دروس في الكفاية - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

إلى الاختيار (١) ، وهو (٢) كاف في صحة العقوبة ؛ بل (٣) مجرد تركهما كاف في صحتها وإن لم يكن (٤) مؤديا إلى المخالفة ، ...

______________________________________________________

(١) وهو ترك التعلم والفحص اختيارا حين التفاته إلى عدم خلو واقعة عن حكم ، وبهذا يجاب عن قبح العقاب على الواقع المجهول مع الغفلة ؛ لكونه حينئذ بلا اختيار.

وحاصل الجواب : أنه وإن كان فعلا لأجل الغفلة بدون الاختيار ، لكنه منته إلى الاختيار ، وقوله : «وإن كانت مغفولة حينها» إشارة إلى هذا.

(٢) يعني : والانتهاء إلى الاختيار كاف في صحة العقوبة عقلا.

(٣) هذا تعريض بما نسب إلى المشهور من عدم استحقاق العقوبة على نفس ترك التعلم ، وإضراب عن استحقاق العقوبة على الترك المؤدى إلى المخالفة ، ومحصله : ترتب استحقاقها على مجرد ترك التعلم والفحص وإن لم يؤدّ تركهما إلى مخالفة الواقع فيما إذا احتمل أن تركهما يؤدي إلى ذلك.

لكن العقاب حينئذ لا يكون على ترك الواجب النفسي وهو التعلم ، كما هو المنسوب إلى الأردبيلي وصاحب المدارك «قدّس سرهما» ؛ بل على التجري ، حيث إنه إذا احتمل حرمة العصير العنبي أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ومع ذلك ترك التعلم لقلة المبالاة بالدين ، وشرب العصير أو ترك الدعاء ، فإن نفس التجري على المولى يوجب عقلا استحقاق العقوبة وإن لم يخالف الواقع ، لعدم حرمة العصير وعدم وجوب الدعاء واقعا.

وعلى هذا : فالموجب لحسن العقوبة والمؤاخذة أمران : أحدهما : الانتهاء إلى الاختيار ، والآخر : التجري ، فالمصنف «قدس‌سره» قائل باستحقاق العقوبة على ترك التعلم مطلقا وإن لم يؤدّ إلى مخالفة الواقع.

وضمير «تركهما» راجع على التعلم والفحص ، وضمير «صحتها» راجع على «العقوبة».

(٤) يعني : وإن لم يكن ترك التعلم والفحص مؤديا إلى مخالفة الواقع ، كما إذا شرب التتن من غير فحص عن حكمه وتبين عدم حرمته واقعا ، فإن ترك التعلم حينئذ لم يؤدّ إلى مخالفة الحرمة ، إذ المفروض : عدم حرمة شربه واقعا.

وعليه : فليس المراد بأداء ترك التعلم إلى المخالفة كون الترك مقدمة للمخالفة ولا ملازما لها ، وإلا لم ينفك الترك عنها ؛ بل المراد ترتب المخالفة على الترك من باب التصادف ، ولذا عبّر المصنف «قدس‌سره» بالمؤدى ، فما في بعض الكلمات من التعبير

٢١

مع احتماله (١) ؛ لأجل (٢) التجري وعدم (٣) المبالاة بها.

نعم (٤) ؛ يشكل في الواجب المشروط ...

______________________________________________________

عن المؤدي بالملازم مسامحة.

(١) أي : مع احتمال أداء ترك التعلم إلى المخالفة ، فإن هذا الاحتمال يوجب الاحتياط بالتعلم والفحص ؛ بحيث يعدّ تركهما تجريا ؛ لكونه إقداما على مخالفة حكم إلزامي محتمل تنجزه.

(٢) تعليل لقوله : «بل مجرد تركهما كاف» ، وقد عرفت تقريبه.

ثم إن هذا الوجه لاستحقاق العقوبة مبني على كون التجري موجبا لاستحقاق العقوبة كما اختاره المصنف في بحث التجري.

(٣) عطف على «التجري» ومفسر له ، وضمير «بها» راجع على المخالفة.

فالمتحصل : أن المصنف «قدس‌سره» اختار استحقاق تارك التعلم والفحص للعقاب مطلقا ، سواء خالف الواقع أم لا أما في صورة المخالفة فواضح ؛ لتحقق المعصية. وأما في صورة عدم المخالفة فلأجل التجري ، فقوله : مخالف للمشهور حيث إنهم قائلون بالاستحقاق في خصوص ما إذا أدى ترك التعلم إلى مخالفة الواقع على ما نسب إليهم في عبارة الشيخ المتقدمة.

بخلاف المصنف فإنه قائل بالاستحقاق مطلقا ؛ إما للعصيان وإما للتجري ، فما في حاشية العلامة الرشتي من أنه تبع المشهور غير ظاهر ، فراجع وتأمل.

(٤) غرضه : أن ما ذكر من وجوب التعلم والفحص في التكاليف المطلقة المنجزة تام. إذ لو لم يجب الفحص لزم ترك الواجب المطلق.

وأما في التكاليف المشروطة بزمان كصلاة الجمعة أو زماني كالحج المشروط بالاستطاعة ، فوجوب التعلم والفحص فيها مشكل ؛ إذ المفروض : عدم وجوب فعلي يوجبها لإناطة التكليف المشروط بتحقق شرطه ، فقبل تحققه لا تكليف حتى يوجب التعلم.

فعليه : ينحصر وجوب الفحص بالتكاليف المطلقة الفعلية ، ولا وجه لوجوبه في التكاليف المشروطة ، لا قبل حصول الشرط ولا بعده.

أما الأول : فواضح ؛ لعدم حكم واقعي حينئذ حتى يجب عليه التعلم لئلا يفوت عنه الواقع فيعاقب عليه. وأما الثاني : فلأجل الغفلة عن تلك التكاليف في وقتها الناشئة عن ترك التعلم قبله.

٢٢

والموقت (١) ، ولو (٢) أدى تركهما قبل الشرط والوقت إلى المخالفة بعدهما فضلا (٣) عما إذا لم يؤدّ إليها ، حيث (٤) لا يكون حينئذ (٥) تكليف فعلي أصلا لا قبلهما ، وهو واضح (٦) ، ولا بعدهما وهو كذلك (٧) ؛ لعدم التمكن منه (٨) بسبب الغفلة ، ...

______________________________________________________

فالمتحصل : أن وجوب التعلم في التكليف المطلقة ثابت ، بخلاف التكاليف المشروطة ، فإنه محل إشكال ، ولذا التجأ لدفع هذه الشبهة المحقق الأردبيلي وتلميذه صاحب المدارك «قدس سرّهما» إلى الالتزام بوجوب التعلم نفسيا ليكون العقاب على تركه لا على مخالفة الواقع ، والمستشكل وهو الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» أورد هذا الإشكال على المشهور القائلين بكون العقاب على ترك الواقع.

(١) هذا من عطف الخاص على العام ؛ إذ الوقت في الموقتات أيضا شرط على حدّ سائر الشروط.

(٢) كلمة «لو» وصلية ، وغرضه : أنه بناء على المشهور ـ من كون العقوبة على مخالفة الواقع ـ يشكل الالتزام بترتبها على التكاليف المشروطة مطلقا حتى في صورة أداء ترك التعلم والفحص إلى مخالفة الواقع بعد الوقت وحصول الشرط ؛ للغفلة كما مرّ آنفا فضلا عما إذا لم يؤدّ تركها إلى المخالفة. وضمير «تركهما» راجع على التعلم والفحص. وضمير «إليها» إلى المخالفة.

