دروس في الكفاية - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

فلا مجال للإشكال فيها من جهة سندها كما لا يخفى.

وأما دلالتها (١) : فالظاهر أن الضرر هو ما يقابل النفع من النقص في النفس أو الطرف أو العرض أو المال تقابل العدم والملكة ، كما أن الأظهر أن يكون «الضرار» بمعنى : الضرر جيء به تأكيدا كما يشهد به (٢) إطلاق «المضار» على سمرة ،

______________________________________________________

وغيرهما (١) ، واعتماده على المراسيل وروايته عن الضعفاء ليس طعنا فيه ؛ إذ نقل الثقة عن الضعيف لا يقدح في وثاقته.

وأما محمد البرقي : فقد وثقه الشيخ (٢) والعلامة (٣) ، وما عن النجاشي (٤) من «أنه كان ضعيفا في الحديث» غير ظاهر في الجرح حتى يلزم الاعتماد عليه ؛ لكون النجاشي أسطوانة أهل هذا الفن ، إذ من المحتمل قويا أن مراده روايته عن الضعفاء ، وهو غير قادح في وثاقته ؛ لأن النقل عن غير الثقة مع عدم علمه به لا يقدح في وثاقته ، ضرورة : أن مناط اعتبار قوله وهو تحرزه عن الكذب لا يزول بالنقل عن غير الثقة مع الإسناد إليه وعدم العمل بقوله. ومع فرض الشك في قادحية مثل هذا لا نرفع اليد عن توثيق مثل الشيخ «قدس‌سره».

وأما ابن بكير : فهو وإن كان فطحيا ؛ لكنه من أصحاب الإجماع (٥).

وأما زرارة : فجلالته في غاية الظهور بحيث لا تحتاج إلى البيان (٦).

فالرواية معتبرة.

وضمير «بعضها» راجع على الروايات.

وضميرا «فيها ، سندها» راجعان على الروايات.

(١) أي : وهذا إشارة إلى الجهة الثانية من الجهات الثلاث المتعلقة بقاعدة لا ضرر. وقد تقدم توضيحها فلا حاجة إلى تكرارها ، وضمير «دلالتها» راجع على قاعدة لا ضرر.

(٢) أي : يشهد بكون الضرار بمعنى الضرر : إطلاق المضار الذي هو من باب المفاعلة على سمرة مع تفرده في الإضرار ، وعدم مشاركة أحد معه في الضرر في تلك القضية ،

__________________

(١) خلاصة الأقوال : ٦٣ / ٧.

(٢) رجال الطوسي : ٣٦٣ / ٥٣٩١.

(٣) خلاصة الأقوال : ٢٣٧ / ١٥.

(٤) رجال النجاشي : ٣٣٥ / ٨٩٩.

(٥) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٦٣٥ / ٦٣٩ ، خلاصة الأقوال : ١٩٥ / ٢٤.

(٦) رجال النجاشي : ١٧٥ / ٤٦٣ ، اختيار معرفة الرجال ١ : ٣٤٦ / ١٢٠ ، رجال الطوسي : ٣٣٧ / ٥٠١٠.

٦١

وحكي (١) عن النهاية لا فعل الاثنين (٢) وإن كان هو الأصل (٣) في باب المفاعلة.

ولا الجزاء على الضرر (٤) ، لعدم تعاهده من باب المفاعلة.

وبالجملة : لم يثبت له (٥) معنى آخر غير الضرر.

كما أن الظاهر (٦) أن يكون «لا» لنفي الحقيقة ، كما هو الأصل (٧) في هذا

______________________________________________________

وهذا أحد الشاهدين اللذين أقامهما المصنف على وحدة الضرر والضرار معنى.

(١) عطف على «يشهد» ، يعني كما يشهد وكما حكي عن النهاية ويمكن عطفه على «إطلاق» بعد تأويله بالمصدر ، يعني : كما يشهد به إطلاق «المضار» على سمرة ، ويشهد به حكاية اتحادهما معنى عن النهاية.

وكيف كان ؛ فهذا هو الشاهد الثاني على الوحدة ، قال في محكي النهاية.

«وقيل : هما بمعنى ، والتكرار للتأكيد» ؛ إلا إن كلمة «قيل» تشعر بالتمريض ، فلا يبقى إلا الشاهد الأول وهو إطلاق المضار على سمرة.

