواب الإشكال : وقد ذكره في حاشية الرسائل بعد بيان الدليل المتقدم بما لفظه : «لكنك عرفت : أن الظاهر أن وجه إطلاق النقض وإسناده إلى اليقين في مورد الاستصحاب إنما هو بملاحظة اتحاد متعلقي اليقين والشك ذاتا ، وعدم ملاحظة تعددهما زمانا».

ومحصله : أن الإشكال المتقدم مبني على دخل الزمان في متعلقي اليقين والشك ، ضرورة : مغايرة المقيد بالزمان الأول للمقيد بالزمان الثاني ، فإن عدالة زيد يوم الجمعة ـ التي هي مورد اليقين ـ تغاير عدالته في يوم السبت ـ التي هي مورد الشك ـ ومن المعلوم : أن الشك في عدالته يوم السبت لا يوجب زوال اليقين بعدالته يوم الجمعة حتى يصح إسناد النقض إليه ، فلا بد من اعتبار مصحح للإسناد وهو ما تقدم من العناية والمسامحة.

لكن الظاهر إمكان الإسناد بعناية أخرى أقرب إلى أذهان العرف ، وهي تجريد الشك واليقين عن الزمان ولحاظ اتحاد متعلقيهما ، يعني إلغاء متعلق اليقين من حيث كونه حدوث الشيء ، ومتعلق الشك من حيث كونه بقائه ، فكأن هذين الوصفين تعلقا بذات واحدة وهي العدالة ، وحيث كان الملحوظ نفس المتعلق كان هذا المقدار كافيا في صحة إسناد النقض إلى اليقين ، ولا يبقى مجال تخصيص مفاد الأخبار بالشك في الرافع فقط.

ففي المثال المتقدم يصح أن يقال : «علمت العدالة ثم شك فيها» ، فبلحاظ اتحاد متعلقي اليقين والشك ذاتا يصح إسناد النقض إلى اليقين ، ويقال : «انتقض اليقين بعدالة زيد بالشك فيها ، سواء كان المتيقن مقتضيا للبقاء أم لا.

فإن قلت : إن إسناد النقض إلى اليقين حيث كان مجازيا على كل حال ، فمقتضى قاعدة «إذا تعذرت الحقيقة فأقرب المجازات أولى» هو حمل «النقض» على رفع اليد عن خصوص اليقين المتعلق بما فيه اقتضاء البقاء ؛ لكونه أقرب إلى المعنى الحقيقي من حمله على رفع اليد عن مطلق اليقين ؛ وإن تعلق بما ليس في ذاته اقتضاء الدوام ، وعليه : يختص اعتبار الاستصحاب بالشك في الرافع دون المقتضي ، فثبت مدعى الشيخ «قدس‌سره».

قلت : وإن كان ذلك أقرب ظاهرا ؛ إلا إن المدار في الأقربية إلى المعنى الحقيقي هو العرف لا العقل ، واليقين المتعلق بما فيه اقتضاء البقاء أقرب إلى المعنى الموضوع له اعتبارا لا عرفا ، لما عرفت من : كون النقض مسندا إلى نفس اليقين الذي هو أمر مبرم من دون لحاظ العرف لمتعلقه ، فلا يتفاوت في نظرهم بين كون متعلق اليقين مما فيه اقتضاء البقاء ، وبين كونه مما لم يكن فيه ذلك ، فالأقربية بنظر العقل لا توجب اختصاص حجية

١٤٧

تعددهما زمانا ، وهو (١) كاف عرفا في صحة إسناد النقض إليه واستعارته (٢) له بلا تفاوت في ذلك (٣) أصلا في نظر أهل العرف بين ما كان هناك اقتضاء البقاء وما لم يكن ، وكونه (٤) مع المقتضي أقرب بالانتقاض وأشبه لا يقتضي تعيينه لأجل قاعدة «إذا تعذرت الحقيقة» ، فإن (٥) الاعتبار في الأقربية إنما هو بنظر العرف (٦). لا الاعتبار ، وقد عرفت : عدم التفاوت بحسب نظر أهله ، هذا كله في المادة (٧).

______________________________________________________

الاستصحاب بالشك في الرافع ، بعد كون المناط في الأقربية نظر العرف المتبع في تشخيص مداليل الخطابات الشرعية كما لا يخفى.

ويشهد له : أن العرف لا يفهم من تشبيه زيد مثلا بالأسد إلا الشجاعة ، مع كونه أقرب عقلا إلى الحيوان المفترس هو الواجدية لجميع صفات الأسد ، لا خصوص الشجاعة التي هي إحدى صفاته.

(١) أي : اتحاد متعلقي اليقين والشك ذاتا كاف في صحة إسناد النقض إلى اليقين.

(٢) أي : استعارة النقض لليقين ، وهو عطف تفسيري على «صحة إسناد». ووجه الاستعارة تشبيه اليقين بالأمر المبرم المستحكم ، وإثبات أثره وهو الانفصام للمشبه ، فالمقصود من التشبيه : إثبات قابلية اليقين للانتقاض ، فيكون نظير «وإذا المنية أنشبت أظفارها».

(٣) أي : في صحة إسناد النقض إلى اليقين. والحاصل : أن تمام المناط في صحة إطلاق النقض على شيء هو إبرامه واقتضاؤه للبقاء ، سواء كان الشك فيه في المقتضي أم الرافع ، ويشهد له صحة إطلاق النقض في مورد انتفاء المقتضي كصحته عند وجود الرافع ، فيقال : «التيمم ينتقض عند وجدان الماء» ، كما يقال : «ينتقض بالحدث» ، بلا تفاوت بين الاستعمالين عرفا.