(٣) يعني : فضلا عما إذا لم يؤدّ ترك التعلم والفحص إلى مخالفة الواقع مع احتمال الأداء إليها. وهذا إشارة إلى صورة التجري المتقدمة في قوله : «بل مجرد تركهما كاف في صحتها وإن لم يكن مؤديا إلى المخالفة».

(٤) هذا تقريب الإشكال : وقد تقدم ذلك مفصلا بقولنا : «وحاصل الإشكال».

(٥) أي : حين أداء ترك التعلم والفحص إلى المخالفة بعد تحقق الشرط ودخول الوقت.

(٦) أي : وعدم التكليف قبل الشرط والوقت واضح لأنهما على المشهور من شرائط التكليف ، فلا تكليف قبلهما حتى يترشح منه وجوب غيري على التعلم والفحص.

(٧) يعني : وعدم التكليف بعد الشرط ودخول الوقت أيضا واضح ، لعدم التمكن من الواجب في ظرفه لأجل الغفلة عنه الموجبة لقبح العقاب به.

وضميرا «قبلهما ، بعدهما» راجعان على الشرط والوقت ، وضمير «هو» راجع على ما يفهم من العبارة من عدم التكليف.

(٨) أي : من الواجب المشروط والموقت ، وقوله : «لعدم التمكن» تعليل لعدم التكليف بعد الشرط ودخول الوقت ، فإن تارك التعلم والفحص عن الواجب كالحج قبل تحقق شرطه كالاستطاعة يصير غافلا عن ذلك الواجب في وقته ، وبعد حصول شرطه يتركه

٢٣

ولذا (١) التجأ المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك «قدس سرّهما» إلى الالتزام بوجوب التفقه والتعلم نفسيا تهيئيا ، فتكون العقوبة على ترك التعلم نفسه (٢) لا على ما أدى إليه من (٣) المخالفة ، فلا إشكال حينئذ (٤) في المشروط والموقت.

ويسهل بذلك (٥) الأمر في غيرهما لو صعب على أحد ، ولم تصدق ...

______________________________________________________

للغفلة عنه ، ومن المعلوم : أنه في حال الغفلة يقبح تكليفه. فقوله : «لا قبلهما ، ولا بعدهما» مفسران لقوله : «أصلا».

(١) يعني : ولأجل هذا الإشكال التجأ هذان العلمان «قدس‌سرهما» إلى الالتزام بكون وجوب التفقه نفسيا تهيئيا لتكون العقوبة على ترك التعلم لا على مخالفة الواقع حتى يرد عليه الإشكال المذكور.

والمراد بالواجب التهيئي : ما يجب مقدمة للخطاب بواجب آخر. وببيان أوضح : الواجب التهيئي هو ما وجب تهيؤا لإيجاب عمل ، في قبال الواجب الغيري ، وهو الذي يجب مقدمة لوجود واجب آخر ، فالأول واجب مقدمة لإيجاب شيء ، والثاني واجب لوجود شيء ثبت وجوبه ، ففرق واضح بين الوجوب النفسي التهيئي والوجوب الغيري المقدمي ، فإن كلا منهما مباين للآخر ، فلا إشكال في تغايرهما مفهوما.

نعم ؛ يقع الكلام في وقوع الواجب النفسي التهيئي في الخارج لقصور أدلة وجوب التعلم عن إثباته.

ويمكن أن يكون وجوب قبول الهبة للحج من قبيل الوجوب التهيئي ، حيث إن وجوبه مقدمة للخطاب بواجب آخر وهو الحج ، بخلاف البذل ، فإنه بنفسه يوجب الحج ، وأما الهبة فبنفسها لا يجب الحج ، بل بقبولها الذي هو واجب تهيّأ لإيجاب الحج ، فتدبر.

(٢) لكون التعلم على هذا واجبا نفسيا ، فتكون العقوبة على نفسه لا على مخالفة الواقع.

(٣) بيان ل «ما» الموصول ، والضمير المستتر في «أدى» راجع على «ترك التعلم» يعني : لا على مخالفة الواقع التي أدى إليها ترك التعلم.

(٤) أي : حين وجوب التعلم نفسيا ، إذ بعد فرض وجوبه النفسي تصح العقوبة على ترك الواقع.

(٥) أي : بوجوب التفقه والتعلم نفسيا يندفع إشكال العقوبة على مخالفة الواقع مع الغفلة حين المخالفة.

٢٤

كفاية (١) الانتهاء إلى الاختيار في استحقاق العقوبة على ما كان فعلا مغفولا عنه وليس بالاختيار.

______________________________________________________

توضيحه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٦ ، ص ٤١٧» ـ أن هذا الإشكال ـ الذي دفعناه في غير الواجب المشروط والموقت بأن العقل لا يقبح المؤاخذة على ترك الواقع إذا انتهى إلى الاختيار ـ يمكن دفعه أيضا بما أفاده المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك «قدس سرّهما» من كون وجوب التعلم نفسيا ؛ إذ العقاب حينئذ : على ترك التعلم الذي هو بنفسه أمر اختياري ، بخلاف المؤاخذة على نفس الواقع المغفول عنه حين المخالفة ، وعدم اختياريتها للغفلة المانعة عن صحة الخطاب الموجبة لقبح العقاب ، فلو لم يكتف بعض في دفع الإشكال عن صحة العقوبة على ترك الواقع بالانتهاء إلى الاختيار ، فله أن يدفع الإشكال بالالتزام بوجوب التعلم نفسيا ليكون العقاب عليه.

وبهذا الجواب يندفع الإشكال في غير الواجب المشروط والموقت أيضا ، ضرورة : أن العقاب حينئذ ليس على ترك الواقع المغفول عنه حتى يقبح ذلك لأجل الغفلة عنه ؛ بل العقوبة إنما هي على ترك التعلم. وضمير «غيرهما» راجع على المشروط والموقت.

(١) فاعل «صعب» ونائب فاعل «تصدق» بناء على كونه مجهولا.

وأما بناء على ما عن بعض النسخ من «يصدق» بصيغة الغائب المعلوم ، ففاعل «صعب» ضمير راجع على الجواب المذكور ، «كفاية» مفعول «يصدق» وفاعله ضمير مستتر فيه راجع على «أحد» ، يعني : لو صعب الجواب المذكور ـ وهو الانتهاء إلى الاختيار ـ على شخص ، ولم يصدّق كفاية الانتهاء إلى الاختيار ... الخ.

وحاصله : أنه لو استشكل بعض في حسن المؤاخذة على ترك الواقع بعدم كفاية الانتهاء إلى الاختيار في حسنها ، فلا بد أن يدفع الإشكال في غير الواجب المشروط والموقت بوجه آخر ، وهو الالتزام بوجوب التعلم نفسيا ليكون العقاب على تركه ، لا على ترك الواقع ، وفي المشروط والموقت بهذا الوجه ، أو بالالتزام بكونهما من الواجب المطلق المعلق الذي سيأتي توضيحه عند شرح كلام المصنف «قدس‌سره».

فالمتحصل : أن إشكال العقوبة على الواقع المغفول عنه يندفع في الواجب المطلق بأحد وجهين ـ على سبيل منع الخلو ـ : إما بالانتهاء إلى الاختيار ، وإما بكون العقوبة على ترك التعلم الذي هو واجب نفسي تهيئي. وفي الواجب المشروط والموقت أيضا بأحد وجهين ، وهما : الالتزام بالوجوب النفسي التهيئي للتعلم ، وكون الواجب فيهما مطلقا لا مشروطا.