(٢) يعني : لا أن يكون الضرار فعل الاثنين ، وهو المعنى الثاني من المعاني المتقدمة للضرار. قال في محكي النهاية الأثيرية : «والضرار فعل الاثنين» ، والشاهدان المذكوران ينفيان كون «الضرار» هنا فعل الاثنين ؛ لكن شهادة الشاهد الثاني مخدوشة بأن النهاية لم تشهد بوحدتهما ، لما عرفت من : أن الحكاية بلفظ «وقيل» ليست ارتضاء للوحدة وقولا بها حتى تكون شهادة مثبتة للوحدة ونافية لكون «الضرار» فعل الاثنين ، بل الأمر بالعكس ، حيث إن قوله : «والضرار فعل الاثنين» ظاهر في جزمه بأن التعدد أحد معانيه اللغوية.

وكذا الحال في الشاهد الأول ، فإن شهادته على الوحدة أيضا محل إشكال مذكور في بعض التعاليق ، فدعوى : أظهرية الوحدة غير ثابتة.

(٣) كما هو المشهور بين أهل العربية ؛ لكنه غير ثابت إن أريد بالأصل وضع باب المفاعلة للمشاركة بين اثنين في صدور الفعل.

وإن أريد به الغلبة الاستعمالية ، ففيه ـ مع عدم ثبوتها أيضا ـ أنها لا تصلح لحمل الموارد المشكوكة عليها ؛ لتوقيفية اللغات وعدم حجية مجرد الغلبة وطريقيتها لإثباتها.

(٤) هذا إشارة إلى المعنى الثالث للضرار ، وقد تقدم ذكره.

(٥) أي : لم يثبت للضرار معنى آخر غير الضرر ، فالمراد بهما واحد.

(٦) هذا إشارة إلى معنى كلمة «لا» النفي ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «فحاصل ما أفاده المصنف».

(٧) الأولى تأخيره عن قوله : «حقيقة» بأن يقال : «لنفي الحقيقة حقيقة كما هو

٦٢

التركيب حقيقة (١) أو ادعاء (٢) ؛ كناية عن نفي الآثار ، كما هو (٣) الظاهر من مثل : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» (*) ، و «يا أشباه الرجال ولا رجال» (**) ، فإن (٤) قضية البلاغة في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادعاء (٥) ؛ لا نفي (٦) الحكم أو

______________________________________________________

الأصل في هذا التركيب أو ادعاء» ؛ إذ المراد بالأصل هو : الوضع ، فيلزم انقسام الوضع إلى النفي الحقيقي والادعائي ، نظير انقسام الموضوع له إلى المعنى الحقيقي والمجازي ، وهذا الانقسام كما ترى.

نعم ؛ إن كان المراد بالأصل الغلبة فلا بأس بالعبارة المذكورة ؛ لأن المعنى حينئذ هو : أن «لا» النافية لنفي الحقيقة كما هو الغالب حقيقة أو ادعاء ، فانقسام الغلبة إلى النفي الحقيقي والادعائي صحيح دون المعنى الحقيقي.

(١) قيد لنفي الحقيقة ، وضمير «هو» راجع على نفي الحقيقة ، والمراد بقوله : «في هذا التركيب» هو دخول «لا» النافية على اسم النكرة ، وحاصله : أن الأصل في «لا» النافية الداخلة على اسم الجنس هو نفي الطبيعة حقيقة أو مبالغة وادعاء ، تنبيها على أن الموجود الفاقد للأثر المطلوب منه كالمعدوم.

(٢) عطف على «حقيقة» ، وقوله : «كناية» قيد ل «ادعاء» ومنشأ له.

(٣) أي : نفي الحقيقة ادعاء ظاهر الأمثلة المذكورة في المتن مثل : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد ...» (١) الخ.

(٤) هذا تمهيد لبيان ما اختاره من كون نفي الضرر من نفي الموضوع والحقيقة ادعاء وإرادة نفي الحكم منه ، وقد تقدم توضيح ذلك فلا حاجة إلى الإعادة والتكرار.

(٥) غرضه : أن نفي الحقيقة ادعاء لما كان أوقع في النفس وأوفق بالبلاغة تعين إرادته بعد تعذّر الحمل على المعنى الحقيقي ، فيكون هذا المعنى بقرينة البلاغة أقرب المجازات إلى المعنى الحقيقي.

(٦) هذا تعريض بالشيخ الأنصاري «قدس‌سره» حيث قال : بأن المراد في نفي الضرر : هو نفي الحكم باستعمال الضرر في الحكم بعلاقة السببية ، وأن هذا المعنى أقرب المجازات عنده بعد تعذر إرادة المعنى الحقيقي.