(٤) مبتدأ خبره «لا يقتضي» ، وضميره راجع على النقض وهو دفع توهم تقدم بيانه بقولنا : «فإن قلت : إن إسناد النقض ... قلت : وإن كان ذلك أقرب ..» الخ.

(٥) تعليل لقوله : «لا يقتضي» ، وقد تقدم تقريبه في قولنا : «قلت : وإن كان ...».

(٦) كما عرفت في تشبيه زيد بالأسد ، فإن المتبع في صحة الاستعمالات المجازية هو النظر العرفي دون الدقة العقلية.

(٧) أي : في مادة النقض ، وقد عرفت : أن كلمة «النقض» لا تصلح لأن تكون قرينة على تخصيص الاستصحاب بالشك في الرافع.

هذا تمام الكلام في إيراد المصنف ـ على الشيخ القائل بالتفصيل بين الشك في

١٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

المقتضي ، فلا يكون الاستصحاب حجة وبين الشك في الرافع ، فيكون حجة ـ من جهة مادة النقض.

وقد أشار إلى الإشكال على الشيخ «قدس‌سره» من جهة الهيئة بقوله : «وأما الهيئة» هذا ناظر إلى ما أفاده الشيخ من اقتضاء هيئة «لا تنقض» لتخصيص عموم «اليقين» بموارد الشك في الرافع بإرادة المتيقن من اليقين ، والمصنف يمنع هذه الدلالة. وتفصيله ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٧ ، ص ١٠٧» : أن قوله «عليه‌السلام» : «لا تنقض اليقين» وما هو بمنزلته يحتمل فيه وجوه أربعة :

أحدها : نقض نفس اليقين كما هو ظاهر القضية.

ثانيها : نقض آثار اليقين وأحكامه الشرعية.

ثالثها : نقض نفس المتيقن.

رابعها : نقض آثار المتيقن وأحكامه.

وعلى جميع التقادير : لا يمكن أن يراد بالنقض معناه الحقيقي الذي هو فعل اختياري.

أما بالنسبة إلى نفس اليقين : فلوضوح انتقاضه قهرا بعروض الشك ، فلا وجود لليقين حتى يصح النهي بنقضه ، ومن المعلوم : اعتبار كون الفعل المتعلق به الأمر أو النهي مقدورا للعبد ، وعدم صحة تعلق التكليف بغير المقدور.

وأما بالنسبة إلى أحكام اليقين : فلأن الحكم تابع لموضوعه وجودا وعدما ، فمع انتفاء الموضوع ينتفي الحكم أيضا ، وإلا يلزم الخلف والمناقضة كما قرر في محله ، فإذا فرض كون اليقين موضوعا لأحكام شرعية ، فلا محالة تنتفي بانتفائه ؛ كارتفاع وجوب التصدق إذا نذر ذلك ما دام متيقنا بحياة زيد ، وزال يقينه. مضافا إلى : أن حدوث الأحكام وبقاءها في يد الشارع ، فلا معنى لإبقاء العبد أحكام الشرع إلا بحسب العمل ، فوجوب البقاء على الحالة السابقة حكم شرعي أمره بيد الشارع ، ولكن العمل به وامتثاله من الأفعال الاختيارية للمكلف.

وأما بالنسبة إلى المتيقن كالوضوء والحياة وغيرهما : فلأن بقاء المتيقن في الخارج تابع لعلته المبقية ، فإن كانت هي باقية فهو باق ، وإلّا فلا ، فإبقاء المتيقن ليس فعلا اختياريا قابلا لتعلق التكليف به ، فإذا كان المتيقن هو الوضوء فبقاؤه منوط بعدم طروء الناقض واقعا ؛ لا بإبقاء المكلف له.

وأما بالنسبة إلى آثار المتيقن ؛ كجواز الدخول في الصلاة وغيرها مما يشترط فيه

١٤٩

وأما الهيئة : فلا محالة يكون المراد منها النهي عن الانتقاض بحسب البناء والعمل (١) لا الحقيقة ؛ لعدم (٢) كون الانتقاض بحسبها تحت الاختيار ، سواء كان

______________________________________________________

الطهارة : فلما تقدم في آثار المتيقن من عدم كون الأحكام الشرعية تحت قدرة المكلف واختياره.

وبالجملة : فالنقض الحقيقي غير مراد هنا قطعا ، سواء أريد باليقين نفسه كما هو ظاهر القضية ، أم المتيقن من باب المجاز في الكلمة ، أم آثار المتيقن بالإضمار وتقدير «آثاره» ؛ بأن يكون قوله «عليه‌السلام» : «لا تنقض اليقين» بمنزلة قوله : «لا تنقض آثار المتيقن» ، فيكون هنا مجازان أحدهما في الكلمة ؛ لأنه استعمل اليقين في المتيقن ، والآخر في الحذف وهو تقدير «الآثار» المضاف إلى اليقين الذي أريد به المتيقن.

