دروس في الكفاية - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

والعلم (١) إجمالا بارتفاع بعضها ...

______________________________________________________

مقابل «ليس ارتفاعها» وضميرا «بقائها ، بتمامها» راجعان إلى «الشريعة» ، وقد عرفت : أن عدم بقائها بتمامها ليس هو معنى نسخ الشريعة ؛ إذ نسخها ظاهر في رفع تمامها ، بل عدم بقائها بتمامها يستفاد من الخارج كما مر آنفا. وهنا كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(١) هذا إشارة إلى ثاني الوجوه التي استدل المنكرون لحجية استصحاب عدم نسخ حكم من أحكام الشرائع السابقة ، ومرجع هذا الوجه إلى وجود المانع عن حجيته ، كما أن مرجع الوجه الأول إلى عدم المقتضي لها ؛ لاختلال ركنيه وهما اليقين والشك.

وتقريب هذه الوجه الثاني هو : أنه بعد تسليم وجود المقتضي وهو اليقين ، والشك في هذا الاستصحاب لا يجري أيضا ؛ لوجود المانع وهو : أنه ـ بعد البناء على كون نسخ شريعة رفع جملة من أحكامها وعدم بقائها بتمامها لا رفع تمامها ـ يحصل علم إجمالي بنسخ بعضها ، وحيث إن ذلك البعض غير معلوم لنا تفصيلا ، فهو مانع عن جريان الاستصحاب في كل حكم شك في نسخه ؛ لما ثبت في محله من عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي ؛ إما للمعارضة مع الاستصحاب في الطرف الآخر ، وإما لمنافاته لنفس العلم مع الغض عن المعارضة ، على اختلاف المسلكين في الشبهة المحصورة.

والحاصل : أن النسخ بالمعنى المزبور وإن لم يكن قادحا في وجود المقتضي وهو اليقين والشك ؛ لكنه يوجد مانعا عن جريان الاستصحاب ، وذلك المانع هو العلم الإجمالي بنسخ بعض أحكام الشريعة السابقة كما عرفت ، فإنه يمنع عن جريان.

وقد تعرض الشيخ «قدس‌سره» لهذا الوجه المانع عن حجية استصحاب عدم النسخ بقوله : «فإن قلت : إنا نعلم قطعا بنسخ كثير من الأحكام السابقة. والمعلوم تفصيلا منها قليل في الغاية ، فيعلم بوجود المنسوخ في غيره». والغرض من قوله «قدس‌سره» : «والمعلوم تفصيلا منها قليل» : عدم انحلال العلم الإجمالي بالنسخ بما علم تفصيلا نسخه من الأحكام ؛ لعدم كونه بمقدار المعلوم بالإجمال حتى ينحل به العلم الإجمالي ، ويصير الشك في نسخ غير المعلوم بالتفصيل بدويا موردا للاستصحاب.

وعليه : فمقتضى عدم انحلال العلم الإجمالي عدم جريان استصحاب عدم النسخ في كل حكم شك في نسخه ؛ لاحتمال كونه مما نسخ بهذه الشريعة ، فإن كل علم إجمالي منجز مانع عن جريان الاستصحاب في أطرافه كما أشرنا إليه آنفا.

٣٤١

إنما (١) يمنع عن استصحاب ما شك في بقائه (٢) منها فيما إذا كان من أطراف ما علم ارتفاعه إجمالا ؛ لا (٣) فيما إذا لم يكن من أطرافه ، ...

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى دفع إشكال مانعية العلم الإجمالي بالنسخ عن جريان استصحاب عدمه فيما شك في نسخه من أحكام الشرائع السابقة.

ومحصل ما أفاده في دفع الإشكال هو : أن تنجيز العلم الإجمالي حتى يمنع عن جريان الأصول في أطرافه منوط بأمرين :

أحدهما : كون مورد الأصل من أطرافه.

ثانيهما : عدم انحلاله بعلم تفصيلي ، فمع اختلال هذين الأمرين لا يكون العلم الإجمالي مانعا عن جريان الأصول في أطرافه. وهذا الأمر الثاني مفقود في المقام ، حيث إن العلم الإجمالي بالنسخ إنما يكون قبل مراجعة الأدلة ، وتمييز الناسخ من أحكامنا لأحكام الشريعة السابقة. وأما بعد المراجعة إليها وحصول العلم بالناسخ من أحكامنا لها لا يبقى في دائرة المشكوكات علم إجمالي بالنسخ حتى يمنع عن جريان استصحاب عدم النسخ فيها ؛ بل يكون الشك حينئذ في نسخ حكم بدويا.

وكيف كان ؛ فخروج المشكوكات من أطراف العلم الإجمالي ، سواء كان ابتداء أم بالانحلال يوجب جريان الأصل فيها بلا مانع ، إذ لا معارض له بعد وضوح عدم جريانه فيما علم تفصيلا حرمته ، وفيما نحن فيه يقال : إن المعلوم بالإجمالي من الأحكام المنسوخة هي التي ظفرنا بناسخها فيما بأيدينا من أحكام هذه الشريعة ، فإذا شك في نسخ حكم من أحكام الشرع السابق مما لم نعثر على ناسخه في هذه الشريعة كان ذلك خارجا عن دائرة العلم الإجمالي ، بمعنى : أنه لا علم لنا بوقوع النسخ في غير ما علم نسخه في شرعنا ، فلا موجب للمنع عن جريان استصحاب عدم النسخ فيه ؛ إذ الشك فيه بدوي ، وليس مقرونا بالعلم الإجمالي حتى يمنع عن جريان الأصل فيه.

(٢) أي : بقاء ما شك فيه من أحكام الشريعة السابقة.

(٣) هذا إشارة إلى أول شرطي تنجيز العلم الإجمالي المانع عن جريان الأصول في أطرافه ، وقد أشرنا إليه بقولنا : «أحدهما : كون مورد الأصل من أطرافه» ، ضرورة : أنه مع عدم كونه من أطراف العلم الإجمالي لا يكون الشك مقرونا بمنجّز حتى لا يجري فيه الأصل ؛ بل الشك فيه بدوي ، فيجري فيه الأصل بلا مانع ، مثلا : إذا كان العلم الإجمالي بالنسخ في خصوص أحكام العبادات لا يجري استصحاب عدم النسخ في حكم من أحكام العبادات ؛ لكونه من أطراف العلم الإجمالي. وأما إذا كان الحكم الذي شك في نسخه من أحكام المعاملات مثلا ، فلا مانع من جريان استصحاب عدم النسخ

٣٤٢

كما إذا (١) علم بمقداره تفصيلا ، أو في (٢) موارد ليس المشكوك منها ، وقد (٣) علم

______________________________________________________

فيما إذا شك في نسخ حكم من أحكام العبادات ؛ لكون الشك في نسخه بدويا لخروج مورده عن أطراف العلم الإجمالي. والضمير المستتر في «يكن» راجع على «ما شك» ، وضمير «أطرافه» راجع إلى «ما علم».

(١) بيان لعدم كونه من أطراف العلم الإجمالي ، وقد ذكر له صورتين :

إحداهما : وهي المقصود بقوله : «كما إذا علم» انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بالنسخ في جملة من الأحكام بمقدار المعلوم بالإجمالي ؛ بحيث لا يبقى في المشكوكات علم إجمالي ؛ بل الشك في نسخها بدوي.