٢٥

ولا يخفى : أنه لا يكاد ينحل هذا الإشكال (١) إلا بذلك (٢) أو الالتزام بكون المشروط أو الموقت مطلقا (٣) متعلّقا (٤) لكنه (٥) قد اعتبر على نحو لا تتصف مقدماته

______________________________________________________

قوله : «على ما كان فعلا» أي : على الواقع الذي كان فعلا ـ يعني : حين المخالفة ـ مغفولا عنه ، ولم يكن تركه حينئذ بالاختيار ، حيث إن الغفلة تخرج مخالفة الواقع عن حيز الاختيار ، فلا تصح المؤاخذة عليه ؛ لعدم كونه اختياريا.

(١) أي : استحقاق العقوبة في الواجب المشروط والموقت ، لعدم تكليف فعلي فيهما توجب مخالفته استحقاقها لا قبل الشرط ولا بعده كما تقدم تفصيله. وضمير «أنه» للشأن.

(٢) أي : بالالتزام بالوجوب النفسي التهيئي للتعلم.

وغرضه : أن هذا الإشكال لا يندفع عن الواجب المشروط والموقت إلا بأحد وجهين قد أشير إليهما :

أحدهما : وجوب التعلم نفسيا لتكون العقوبة على تركه لا على مخالفة الواقع.

والآخر : كون الوجوب في الواجب المشروط والموقت مطلقا بجعل الشرط وقتا كان أم غيره من قيود المادة لا الهيئة ، فالوجوب فعلي غير مشروط بشيء ، ويترشح منه الوجوب على مقدماته كالتعلم ، فترك الفحص والتعلم حينئذ يصحح العقوبة على ما يقع بعد ذلك غفلة من مخالفة الواقع.

والحاصل : أنه يندفع الإشكال بجعل المشروط والموقت واجبا مطلقا بأن يكون الوجوب فعليا والواجب استقباليا ، وهو المسمى بالواجب المعلق.

قوله : أو الالتزام عطف على «ذلك» ، وهذا إشارة إلى الوجه الثاني الذي دفع به الإشكال ، وقد مر تقريبه بقولنا : «والآخر : كون الوجوب في الواجب المشروط ...» الخ.

(٣) أي : غير مشروط ، بمعنى : كون الشرط من قيود المادة لا الهيئة حتى يكون الوجوب مشروطا ، وعطف «الموقت» على «المشروط» من عطف الخاص على العام.

(٤) صفة ل «مطلقا» يعني : أن المشروط أو الموقت من قسم الواجب المطلق المعلق ، وهو ما يكون الوجوب فيه حاليا والواجب استقباليا ، لا من قسم الواجب المطلق المنجز ، وقد تقدم المراد بالمعلق والمنجز في بحث مقدمة الواجب.

(٥) أي : «لكن الواجب المطلق المعلق ...» الخ ، وهذا إشارة إلى الإشكال ودفعه.

أما الإشكال فهو : أن مقتضى كون الواجب المشروط والموقت مطلقا معلقا هو

٢٦

الوجودية (١) عقلا بالوجوب قبل الشرط أو الوقت غير التعلم (٢) ، فيكون الإيجاب حاليا (٣) وإن كان الواجب استقباليا قد أخذ على نحو لا يكاد يتصف بالوجوب

______________________________________________________

وجوب إيجاد مقدماتهما الوجودية قبل حصول الشرط ودخول الوقت ؛ إذ المفروض : إطلاق وجوبهما المقتضي لإيجاب مقدماتهما ، ومن المسلم عندهم : عدم وجوب تحصيل المقدمات قبل الشرط والوقت ، فليكن هذا التسالم دليلا على عدم كون الواجب المشروط مطلقا ، وأن الشرط وقتا كان أو غيره قيد للهيئة كما هو مقتضى القواعد العربية ، فيكون شرطا للوجوب ، كما هو المشهور أيضا ، فلا وجوب قبل تحقق الشرط والوقت حتى يترشح منه وجوب على التعلم.

فالنتيجة : أن الالتزام بكون المشروط واجبا مطلقا معلقا حتى يجب به التعلم ويوجب تركه استحقاق العقوبة خارج عما تقتضيه القواعد العربية ، فلا يندفع به الإشكال.

وأما الدفع : فمحصله : أن جعل هذا الوجوب في الواجب المطلق المعلق إنما يكون بمثابة لا يجب تحصيل مقدماته قبل الشرط والوقت إلا خصوص التعلم ، ودخل سائر المقدمات إنما هو بوجودها الاتفاقي ، فإن الاستطاعة مثلا بوجودها الاتفاقي مقدمة ، لا بوجودها التحصيلي كالطهارة بالنسبة على الصلاة. وعلى هذا : فيكون بين المقدمات تفاوت في ترشح الوجوب من الواجب إلى بعضها كالفحص والتعلم ، وعدم ترشحه على بعضها الآخر كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج ، فإنه لا يجب تحصيلها.

وبالجملة : فإطلاق الوجوب لا يقتضي إيجاب جميع المقدمات ؛ بل لا بد من ملاحظة نظر المولى في كيفية دخل المقدمات ، فإن كان دخلها بوجودها الاتفاقي فلا يجب تحصيلها ، وإلا وجب ذلك. والتعلم من هذا القبيل ، فيجب قبل الشرط أو الوقت ، ويعاقب على تركه.

(١) دون الوجوبية ، لأنها شرائط نفس الوجوب ومقدمة رتبة عليه ، فيمتنع ترشح الوجوب المتأخر عنها عليها ، و «عقلا» قيد ل «تتصف» و «بالوجوب» متعلق به أيضا.

(٢) هذا استثناء من «مقدماته» ، يعني : لا تتصف مقدماته الوجودية بالوجوب إلا التعلم.

(٣) يعني : لا يكون الشرط قيدا للهيئة حتى يكون الوجوب منوطا به ؛ بل هو قيد للمادة ، فالوجوب حالي والواجب استقبالي ، ومن المعلوم : اقتضاء الوجوب الحالي لوجوب مقدماته.

٢٧

شرطه (١) ، ولا غير التعلم من مقدماته (٢) قبل شرطه أو وقته (٣).

وأما (٤) لو قيل بعدم الإيجاب إلا بعد الشرط والوقت كما هو (٥) ظاهر الأدلة وفتاوى المشهور ، فلا (٦) محيص عن الالتزام بكون وجوب التعلم نفسيا ؛ لتكون العقوبة ـ لو قيل بها (٧) ـ على تركه لا على ما أدى إليه ...

______________________________________________________

(١) أي : الشرط الذي يكون بوجوده الاتفاقي دخيلا كالاستطاعة ، فإنه لا يترشح من الواجب وجوب غيري عليها ، نعم ؛ لو لم يكن دخله بهذا النحو كان مقتضى قيديته للواجب وجوب تحصيله.

(٢) أي : الواجب المطلق المعلق ، وضميرا «مقدماته ، شرطه» راجعان إليه أيضا.

(٣) هذا الضمير وضمير «شرطه» راجعان على الواجب الاستقبالي.