وإذا ثبت عدم كون النقض حقيقيا على كل تقدير ، فلا محالة يراد به النقض من حيث العمل ؛ لأنه مما يمكن تعلق النقض به ؛ إذ مرجع عدم النقض حينئذ إلى عدم رفع اليد عن العمل السابق الواقع على طبق اليقين ، فكأنه قيل : «أبق عملك المطابق لليقين» وهذا المعنى قابل لتعلق الخطاب به ؛ لأنه في حال اليقين بالوضوء كان يصلي ويطوف ويمسّ كتابه المصحف مثلا ، وفي حال الشك يبقي هذه الأعمال.

ولا فرق في إرادة إبقاء العمل من «لا تنقض» بين إرادة المتيقن من «اليقين» ، وإرادة آثار اليقين ، وإرادة آثار المتيقن منه.

وقد ظهر من هذا البيان : أن الإبقاء من حيث العمل لا فرق فيه بين تعلق اليقين بما فيه اقتضاء البقاء وتعلقه بما ليس فيه ذلك ؛ لوضوح : صدق الإبقاء عملا في كلتا الصورتين على حد سواء في نظر العرف.

وعليه : فمن حيث الهيئة أيضا لا سبيل لاستفادة اختصاص حجية الاستصحاب بالشك في الرافع. هذا وقد اتضح أيضا : عدم الوجه في التصرف في «لا تنقض» بإرادة المتيقن من اليقين ، أو الإضمار بإرادة آثار اليقين كما ذكره الشيخ ، بناء منه على كون النقض محمولا على معناه الحقيقي لو بنى على أحد هذين التصرفين. وذلك لما عرفت من : عدم كون النقض حقيقيا على كل تقدير ، فلا يجدي التصرف المزبور في صحة حمل النقض على معناه الحقيقي.

(١) عطف تفسيري للبناء ، كما قد يعبر عنه أحيانا بالبناء العملي الذي هو المطلوب في الاستصحاب وسائر الأصول العملية ، دون البناء القلبي والالتزام النفساني.

وضمير «منها» راجع على «الهيئة» و «بحسب» متعلق ب «الانتقاض».

(٢) تعليل لقوله : «فلا محالة بكون ...» ، وضمير «بحسبها» راجع على الحقيقة.

١٥٠

متعلقا باليقين كما هو (١) ظاهر القضية ، أم بالمتيقن أم بآثار اليقين بناء (٢) على التصرف فيها بالتجوز (٣) أو الإضمار (٤) ، بداهة (٥) : أنه كما لا يتعلق النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه بنفس اليقين (٦) كذلك لا يتعلق بما كان (٧) على يقين منه ، أو أحكام (٨) اليقين ، فلا يكاد (٩) يجدي التصرف بذلك في بقاء الصيغة على حقيقتها ،

______________________________________________________

(١) أي : تعلق النقض باليقين ظاهر قوله : «لا تنقض اليقين» بحسب الوضع الأدبي ؛ يكون اليقين مفعولا ل «لا تنقض».

(٢) قيد لكل من «المتيقن ، وآثار اليقين» ، وهما الاحتمال الثالث والثاني من الاحتمالات الأربعة المتقدمة ، وضمير «فيها» راجع على القضية.

(٣) يعني : المجاز في الكلمة بإرادة المتيقن من اليقين.

(٤) بتقدير «الآثار» أي : آثار اليقين ، وهذا وما قبله من التجوّز تعريض بكلام الشيخ «قدس‌سره».

(٥) تعليل للتعميم الذي ذكره بقوله : «سواء كان متعلقا باليقين ...» الخ.

(٦) لانتقاضه قهرا بتبدله بالشك ، فلا معنى للنهي عن نقضه.

(٧) وهو المتيقن كالوضوء في الخارج تابع لعلته المبقية له بعدم طروء الناقض ؛ لا بإبقاء المكلف له.

(٨) عطف على «ما» الموصولة ، يعني : كذلك لا يتعلق النهي عن النقض بأحكام اليقين ؛ لأن الحكم الشرعي المترتب على اليقين ينتفي بزوال اليقين كما هو شأن انتفاء كل حكم بانتفاء موضوعه. ولا معنى للنهي عن نقضه حينئذ.

(٩) هذه نتيجة ما تقدم من أن الإبقاء من حيث العمل لا يفرق فيه بين تعلق اليقين بما من شأنه الدوام وبما ليس كذلك.

وفيه رد على كلام الشيخ «قدس‌سره» ، حيث إنه بعد بيان اختصاص النقض بما إذا كان الشك في الرافع ، قال ما لفظه : «ثم لا يتوهم الاحتياج إلى تصرف في اليقين بإرادة المتيقن منه ؛ لأن التصرف لازم على كل حال ، فإن النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه لا يتعلق بنفس اليقين على كل تقدير ؛ بل المراد : نقض ما كان على يقين منه وهو الطهارة السابقة ، أو أحكام اليقين».

فإن ظاهره إمكان إرادة النقض الاختياري إذا كان متعلقا بالمتيقن أو أحكام اليقين ، وعدم إمكان إرادته إذا تعلق بنفس اليقين.

لكن قد عرفت عدم إمكان إرادة النقض الاختياري مطلقا وإن تعلق بالمتيقن أو آثار

١٥١

فلا مجوّز له (١) فضلا عن الملزم (٢) ، كما توهم.

لا يقال : لا محيص عنه (٣) ، ...

______________________________________________________

اليقين ، فلا مجوز للتقدير أو الإضمار ؛ إذ المفروض : أن هذا التصرف لا يوجب حمل النقض على معناه الحقيقي حتى يجوز ارتكابه.