ثانيتهما : عدم كون المشكوك فيه من أطراف العلم الإجمالي من ابتداء الأمر ، كما إذا كانت دائرة الأحكام المنسوخة ـ المعلومة إجمالا ـ في دائرة خصوص العبادات مثلا ؛ بحيث كان العلم الإجمالي بالنسخ متعلقا بأحكامها ، وكان النسخ في غيرها مشكوكا فيه بالشك البدوي. ففي كلتا الصورتين يجري استصحاب عدم النسخ بلا مانع ، حيث إن المانع عن جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي ـ سواء كان هو نفس العلم أم تعارض الأصول ـ مفقود هنا.

أما العلم : فلأن المفروض فقدانه في المشكوكات ، وأما الأصل : فلعدم جريانه فيما علم تفصيلا نسخه بالضرورة حتى يعارض الأصل الجاري في المشكوكات ، فعليه يجري استصحاب عدم النسخ في المشكوكات بلا مانع.

وبالجملة : فغرض المصنف «قدس‌سره» هو : أن الاستصحاب في أحكام الشرائع السابقة يجري بلا إشكال ؛ إذ العلم الإجمالي بنسخها بهذه الشريعة لا يصلح للمنع عنه ، إما لانحلاله وخروج المشكوكات عن أطرافه بسبب الانحلال ، وإما لخروج المشكوكات عن أطرافه ابتداء ؛ لكون المعلوم بالإجمال في غير المشكوكات.

(٢) معطوف على «بمقدار» يعني : أو علم النسخ إجمالا في موارد ليس كون المشكوك منها ، وهذا إشارة إلى الصورة الثانية المتقدمة بقولنا : «ثانيتهما : عدم كون المشكوك من أطراف العلم الإجمالي من ابتداء الأمر ...» الخ ، فكأن العبارة هكذا : «لا فيما إذا لم يكن من أطرافه» إما بالانحلال وهو المقصود بقوله : «كما إذا علم تفصيلا». وإما ابتداء وهذا مراده ظاهرا بقوله : «أو في موارد ليس المشكوك منها» ، فعدم كون الحكم المشكوك النسخ من أطراف العلم الإجمالي إما حقيقي وإما انحلالي.

(٣) هذا متمم لقوله : «أو في موارد ...» الخ ، وبيان للموارد التي ليس الحكم المشكوك منها.

٣٤٣

بارتفاع ما في موارد الأحكام الثابتة في هذه الشريعة.

ثم لا يخفى : أنه يمكن إرجاع ما أفاده شيخنا العلامة (١) «أعلى الله في الجنان

______________________________________________________

توضيحه : أن دائرة العلم الإجمالي بالنسخ إنما هي الأحكام الثابتة في هذا الشرع بالكتاب والسنة ؛ للقطع الإجمالي بارتفاع بعض أحكام الشرائع السابقة فيها ، وأما في غيرها فلا علم فيه بالنسخ ؛ بل هو مشكوك بدوي يجري فيه استصحاب عدم النسخ.

وأما في مورد العلم الإجمالي بالنسخ ـ وهو الأحكام الثابتة في شرعنا ـ فلا يجري فيه الاستصحاب ، إذ المفروض : ثبوت الحكم فيه في هذه الشريعة بالدليل ، وكون وظيفتنا العمل على طبقه ، فلا وجه لجريان استصحاب عدم النسخ فيه. وعليه : فيجري الاستصحاب في الأحكام التي شك في نسخها بلا معارض ؛ لكون الشك فيها بدويا ، إذ المفروض : خلوها عن العلم الإجمالي.

فغرض المصنف «قدس‌سره» : أن مشكوك النسخ خارج عن أطراف العلم ، حيث إن أطرافه هي خصوص موارد الأحكام الثابتة في شرعنا المعلومة عندنا بالدليل ، فالمشكوكات خارجة عن أطرافه من أول الأمر. والعلم بارتفاع الأحكام السابقة يمنع عن جريان الاستصحاب فيها ؛ لما عرفت من : وجوب العمل بما ثبت في هذه الشريعة على كل حال ، ولا أثر لاستصحاب عدم النسخ فيه. هذا كله بناء على إرادة خروج المشكوك النسخ من أول الأمر عن أطراف العلم الإجمالي بالنسخ ، على أن يكون قوله : «في موارد» معطوفا على قوله : «بمقداره» ، فيكون الخروج إما بالانحلال وإما بعدم كونه من أطراف العلم حقيقة كما بيّناه.

وتركناه ما في بعض التعاليق من الاحتمال رعاية للاختصار.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) غرضه : توجيه ما أفاده الشيخ «قدس‌سره» من الجواب الثاني عن إشكال تغاير الموضوع المانع عن جريان استصحاب عدم النسخ في حقنا ؛ إذ الحكم الثابت في حق جماعة ـ وهم أهل الشرائع السابقة ـ لا يمكن إثباته في حق آخرين لتغاير الموضوع.

وأما عبارة الشيخ في الجواب الثاني فهي : «وثانيا : أن اختلاف الأشخاص لا يمنع عن الاستصحاب ، وإلا لم يجر استصحاب عدم النسخ.

وحله : أن المستصحب هو الحكم الكلي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه ؛ إذ لو فرض وجود اللاحقين في السابق عمهم الحكم قطعا (١).

__________________

(١) فرائد الأصول ٣ : ٢٢٦.

٣٤٤

مقامه» في الذب (١) عن إشكال تغاير الموضوع في هذا الاستصحاب (٢) من الوجه الثاني (٣) إلى ...

______________________________________________________

وحاصله : أن الموضوع للأحكام مطلقا سواء كانت من الشرائع السابقة أم هذه الشريعة هو كلي المكلف الصادق على الموجودين في زمان تشريع الأحكام والمعدومين ؛ لأن هذا الكلي ينطبق على الجميع من الموجود والمعدوم بوزان واحد ، فإذا شك في بقاء حكم من أحكام الشرائع السابقة صح استصحابه ، لوحدة الموضوع.

وأما توجيه المصنف لهذا الجواب فمحصله : أنه لما كان ظاهر كلام الشيخ ثبوت الحكم للكلي بنحو القضية الطبيعية ـ التي يكون الموضوع فيها نفس الطبيعة ك «الإنسان نوع أو كلي» أو غيرهما من المعقولات الثانية المحمولة على الطبائع ؛ بحيث لا تكون الأفراد ملحوظة فيها ؛ لعدم حظ لها من هذه المحمولات ، حيث إن الأفراد لا تتصف بالكلية والنوعية ونحوهما ـ ولم يكن إرادة هذا الظاهر في المقام ، ضرورة : أن البعث والزجر وكذا ما يترتب على إطاعتهما وعصيانهما من الثواب والعقاب إنما هي من الآثار المترتبة على الأفراد دون الكلي نفسه ، أي : من دون دخل للأشخاص فيها كما في مالكية كلي الفقير للزكاة ، والوقف على العناوين الكلية كعنوان الزائر والفقيه ونحوهما من الكليات التي لا تلاحظ فيها خصوصيات الأفراد ، في قبال الوقف على الجهات الخاصة كالوقف على الذرية حيث إن الملحوظ فيها هو الأفراد الخاصة ، ألجأنا ذلك إلى ارتكاب خلاف الظاهر في كلام الشيخ بإرادة القضية الحقيقية منه حتى يسلم من هذا الإشكال ، لا القضية الطبيعية التي عرفت حالها.

(١) متعلق ب «ما أفاده». وقد تكرر مثل هذا التعبير من المصنف «قدس‌سره» والصواب أن يقال : «في ذب الإشكال» أي : دفعه.

(٢) أي : استصحاب عدم نسخ أحكام الشرائع السابقة ، وإشكال تغاير الموضوع هو الذي جعله الفصول من الوجوه المانعة عن جريان استصحاب تلك الشرائع ، حيث إن الموضوع لتلك الأحكام خصوص تلك الأمم ، وليس أهل هذه الشريعة موضوعا لها ومخاطبا بها ، فأول ركني الاستصحاب ـ وهو اليقين بالثبوت ـ مختل ، وقد تقدم توضيحه سابقا.