والمصنف أورد عليه : بأن البلاغة في الكلام تقتضي إرادة نفي الحقيقة ، لا نفي الحكم ابتداء ، وإن كان مرجع نفي الحقيقة في وعاء التشريع إلى نفي الحكم أيضا ؛ لكن البلاغة

__________________

(*) دعائم الإسلام ١ : ١٤٨ ، وفي تهذيب الأحكام ١ / ٩٢ / ٢٤٤ : «لا صلاة ... في مسجده».

(**) نهج البلاغة ١ : ٥٦٩ ، معاني الأخبار : ٣١٠.

٦٣

الصفة (١) كما لا يخفى.

ونفي (٢) الحقيقة ادعاء بلحاظ الحكم (٣) أو الصفة غير نفي أحدهما ابتداء مجازا في التقدير أو في الكلمة (٤) مما لا يخفى على من له معرفة بالبلاغة.

وقد انقدح بذلك (٥) : ...

______________________________________________________

قرينة على إرادة نفي الحقيقة ادعاء.

(١) عطف على «الحكم» وهو ثالث المعاني المذكورة ، أعني : الضرر غير المتدارك ، بمعنى : أن كل ضرر غير متدارك منفي شرعا فكل ضرر متدارك بجعل الشارع للضمان أو الخيار أو غيرهما.

(٢) إشارة إلى توهم ودفع.

وأما التوهم فهو : أن القائل بنفي الحكم كالشيخ القائل بالمجاز في الكلمة ، أو القائل بالمجاز في التقدير كتقدير «غير المتدارك» قائلان أيضا بنفي الطبيعة أي : طبيعة الحكم الضرري ، أو طبيعة الضرر غير المتدارك ، كالمصنف القائل بنفي الطبيعة ، والمفروض : أن المنفي لبا في الكل هو الحكم ؛ لأن النفي تشريعي ، فلا بد من كون المنفي مما تناله يد الوضع والرفع التشريعيين ، فما الفرق بين هذه المعاني الثلاثة؟

وأما الدفع فهو : وإن ظهر من قوله : «فإن قضية البلاغة ...» الخ لكنه أعاده توضيحا ، وحاصله : أن نفي الحكم بلسان نفي الحقيقة والموضوع أبلغ في الكلام من نفي نفس الحكم ابتداء ، فقوله : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» غير قوله : «لا صلاة كاملة في غير المسجد» ، ففي الأول : تكون الطبيعة منفية ، وفي الثاني : أثرها وهو الحكم. والأول أوفق بالبلاغة.

(٣) أي : نفي الحكم حقيقة كما هو مختار المصنف مغاير لنفي الحكم ابتداء كما هو مختار الشيخ ، أو نفي الصفة كذلك كما عن الفاضل التوني وغيره.

(٤) الأول : كتقدير «غير المتدارك» ، والثاني : كجعل كلمة «ضرر» بمعنى : الحكم بعلاقة السببية كما مرت الإشارة إليه.

والصواب «كما» بدل «مما» لعدم كون «مما» خبرا لقوله : «ونفي الحقيقة» ، وإنما خبره «غير نفي» ، وبه تمّ الكلام ، ولعله من سهو الناسخ ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٦ ، ص ٥١١».

(٥) أي : بسبب كون نفي الحقيقة ادعاء أقرب إلى البلاغة من نفي الحكم أو الصفة.

وغرضه : الإشارة إلى ضعف إرادة غير نفي الحقيقة من المعاني المتقدمة من نفي الحكم

٦٤

بعد (١) إرادة نفي الحكم الضرري (٢) أو الضرر الغير المتدارك (٣) ، أو إرادة النهي من النفي جدا ، ضرورة (٤) : بشاعة استعمال الضرر وإرادة خصوص سبب (٥) من أسبابه ، أو خصوص غير المتدارك منه (٦).

______________________________________________________

الضرري كما أفاده الشيخ «قدس‌سره» ، والضرر غير المتدارك كما نسب إلى الفاضل التوني «رحمه‌الله» ، وإرادة النهي من النفي كما اختاره شيخ الشريعة الأصفهاني وغيره (١).

والوجه في ضعفها هو : أقربية نفي الحقيقة ادعاء إلى المعنى الحقيقي من سائر المعاني ، فيتعين حمل «لا ضرر» عليه ؛ إذ الأقربية توجب ظهور الكلام فيه ، وبعد إرادة غيره من المعاني المزبورة ؛ لخلوها عن قرينة توجب حمله عليها.

(١) بضم الباء فاعل «انقدح» ، و «جدا» قيد له.