مضافا إلى : منع لزوم التصرف حتى لو صح به حمل النقض على حقيقته ، ووجه المنع دوران الأمر بين التصرف في الصيغة بإرادة النقض العملي. وفي اليقين بإرادة المتيقن أو آثار اليقين ، والتصرف في الهيئة أهون من ارتكاب المجاز في اليقين ؛ لعدم وجود علاقة تصحح استعمال اليقين في المتيقن.

هذا مع ما عرفت من : أن المناسب للنقض نفس اليقين بما هو أمر مبرم. والمشار إليه «بذلك» هو التجوّز أو الإضمار.

(١) أي : فلا مجوّز للتصرف بالتجوّز أو الإضمار ، وضمير «حقيقتها» راجع على الصيغة.

(٢) هذا إشكال آخر على الشيخ تقدم بقولنا : «مضافا إلى منع لزوم ...».

إلا أن يقال : بعدم ورود هذا الإشكال على الشيخ ؛ لأنه قال بعد عبارته المتقدمة : «وكيف كان ؛ فالمراد إما نقض المتيقن ، فالمراد بالنقض رفع اليد عن مقتضاه ، وإما نقض أحكام اليقين أي : الثابتة للمتيقن من جهة اليقين ، والمراد حينئذ : رفع اليد عنها ...» ، وهو يدل بوضوح على إرادة النقض العملي الذي هو فعل اختياري قابل لورود النقض عليه لا الحقيقي. نعم ؛ قد يوهم كلامه الأول إرادة النقض الحقيقي ، لكن لا بد من ملاحظة تمام كلامه لاستفادة مرامه «زيد في علوّ مقامه».

(٣) أي : لا محيص عن التصرف في متعلق النقض وإرادة نقض المتيقن.

وغرض المستشكل : تثبيت ما أفاده الشيخ من إرادة المتيقن من اليقين في قوله «عليه‌السلام» : «لا تنقض اليقين» ، وذلك لأن اليقين في الصحيحة ـ أعني اليقين بالوضوء ـ طريقي محض ، ضرورة : أن الآثار الشرعية من جواز الدخول في الصلاة وغيره تترتب على نفس الوضوء لا على اليقين به ، فلا أثر لليقين حتى يترتب عليه بنهي الشارع عن النقض ، وإنما يصح ذلك في اليقين الموضوعي الذي يترتب عليه شرعا آثار وأحكام ، لصحة الحكم ببقاء الأثر المترتب على اليقين بعد زواله.

ولكن المفروض : كون اليقين في مورد الصحيحة طريقيا محضا ، وعليه فهذا التصرف لازم لا أنه بلا ملزم.

١٥٢

فإن (١٤) النهي عن النقض بحسب العمل لا يكاد يراد بالنسبة إلى اليقين وآثاره ؛ لمنافاته (٢) مع المورد.

فإنه يقال : إنما يلزم (٣) لو كان اليقين ملحوظا بنفسه وبالنظر الاستقلالي ؛ لا ما إذا

______________________________________________________

(١) تعليل ل «لا محيص» وقد عرفت تقريبه بقولنا : «وذلك لأن اليقين في الصحيحة ...» الخ.

(٢) أي : لمنافاة النقض بحسب العمل مع مورد الصحيحة ، حيث يكون اليقين فيه طريقا محضا إلى الوضوء.

(٣) أي : إنما يلزم المنافاة مع المورد. وهذا دفع الإشكال ،

وحاصله : أن متعلق النقض وإن كان مفهوم اليقين الذي يقتضي الاستقلالية ، إلا إنه يكتسب الآلية والطريقية من مصاديقه الخارجية.

وبيانه : أن اليقين الخارجي بكل شيء يكون مغفولا عنه ؛ بحيث لا يرى المتيقن ـ بالكسر ـ إلا نفس المتعلق من دون التفات إلى الصورة الذهنية التي هي متعلق العلم حقيقة ؛ لكن المرئي وهو الصورة الذهنية ـ لمكان رؤية الخارج له ـ لا يرى إلا خارجيا ، نظير الصورة المنعكسة في المرآة ، فإن الرائي يرى نفسه وإن كان المرئي حقيقة هو ظله.

وبالجملة : فمصاديق اليقين كلها طرق وآلات لكشف متعلقاتها ، ولما كان وجود الطبيعي عين الأفراد ، فلا بد من كون الطبيعي كمصاديقه ليتحد معها وينطبق عليها ، فلا محالة تسري الآلية من المصاديق الخارجية إلى الطبيعي أعني اليقين الذي أسند إليه النقض ، فيكتسب اليقين الكلي من أفراده المرآتية والطريقية ، فيكون اليقين الكلي الذي يسند إليه النقض في ظاهر القضية ملحوظا طريقا. وبهذه العناية ينطبق نقض اليقين على المورد ، فكأنه قال : «لا تنقض المتيقن» ، وعلى هذا فالموضوع هو المتيقن لا اليقين.

ونظير المقام : النص الوارد في وجوب إعادة الصلاة على من استيقن أنه زاد فيها ، فإن الموضوع لوجوب الإعادة نفس زيادة الركن لا اليقين بها ، غاية الأمر : أن اليقين يوجب تنجزه.