(٣) هذا بيان ل «ما» الموصول في قوله : «ما أفاده». والوجه الثاني هو الجواب الثاني الذي ذكره الشيخ عن إشكال تغاير الموضوع بقوله : «وثانيا : أن اختلاف الأشخاص لا يمنع عن الاستصحاب وإلّا لم يجر ...» الخ. وقد تقدم نقله عند شرح كلام المصنف «ثم لا يخفى أنه يمكن ...».

٣٤٥

ما ذكرنا (١) لا ما يوهمه ظاهر كلامه من (٢) أن الحكم ثابت للكلي ، كما أن الملكية له (٣) في مثل باب الزكاة والوقف العام ، حيث لا مدخل للأشخاص فيها (٤) ، ضرورة (٥) : أن التكليف والبعث أو الزجر لا يكاد يتعلق به ...

______________________________________________________

(١) من كون الأحكام الشرعية من قبيل القضايا الحقيقية لا ما يوهمه ظاهر الشيخ من كون الأحكام الشرعية من قبيل القضايا الطبيعية التي تكون موضوعاتها نفس الطبائع ، ومحمولاتها المعقولات الثانية كالجنسية والنوعية والكلية ، مثلا : «الإنسان نوع» قضية طبيعية بمعنى : أن الحكم ثابت لنفس الطبيعة ، ولا يسري إلى الأفراد أصلا ؛ لعدم صحة حمل الكلية والنوعية على زيد وعمرو وغيرهما من أفراد الإنسان.

(٢) بيان ل «ما» الموصول في قوله : «ما يوهمه» ، وقد عرفت توضيحه ، وإن ظاهر كلام الشيخ إرادة القضية الطبيعية.

(٣) أي : للكلي ، و «له» خبر ل «أن» يعني : «كما أن الملكية ثابتة للكلي في مثل باب الزكاة ...» الخ.

(٤) أي : في الملكية. استشهد بهذا على ثبوت الحكم الكلي ببيان : أن وزان جعل الأحكام للمكلفين وزان جعل الزكاة للفقراء ، والوقف على العناوين الكلية كالزوار والفقهاء ونحو ذلك ، فإن الملحوظ فيه هو الكلي دون الأفراد ، ولذا لا يملك أفراد كلي الفقير والفقيه والزائر الزكاة وعوائد الوقف إلّا بالقبض ، ولو كان المالك هي الأفراد لجاز لهم أخذهما تقاصا ممن هما عليه ويمتنع عن أدائهما. ومن المسلّم عدم جوازه إلّا إذا أذن لهم وليهم وهو الحاكم الشرعي في التقاص.

ثم إن ما استظهره المصنف هنا من كلام الشيخ من إرادة تعلق الحكم بالكلي من دون سراية إلى الأفراد أفاده في الحاشية أيضا بقوله : «وبعبارة أخرى : أن المستصحب هو الحكم الكلي الثابت للعناوين الباقية ولو بالأشخاص المتبادلة ، دون نفس الأشخاص كي يلزم تعدد الموضوع بمجرد ذلك ، فالموضوع هنا كالموضوع في الأوقات كالفقير والطلبة وغيرهما» ، ولم يورد المصنف عليه بشيء ، وظاهره تسليم جواب الشيخ بناء على إرادة تعلق الحكم بالكلي بلا سراية إلى الأفراد. ومن المعلوم : مغايرة هذا التوجيه لما أفاده في المتن من حمل كلام الشيخ على إرادة القضية الحقيقية ، ولعله «قدس‌سره» عدل عما ذكره في الحاشية ؛ لوضوح : كون الخطابات الشرعية من القضايا الحقيقية.

(٥) تعليل لإمكان إرجاع كلام الشيخ إلى ما ذكره المصنف «قدس‌سره» من إرادة القضية الحقيقية.

٣٤٦

كذلك (١) ؛ بل لا بد (٢) من تعلقه بالأشخاص ، وكذلك الثواب أو العقاب المترتب على الطاعة أو المعصية (٣).

وكأن غرضه (٤) من عدم دخل الأشخاص عدم دخل أشخاص ...

______________________________________________________

وحاصل التعليل الذي تقدم بيانه بقولنا : «وأما توجيه المصنف لهذا الجواب فمحصله : أنه لمّا كان ظاهر كلام الشيخ ...» الخ. هو : أنه لا يمكن إرادة القضية الطبيعية هنا لامتناع تعلق التكليف بعثا وزجرا بالطبيعة ؛ إذ لا يعقل انبعاثها وانزجارها. وكذا ما يترتب عليهما من الثواب والعقاب ، فإن كل ذلك من آثار أفراد الطبيعة ووجوداتها ، لا نفس الطبيعة من حيث هي ؛ إذ لا معنى لبعثها وزجرها من دون دخل للأشخاص فيها ، فامتناع تعلق التكليف بها وكذا ما يتبعه من الثواب والعقاب المترتبين على الإطاعة والعصيان يلجئنا إلى إرجاع ظاهر كلام الشيخ وهو القضية الطبيعية إلى القضية الحقيقية.

هذا مضافا : إلى أن الملاكات الداعية إلى تشريع الأحكام قائمة بوجودات الطبيعة لا بالطبيعة من حيث هي كما هو واضح.

(١) يعني : بحيث لا يكون للأشخاص دخل في التكليف وما يتبعه. وضمير «به» راجع إلى الكلي.

(٢) إضراب على قوله : «لا يكاد» يعني : لا يكاد يتعلق التكليف بالكلي بما هو كلي ، بل لا بد من تعلقه بالأشخاص أي : أفراد الكلي الموجودة خارجا.

(٣) إذ لا معنى لإطاعة الطبيعة وعصيانها بعد كونهما من الأفعال الاختيارية التي لا تصدر إلّا من فاعل موجود خارجي ، ولا يعقل صدورها من الطبيعة من حيث هي مع الغض عن وجودها خارجا ، فإن وزان الإطاعة والعصيان وزان سائر الأفعال الإرادية كالبيع والصلح والهبة ونحوها من الأفعال الصادرة من الأشخاص.

(٤) يعني : وكأن غرض الشيخ «قدس‌سره». وهذا تقريب التوجيه.

بيانه : أن غرض الشيخ من عدم دخل الأشخاص عدم دخل خصوص الأشخاص الموجودين في زمان تلك الشرائع ، لا مطلقا حتى تكون القضية طبيعية.

ويرد عليه الإشكال المتقدم ، فالمقصود حينئذ : أن الحكم ليس مختصا بالأشخاص الموجودين ؛ بل يعم جميع الأفراد من الموجودين والمعدومين ، وهذا هو القضية الحقيقية ، حيث إنها عبارة عن قضية يكون موضوع الحكم فيها الأفراد النفس الأمرية ، سواء كانت محققة أم مقدرة ، فمعنى قولنا : «كل جسم مركب» ، أو «كل مستطيع يجب عليه الحج» ، أو «كل مالك لأربعين من الغنم يجب عليه الزكاة» هو : أن كل ما وجد وصدق

٣٤٧

خاصة (١) ، فافهم (٢).

وأما ما أفاده من الوجه الأول (٣) ، فهو وإن كان وجيها بالنسبة إلى جريان

______________________________________________________

عليه أنه جسم صدق عليه أنه مركب ، أو كل من وجد وصدق عليه أنه مستطيع أو مالك لأربعين غنما وجب عليه الحج أو الزكاة.