(٤) غرضه : أنه لو نوقش في الوجه الثاني ـ وهو كون الواجب المشروط والموقت مطلقا معلقا حتى يجب التعلم غيريا بعدم الوجوب إلا بعد الشرط والوقت كما هو مقتضى كون الشرط قيدا لنفس الوجوب وفتاوى المشهور ـ حيث إنهم أفتوا بعدم وجوب مقدمات الواجب المشروط والموقت قبل الشرط والوقت ـ فيتعين دفع إشكال استحقاق العقوبة فيهما بكون وجوب التعلم نفسيا ؛ لتكون المؤاخذة على تركه لا على ترك الواقع.

(٥) أي : عدم الإيجاب ظاهر الأدلة المتضمنة للشرط والوقت كقوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ)(١) ، فإن النداء المراد به زوال يوم الجمعة شرط لوجوب السعي.

(٦) جواب «وأما» وهو كالصريح في تعيّن دفع إشكال العقوبة في الواجب المشروط والموقت بالالتزام بنفسية وجوب التعلم.

قوله : «نفسيا» يعني : لا غيريا ترشحيا ؛ لعدم إطلاق الوجوب لذي المقدمة قبل الشرط والوقت حتى يترشح منه وجوب غيري على التعلم ، مع أن الوجوب الغيري لا توجب مخالفته استحقاق العقوبة.

(٧) أي : بعقوبة ، والأولى «ليكون استحقاق العقوبة» كما عبر به قبل أسطر ؛ إذ ليس الكلام في العقوبة الفعلية ، بل في استحقاقها.

وقوله : «لو قيل بها» إشارة إلى أحد الأقوال الثلاثة المتقدمة في استحقاق العقوبة ، وهو القول بكون استحقاقها على ترك التعلم نفسه في قبال القولين الآخرين ، وهما :

__________________

(١) الجمعة : ١١.

٢٨

من (١) المخالفة ، ولا بأس به (٢) كما لا يخفى ، ولا ينافيه (٣) ما يظهر من الأخبار من كون وجوب التعلم إنما هو لغيره (٤) لا لنفسه ، حيث (٥) إن وجوبه لغيره لا يوجب

______________________________________________________

استحقاقها على ترك الواقع ، وترك التعلم من حيث أدائه إلى ترك الواقع.

ولعل الأولى تقديم «على تركه» بأن يقال : «لتكون العقوبة على تركه لو قيل بها» ، فاستحقاقها مترتب على نفس ترك الفحص والتعلم والعمل بأصالة البراءة قبلهما ، سواء صادف تركهما ترك الواقع أم لا. وضمير «تركه» راجع على التعلم. وقوله : «لا على» عطف على «تركه».

(١) بيان ل «ما» الموصول ، وضمير «إليه» راجع على الموصول ، والمستتر في «أدى» راجع على «تركه».

(٢) يعني : ولا بأس بالالتزام بالوجوب النفسي للتعلم في دفع الإشكال في الواجب المشروط والموقت ؛ لكون العقوبة حينئذ على الواجب النفسي.

(٣) يعني : ولا ينافي وجوب التعلم نفسيا «ما يظهر من الأخبار ...» الخ.

وغرضه : تأييد مذهب الأردبيلي وصاحب المدارك «قدس‌سرهما» من كون التعلم واجبا نفسيا ، ودفع ما يتوهم من منافاته لظاهر الأخبار.

ومحصل تقريب التوهم هو : أن الالتزام بالوجوب النفسي للتعلم مناف لظاهر أدلة وجوب التعلم ، حيث إن ظاهرها وجوبه للعمل ، فيكون وجوبه للغير كوجوب سائر المقدمات ، وليس وجوبه لنفسه ، فكيف التوفيق بين هذا الظاهر والوجوب النفسي هذا؟

وملخص دفع هذا التنافي هو : أن الوجوب للغير مغاير للوجوب بالغير ، فإن الواجبات النفسية كلها واجبات للغير ، بمعنى : أن وجوبها نشأ من الملاكات الداعية إلى إيجابها ، فالصلاة وجبت للغير وهو ملاكها كالنهي عن الفحشاء ، والوجوب بالغير هو الوجوب المترشح من وجوب آخر ، والأول واجب نفسي ، والثاني واجب غيري كمقدمات الصلاة ، وقد تقدم آنفا : أن الواجب التهيئي هو ما وجب للتهيؤ لتشريع واجب.

وبالجملة : فالوجوب الغيري المقدمي غير الوجوب النفسي التهيئي.

(٤) أي : لغير التعلم وهو العمل في الرواية التي أشير إليها وهي قوله «عليه‌السلام» : «قيل له : هلّا تعلمت حتى تعمل».

(٥) هذا وجه دفع المنافاة : وقد عرفت تقريبه بقولنا : «وملخص دفع الثاني ...» الخ.

٢٩

كونه واجبا غيريا يترشح وجوبه من وجوب غيره ، فيكون (١) مقدميا ؛ بل للتهيؤ لإيجابه (٢) فافهم (٣).

وأما الأحكام (٤) : فلا إشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة ؛ بل في صورة

______________________________________________________

(١) يعني : حتى يكون التعلم واجبا مقدميا ؛ بأن ينشأ وجوبه عن وجوب غيره.

(٢) أي : لإيجاب الغير ، وهذا هو الوجوب النفسي التهيئي ؛ لأنه كما مر سابقا عبارة عن التهيؤ لإيجاب شيء على المكلف ، وقوله : «بل للتهيؤ» عطف على «لا يوجب» ، يعني : بل وجوبه للتهيؤ لإيجاب الغير.

(٣) يمكن أن يكون إشارة إلى وجوه لعل أوجهها : إباء حمل نصوص وجوب التعلم على النفسي التهيئي الذي وجه به الشيخ «قدس‌سره» كلام العلمين الأردبيلي وصاحب المدارك «قدس‌سرهما» ، ضرورة : أن قولهم «عليهم‌السلام» في بعضها : «هلّا تعلمت حتى تعمل» كالصريح في كون التعلم مقدمة للعمل في الخارج ، لا مقدمة لوجوب العمل حتى يكون وجوب التعلم نفسيا تهيئيا له لا غيريا لوجوده كما لا يخفى. فإن كان وجوبه تهيئيا كان التعبير هكذا : «هلّا تعلمت حتى يجب أن تعمل».

وبالجملة : لا تدل نصوص وجوب التعلم على وجوبه النفسي التهيئي ، فإما تدل على وجوبه الغيري ، وإما على وجوبه الطريقي ، ولا يترتب استحقاق العقوبة على شيء منهما. وقد مرت الإشارة إلى الإشكال في وجوبه الغيري ؛ لعدم كون التعلم مقدمة وجودية للواجب بل هو مقدمة للعلم بوجوده ، فليس وجوب التعلم إلا وجوبا طريقيا.

فما أفاده الشيخ «قدس‌سره» من كون وجوبه غيريا لا يخلو من الغموض ؛ لما عرفت من : عدم كون التعلم مقدمة وجودية للواجب حتى يجب بالوجوب الغيري المقدمي ، مضافا إلى : عدم اقتضاء الإيجاب الغيري لاستحقاق العقوبة. هذا تمام الكلام في المقام الأول المعقود لبيان ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من استحقاق العقوبة.

(٤) هذا هو المقام الثاني المتكفل لحكم العمل بالبراءة قبل الفحص والتعلم ، وقوله : «أما الأحكام» : عطف على «أما التبعة» المذكور بعد قوله : «ولا بأس بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة والأحكام».