ونظيره أيضا في المحاورات العرفية ما يقال : «إذا علمت بمجيء زيد فأكرمه» ، مع أن لب مراد المولى إكرام زيد على تقدير المجيء لا على العلم به ، وإنما يؤخذ العلم في الخطاب طريقا ومرآة لمتعلقه ، ولذا يقوم كل كاشف عن الواقع مقامه.

نعم ؛ قد يؤخذ اليقين موضوعا للحكم بحيث يكون هو تمام الموضوع أو جزؤه على تفصيل تقدم في مباحث القطع.

١٥٣

كان ملحوظا بنحو المرآتية وبالنظر الآلي كما هو (١) الظاهر في مثل قضية «لا تنقض» ، حيث تكون ظاهرة عرفا في أنها كناية عن لزوم البناء والعمل بالتزام (٢) حكم مماثل للمتيقن تعبدا إذا كان (٣) حكما ولحكمه (٤) إذا كان موضوعا ، لا عبارة عن لزوم العمل بآثار نفس اليقين بالالتزام بحكم مماثل لحكمه شرعا ، وذلك (٥) لسراية الآلية

______________________________________________________

قوله : «لا ما إذا كان ...» الخ عطف على «لو كان» ، واسم «كان» ضمير راجع على اليقين.

(١) أي : كون اليقين ملحوظا بنحو المرآتية هو الظاهر من قضية «لا تنقض اليقين» ، ولعله لأن الغالب في اليقين المأخوذ في الخطابات هو الطريقية ، وهذه الغلبة توجب الظهور في خلاف الموضوعية. أو بملاحظة مناسبة الحكم والموضوع في خصوص أخبار الاستصحاب ، فإنها خطابات ملقاة إلى العرف ، وليس مفادها عندهم ترتيب آثار اليقين ؛ بل ظاهرة في معنى كنائي وهو : جعل حكم مماثل تعبدا إذا كان المستصحب حكما شرعيا ، وجعل حكم مماثل لحكم المستصحب إذا كان موضوعا لحكم شرعي.

والوجه في هذا الظهور الكنائي : تعذر تعلق هيئة «لا تنقض» بنفس اليقين لانتفائه قهرا ، ولا بآثار اليقين ؛ لأنها أحكام عقلية غير قابلة للجعل التشريعي ، ولا نفس المتيقن ؛ لأنه إن كان حكما فبقاؤه وارتفاعه بيد الشارع لا بيد العبد ، وإن كان موضوعا لحكم شرعي فكذلك ؛ لأن بقاءه تابع لاستعداد ذاته للبقاء ؛ لا بيد المكلف حتى يبقيه. ويتعين حينئذ كون مفاد الجملة جعل حكم مماثل.

(٢) الأولى تعديته ب «على» ليصح تعلقه بكل من البناء والعمل ؛ لأنه لم يعهد تعدية البناء ـ بمعنى العمل ـ بالباء.

(٣) يعني : إذا كان المتيقن حكما كما في استصحاب الأحكام كالوجوب.

(٤) أي : ولحكم المتيقن إذا كان المستصحب من الموضوعات ذوات الآثار الشرعية كالحياة والعدالة والغنى والفقر وغيرها.

ولا يخفى : أن مدلول أخبار الاستصحاب أمر واحد وهو الكناية عن لزوم العمل بالمتيقن السابق تعبدا ، ولكن يختلف هذا البناء العملي باختلاف المستصحب ، فقد يكون إنشاء حكم مماثل لنفسه إن كان حكما ، وقد يكون إنشاء حكم لمثل حكمه إن كان المستصحب موضوعا ذا أثر شرعي ، فالاختلاف في مصاديق ذلك المكنّى عنه لا في نفس مفاد دليل الاستصحاب.

(٥) تعليل لقوله : «كما هو الظاهر» ، ودفع لتوهم تقدم بيانه.

١٥٤

من اليقين الخارجي إلى مفهومه الكلي ، فيؤخذ (١) في موضوع الحكم في مقام بيان حكمه ، مع عدم دخله (٢) فيه أصلا ، كما ربما يؤخذ (٣) فيما له دخل فيه أو تمام الدخل (٤) ، فافهم (٥).

______________________________________________________

ومحصل التوهم : أن الطريقية والاستقلالية من الحالات العارضة على اليقين المصداقي دون المفهومي ؛ لوضوح : أن مفهوم اليقين لا يكون مرآة حتى يلاحظ فيه المرآتية ، كما أن مفهوم المرآة لا يكون آلة للنظر والإراءة ؛ بل مصداقه الخارجي ، ومن الواضح : أن اليقين في قولهم «عليهم‌السلام» : «لا تنقض اليقين» قد استعمل في المفهومي منه ، فكيف يلاحظ مرآة للمتيقن؟ بل لا بد من إرادة الاستقلالي منه ، فيتوجه حينئذ إشكال المنافاة مع اليقين بالوضوء الذي هو مورد الرواية ؛ إذ لا ريب في إرادة الآلي من هذا اليقين.

وقد أجاب المصنف عنه بقوله : «وذلك لسراية» ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «ولما كان وجود الطبيعي عين الأفراد ...» الخ.

(١) أي : يؤخذ اليقين ـ في موضوع حكم الشارع بحرمة النقض ـ مثلا بلحاظ مرآتي ، ويكون تمام الموضوع ذات المتيقن ، وحيث إنه لم يستعمل هذا اليقين في أفراده التي يكون النظر إليه استقلاليا لكونها جزء موضوع الحكم أو تمام الموضوع ، كان النظر إلى هذا المفهوم الكلي أيضا آليا ؛ لسراية أحكام المصاديق إلى الطبيعي.