(١) وهم الموجودون في زمان تلك الشرائع مثلا حتى لا تصير القضية خارجية كما توهمه الخصم.

(٢) لعله إشارة إلى إمكان إبقاء كلام الشيخ على ظاهره من إرادة القضية الطبيعية ، وصحة تعلق التكليف بالكلي كصحة تعلق الوضع كالملكية به ؛ لأنه بعيد ؛ بل ممنوع ، لوضوح الفرق بين التكليف والوضع ، حيث إنه لا يعقل تعلق البعث والزجر والإطاعة والعصيان بالكلي من حيث هو ، مع الغض عن الأفراد بخلاف الوضع كالملكية ، فإنه لا مانع من تعلقه بالكلي ؛ إذ ليس فيه شيء من البعث وغيره مما ذكر ، ولذا يصح اعتبار الملكية للميت ، بخلاف التكليف ، فإنه يسقط عن الشخص بمجرد موته ويبقى عليه الوضع على ما ثبت في محله.

أو إشارة إلى فساد تنظير المقام بمالكية كلي الفقير للزكاة ؛ وذلك لثبوت التكليف على الأشخاص بمجرد انطباق الكلي عليهم بلا توقفه على شيء ، بخلاف مالكية الفقير للزكاة ؛ لعدم كفاية مجرد انطباق كلي الفقير عليه في مالكيته لها ؛ لتوقفها على القبض ، مع أن غرض الشيخ «قدس‌سره» : ثبوت التكليف لنا كثبوته لهم بمجرد انطباق كلي المكلف علينا ، والمفروض : عدم التفاوت في الانطباق المزبور.

أو إشارة إلى صعوبة هذا التوجيه وبقاء الإشكال على ظاهر كلام الشيخ. وهناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(٣) وهو الجواب الأول الذي أفاده الشيخ عن إشكال صاحب الفصول «قدس‌سرهما» بقوله : «وفيه : أنا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين ، فإذا حرم في حقه شيء سابقا وشك في بقاء الحرمة في الشريعة اللاحقة فلا مانع عن الاستصحاب أصلا ...» الخ.

وحاصله : أنه بناء على كون القضية خارجية ـ كما أفاده صاحب الفصول ـ يكون الموضوع وهو المدرك للشريعتين واحدا ، فلا مانع من جريان استصحاب عدم النسخ في حقه.

قوله : «فهو ...» الخ جواب «وأما» وإشكال على ما أفاده الشيخ.

٣٤٨

الاستصحاب في حق خصوص المدرك للشريعتين (١) ؛ إلّا إنه (٢) غير مجد في حق غيره من المعدومين ، ولا يكاد (٣) يتم الحكم فيهم بضرورة اشتراك أهل الشريعة

______________________________________________________

ومحصل الإشكال : أن هذا الجواب أخص من المدعى وهو حجية استصحاب عدم النسخ مطلقا في حق الجميع لا خصوص مدرك الشريعتين كما أفيد ، ولا يجدي تعميم الحكم في المعدومين بما أفاده «قدس‌سره» من قيام الضرورة على اشتراك أهل الزمان الواحد في الشريعة الواحدة ؛ وذلك لأن قاعدة الاشتراك سواء كانت جارية في حق أهل شريعة واحدة أم أهل شريعتين مشروطة بوحدة الموضوع والاتحاد في الصنف ، فمع انتفاء هذا الشرط لا تجري القاعدة في حق المعدومين وإن كانوا مع الموجودين من أهل شريعة واحدة ، فضلا عن أهل شريعتين ، والمفروض : انتفاء هذا الشرط في المقام ؛ لأن مقتضى ما أفاده الشيخ من اختصاص اليقين السابق بمدرك الشريعتين بناء على القضية الخارجية التي هي مبنى جوابه الأول بقوله : «أنا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين ...» الخ وهو عدم اليقين بالثبوت للمعدومين ، وهذا يوجب التغاير بينهما ، حيث إن المعدومين بناء على القضية الخارجية ليس لهم يقين بالثبوت ؛ لاختصاص اليقين به بمدرك الشريعتين ، والمفروض : أن الحكم الاستصحابي مختص بموضوعه وهو «من كان على يقين فشك» ، ولا يثبت في حق من لا يقين ولا شك له.

وبالجملة : فقاعدة الاشتراك لا تجري هنا لعدم الاشتراك في الموضوع حتى يجري الاستصحاب في حق المعدومين. وكذا لا يجري في حقهم ما استصحبه مدرك الشريعتين من الحكم ؛ لاختصاص الحكم الظاهري بموضوعه وهو من جرى في حقه الأصل العملي دون غيره ممن لا يجري في حقه ؛ لعدم كونه موضوعا له كالمعدومين ، فإنه لا يقين لهم بالثبوت كما لا شك لهم في البقاء حتى يجري الاستصحاب في حقهم.

(١) إذ المفروض : تحقق ركني الاستصحاب من اليقين والشك بالنسبة إليه.

(٢) يعني : إلّا إن ما أفاده في مدرك الشريعتين غير مجد في حق غيره من المعدومين ، وهذا إشارة إلى إشكال الأخصية من المدعى.

(٣) هذا إشارة إلى ضعف الوجه الذي تمسك به الشيخ لتتميم الحكم في المعدومين من قاعدة الاشتراك ، وقد عرفت تقريبه بقولنا : «ولا يجدي تتميم الحكم في المعدومين بما أفاده ...» الخ. وضمير «فيهم» راجع إلى المعدومين ، والمراد بالحكم في قوله : «يتم الحكم» هو الحكم المستصحب. وقوله : «لضرورة» متعلق ب «يتم».

٣٤٩

الواحدة أيضا (١) ضرورة (٢) : أن قضية الاشتراك ليس إلّا أن الاستصحاب حكم كل من كان على يقين فشك ؛ لا أنه (٣) حكم الكل ولو من لم يكن كذلك بلا شك ، وهذا (٤) واضح.

______________________________________________________

(١) يعني : كعدم تمامية الحكم للمعدومين بالاستصحاب.

وغرضه : أنه كما لا يثبت الحكم للمعدومين بالاستصحاب ؛ لعدم اليقين لهم الذي هو أول ركني الاستصحاب ، كذلك لا يثبت لهم بقاعدة الاشتراك وإن زعمه الشيخ.

(٢) تعليل لقوله : «ولا يكاد يتم الحكم» ، وقد تقدم تفصيله آنفا بقولنا : «وذلك لأن قاعدة الاشتراك سواء كانت جارية ...» الخ وإجماله كما في حاشيته على الرسائل أيضا هو : «أن قضية قاعدة الاشتراك ليست إلّا إن الاستصحاب حكم من كان على يقين فشك يكون حكم الكل ولو من لم يكن على يقين منه».

وحاصله : أن قاعدة الاشتراك لا تقتضي اعتبار الاستصحاب في حق المعدومين كاعتباره في حق الموجودين ؛ إذ يعتبر في جريان قاعدة الاشتراك الاتحاد في الصنف كما عن الوحيد البهبهاني «قدس‌سره» ، ومن المعلوم : تقوّم الاستصحاب كغيره من الأصول العملية بموضوعه وهو اليقين بالثبوت والشك في البقاء ، وذلك مفقود في المعدومين بناء على القضية الخارجية كما هو مبنى أول جوابي الشيخ عن إشكال صاحب الفصول ؛ إذ الاحتياج إلى قاعدة الاشتراك لإتمام المدعي إنما هو في الجواب النقضي الذي تعرض له بقوله : «أنا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين ...» ، دون الجواب الحلي المبني على القضية الطبيعية أو الحقيقية ؛ إذ بناء على الجواب الحلي لا حاجة إلى قاعدة الاشتراك ، حيث إن للمعدومين أيضا يقينا وشكا كالموجودين فيجري في حقهم الاستصحاب بلا إشكال.