ولا يخفى : أن الأولى التعبير ب «الحكم» كما عبّر به الشيخ «قدس‌سره» بقوله : «وأما الكلام في الحكم الوضعي وهي صحة العمل الصادر من الجاهل وفساده ، فيقع الكلام فيه تارة في المعاملات وأخرى في العبادات ...» الخ ؛ إذ المقصود هنا هو : بيان الحكم الوضعي فقط أعني : الصحة أو الفساد ، وهو حكم واحد ، وليس هنا حكم تكليفي

٣٠

الموافقة أيضا في العبادة (١) فيما لا تأتى منه قصد القربة (٢) ؛ وذلك (٣) لعدم الإتيان

______________________________________________________

مترتب على العمل بسبب ترك الفحص غير حكمه الواقعي الثابت له مطلقا ، سواء تفحص عنه أم لم يتفحص.

وكيف كان ؛ فمحصل ما أفاده في حكم العمل بالبراءة قبل الفحص والتعلم : أن المعيار في صحة العمل وفساده هو الموافقة للواقع والمخالفة له مطلقا ، سواء كان عبادة أم معاملة ، غاية الأمر : أنه إن كان عبادة فقد اعتبر في صحته مضافا إلى المطابقة للواقع نشوؤه عن قصد القربة ، فمع قصدها ـ ولو رجاء ـ صح ولا يحتاج إلى الإعادة ، وبدون قصدها لا يصح وتجب إعادته وإن كان مطابقا للواقع.

وإن كان معاملة فلا يعتبر في صحتها غير الموافقة له.

فالمتحصل : أن العمل العبادي يصح في صورة واحدة وهي الموافقة للواقع مع حصول قصد القربة لغفلة أو لرجاء إدراك الواقع ، والبناء على تداركه مع تبيّن الخلاف ، ويفسد في صورتين : إحداهما : مخالفته للواقع ، والأخرى : موافقته له بدون قصد القربة ، وإن كان رجوع كلتا الصورتين إلى صورة واحدة وهي المخالفة للواقع الذي هو في العبادات العمل مع القربة.

وخلاصة الكلام : أنه يظهر من عبارة المصنف : أن المعيار في الصحة والفساد في المعاملة هو موافقتها مع الواقع ومخالفتها له ، فإن وافقته صحت وإن خالفته بطلت ، وأن المعيار في العبادة أمران : موافقتها مع الواقع وتمشّي قصد القربة ، فإن وافقت العبادة مع الواقع وتمشّى قصد القربة صحت ، وإلا بأن خالفت الواقع أو وافقته ولم يتمشّى قصد القربة لتردّد العامل بالبراءة قبل الفحص وعدم جزمه بأحد الطرفين بطلت. توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) يعني : كعدم الإشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة للواقع في خصوص العبادة ؛ لفقدان شرط صحتها وهو قصد القربة ، كما إذا احتمل جزئية السورة مثلا للصلاة ، أو مانعية اللباس المشكوك لها ، فإنه مع هذا الاحتمال وعدم الإتيان بالسورة رجاء وعدم البناء على الإعادة مع انكشاف الخلاف لا يتأتى منه قصد القربة للشك في صلاحية هذا العمل للمقربية. والتقييد بالعبادة لوضوح عدم اعتبار قصد القربة في التوصليات حتى يقدح عدم تمشّيه في عبادية العمل.

(٢) كمثال احتمال جزئية السورة على ما عرفت آنفا ، فيبطل العمل العبادي لاختلال شرطه وهو قصد القربة.

(٣) تعليل لعدم الإشكال في وجوب الإعادة في صورتي المخالفة للواقع والموافقة له

٣١

بالمأمور به (١) مع عدم دليل على الصحة والإجزاء ، إلا (٢) في الإتمام في موضع القصر ، أو الإجهار أو الإخفات في موضع الآخر ، فورد في الصحيح (٣) ـ وقد أفتى

______________________________________________________

مع فقدان قصد القربة ، وهذه العلة مشتركة بين صورتي الموافقة للواقع بدون قصد القربة والمخالفة له.

قوله «مع عدم دليل على الصحة» تعليل لصورة الإتيان بالعمل فاقدا لبعض شرائطه.

وحاصله : أنه إذا أتى بالمأمور به ناقصا صدق أنه لم يأت بالمأمور به على وجهه ، فهو فاسد ؛ إلا إذا دل دليل على صحته وعدم لزوم إعادته ، وهذا الدليل مفقود إلا في موضعين ؛ أحدهما : الإتمام في موضع القصر ، والآخر الجهر أو الإخفات في موضع الآخر على التفصيل الآتي إن شاء الله تعالى.

(١) الأولى إضافة «على وجهه» إليه ؛ لما مر منه في بحث التعبدي والتوصلي من دخل قصد القربة في الغرض ، وعدم تكفل نفس الخطاب لاعتباره في العبادة ، وعليه : فالمراد بقوله : «في صورة الموافقة» هو الموافقة لذات العبادة ما عدا قصد القربة ، فلا يتوهم التهافت بين صدر الكلام وذيله.

(٢) استثناء من قوله : «مع عدم دليل على الصحة».

(٣) أما الصحيح الدال على الأول فهو صحيح زرارة ومحمد بن مسلم : (قالا قلنا : لأبي جعفر «عليه‌السلام» : رجل صلى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ قال «عليه‌السلام» : «إن كان قرئت عليه آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد وإن لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه») (١).

وأما الصحيح الدال على الثاني ، فهو صحيح زرارة عن أبي جعفر «عليه‌السلام» : (في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه ، وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه ، فقال «عليه‌السلام» : «أيّ : ذلك فعل متعمدا فقد نقض صلاته وعليه الإعادة ، فإن فعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري ، فلا شيء عليه وقد تمت صلاته») (٢).

فإن هذين الصحيحين يدلان على صحة الصلاة التامة في موضع القصر الذي هو المأمور به ، وصحة الصلاة التي أجهر فيها في موضع الإخفات ، وبالعكس ، ولو لا هذان

__________________

(١) الفقيه ١ : ٤٣٤ / ذيل ح ١٢٦٥ ، تهذيب الأحكام ٢٢٦٠٣ / ٥٦٨ ، الوسائل ٨ : ٥٠٦ / ١١٣٠٠.

(٢) الفقيه ١ : ٣٤٣ / ١٠٠٢ ، تهذيب الأحكام ٢ : ١٦٢ / ٦٣٥ ، الاستبصار ١ : ٣١٣ / ١١٦٣ ، الوسائل ٦ : ٨٦ / ٧٤١٢ ـ ٧٤١٣.

٣٢

به المشهور (١) ـ صحة (٢) الصلاة وتماميتها في الموضعين مع الجهل مطلقا ، ولو كان (٣) عن تقصير موجب (٤) لاستحقاق العقوبة على ترك الصلاة المأمور بها ؛ لأن (٥) ما أتى بها وإن صحت وتمت إلا إنها (٦) ليست بمأمور بها (٧).

______________________________________________________

الصحيحان لكان مقتضى القاعدة البطلان ؛ لعدم كونها مأمورا بها.

(١) غرضه : إثبات حجية الصحيحين المذكورين ، وعدم كونهما من الصحاح المعرض عنها عند المشهور حتى يسقطا بسبب الإعراض عن الحجية ؛ بل من المعمول بهما عندهم.