(٢) أي : عدم دخل اليقين في موضوع الحكم ؛ لكون الموضوع ذات المتيقن.

(٣) هذا عدل لقوله : «يؤخذ» أي : ربما يؤخذ اليقين في موضوع يكون لليقين دخل في الموضوع ، فتسري الاستقلالية من مصاديق ذلك اليقين إلى الكلي المأخوذ في لسان الدليل ؛ لأن اليقين المستعمل في الأفراد بلحاظ استقلالي يستعمل في المفهوم الكلي أيضا بلحاظ استقلالي.

(٤) إذا لم يكن للواقع المعلوم دخل في الحكم ؛ بل كان تمام الموضوع هو اليقين.

(٥) لعله إشارة إلى : أن مجرد سراية الآلية من اليقين الخارجي إلى اليقين المفهومي ، لا يوجب ظهور القضية عرفا في كون اليقين ملحوظا مرآة وطريقا إلى المتيقن.

نعم ؛ يكون ذلك وجها لصحة لحاظ الطريقية في اليقين المفهومي إذا اقتضت الضرورة لحاظ الآلية فيه. فدعوى ظهور مثل قضية «لا تنقض» في اليقين الطريقي لا تخلو عن الجزاف.

وعليه : فلا يمكن المساعدة على ما ذكره الشيخ «قدس‌سره» من إرادة المتيقن

١٥٥

ثم (١) إنه حيث كان كل من الحكم الشرعي وموضوعه مع الشك قابلا للتنزيل بلا تصرف (٢) وتأويل ، غاية الأمر : تنزيل الموضوع (٣) بجعل مماثل حكمه ، وتنزيل الحكم (٤) بجعل مثله ، كما أشير إليه آنفا (٥) كان (٦) قضية «لا تنقض» ظاهرة في

______________________________________________________

بالتصرف المزبور ، فتأمل جيدا. وتركنا ما في المقام من التطويل رعاية للاختصار.

(١) الغرض من هذا الكلام : إثبات عموم الصحيحة لحجية الاستصحاب في كل من الموضوع والحكم ، ببيان : أن اليقين في قولهم «عليهم‌السلام» : «لا تنقض اليقين بالشك» مطلق يشمل اليقين بكل من الموضوع والحكم ، ولم تقم قرينة على إرادة أحدهما بالخصوص ، فمقتضى إطلاق الدليل هو إرادة كل يقين ، سواء تعلق بالموضوع أم بالحكم. غاية الأمر : أنه إذا تعلق بالموضوع يكون مقتضى «لا تنقض» جعل حكم مماثل لحكمه ، وإذا تعلق بالحكم تكون قضيته جعل حكم مماثل لنفسه.

وهذا التعميم يستفاد من التعليل الوارد في الصحيحة ، الظاهر في كونه تعليلا بأمر ارتكازي عقلائي لا بأمر تعبدي.

ومورد الرواية وإن كان شبهة موضوعية ، حيث إن الشك في انتقاض الطهارة نشأ من احتمال تحقق النوم بالخفقة أو الخفقتين ، بعد العلم بأصل الحكم وهو ناقضية النوم لها ، إلا إنه لا يخصص عموم الوارد ، كما قرر في محله ، فالعبرة بعموم الوارد لا بخصوصية المورد كما هو واضح.

فالمتحصل : أن الاستدلال بهذه الصحيحة تام ومدلولها ؛ لاعتبار الاستصحاب في الموضوعات والأحكام.

(٢) يعني : بلا تصرف زائد على ما تقدم من حمل النقض على النقض العملي ؛ لتعذر إرادة النقض الحقيقي من «لا تنقض» على كل تقدير كما عرفت آنفا.

(٣) كاستصحاب الزوجية إذا شك في ارتفاعها بطلاق ونحوه ، فإن مقتضى هذا الاستصحاب جعل حكم مماثل لحكم الزوجية الواقعية كوجوب الإنفاق ظاهرا بالنسبة إلى المرأة المشكوكة زوجيتها ، فوجوب الإنفاق حال العلم بالزوجيّة حكم واقعي ، وحال إحرازها بالاستصحاب حكم ظاهري مماثل للواقعي.

(٤) كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة الثابت زمن حضوره «عليه‌السلام».

(٥) حيث قال : «بالتزام حكم مماثل للمتيقن تعبدا إذا كان حكما ...» الخ.

(٦) جواب «حيث كان» ، وهذا بيان عموم حجية الاستصحاب للشبهات الكلية والموضوعية ، وقد عرفت توضيحه.

١٥٦

اعتبار الاستصحاب في الشبهات الحكمية والموضوعية ، واختصاص (١) المورد بالأخيرة لا يوجب تخصيصها بها (٢) ، خصوصا بعد ملاحظة أنها قضية كلية ارتكازية قد أتى بها في غير مورد لأجل (٣) الاستدلال بها على حكم المورد ، فتأمل (٤).

______________________________________________________

(١) مبتدأ خبره «لا يوجب» أي : واختصاص المورد ـ وهو ناقضية الخفقة والخفقتين للوضوء ـ بالأخيرة وهي الشبهة الموضوعية لا يوجب تخصيص الوارد بالمورد كما عرفته آنفا.

(٢) أي : تخصيص قضية «لا تنقض» بالشبهة الموضوعية.