(٣) أي : لا أن الاستصحاب ، يعني : أن مقتضى الاشتراك ليس إلّا إن للاستصحاب حكم المتيقن والشاك ، لا أن الاستصحاب حكم الكل ولو من لم يكن متيقنا وشاكا كما هو المفروض في المعدومين.

وعليه : فلا يمكن تتميم المدعى وهو جريان الاستصحاب في حق المعدومين بقاعدة الاشتراك.

(٤) أي : وكون الاستصحاب متقوّما باليقين والشك وعدم جريانه في حق غير المتيقن والشاك واضح. هذا تمام الكلام في التنبيه السادس.

٣٥٠

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ الغرض من هذا التنبيه السادس هو : تعميم حجية عدم النسخ بالنسبة إلى كل حكم إلهي بلا فرق بين هذه الشريعة والشرائع السابقة.

محل الكلام ما لم يكن هناك دليل على الحكم نفيا وإثباتا ، ثم استصحاب عدم النسخ يتوقف على فرض أمرين : فقدان الإطلاق الأزماني لدليل الحكم ، وثبوت الحكم في الشريعة السابقة بنحو القضية الحقيقية لعامة المكلفين لا لخصوص تلك الأمة.

أما الأمر الأول : فلأنه لو كان لدليل الحكم إطلاق كان هو المرجع عند الشك في النسخ لا الاستصحاب.

وأما الأمر الثاني : فلأنه مع ثبوته للمكلفين بنحو القضية الخارجية لا يجري فيه الاستصحاب ؛ لاختلاف الموضوع ، وحينئذ : يكون من تسرية حكم الموضوع إلى موضوع آخر ، وهو أجنبي عن الاستصحاب.

٢ ـ يقع الكلام في أنه هل تستصحب أحكام الشرائع السابقة أم لا؟

فيه خلاف ، واختار المصنف وفاقا للشيخ استصحاب أحكام الشريعة السابقة ، وذلك لتمامية أركان الاستصحاب من اليقين والشك ، وخالف فيه جمع كالمحقق وصاحبي القوانين والفصول.

٣ ـ واستدل المنكرون لحجية استصحاب عدم النسخ في أحكام الشرائع السابقة بوجوه :

منها : عدم وجود المقتضى لاستصحاب عدم النسخ ، وذلك لاختلال أحد ركنيه من اليقين السابق أو الشك اللاحق.

أما الأول : فإن من ثبت في حقه الحكم يقينا قد انعدم ، والمكلف الموجود الشاك في النسخ لم يعلم ثبوت الحكم في حقه من الأول لاحتمال نسخه.

وأما الثاني : أعني : اختلال الركن الثاني وهو الشك في البقاء : فلأن الشك في البقاء الذي هو مورد الاستصحاب مفقود في أحكام الشرائع السابقة ؛ للقطع بارتفاعها بعد ورود هذه الشريعة ، فإنها ناسخة لها ، ومع هذا القطع يختل ما هو قوام الاستصحاب أعني : الشك في البقاء.

٤ ـ والجواب عن هذا الوجه : أن اختلال اليقين مبني على أن يكون تشريع الشريعة

٣٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

السابقة لأهلها بنحو القضية الخارجية ، فتختص تلك الأحكام بالأفراد الموجودين حال تشريعها ، فلا يقين لأهل الشريعة اللاحقة بثبوت تلك الأحكام لهم ، وليس الأمر كذلك ، بل كان تشريعها بنحو القضية الحقيقية ، بحيث لوحظ في مقام الجعل كلي المكلف الصادق على أفراده المحققة والمقدرة ، فلا تختص أحكام شريعة بأهلها ؛ بل تعم غيرهم أيضا ، فإذا شك غير أهلها في نسخ حكم من تلك الأحكام جرى فيه الاستصحاب.

٥ ـ ومنها : هو العلم الإجمالي بارتفاع بعض أحكام الشريعة السابقة بالنسخ ، وهذا العلم الإجمالي مانع عن جريان استصحاب عدم النسخ في أحكام الشريعة السابقة ، فمرجع هذا الوجه إلى الوجود المانع ؛ إذ لا يجري الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي لأنه مانع عن جريانه.

وحاصل الجواب عن هذا الوجه هو : أن تنجيز العلم الإجمالي حتى يمنع عن جريان الأصول في أطرافه منوط بأمرين :

أحدهما : كون مورد الأصل من أطرافه.

ثانيهما : عدم انحلاله بالعلم التفصيلي ، ومع اختلال أحد الأمرين لا يكون العلم مانعا عن جريان الأصول في أطرافه ، وهذا الأمر الثاني مفقود في المقام ، حيث إن العلم الإجمالي بالنسخ إنما يكون قبل مراجعة الأدلة ، وأما بعد المراجعة إليها يحصل العلم التفصيلي بالنسخ ، فيكون الشك حينئذ في نسخ غير ما علم تفصيلا نسخه بدويا ، فيجري استصحاب عدم النسخ.

٦ ـ توجيه المصنف لكلام الشيخ : أنه لمّا كان ظاهر كلام الشيخ هو ثبوت الحكم بنحو القضية الطبيعية التي يكون الموضوع فيها نفس الطبيعة ، ولم يمكن إرادة هذا الظاهر في المقام ؛ لأن البعث والزجر وما يترتب على إطاعتهما وعصيانهما من الثواب والعقاب إنما هي من الآثار المترتبة على الأفراد دون الكلي ألجأنا ذلك إلى ارتكاب خلاف الظاهر في كلام الشيخ بإرادة القضية الحقيقية منه ؛ حتى يسلم من هذا الإشكال.

وليس المراد ما هو الظاهر من القضية الطبيعية حتى يرد الإشكال المذكور.

٧ ـ قوله : «فافهم» لعله إشارة إلى توهم ودفعه.

أما التوهم : فمن الممكن أن يحمل كلام الشيخ على ظاهره ، وهو إرادة القضية الطبيعية ، وصحة تعلق التكليف بالكلي كصحة تعلق الوضع كالملكية به.

وحاصل الدفع : أنه بعيد ، بل ممنوع للفرق بين التكليف والوضع ؛ إذ لا يعقل تعلق

٣٥٢

السابع (١) : لا شبهة في أن قضية أخبار الباب هو إنشاء حكم مماثل للمستصحب

______________________________________________________

البعث والزجر والإطاعة والمعصية بالكلي ، بخلاف الوضع ، فإنه لا مانع من تعلقه بالكلي ؛ إذ ليس فيه شيء من البعث وغيره ، ولذا يصح اعتبار الملكية للميت ولا يصح تكليف الميت بل التكليف يسقط بمجرد الموت.

٨ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو جريان الاستصحاب في أحكام الشريعة السابقة كجريانه في أحكام هذه الشريعة عند الشك في بقائها ، وعدم ارتفاعها بالنسخ

التنبيه السابع : في الأصل المثبت

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه السابع : هو البحث عن حجية الأصل المثبت وعدمها ، ولذا اشتهر هذا بتنبيه الأصل المثبت. فيبحث في هذا التنبيه والتنبيه الثامن والتاسع والعاشر عن الأصل المثبت ، ولمّا كان الأصل المثبت من أهم المباحث المتعلقة بالاستصحاب ، وكانت له جوانب من البحث بحث المصنف في كل تنبيه من هذه التنبيهات عن جانب من جوانب الأصل المثبت.