(٢) وهو المجاز في الكلمة بعلاقة السببية كما ذهب إليه الشيخ «قدس‌سره».

(٣) وهو المجاز في التقدير المعبر عنه بنفي الصفة التي هي غير المتدارك.

يعني : أن المنفي هو الضرر غير المتدارك وهو المنسوب إلى الفاضل التوني «رحمه‌الله». «أو إرادة النهي من النفي» كما اختاره بعض كشيخ الشريعة الأصفهاني «قدس‌سره» في رسالته المعمولة في قاعدة الضرر.

(٤) تعليل لقوله : «بعد» ومحصله : أن استعمال الضرر في سبب خاص من أسبابه ـ وهو الحكم الشرعي كلزوم البيع الغبني ، مع عدم انحصار السبب فيه ووجود أسباب تكوينية له كالضرر الناشئ من استعمال الماء في الوضوء مثلا ، وغير ذلك كما هو مرجع كلام الشيخ «قدس‌سره» ـ مستتبع لوجهين :

الأول : استعمال الضرر في سببه ، وهو الحكم مجازا.

والثاني : أن الضرر عام يشمل الضرر الناشئ عن الحكم وغيره ، فإرادة الحكم فقط من أسبابه من قبيل استعمال العام وإرادة الخاص منه بلا موجب وقرينة ، وهذا من الاستعمالات المستنكرة.

(٥) وهو الحكم الشرعي الذي ينشأ منه الضرر كما عرفت ، ولازمه عدم تعرضه لحكم الضرر الناشئ من أسبابه التكوينية والأفعال الخارجية ، وضمير «أسبابه» راجع على «الضرر».

(٦) أي : من الضرر ، هذا هو المجاز في الحذف وقد تقدم توضيحه و «خصوص»

__________________

(١) رسالة لا ضرر : ٣٧ ـ ٣٩ ، كما ذكر في هامش قاعدة لا ضرر للسيد السيستاني : ١٦٥.

٦٥

ومثله (١) لو أريد ذاك (٢) بنحو التقييد ، فإنه (٣) وإن لم يكن ببعيد إلا إنه بلا دلالة عليه غير سديد.

وإرادة النهي (٤) من النفي وإن كان ليس ...

______________________________________________________

عطف على «خصوص».

(١) أي : ومثل استعمال الضرر في الحكم مجازا بعلاقة السببية ، وفي الضرر غير المتدارك مجازا في الحذف في البشاعة لو أريد الحكم ، أو الضرر غير المتدارك من «لا ضرر» بنحو الحقيقة ؛ بأن يراد ذلك بنحو التقييد أي : تعدد الدال والمدلول ، ففي الأول يقال : «لا حكم ضرريا» ، وفي الثاني : «لا ضرر غير متدارك».

فالفرق بين قوله : «ومثله» وقوله : «ضرورة : بشاعة» هو : أن الاستعمال في باب التقييد حقيقي ، وفي قوله : «بشاعة» مجازي مع وحدة المراد في كليهما ؛ إذ الملحوظ في كل منهما ليس مجرد ذات الضرر ؛ بل الضرر المقيد بكونه ناشئا من الحكم فقط ، أو خصوص الضرر غير المتدارك.

(٢) أي : استعمال الضرر مجازا في الحكم أو غير المتدارك منه كما مر آنفا.

(٣) أي : التقييد وإن لم يكن ببعيد ؛ لشيوعه في الاستعمالات المتعارفة ؛ لكنه منوط بقرينة ، وبدونها لا يصح المصير إليه. وضميرا «أنه ، عليه» راجعان على التقييد ، «وغير سديد» خبر «أنه».

(٤) هذا إشارة إلى تضعيف إرادة النهي والزجر من «لا» النافية ؛ بأن يراد من «لا ضرر» حرمة الإضرار مطلقا بالنفس وبالغير كحرمة إهانة المؤمن. وشرب الخمر والسرقة ، وغير ذلك من المحرمات ، فوزان «لا ضرر» وزان (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ)(١) و «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (٢) و «لا غش بين المسلمين» (٣) ونحو ذلك.

ومحصل تضعيف المصنف «قدس‌سره» له : أن إرادة النهي من النفي وإن لم تكن بعزيزة ؛ لكن موردها هو «لا» النافية الداخلة على الفعل ، كقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(٤) ، و (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)(٥) وغير ذلك من الآيات والروايات.

__________________

(١) البقرة : ١٩٧.