(٣) تعليل لقوله : «قد أتى» ، وضمير «بها» راجع على القضية الكلية الارتكازية ، وضمير «أنها» إلى قضية «لا تنقض».

(٤) لعله إشارة إلى : أن كون المورد من الشبهة الموضوعية مبني على جعل الطهارة من الأمور الخارجية التي كشف عنها الشارع.

وأما بناء على كونها من المجعولات الشرعية : فيكون المورد من الشبهة الحكمية ؛ لكن يبقى حينئذ سؤال عموم الصحيحة للشبهات الموضوعية ، وجوابه هو : دلالة «لا تنقض اليقين» على ذلك. هذا ما يتعلق بشرح كلمات المصنف حول أولى صحاح زرارة. وهناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ الكلام في الصحيحة الأولى من حيث السند والدلالة : فيقال : إنه لا إشكال فيها من حيث السند ؛ وإن كانت مضمرة إلا إن إضمارها لا يقدح في اعتبارها ؛ لأن الإضمار من مثل زرارة بمنزلة الإظهار ؛ إذ مثل زرارة لا يسأل غير المعصوم «عليه‌السلام». هذا مضافا إلى كونها مسندة إلى الإمام الباقر «عليه‌السلام» في كلام جملة من الأعلام.

٢ ـ وأما دلالة الرواية على حجية الاستصحاب فهي أيضا تامة في الجملة.

وتقريب الاستدلال بها على حجية الاستصحاب : يتوقف على مقدمة وهي : بيان الجزاء لقوله : «وإلا فإنه على يقين من وضوئه». أو لقوله : «فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم». والاحتمال الأول هو : مختار الشيخ الأنصاري ، حيث جعل الشرط «وإلا» أي : «وإن لم يستيقن أنه قد نام».

١٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

والاحتمال الثاني هو : مختار صاحب الكفاية ، حيث جعل الشرط «فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم».

وفي الجزاء على كلا الاحتمالين احتمالات ؛ إلا إن الحق أن يكون الجزاء محذوفا مستفادا من قوله «عليه‌السلام» : «لا» أي : لا يجب الوضوء ؛ ولكن على تقرير الشيخ قامت العلة ـ وهو قوله : «فإنه على يقين من وضوئه» ـ مقام الجزاء ، فيكون معنى الرواية : أنه إن لم يستيقن أنه قد نام فلا يجب الوضوء عليه ؛ لأنه كان على يقين من وضوئه في السابق. وبعد إهمال تقييد اليقين بالوضوء عن الوضوء ، وجعل العلة نفس اليقين لا اليقين بالوضوء ؛ يكون قوله «عليه‌السلام» : «ولا ينقض اليقين أبدا بالشك» بمنزلة كبرى كلية للصغرى المزبورة.

فالنتيجة هي : صحة الاستدلال بها على حجية الاستصحاب في جميع الأبواب لا في باب الوضوء فقط.

٣ ـ وأما احتمال كون الجزاء نفس قوله «عليه‌السلام» : «فإنه على يقين ...» ليكون اللام في «اليقين» في «لا ينقض اليقين بالشك» للعهد ؛ كي يختص اليقين غير المنقوض بالشك بباب الوضوء مردود : بأن الجملة الخبرية لا يصح وقوعها جزاء للشرط فيما نحن فيه ؛ لأن الشرط في الجزاء أن يكون مترتبا على الشرط ، وهذا الشرط مفقود في المقام ؛ لأن معنى «فإنه على يقين من وضوئه» وهو كونه سابقا على اليقين بالوضوء غير مترتب على الشرط أعني : «وإن لم يستيقن أنه نام» لوضوح : عدم كون ذلك اليقين معلولا لعدم العلم بالنوم ؛ بل هو معلول لأمر لا يرتبط بالشك بالنوم ، ولأجل عدم الترتب المزبور قال المصنف بعدم صحة جعله جزاء إلا بعد انسلاخه عن الخبرية إلى الإنشائية ؛ بأن يكون المراد : إنشاء وجوب العمل بالحالة السابقة ، وجعل الجملة الخبرية جملة إنشائية يحتاج إلى قرينة وهي منتفية في المقام مع ما فيه من التكلف.

٤ ـ وجعل الجزاء قوله : «ولا تنقض اليقين بالشك» ، وذكر جملة «فإنه على يقين» توطئة ومقدمة لبيان الجزاء ، والمعنى حينئذ : «وإن لم يستيقن أنه قد نام» ، «ولا تنقض اليقين بالشك» : مردود ؛ لكونه مخالفا للقواعد العربية من لزوم خلو الجزاء عن الواو الظاهرة في المغايرة المنافية لشدّة الارتباط والاتصال بين الشرط والجزاء ؛ لما عرفت من : ترتب الثاني على الأول ترتب المعلول على علته ، والواو ينافي هذا الترتب.

١٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

٥ ـ ردّ المصنف على الشيخ ـ ومن وافقه ـ القائل بالتفصيل بين الشك في المقتضي والشك في ـ الرافع حيث قال بحجية الاستصحاب في الثاني دون الأول.

واستدل الشيخ على اختصاص حجية الاستصحاب بالشك في الرافع تارة : بمادة «لا تنقض اليقين بالشك» ، وأخرى : بهيئته.

وأما الاستدلال بالمادة : فلأن معنى النقض الحقيقي هو رفع الهيئة الاتصالية الحسيّة الحاصلة في الأشياء وإبانة أجزائها كنقض الحبل والغزل.