وأما بيان ما هو محل الكلام في هذا التنبيه السابع فيتوقف على مقدمة وهي : أن المستصحب قد يكون بنفسه حكما شرعيا ؛ كوجوب صلاة الجمعة في زمان غيبية الإمام «عليه‌السلام» ، فلا خلاف في جريان الاستصحاب وحجيته ويسمى هذا الاستصحاب بالاستصحاب الحكمي.

وقد يكون موضوعا من الموضوعات وفيه احتمالات :

الأول : أن يكون الموضوع ذا أثر شرعي فقط ، فيكون الاستصحاب حجة بلا خلاف.

الثاني : أن يكون ذا أثر غير شرعي فقط ، فلا يكون الاستصحاب حجة بلا خلاف.

الثالث : أن يكون ذا أثر شرعي يترتب عليه الأثر العقلي مثل استصحاب حياة زيد يترتب عليه وجوب نفقة زوجته. ثم وجوب الإطاعة وهو من الآثار العقلية ، فيكون الاستصحاب فيه أيضا حجة بلا خلاف كالاحتمال الأول.

الرابع : أن يكون ذا أثر عقلي أو عادي ، ويترتب الأثر الشرعي بواسطة الأثر العقلي أو العادي على المستصحب.

إذا عرفت هذه الاحتمالات فاعلم : أن محل الكلام هو هذا الاحتمال الرابع ، والأصل حينئذ يكون مثبتا في اصطلاح الأصوليين.

٣٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنشأ الخلاف في الأصل المثبت هو : ما من الاحتمالات في مفاد الأخبار على حجية الاستصحاب في مقام الثبوت.

توضيح ذلك : أنه لا شك في أن مفاد الأخبار هو تنزيل المشكوك بمنزلة المتيقن بلحاظ ما للمتيقن من الآثار وهي على أقسام ، وفيما هو المراد من تلك الآثار احتمالات :

الأول : أن يكون المراد منها هو الأثر الشرعي فقط.

الثاني أن يكون المراد منها جميع الآثار عقلية أو عادية أو شرعية.

ثم الشرعية مع الواسطة أو بلا واسطة.

الثالث : أن يكون المراد منها الأثر الشرعي مطلقا ، سواء كان بلا واسطة أو مع واسطة الآثار العقلية أو العادية.

ثم ما هو الحق من هذه الاحتمالات هو الاحتمال الأول ، فيكون مفاد أخبار الباب هو تنزيل المشكوك منزلة المتيقن كي يترتب على المشكوك الأثر الشرعي الذي لا واسطة له أصلا.

وكيف كان ؛ فقد تعرض المصنف قبل الخوض في المقصود لأمرين :

الأول : بيان ما يستفاد من أخبار الاستصحاب.

الثاني : لزوم ترتيب كل أثر شرعي أو عقلي يترتب على المتيقن على الاستصحاب الجاري في الحكم أو الموضوع.

وأما ما أفاده في الأمر الأول بقوله : «لا شبهة في أن قضية أخبار الباب» فتوضيحه : أنه بعد وضوح انتقاض اليقين وجدانا وكونه طريقا ، وامتناع تعلق حرمة النقض به لا بد أن يراد من حرمة النقض ووجوب الإبقاء إنشاء حكم مماثل للمتيقن السابق إن كان حكما ، كما إذا كان المتيقن وجوب الجلوس مثلا في المسجد إلى الزوال ، وشك في بقاء هذا الوجوب فيما بعد الزوال ، فالمجعول حينئذ وجوب مماثل لذلك الوجوب. أو إنشاء حكم مماثل لحكم المتيقن إن كان موضوعا ، كما إذا كان المتيقن عدالة زيد يوم الجمعة وشك في بقائها يوم السبت ، فإن المجعول حين الشك في بقائها مثل أحكام العدالة الواقعية كجواز الايتمام به وقبول شهادته ، لا أن المجعول أحكام العدالة حقيقة ؛ لأن موضوعها هو العدالة الواقعية ، لا العدالة المشكوكة.

ومن المعلوم : تقوّم جعل الحكم المماثل بالشك ، ولذا يرتفع بارتفاع الشك.

وبالجملة : فمعنى وجوب إبقاء المتيقن هو جعل مثل ما له من الآثار الشرعية إن كان

٣٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

المتيقن بنفسه حكما شرعيا ، أو جعل مثل أحكامه إن كان المتيقن موضوعا ذا أثر شرعي كالعدالة والفقاهة والفقر والغنى.

وأما الأمر الثاني ـ وهو لزوم ترتيب كل أثر شرعي أو عقلي على الاستصحاب ـ فقد أشار إليه بقوله : «كما لا شبهة» ، وهو أن الأثر الشرعي تارة : يترتب على نفس الحكم الواقعي ، وأخرى : على ما هو أعم منه ومن الظاهري ، وكذا الأثر العقلي ، فالصور أربع.

لا إشكال في لزوم ترتيب الأثر الشرعي على الحكم الثابت بالاستصحاب في الصورتين الأوليين ، كما إذا فرضنا أن لوجوب الجلوس في المسجد بعد الزوال أثرا شرعيا بعنوان ثانوي كوجوب صلاة ركعتين فيه بسبب النذر أو الحلف مثلا ، أو بعنوان أوّلي كعدم جواز النافلة لمن عليه الفريضة ، أو عدم جواز إجارة نفسه للصلاة عن الغير ، أو الحج أو الصوم كذلك مع اشتغال ذمته بهذه الواجبات ، فإذا ثبت بقاء وجوبها بالاستصحاب ترتبت عليه هذه الحرمات. أو ثبت بالاستصحاب وجوب الجلوس ترتب على هذا الوجوب وجوب صلاة ركعتين فيه ، سواء كان موضوع وجوب هذه الصلاة وجوب الجلوس واقعا أم أعم منه ؛ إذ الاستصحاب يثبت الحكم الواقعي ظاهرا في ظرف الشك ، فكل أثر شرعي يترتب على الحكم الواقعي يترتب عليه باستصحابه لإحراز الموضوع تعبدا فيما كان الأثر مترتبا على الواقع ، وإحرازه وجدانا فيما كان الأثر مترتبا على الأعم من الواقع والظاهر.

كما لا إشكال في لزوم ترتب الأثر العقلي في الصورة الرابعة ، وهي ترتبه على الحكم الواقعي بوجوده الأعم من الواقعي والظاهري ؛ كوجوب المقدمة وحرمة الضد بناء على عقليتهما ، فإذا ثبت وجوب صلاة الجمعة مثلا بالاستصحاب ثبت وجوب مقدمتها وحرمة ضدها.

كما لا إشكال أيضا في عدم ترتب الأثر العقلي في الصورة الثالثة ، وهي ترتبه على الحكم بخصوص وجوده الواقعي لا الأعم منه ومن الظاهري ؛ وذلك لعدم إحراز موضوعه بالاستصحاب ، فإذا كان الإجزاء مثلا حكما عقليا مترتبا على الوجوب الشرعي بوجوده الواقعي ، فهو لا يترتب على وجوب صلاة الجمعة الثابت بالاستصحاب ؛ إذ لا يثبت به إلّا وجوبها تعبدا ، والمفروض : أن إجزاء صلاة الجمعة عن الظهر منوط بوجوبها واقعا. كما لا يثبت باستصحاب الطهارة الحدثية إجزاء الصلاة المأتي بها استنادا إلى استصحابها ، حيث إن الإجزاء عقلا مترتب على الطهارة بخصوص وجودها الواقعي ، لا

٣٥٥

في استصحاب الأحكام (١) ولأحكامه (٢) في استصحاب الموضوعات ، كما لا شبهة (٣) في ترتيب ما للحكم المنشأ بالاستصحاب من (٤) الآثار الشرعية والعقلية. وإنما الإشكال (٥) في ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب ...