(٢) نهج البلاغة ٤٢ : ٤١ / ١٦٥ ، أمالي الصدوق : ٤٥٢.

(٣) سنن الدارمي ٢ : ٢٤٨ ، مسند الشهاب ١ : ٢٢٨ / ٣٥١.

(٤) البقرة : ١٢٤.

(٥) الواقعة : ٧٩.

٦٦

بعزيز (١) ، إلا إنه لم يعهد من مثل هذا التركيب (٢) وعدم (٣) إمكان إرادة نفي الحقيقة حقيقة لا يكاد (٤) يكون قرينة على إرادة واحد منها بعد (٥) إمكان حمله على نفيها

______________________________________________________

وأما إرادة النهي من هذا التركيب ـ يعني «لا» النافية الداخلة على اسم الجنس ـ فلم تعهد في الاستعمالات المتعارفة ، فإن «لا» النهي من خواص الفعل ، فاستعمال «لا» الموضوعة لنفي الجنس في النهي غير معهود في الاستعمالات المتداولة ، فكيف يحمل النفي في المقام على النهي؟

(١) يعني : في «لا» الداخلة على الأفعال كما تقدم آنفا.

(٢) وهو ما دخل فيه «لا» على اسم الجنس كقوله : «لا رجل» ، وكيف يصح إرادة النهي من النفي في بعض الموارد مثل : «لا ربا بين الوالد والولد» ، و «لا سرف في الوضوء» وغير ذلك مما أريد به الجواز من هذا التركيب.

(٣) توضيحه : أن تعين أحد المعاني المجازية ـ بعد تعذر إرادة المعنى الحقيقي لوجود الضرر تكوينا الموجب لكذب النفي الحقيقي ـ منوط بقيام قرينة معينة لأحد المجازات ، ولا يكفي في تعيّن أحدها مجرد تعذر المعنى الحقيقي. ولعله تعريض بما قد يظهر من كلام الشيخ «قدس‌سره» في الرسائل (١) ، حيث قال فيها : «فاعلم أن المعنى بعد تعذر إرادة الحقيقة عدم تشريع الضرر ، بمعنى : أن الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضرر على أحد تكليفيا كان أو وضعيا». «دروس في الرسائل ، ج ٤ ، ص ٢٢٧».

وقريب منه ما في رسالته المستقلة المعمولة في قاعدة الضرر ، فإنه ربما يظهر منه تعيّن إرادة المعنى المزبور بمجرد تعذر الحمل على المعنى الحقيقي.

والمصنف «قدس‌سره» أورد عليه : بأن مجرد تعذر الحمل على المعنى الحقيقي لا يكفي في إرادة المعنى الذي اختاره الشيخ ، كما لا يكفي في إرادة غيره من المعاني المجازية ؛ بل يحتاج تعين واحد منها إلى قرينة معيّنة كما لا يخفى.

(٤) خبر «وعدم ...» الخ ، وهذا هو التعريض الذي أشرنا إليه. وضمير «منها» راجع على ما ذكره من المعاني المجازية.

(٥) غرضه : أن القرينة على تعين أحد المعاني المجازية ـ وهو حمله على نفي الحقيقة ادعاء ـ موجودة ، وهي ما تقدم منه من أقربيته إلى البلاغة من سائر المعاني. وضمير «حمله» راجع على «نفي» ، وضمير «نفيها» إلى الحقيقة.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤٦٠.

٦٧

ادعاء ؛ بل كان (١) هو الغالب في موارد استعماله.

ثم الحكم الذي أريد نفيه بنفي الضرر (٢) هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها (٣) ،

______________________________________________________

(١) هذه قرينة أخرى على حمله على نفي الحقيقة ادعاء ، وهي الغلبة بحسب الاستعمال ، ففي الحمل على هذا المعنى قرينتان :

إحداهما : أقربيته إلى البلاغة من سائر المعاني المجازية المتقدمة.

ثانيتهما : غلبة إرادة نفي الحقيقة ادعاء بحسب الاستعمالات.

فهاتان القرينتان تعينان إرادة هذا المعنى ، ومع هاتين القرينتين لا يبقى مجال للحمل على غير نفي الحقيقة ادعاء. والضمير المستتر في «كان» الذي هو اسمه راجع على «حمله» ، يعني : بل كان حمله على نفي الحقيقة ادعاء هو الغالب في موارد استعمال مثل هذا التركيب ، فقوله : «بعد إمكان» ناظر إلى إمكان حمل النفي على نفي الحقيقة ادعاء.