ثم إذا تعذر حمله على المعنى الحقيقي : فلا بد من حمله على أقرب المجازات ، ومن المعلوم : أن الأقرب إلى المعنى الحقيقي هو رفع اليد عن الأمر الثابت الذي فيه اقتضاء البقاء في عمود الزمان ، ولازم ذلك : حجية الاستصحاب فيما إذا كان الشك من جهة الرافع بعد وجود المقتضي.

وأورد عليه المصنف «قدس‌سره» : بأن النقض الذي هو ضد الإبرام والإحكام إنما أسند إلى نفس اليقين ، الذي هو أمر مبرم وشيء مستحكم لكونه أقوى مراتب الإدراك ، فهو مما يعتقد ببقائه واستمراره ، بخلاف الظن فإنه لا يظن باستمراره ؛ بل يظن بزواله فيصح إسناد النقض إلى نفس اليقين من دون فرق بين الشك في المقتضي أو الرافع. ولازم ذلك : حجية الاستصحاب مطلقا.

٦ ـ وأما استدلال الشيخ بالهيئة على اختصاص حجية الاستصحاب بالشك في الرافع دون المقتضى : أن هيئة «لا تنقض اليقين» تقتضي تخصيص عموم اليقين بموارد الشك في الرافع بإرادة المتيقن من اليقين ، فتدل الرواية من حيث الهيئة على حجية الاستصحاب فيما إذا كان الشك في الرافع. والمصنف يمنع هذه الدلالة ؛ لأن النقض الحقيقي غير مراد قطعا ، سواء أريد باليقين نفسه كما هو ظاهر القضية ، أم المتيقن من باب المجاز في الكلمة ، أم آثار المتيقن ، أو تقدير آثاره.

وإذا ثبت عدم كون النقض حقيقيا على جميع التقادير : فلا محالة يراد به النقض من حيث العمل ، ومرجع هذا النقض حينئذ إلى عدم رفع اليد عن العمل السابق الواقع على طبق اليقين.

ثم الإبقاء من حيث العمل لا فرق فيه بين تعلق اليقين بما فيه اقتضاء البقاء ـ كما في الشك في الرافع ، وبين تعلقه بما ليس فيه ذلك ـ كما في الشك في المقتضي ـ لوضوح : صدق الإبقاء عملا في كلتا الصورتين على حدّ سواء في نظر العرف.

١٥٩

ومنها (١) : صحيحة أخرى لزرارة قال : «قلت له : أصاب ثوبي دم ...

______________________________________________________

وعليه : فمن حيث الهيئة أيضا لا سبيل لاستفادة اختصاص حجية الاستصحاب بالشك في الرافع.

٧ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو دلالة هذه الصحيحة على حجية الاستصحاب مطلقا.

(١) أي : ومن الأخبار الدالة على حجية الاستصحاب مطلقا : «صحيحة أخرى لزرارة».

وتقريب الاستدلال بهذه الصحيحة الثانية : يتوقف على مقدمة وهي بيان أمرين :

الأمر الأول : بيان ما فيها من الفروع بعنوان أسئلة وأجوبة.

الأمر الثاني : بيان ما يمكن الاستدلال بها على حجية الاستصحاب من تلك الفروع.

وأما الفروع : التي اشتملت الرواية عليها فهي ستة :

الفرع الأول : ما أشار إليه بقوله : «قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف» ، وهو سؤال عن حكم نسيان نجاسة الثوب في الصلاة بعد العلم بها ، وأجاب «عليه‌السلام» بوجوب غسل الثوب وإعادة الصلاة.

الفرع الثاني : ما أشار إليه بقوله : «قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه» ، وهو سؤال عن حكم العلم الإجمالي بنجاسة الثوب ؛ بأن علم إجمالا بأن النجاسة أصابت ثوبه ، وتفحص عنها ولم يظفر بها وصلى ثم رأى تلك النجاسة ، وأجاب «عليه‌السلام» بلزوم غسل الثوب وإعادة الصلاة ، فهذا السؤال الثاني سؤال عن حكم العلم الإجمالي بنجاسة الثوب والصلاة معها ، فأجاب «عليه‌السلام» بوجوب الإعادة ، وعدم الفرق بين العلم الإجمالي بالنجاسة والعلم التفصيلي بها بالنسبة إلى وجوب الإعادة.

وقد يشكل على هذه الفقرة من الرواية : بأن مثل زرارة كيف يتصور في حقه افتتاح الصلاة مع فرض التفاته إلى نجاسة ثوبه ، وفرض حصول القطع بعدم نجاسة الثوب بالفحص عنها بعيد ، وأبعد منه : عدم منجزية العلم الإجمالي بنظر زرارة ؛ لكن يندفع الإشكال بإمكان حمل فعل المسلم على الصحة هنا ، وأن زرارة افتتح الصلاة بوجه مشروع بأن غفل عن نجاسة ثوبه حين افتتاحها ، فصلى ثم وجدها ، ولا دافع لهذا الاحتمال كي يشكل الأمر.

الفرع الثالث : ما أشار إليه بقوله : «قلت : فإن ظننت» الخ ، وهو سؤال عن حكم رؤية النجاسة بعد الصلاة مع الظن بالإصابة قبلها ، بأن علم بطهارة ثوبه ثم ظن بأنه

١٦٠