______________________________________________________

الأعم منه ومن الظاهري ، ولذا يقال : بعدم الإجزاء في الأحكام الظاهرية.

فتلخص : أنه إذا ثبت الحكم الواقعي تعبدا بالاستصحاب الجاري في الموضوع أو الحكم ، وكانت له آثار شرعية أو عقلية مترتبة على وجوده الواقعي أو الأعم منه ومن الظاهري ترتبت تلك الآثار بأجمعها عليه ، إذ المفروض : أنه تمام الموضوع لها ، سواء كانت عرضية كالحرمة والنجاسة للعصير المغلي إذا شك في ذهاب ثلثيه ، فإن هذين الحكمين بناء على القول بالنجاسة يترتبان عرضا على استصحاب عدم ذهاب ثلثيه ، أم طولية كما إذا فرض ترتب مانعية الحرير الخالص للرجال على حرمة لبسه تكليفا ، فإذا شك في خلوصه وجرى فيه الاستصحاب وثبت به تعبدا خلوصه ترتب عليه حرمة لبسه وما يترتب عليها من المانعية.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) يعني : كما إذا كان المستصحب حكما كالوجوب ، فوجوب إبقائه هو جعل وجوب مماثل له حال الشك.

(٢) معطوف على «للمستصحب» يعني : إنشاء حكم مماثل لأحكام المستصحب في استصحاب الموضوعات ذوات الآثار الشرعية كالعدالة والحرية والحياة.

(٣) هذا إشارة إلى الأمر الثاني ، وهو لزوم ترتيب كل أثر شرعي أو عقلي على الاستصحاب ، وقد تقدم توضيح ذلك فلا حاجة إلى الإعادة.

(٤) بيان ل «ما» في قوله : «ما للحكم» ، وقد تقدم تقريب ترتب الآثار الشرعية والعقلية على الحكم المستصحب ، وأنه يترتب عليه جميع الأحكام الشرعية والعقلية ؛ إلّا الحكم العقلي المترتب على الحكم الواقعي بوجوده الواقعي.

(٥) هذا شروع في المباحث المتعلقة بالأصل المثبت الذي هو المقصود الأصلي من عقد هذا التنبيه.

وحاصل الكلام في المقام : هو أن الإشكال كل الإشكال في أن الاستصحاب كما يثبت به نفس المستصحب ويترتب عليه آثاره الشرعية ، فهل يثبت به لوازم المستصحب عادية كانت أو عقلية ، أو ملزومة بحيث لو كان لهذه الأطراف من اللازم والملزوم والملازم آثار شرعية يجب ترتيبها عليها أم لا؟.

٣٥٦

بواسطة (١) غير شرعية. عادية كانت أو عقلية (٢) ومنشؤه (٣) أن مفاد الأخبار هل هو

______________________________________________________

«وإذا شك مثلا» في حياة زيد واستصحبنا حياته ، فكما يثبت بالاستصحاب حياته ويترتب عليها آثارها الشرعية من حرمة التصرف في أمواله وحرمة العقد على زوجته ، ونحو ذلك من الآثار الشرعية ، فهل يثبت باستصحاب الحياة ما هو لازم عادي كنبات لحيته مثلا حتى يترتب عليه آثاره الشرعية من حرمة حلقها ، واستحباب تسريحها وتدويرها ، مثلا أم لا يثبت؟

«وإذا قطع مثلا» جسد زيد بالسيف نصفين ـ وهو ملفوف باللحاف ـ ثم شك في حياته في حال القطع واستصحبنا حياته إلى تلك الحال فهل يثبت بذلك لازمها العقلي وهو القتل ، ويترتب عليه أثره الشرعي من القصاص ونحوه أم لا؟

«وإذا استصحبنا النهار» مثلا فهل يثبت به ملزومه كطلوع الشمس ، أو ملازمه كضوء العالم ، ويترتب على الملزوم أو الملازم أثره الشرعي لو كان له أثر كذلك أم لا؟ وهذا هو النزاع المعروف بالأصل المثبت.

فالمتحصل : أنه إذا كان للمستصحب لازم عقلي أو عادي ، وكان لذلك اللازم أثر شرعي ، فهل يترتب ذلك الأثر الشرعي على مجرد استصحاب ملزومه أم لا؟ فمن قال بحجية الأصل المثبت يقول : نعم ، ومن قال بعدمها يقول : لا.

والظاهر : أن المشهور عدم القول بحجية الأصل المثبت.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) احتراز عما إذا كانت الواسطة أثرا شرعيا ، كما إذا كان للمستصحب آثار شرعية طولية ؛ بحيث كان كل سابق منها موضوعا للاحقه ، نظير استصحاب طهارة الماء التي يترتب عليها أولا : جواز الوضوء به ، وثانيا : جواز الدخول في الصلاة ، وثالثا : مالكية المصلي للأجرة إذا كانت صلاته استيجارية ، ورابعا : جواز تبديل الأجرة بمال آخر ، إلى غير ذلك من الآثار الشرعية ، فإن جميع هذه السلسلة من المبدأ إلى المنتهى أحكام شرعية يترتب كل لاحق منها على سابقه ، فكل مستصحب يكون كذلك يترتب عليه باستصحابه جميع أحكامه الشرعية وإن كانت في غاية الكثرة ، إذ المفروض : أن كلها شرعي ، ويترتب جميعها على المستصحب بلا وساطة أمر تكويني ، ويكون مثل هذا الاستصحاب أجنبيا عن الأصل المثبت ؛ لعدم كون شيء من الوسائط أمرا عقليا أو عاديا.

(٢) قد عرفت مثال كل من الواسطة العادية والعقلية.

(٣) أي : ومنشأ الإشكال في حجية الاستصحاب المثبت وعدمها : «أن مفاد

٣٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الأخبار ...» الخ ، وتوضيحه أن هنا مقامين أحدهما : ثبوتي والآخر : إثباتي.

وأما المقام الأول : فمحصل ما أفاده فيه : أن الوجوه المحتملة في أخبار الاستصحاب التي هي منشأ اعتبار الأصل المثبت وعدمه ثلاثة :

الأول : أن مفاد «لا تنقض اليقين بالشك» هو التعبّد ببقاء المستصحب بلحاظ أثره الشرعي المترتب عليه بلا واسطة ؛ كالتعبد بالطهارة الحدثية المشكوكة لجواز مس كتابة القرآن.

الثاني : أن مفاد الأخبار التعبد ببقائه بلحاظ أثره مطلقا ولو بواسطة ، بمعنى : كون الملحوظ طبيعة الأثر المترتب على المستصحب ، سواء كان بلا واسطة أم معها ، كمثال نبات اللحية على ما تقدم آنفا.

فالمقصود من إطلاق دليل الاستصحاب هو : أنه كما يصدق نقض اليقين بالشك إذا لم يرتب المكلف أثر الحياة مثلا بلا واسطة ـ كوجوب الإنفاق وحرمة تقسيم ما له ـ على استصحاب الحياة كذلك يصدق نقض اليقين بالحياة بالشك فيها إذا لم يرتب أثر الحياة مع الواسطة ؛ كحرمة حلق اللحية المترتبة على النبات الذي هو لازم عادي لبقاء الحياة. وعليه : فالمطلوب بقوله «عليه‌السلام» : «لا تنقض الحياة بالشك فيها» ترتيب جميع آثار الحياة الشرعية ، سواء ترتبت عليها بلا واسطة أم معها.