وبالجملة : فالمقتضي للحجية فيهما ـ وهو صحة السند ـ موجود ، والمانع عنها ـ وهو إعراض المشهور ، مفقود ، وعليه : فلا إشكال في اعتبارهما وصحة الاعتماد عليهما. وضمير «به» راجع على «الصحيح».

(٢) فاعل «فورد» ، وقوله : «وتماميتها» عطف على «صحة» ، وضميرها راجع على «الصلاة».

(٣) بيان لقوله : «مطلقا» يعني : ولو كان الجهل عن تقصير في الفحص والسؤال.

(٤) صفة ل «تقصير» و «لاستحقاق» متعلق به.

(٥) تعليل لكون استحقاق العقوبة على طبق القاعدة ، وذلك لأن ما أتى به المكلف ليس مأمورا به حتى لا يستحق العقوبة ؛ إذ المأمور به هو صلاة القصر دون التمام ، أو الجهر دون الإخفات ، أو العكس ، وترك المأمور به والإخلال به لا عن عذر يوجب استحقاق العقوبة ، فينبغي أن لا يكون استحقاقها موردا للإشكال ؛ وإن كان الدليل وهو الصحيحان المتقدمان دالا على صحتها وعدم لزوم إعادتها. وضمير «بها» راجع على الموصول المراد به الصلاة ، وكذا ضمير «إنها».

(٦) يعني : إلا إن الصلاة مع صحتها بالدليل المزبور ليست بمأمور بها بأمرها الأولي ؛ إذ المفروض : عدم انطباقه على المأتي به ، فصحته إنما هي بالدليل الثانوي.

(٧) قال في الجواهر : «وفاقا للأكثر كما في المدارك وغيرها ؛ بل المشهور كما في الروض وغيره ، بل في الرياض أن عليه الإجماع في الجملة في ظاهر بعض العبارات ، بل حكى المقدس البغدادي الإجماع عليه صريحا. وربما يؤيده معروفية استثناء هذه المسألة ومسألة الجهر والإخفات من عدم معذورية الجاهل كما يومي إليه سؤال الرسي والرضي السيد المرتضى عن وجه ذلك ... وأجاب المرتضى عنه مقرا لهما على ما يستفاد من كلامهما من كون الحكم مفروغا عنه ... تارة بأنه يجوز تغير الحكم الشرعي بسبب

٣٣

إن قلت (١) : كيف يحكم بصحتها مع عدم الأمر بها؟

______________________________________________________

الجهل وإن كان الجاهل غير معذور ... وكأنه يريد أن الجاهل هنا أيضا غير معذور بالنسبة للإثم وعدمه إن كان فعله صحيحا للدليل». «جواهر الكلام ، ج ١٤ ، ص ٣٤٣».

(١) أي : إن قلت : ما هو الوجه لصحة الصلاة؟ وما هو الوجه لاستحقاق العقوبة على تقدير الصحة؟ فإنه كيف يحكم بصحة الصلاة المخالفة مع عدم الأمر بها ، فإن الأمر كان متوجها إلى القصر وإلى الإخفات في الظهرين ، وإلى الجهر في الصبح والمغربين. هذا هو الإشكال الأول.

والإشكال الثاني : كيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة التي أمر بها ـ أي : الصلاة الواقعية ـ حتى فيما إذا تمكن مما أمر بها ، يعني : أنه لو تمكن من إعادة الصلاة موافقة للواقع فكيف يقول له الشارع : لا تصل ـ إذ لا إعادة عليه ـ ثم يعاقبه بأنه لم صلى الصلاة الناقصة؟ فإنه كالتهافت.

وكيف كان ؛ فغرضه : أنه كيف يمكن الحكم بصحة العبادة بدون الأمر؟ وكيف يحكم باستحقاق العقوبة على ترك المأمور به مع عدم استناد الترك إلى المكلف وتمكنه من الإتيان به؟

وتوضيح الإشكال ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٦ ، ص ٤٤٢» ـ أن هذا الإشكال ينحل إلى إشكالين :

أحدهما : أنه كيف يصح المأتي به بدون الأمر؟ مع أن الصحة هي انطباق المأمور به عليه ، والمفروض : خلو المأتي به عن الأمر ، فيمتنع انطباقه عليه ، مع دلالة الصحيحين المتقدمين على الصحة. أما الصحيح الأول فلقوله : «عليه‌السلام» : «فلا إعادة عليه» ، حيث إن نفي الإعادة يدل على ملزومة ، وهي الصحة. وأما الصحيح الثاني : فلقوله «عليه‌السلام» : «أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمت صلاته».

ثانيهما : أنه كيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك المأمور به مع القدرة على الإعادة والإتيان بالمأمور به على وجهه؟ كما إذا علم بوظيفته من القصر أو الجهر أو الإخفات في الوقت مع سعته والتمكن من فعله ثانيا ، ومعه لا موجب لاستحقاق العقوبة ؛ إذ المطلوب في تمام الوقت هو صرف الوجود من الطبيعة المأمور بها ، والمفروض : تمكنه من ذلك مع عدم وجوب الإعادة ، بل مرجوحيتها شرعا بمقتضى قوله «عليه‌السلام» : «تمت صلاته ولا يعيد» ، فترك المأمور به حينئذ مستند إلى الشارع ، ومعه كيف تصح مؤاخذته؟ هذا تمام الكلام في الإشكال من وجهين.

٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما الجواب عن الإشكال الأول : ـ وهو الحكم بصحة العبادة مع عدم الأمر بها فتوضيحه يتوقف على مقدمة : وهي : أن الحكم بالصحة تارة : يكون لأجل الأمر ، وأخرى : يكون لأجل وجود ملاك الأمر وهو المصلحة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الصحة هنا ليست بلحاظ الأمر ؛ بل بلحاظ ملاكه لوفاء المأتي به بالغرض الأكمل ، والحكم باستحقاق العقاب يكون لأجل أنه فوّت على المولى مقدارا من المصلحة لا يمكن تداركها.

والمتحصل : أن الصحة إنما هي لأجل كون المأتي به واجدا لعمدة مصلحة المأمور به التي يلزم استيفاؤها ، وكيف كان ؛ فلاشتمال المأتي به على هذا الملاك اللازم الاستيفاء يتصف بالصحة والإجزاء عن المأمور به ؛ بحيث لو لم تجب صلاة القصر كانت الصلاة تماما مأمورا بها ؛ لكن لما كانت مصلحة صلاة القصر أهم صارت هي الواجبة فعلا لا الصلاة تماما ، فصحة صلاة التمام مستندة إلى المصلحة لا الأمر الفعلي كي يقال : ليس هناك أمر فعليّ فكيف يحكم بالصحة؟

وأما الجواب عن الإشكال الثاني ـ وهو أنه كيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة مع تمكن المكلف من الإعادة التي تكون وافية بتمام المصلحة ـ فإنه لا فائدة في الإعادة ؛ إذ لا مصلحة تقتضي الإعادة ، حيث إن المصلحة التامة الكامنة في صلاة القصر قد فاتت بسبب الإتيان بصلاة التمام لمكان الضدية بين المصلحتين ، فمصلحة صلاة التمام فوتت مصلحة صلاة القصر ، فلا مصلحة لها بعد الصلاة تماما ، ولم يبق شيء منها قابلا للتدارك حتى تجب إعادتها لأجل تداركه.