وقوله : «بل هو الغالب» ناظر إلى وقوعه في الاستعمالات المتعارفة.

(٢) لا يخفى : أن المصنف «قدس‌سره» لما بين المراد من «لا ضرر» وأنه نفي الحكم بلسان نفي الموضوع والحقيقة ادعاء ؛ أراد أن يبيّن الحكم الذي ينفى بقاعدة الضرر ، فقال : إن المراد بذلك الحكم هو الثابت لموضوع بعنوانه الأولي كلزوم البيع ووجوب الصوم وإباحة السفر وغير ذلك ، أو المتوهم ثبوته لموضوع بعنوانه الأولي ، كبعض ما اعتقده أهل الجاهلية وارتكبوه من جواز قتل البنات ، وعدم توريثهن ، ونكاح الشغار ، فلو قال الشارع : «لا قتل للبنات» فمراده : رفع ما توهموه من جواز قتلهن.

وبالجملة : فنفي الحكم يقتضي ثبوته حقيقة أو توهما حتى يصح ورود النفي عليه بلسان نفي موضوعه ، فالصوم مثلا إذا صار مضرا ارتفع حكمه بقاعدة الضرر.

وعليه : فالضرر سبب لارتفاع حكم الموضوع الذي طرأ عليه الضرر. وهذا من غير فرق بين نفي الضرر حقيقة بأن يراد بالضرر نفس الحكم كما اختاره الشيخ ؛ وبين نفيه ادعاء الذي مرجعه إلى نفي الحكم بلسان نفي الموضوع كما هو مذهب المصنف لأن مرجع الوجهين إلى نفي الحكم ، سواء كان ابتداء ، أم بنفي موضوعه ، فلزوم البيع الغبني مثلا منفي على التقديرين.

(٣) أي : عناوين الأفعال الثابتة لها ذاتا كالصلاة والحج والبيع ، وغير ذلك من العناوين الأولية ، ولا يبعد أن يكون المراد بالأفعال : كل ما يتعلق به الحكم الشرعي وجوديا كان كالوضوء ، والبيع أم عدميا كالصوم وتروك الإحرام ، ولو قال : «الثابت لكل شيء بعنوانه الأولي» كان أحسن.

٦٨

أو المتوهم (١) ثبوته لها كذلك في حال (٢) الضرر لا الثابت (٣) له بعنوانه ، لوضوح (٤): أنه العلة للنفي.

ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه ، بل يثبته ويقتضيه (٥).

ومن هنا (٦) لا يلاحظ النسبة بين أدلة نفيه وأدلة الأحكام وتقدم ...

______________________________________________________

(١) عطف على «الثابت» ، يعني : إن المنفي بقاعدة الضرر هو الحكم الثابت للأفعال أو الحكم المتوهم ثبوته لها كاعتقاد أهل الجاهلية بجواز قتل البنات كما مرّ آنفا. وضمير «ثبوته» راجع على الحكم ، وضمير «لها» إلى الأفعال ، والمشار إليه في «كذلك» قوله : «بعناوينها».

(٢) متعلق ب «نفيه» ، يعني : أن الحكم الذي أريد نفيه في حال الضرر ... الخ.

(٣) يعني : لا الحكم الثابت للضرر بعنوانه كوجوب الزكاة والخمس والجهاد ، فإن موضوع الوجوب في هذه الأمور ضرر مالي وهو الزكاة والخمس ، ونفسي وهو الجهاد ، والحكم الثابت لعنوان الضرر لا يرتفع بقاعدة الضرر ؛ لأن الضرر الموضوع لحكم كسائر الموضوعات مقتضى لحكمه ، والمقتضي للشيء لا يكون رافعا له ، فيمتنع أن يكون الضرر نافيا لحكمه الذي شرع له بعنوانه. وضميرا «له ، بعنوانه» راجعان على الضرر.

(٤) تعليل لكون المنفي بقاعدة الضرر خصوص الحكم الثابت للعنوان الأولي الشامل إطلاقه لصورة إيجابه الضرر كوجوب الوضوء ولزوم البيع ، فإن مقتضى إطلاق دليلهما ثبوت هذين الحكمين مطلقا حتى في حال الضرر ، دون الحكم الثابت لعنوان الضرر. وقد عرفت تقريب هذا التعليل بقولنا : «لأن الضرر الموضوع لحكم ...» الخ ، فلا يمكن أن يكون المنفي بقاعدة الضرر الحكم الثابت لعنوان الضرر ؛ لأنه موضوع لحكمه ، ومن المعلوم : أن الموضوع كالعلة ، فكما أن العلة تقتضي وجود المعلول ، فكذلك الموضوع ، فإنه يقتضي الحكم ، فلا يعقل أن يكون رافعا له لامتناع اقتضاء شيء لطرفي النقيض.