الثالث : أن مفاد الأخبار : تنزيل الشيء والتعبد به بماله من اللوازم العقلية والعادية ؛ بحيث لا يختص التعبد بالملزوم كالحياة مثلا ، بل يشمل كلا من الحياة ولازمها العادي ، ومن هنا يظهر الفرق بين هذا الوجه وبين الوجهين المتقدمين حيث إن التعبد في هذا الوجه وارد على كل من الملزوم واللازم ، فمعنى استصحاب حياة زيد مثلا : التعبد بها وبلازمها العادي معا كنبات اللحية. بخلاف الوجهين السابقين ، فإن يد التعبد فيهما مقصورة على الأثر الشرعي ، غاية الأمر : أن التعبد في الوجه الأول يكون بلحاظ الأثر المترتب على المستصحب بلا واسطة. وفي الوجه الثاني يكون بلحاظ طبيعة الأثر المترتب على المستصحب ولو مع الواسطة ، من دون أن تنال يد التعبد نفس الواسطة العقلية أو العادية التي هي على الفرض موضوع للأثر الشرعي كموضوعية نفس المستصحب له. ثم إنه غير خفي على ذي فهم ومسكة اختلاف هذه الوجوه في اقتضاء الحجية للأصل المثبت وعدمه ، حيث إنه بناء على الوجه الأول لا مقتضى لحجيته لاختصاص التعبد بالأثر المترتب على المستصحب بلا واسطة ، وبناء على الوجهين الأخيرين يكون المقتضى

٣٥٨

تنزيل المستصحب والتعبد به وحده بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطة (١) ، أو تنزيله (٢) بلوازمه (٣) العقلية أو العادية ، كما هو (٤) الحال في تنزيل مؤديات الطرق والأمارات ، أو بلحاظ (٥) مطلق ما له من الأثر ولو بالواسطة ، بناء على صحة التنزيل

______________________________________________________

لحجية الأصل المثبت فيهما موجودا ، تصل النوبة إلى علاج المانع وهو معارضة الأصل في الثابت للأصل في المثبت كما عن كاشف الغطاء «قدس‌سره».

(١) هذا إشارة إلى الوجه الأول المذكور بقولنا : «الأول ...» الخ ، وضميرا «به ، وحده» راجعان إلى المستصحب.

(٢) معطوف على «تنزيل» وضميره راجع إلى «المستصحب».

وهذا إشارة إلى الوجه الثالث المذكور بقولنا : «الثالث ...» الخ.

(٣) أي : مع لوازم المستصحب من العقلية والعادية ؛ بحيث تنالها يد التعبد والتنزيل كما تنال نفس المستصحب.

(٤) يعني : أن تنزيل الشيء مع لوازمه حال تنزيل مؤديات الطرق والأمارات ، حيث إن تنزيلها لا يختص بنفس مؤدياتها ؛ بل يعمها ولوازمها ، فإن قيام البيّنة على كون اليوم من شهر رمضان مثلا كما تثبت أنه من رمضان كذلك تثبت ثانوية الغد للشهر ، وهكذا فالآثار الشرعية من استحباب الغسل والصلوات والأدعية المترتبة على أيامها ولياليها المتصفة بوصف خاص من حيث الزوجية والفردية ، وكذا تعيين ليالي القدر تترتب على البيّنة المزبورة.

وبالجملة : فالتنزيل في الأصل المثبت نظير التنزيل في الأمارات التي لها كشف وحكاية عن الواقع.

(٥) معطوف على قوله : «بلحاظ» ، وهذا إشارة إلى الوجه الثاني الذي ذكرناه بقولنا «الثاني : أن يكون مفاد الأخبار التعبد ببقائه بلحاظ أثره مطلقا ...» الخ. وكان الأولى ذكر هذا عقيب الوجه الأول ؛ لأن هذا قسم منه ، حيث إن تنزيل المستصحب وحده يكون تارة : بلحاظ أثر خاص بلا واسطة ، وأخرى : بلحاظ مطلق الأثر ولو مع الواسطة ، فمورد التعبد والتنزيل في كلا الوجهين هو نفس المستصحب فقط ، والاختلاف إنما هو في الأثر المترتب على تنزيله من كونه خصوص الأثر بلا واسطة أو مطلقا ولو مع الواسطة.

وعليه : فالأولى سوق العبارة هكذا : «بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطة ، أو بلحاظ مطلق ما له من الأثر ولو بالواسطة».

٣٥٩

بلحاظ أثر الواسطة أيضا (١) ، لأجل أن أثر الأثر أثر (٢) ، وذلك (٣) لأن مفادها لو كان هو تنزيل الشيء وحده بلحاظ أثر نفسه لم يترتب عليه ما كان مترتبا عليها ؛ ...

______________________________________________________

(١) يعني : كصحة التنزيل بلحاظ أثر نفس الملزوم وهو ذو الواسطة. وقوله : «بناء على صحة التنزيل» إشارة إلى بعض وجوه اعتبار الأصل المثبت.

توضيحه : أن استصحاب بقاء الموضوع معناه جعل ما له من الآثار الشرعية مطلقا ، سواء كانت ثابتة له بلا واسطة أم معها ، حيث إن الأثر المترتب على أثر شيء يعدّ أثرا لذلك الشيء. فيترتب عليه باستصحابه وإن لم يترتب موضوعه وهو الواسطة بين المستصحب وأثر أثره ؛ لعدم كونها أثرا شرعيا حتى تنالها يد التشريع.

فحاصل هذا الوجه : أنه بالتعبد الواحد يجعل مثل جميع الأحكام المترتبة على المستصحب ، سواء كانت مع الواسطة أم بدونها.

وأما نفس الواسطة فلعدم قابليتها للجعل التشريعي لا تثبت بالاستصحاب.

(٢) هذا تعليل لقوله : «بناء على صحة التنزيل» يعني : أن ثبوت أثر الأثر إنما هو لأجل كونه من آثار الشيء المستصحب ، فاستصحابه كاف في تحققه من غير حاجة إلى جعل آثر وتبعد ثانوي ؛ بل استصحاب نفس الشيء ذي الواسطة كاف في ثبوت أثرها الشرعي.

(٣) بيان لمنشئية الاحتمالين اللذين ذكرهما في أخبار الاستصحاب لحجية الاستصحاب المثبت وعدمها ، ومحصله : أنه بناء على كون مفادها تنزيل الشيء وحده بلحاظ أثر نفسه فقط لا يترتب على استصحاب الشيء إلا الآثار الشرعية المجعولة لنفسه ، دون الأحكام الشرعية الثابتة للوازمه ، فاستصحاب الحياة مثلا يثبت آثارها من حرمة تقسيم المال وحرمة تزويج الزوجة ونحوهما ، دون أحكام لازمها كنبات اللحية. وبناء على كون مفاد أخبار الاستصحاب تنزيل الشيء مع لوازمه ؛ بحيث يشمل التعبد كليهما ، أو تنزيله بلحاظ طبيعة الأثر المنطبقة على آثاره مطلقا ولو مع الواسطة ، فالتعبد في هذه الصورة واحد وفيما قبلها متعدد ؛ لشمول التنزيل لكل من الشيء ولوازمه ، فكأنه قال : «نزلت الحياة المشكوكة مع ما لها من اللوازم منزلة الحياة المعلومة».

وضمير «مفادها» راجع إلى الأخبار ، وضمير «هو» إلى «مفادها» وضميرا «نفسه ، عليه» راجعان إلى «الشيء» الذي يراد به المستصحب ، وضمير «عليها» إلى الواسطة ، والمراد ب «ما» الموصول في «ما كان» الآثار الشرعية المترتبة على الواسطة.

٣٦٠