هذا نظير ما إذا أمر المولى عبده بسقي البستان أو الزرع بماء النهر مثلا ، فسقاه بماء البئر ، فإن مصلحة السقي بماء النهر قد فاتت بسقيه بماء البئر ويمتنع تداركها ، بل سقيه بماء النهر حينئذ مضر بالبستان أو الزرع ومفسد له ، فمصلحة نفس السقي في الجملة وإن ترتبت على السقي بماء البئر ؛ إلا إن كمال المصلحة ـ وهو النمو الزائد ـ لا يترتب عليه ولا يمكن تداركه بماء النهر.

فالمتحصل : أن الحكم باستحقاق العقاب إنما هو لأجل تفويت مقدار من المصلحة لا يمكن تداركها على المولى.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

٣٥

وكيف (١) يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة التي أمر بها (٢) حتى (٣) فيما إذا تمكن مما أمر بها كما هو (٤) ظاهر إطلاقاتهم ؛ بأن علم (٥) بوجوب القصر أو الجهر بعد الإتمام والإخفات ، وقد بقي من الوقت مقدار إعادتها قصرا أو جهرا؟ ضرورة (٦) : أنه لا تقصير هاهنا (٧) يوجب استحقاق العقوبة.

وبالجملة : كيف (٨) يحكم بالصحة بدون الأمر؟ وكيف يحكم باستحقاق العقوبة

______________________________________________________

قوله : «كيف يحكم بحصتها مع عدم الأمر بها؟» إشارة إلى الإشكال الأول ، وضميرا «بصحتها ، بها» راجعان على الصلاة.

(١) هذا إشارة إلى الإشكال الثاني الذي تقدم تقريبه.

(٢) وهي : صلاة القصر ، أو الجهر أو الإخفات.

(٣) يعني : كيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك المأمور به مطلقا حتى في صورة القدرة على إعادته في الوقت مع مرجوحية الإعادة؟ حيث إن ترك المأمور به حينئذ ليس مستندا إلى المكلف حتى يستحق المؤاخذة ؛ بل هو مستند إلى الشارع كما هو مقتضى قوله «عليه‌السلام» في الصحيحين المتقدمين : «فلا إعادة عليه» ، و «فلا شيء عليه» ، و «قد تمت صلاته» على التقريب المتقدم.

(٤) يعني : كما أن الحكم باستحقاق العقوبة مطلقا ظاهر إطلاقات الفقهاء ، حيث إنهم أطلقوا استحقاق من أتم في موضع القصر جاهلا بالحكم للعقوبة ، فإن إطلاق كلامهم يشمل صورة ارتفاع الجعل في الوقت والتمكن من الإتيان بالمأمور به الواقعي فيه.

(٥) هذا بيان التمكن من فعل المأمور به في الوقت. وضمير «إعادتها» راجع على الصلاة المأمور بها.

(٦) تعليل لقوله : «وكيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة؟» ، وحاصله : أنه كيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك المأمور به الواقعي مع عدم تقصيره في الترك ، حيث إن الترك مستند إلى حكم الشارع بإجزاء غير المأمور به وعدم الإعادة ، وضمير «أنه» للشأن.

(٧) أي : في صورة ارتفاع الجهل في الوقت والتمكن من الإتيان بالمأمور به فيه ، فترك المأمور به الواقعي حينئذ ليس مستندا إلى تقصيره حتى يستحق العقاب ؛ بل تركه مستند إلى حكم الشارع بالإجزاء وعدم الإعادة كما تقدم آنفا.

(٨) هذا إشارة إلى الإشكال الأول ، كما أن قوله : «وكيف يحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن؟» إشارة إلى الإشكال الثاني ، وقد تقدم تقريبهما مفصلا.

٣٦

مع التمكن من الإعادة (١)؟ لو لا الحكم (٢) شرعا بسقوطها وصحة ما أتى بها (٣).

قلت : إنما حكم بالصحة (٤) لأجل اشتمالها على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء في نفسها مهمة في حد ذاتها (٥) ؛ وإن كانت دون مصلحة الجهر والقصر (٦) ، وإنما لم يؤمر (٧) بها لأجل أنه أمر بما (٨) كانت واجدة لتلك المصلحة (٩) على النحو الأكمل

______________________________________________________

(١) يعني : في الوقت لإدراك المصلحة الوقتية ، ومع ذلك حكم الشارع بسقوط الإعادة.

(٢) قيد للتمكن ، يعني : أن المكلف متمكن من الإعادة ، إلا إن الشارع عجّزه وسلب عنه القدرة عليها بسبب حكمه بالإجزاء والصحة ، ففوت المأمور به ناش عن حكمه بالصحة ، لا عن تقصير المكلف كما مر.

(٣) أي : بالصلاة ، فتأنيث الضمير باعتبار ما يراد من الموصول لا باعتبار لفظه ، وضمير «سقوطها» راجع على الإعادة.

(٤) هذا جواب عن الإشكال الأول ، وهو اتصاف المأتي به بالصحة مع عدم الأمر به ، وقد تقدم توضيح ذلك ولا حاجة إلى الإعادة.

(٥) يعني : أن صلاة التمام في حد ذاتها ـ مع الغض عن القصر ـ ذات مصلحة مهمة يلزم استيفاؤها ؛ لكنها ليست مساوية لمصلحة القصر ، وإلا كان اللازم هو التخيير بينه وبين التمام كسائر الواجبات التخييرية ، لعدم مزية حينئذ لصلاة القصر توجب الأمر بها تعيينا.

وضمير «اشتمالها» راجع على الصلاة التامة في موضع القصر ، أو الصلاة جهرا في موضع الإخفات ، أو

العكس وضميرا «نفسها ، ذاتها» راجعان على «مصلحة».

(٦) إذ لو كانت مساوية لمصلحة الجهر والقصر لكان الحكم هو التخيير بين القصر والتمام ، والجهر والإخفات ، كما عرفت آنفا.

(٧) يعني : أن صلاة التمام إن كانت ذات مصلحة فلما ذا لم يؤمر بها في عرض الأمر بالقصر؟ فقد أجاب عنه : بأن عدم الأمر بها إنما هو لأجل الاستغناء عنه بسبب أكملية مصلحة القصر ؛ لاشتماله على مصلحة التمام وزيادة.

(٨) أي : بالصلاة القصرية الواجدة لمصلحة الصلاة التامة على الوجه الأكمل والأتم ، وعلى هذا فلا موجب للأمر بالتمام.

(٩) أي : المصلحة القائمة بصلاة التمام على الوجه الأكمل يعني : إنما أمر بصلاة القصر التي تكون واجدة للمصلحة القائمة بصلاة التمام على الوجه الأكمل والأتم.

٣٧

والأتم (١).

وأما الحكم (٢) باستحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة ، فإنها (٣) بلا فائدة ؛ إذ (٤) مع استيفاء تلك المصلحة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت في المأمور بها (٥) ، ولذا (٦) لو أتى بها في موضع الآخر جهلا ـ مع تمكنه من التعلم ـ فقد قصر ، ولو (٧) علم بعده وقد وسع الوقت.

فانقدح (٨) : أنه لا يتمكن من صلاة القصر ...

______________________________________________________

وبالجملة : فحاصل جواب الإشكال هو : أن اتصاف المأتي به ـ كالتمام في موضع القصر ـ بالصحة إنما هو بلحاظ المصلحة الموجودة فيه ، لا بلحاظ الأمر ، وعدم الأمر به مع اشتماله على المصلحة المهمة إنما هو لأجل أهمية مصلحة القصر وأكمليتها من مصلحته ، ومن المعلوم : تبعية التشريع لأهم المصلحتين.