(٥) لما مر من : أن الموضوع لما فيه من ملاك التشريع للحكم كاقتضاء العلة لوجود المعلوم ، وضمير «أنه» راجع على الضرر ، وضمير «حكمه» راجع على «الموضوع» ، وضمائر «ينفيه ، يثبته ، يقتضيه» راجعة على «حكمه».

(٦) أي : ومن أن المنفي بنفي الضرر هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها الأولية ، ومن أن الضرر علّة لنفيه «لا يلاحظ النسبة ...» الخ.

وهذا إشارة إلى الجهة الثالثة من الجهات الثلاث المتعلقة بقاعدة الضرر. وهي نسبة أدلة نفي الضرر مع أدلة الأحكام.

٦٩

أدلته (١) على أدلتها (٢) ، مع أنها (٣) عموم من وجه ، حيث (٤) إنه يوفق بينهما عرفا بأن

______________________________________________________

ولا يخفى : أن في هذه الجهة يبحث تارة : عن نسبة أدلة نفي الضرر مع أدلة أحكام الأفعال بعناوينها الأولية ، وأخرى : عن نسبتها مع أدلة أحكام العناوين الثانوية غير الضرر.

وثالثة : عن نسبتها مع دليل خصوص الضرر من العناوين الثانوية ، وهذا هو المسمى بتعارض الضررين.

فهنا مباحث :

الأول : في نسبة أدلة نفي الضرر مع أدلة أحكام الأفعال بعناوينها الأولية.

ومحصل ما أفاده المصنف «قدس‌سره» في ذلك : أن دليل نفي الضرر يقدم على دليل الحكم الأولي ؛ لأن العرف المتبع نظره في استظهار المعاني من الألفاظ يوفق بين دليلي نفي الضرر والحكم الأولي بحمل الأول على الفعلي ، والثاني على الاقتضائي.

وبعبارة أخرى : يرى العرف أن العنوان الثانوي ـ وهو الضرر ـ رافع لفعلية الحكم الأوّلي الذي كان قبل عروض الضرر فعليا ، ومع هذا التوفيق العرفي لا تلاحظ النسبة ـ وهي العموم من وجه ـ بين دليلي نفي الضرر والحكم الأولي حتى يجب الرجوع في المجمع الذي هو مورد تعارضهما إلى قواعد التعارض أو الأصل العملي ، فلا يقال : إن دليل وجوب الوضوء مثلا يشمل الوضوء الضرري وغيره ، ودليل نفي الضرر يشمل الوضوء وغيره كالصوم والحج والبيع وغيرها ، ففي الوضوء الضرري يتعارض الدليلان ، فيرجع فيه إلى أحكام التعارض ، بل يقال : إن المرجع فيه دليل نفي الضرر ، فيحكم بعدم وجوب الوضوء الضرري ، ولا يرجع فيه إلى دليل وجوب الوضوء.

(١) أي : تقدم أدلة نفي الضرر على أدلة الأحكام ، و «تقدم» عطف على «لا يلاحظ».

(٢) أي : أدلة الأحكام.

(٣) يعني : مع أن النسبة بين أدلة نفي الضرر وأدلة الأحكام الأولية عموم من وجه ، وقد قرر في محله : أن حكم العامين من وجه هو الرجوع إلى قواعد التعارض أو الأصل العملي ؛ لكن لا تلاحظ هذه النسبة بينهما ؛ بل يقدم دليل نفي الضرر للتوفيق العرفي المزبور. فقوله : «مع» قيد لقوله : «لا تلاحظ النسبة».

(٤) الظاهر : أنه تعليل لعدم ملاحظة النسبة بين الدليلين مع كونها عموما من وجه ، ومحصله : أن التوفيق العرفي بين الدليلين منع عن ملاحظة النسبة التي بينهما وهي

٧٠

الثابت (١) للعناوين الأولية اقتضائي يمنع عنه فعلا ما عرض عليها من (٢) عنوان الضرر بأدلته كما هو (٣) الحال في التوفيق بين سائر الأدلة المثبتة (٤) أو النافية لحكم