(١) يعني : أن تلك المصلحة تكون بمثابة من الأهمية تمنع عن الأمر بالتخيير بين القصر والتمام ولو بنحو أفضلية القصر من التمام ؛ بل أهميتها توجب الأمر بالقصر تعيينا.

(٢) هذا جواب عن الإشكال الثاني وهو : أنه كيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك المأمور به مع التمكن من إعادته.

وقد تقدم توضيح الجواب عن هذا الإشكال الثاني فلا حاجة إلى التكرار.

(٣) أي : الإعادة بلا فائدة ، والأولى أن يقال : «فلأنها بلا فائدة» ؛ لأنه في مقام تعليل عدم الإعادة مع التمكن منها حتى لا يستحق العقوبة.

(٤) تعليل لكون الإعادة بلا فائدة ، وقد عرفت توضيحه في الجواب عن الإشكال الثاني. فراجع.

(٥) كصلاة القصر ، فإن مصلحة صلاة التمام تفوّت مصلحة القصر.

(٦) يعني : ولعدم بقاء المجال لاستيفاء مصلحة المأمور به ، وعدم فائدة في الإعادة لو أتى بالتمام في موضع القصر جهلا بالحكم ، فقد قصر وليس عليه الإعادة وإن علم بالحكم في الوقت وتمكن من الإعادة فيه. وضمير «بها» راجع على الصلاة غير المأمور بها كالتمام.

(٧) كلمة «لو» وصلية يعني : ولو كان علمه بالحكم في سعة الوقت وإمكان الإعادة فيه ، وضمير «بعده» راجع على الإتيان.

(٨) هذه نتيجة ما تقدم من عدم المجال للإعادة عادة لفوت المصلحة ، وعدم بقاء

٣٨

صحيحة (١) بعد فعل صلاة التمام ، ولا (٢) من الجهر كذلك بعد فعل صلاة الإخفات ؛ وإن كان الوقت باقيا.

إن قلت (٣) : على هذا يكون كل منهما في موضع الآخر سببا لتفويت الواجب

______________________________________________________

شيء منها يوجب الإعادة. وعليه : فلا يتمكن من صلاة القصر صحيحة بعد الإتيان بصلاة التمام ، وكذا في الجهر والإخفات ، وإن كان الوقت لإتيانها باقيا ؛ لما مر آنفا من : أن مصلحة المأتي به كالتمام تفوّت مصلحة المأمور به كالقصر ، ويسقط أمره أيضا ، وضمير «أنه» للشأن.

(١) لأن الصحة موافقة الأمر ، والمفروض : سقوط الأمر بصلاة القصر بقوات مصلحتها بفعل صلاة التمام.

(٢) يعني : ولا يتمكن من الجهر «كذلك» ، أي : صحيحة بعد الإتيان بصلاة الإخفات ؛ لما مر من فوات المصلحة.

(٣) هذا إشكال على ما تقدم من الحكم بصحة التمام مكان القصر ، والجهر مكان الإخفات.

وحاصل الإشكال : أن بناء على ما تقدم آنفا : من أنه مع استيفاء مصلحة الإتمام في موضع القصر ، أو مصلحة كل من الجهر والإخفات في موضع الآخر لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي هي في المأمور به يكون الإتمام في موضع القصر جهلا ، وهكذا كل من الجهر والإخفات في موضع الآخر كذلك سببا لتفويت الواجب ، والسبب المفوّت للواجب حرام ، وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام ، فكيف يقال : إنه صح وتم؟

وبالجملة : ملخص الكلام في تقريب الإشكال : أن ترك المأمور به ـ وهو القصر ـ حرام ، وحيث إن التمام مقدمة لهذا الترك المحرم ، فتسري الحرمة إليه والنهي في العبادة يقتضي الفساد. وعليه : فالصلاة التامة لحرمتها فاسدة ، ومع فسادها كيف يحكم بصحتها وإجزائها عن المأمور به؟

وحاصل الجواب : أن التمام ليس مقدمة لترك الواجب الفعلي وهو القصر ؛ بل التمام والقصر ضدان ، وهما في رتبة واحدة ، فعدم كل منهما يكون أيضا في رتبة وجود الآخر ، لا في طوله حتى يصير عدم أحدهما مقدمة ومن أجزاء علة وجود الآخر فلا علية بينهما ؛ بل عدم أحدهما ملازم لوجود الآخر ، ومع عدم التوقف والعليّة لا يكون التمام سببا لفوت المأمور به حتى يتصف لأجل المقدمية بالحرمة ويفسد ، بل هو باق على

٣٩

فعلا (١) ، وما هو سبب لتفويت الواجب كذلك (٢) حرام ، وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام (٣).

قلت (٤) : ليس (٥) لذلك ، غايته أنه (٦) يكون مضادا له ، وقد حققنا في محله (٧) : أن الضد وعدم ضده متلازمان ليس بينهما توقف أصلا.

لا يقال : على هذا (٨) فلو صلى تماما أو صلى إخفاتا ـ في موضع القصر والجهر.

______________________________________________________

محبوبيته لاشتماله على المصلحة المهمة اللازم استيفاؤها ، فيقع صحيحا ، أي : واجدا للملاك ومسقطا للواجب الفعلي لكونه مفوتا لملاكه الداعي إلى الأمر به.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) قيد للواجب ؛ إذ الواجب الفعلي هو القصر ، حيث إن ملاكه أقوى من ملاك التمام ، وقد مرت الإشارة إلى أن التشريع تابع لأقوى الملاكين.

(٢) أي : الفعلي ، والمراد ب «ما هو السبب» هو التمام ، حيث إنه مقدمة لتفويت القصر الذي هو الواجب الفعلي ، وقوله : «حرام» خبر «ما» الموصول ، يعني : وما هو السبب لتفويت الواجب الفعلي حرام من باب المقدمة.

(٣) لامتناع التقرّب بما هو مبغوض وحرام ، وفساد العبادة بسبب النهي عنها.

(٤) هذا دفع الإشكال : وقد تقدم توضيح ذلك.

وخلاصة الدفع : أن سبب ترك الواجب هو سوء الاختيار لا هذا المأتي به.

(٥) أي : ليس كل منهما في موضع الآخر سببا لتفويت الواجب الفعلي ، فالمشار إليه في «لذلك» هو التفويت.

(٦) أي : غاية الأمر : أن كلا منهما في موضع الآخر يكون مضادا للواجب الفعلي الفائت ، وضمير «له» راجع على الواجب.

(٧) أي : في مبحث الضد ، حيث إن الضد كالسواد وعدم ضده كعدم البياض متلازمان ، وليس بينهما توقف وعلّية أصلا.

وعليه : فلا يكون فوت الواجب الفعلي كالقصر مستندا إلى فعل التمام ؛ بل هو مستند إلى تقصيره في ترك الفحص والتعلم ، فصلاة التمام تقع محبوبة ، لكونها واجدة للمصلحة التامة في حد ذاتها ، وليست مقدمة لترك القصر حتى تصير مبغوضة غير صالحة للمقربية والإجزاء.

(٨) أي : بناء على اشتمال المأتي به ـ كالتمام في موضع القصر الذي هو الواجب الفعلي ، وكذا كل من الجهر والإخفات في موضع الآخر ـ على مصلحة تامة لازمة

٤٠