______________________________________________________

العموم من وجه ، وعليه : فلعل الأولى تقديمه على عدم ملاحظة النسبة بأن يقال : ومن هنا يوفق بينهما عرفا ... إلى قوله : من عنوان الضرر بأدلته ، ولذا لا يلاحظ النسبة بين أدلة نفيه وأدلة الأحكام ... إلى قوله : مع أنها عموم من وجه» ، والوجه في التقديم : علية التوفيق العرفي بين الدليلين ؛ لعدم ملاحظة النسبة بينهما ، والظاهر : أن نظرهم في هذا التوفيق إلى حفظ موضوعية كلا العنوانين للحكم ، فإن موضوعية العنوان الأولي للحكم مطلقة شاملة لجميع الحالات التي منها العنوان الثانوي ، والأخذ بإطلاقها يسقط العنوان الثانوي عن الموضوعية رأسا ، فالجمع بينهما بالاقتضائية والفعلية يوجب بقاء موضوعيتهما معا ويكون جمعا بين الدليلين في مقام الإثبات وهو متبع ما لم ينهض دليل على أهمية ملاك الحكم الثابت للعنوان الأولي ، وتبعية فعلية الحكم له في كل حال حتى حال عروض العنوان الثانوي ، وضمير «أنه» للشأن ، وضمير «بينهما» راجع على «أدلة نفيه وأدلة الأحكام».

(١) أي : بأن الحكم الثابت للعناوين الأولية اقتضائي ، والضرر العارض عليها رافع لفعلية ذلك الحكم الثابت للعنوان الأولي.

(٢) بيان ل «ما» الموصول الذي هو فاعل «يمنع» ، و «فعلا» قيد ل «يمنع» ، وضمير «عنه» راجع على «الثابت» ، وضمير «عليها» إلى «العناوين» ، يعني : يمنع عنوان الضرر الذي يعرض العناوين الأولية عن فعلية الحكم الثابت لها ، و «بأدلته» متعلق ب «يمنع» ، يعني : يمنع عنوان الضرر بأدلته فعلية الحكم الثابت للعناوين الأولية.

(٣) يعني : أن التوفيق العرفي بحمل حكم العناوين الأولية على الاقتضائي ، وحكم عنوان الضرر على الفعلي مطرد في كل عنوان ثانوي مع عنوان أولي ، ولا يختص بعنوان الضرر من العناوين الثانوية.

وعليه : فيقدم دليل الحرج والنذر والعهد واليمين وغيرها من العناوين الثانوية أيضا على أدلة أحكام العناوين الأولية ، مع كون النسبة بينهما أيضا عموما من وجه.

(٤) كأدلة الشرط والنذر واليمين ، وغيرها من الأدلة الرافعة لحكم الأفعال بعناوينها الثانوية ، فإذا شرط في ضمن عقد لازم فعل صلاة الليل مثلا ، أو نذر ذلك أو حلف عليه ، فإنها تقدم على أدلة استحباب صلاة الليل ، ويحكم بفعلية وجوب فعلها بمقتضى وجوب الوفاء بالشرط والنذر واليمين ، ويحمل استحبابها على الاقتضائي.

٧١

الأفعال (١) بعناوينها الثانوية والأدلة (٢) المتكفلة لحكمها بعناوينها الأولية (٣).

نعم (٤) ؛ ربما يعكس الأمر فيما أحرز بوجه معتبر أن الحكم في المورد ليس (٥) بنحو الاقتضاء ؛ بل بنحو العلية التامة (٦).

______________________________________________________

(١) كأدلة رفع الحرج والخطأ والنسيان ، نظير الوضوء فيما إذا توقف شراء مائه على بذل مال كثير يوجب وقوعه في الحرج ، فإن فعلية وجوب الوضوء حينئذ يرتفع بدليل نفي الحرج ، ويحمل وجوبه على الاقتضائي.

(٢) عطف على «سائر» ، وضميرا «لحكمها ، بعناوينها» راجعان على «الأفعال».

(٣) كوجوب الصوم والحج ونحوهما من الأحكام الثابتة للأفعال بعناوينها الأولية ، فإنها ترتفع فعليتها بالأدلة النافية لها بالعناوين الثانوية كالإكراه والخطأ والنسيان والحرج وغيرها ، وتحمل على الحكم الاقتضائي.

(٤) استدراك على ما ذكره من التوفيق العرفي بين دليلي الحكم الأولي والثانوي ؛ بحمل الأول على الاقتضائي والثاني على الفعلي.

ومحصل هذا الاستدراك : أنه قد يعكس الأمر ويقدم دليل الحكم الأولي على الثانوي فيما إذا أحرز بدليل معتبر كون الحكم الأولي مجعولا ، بنحو يكون علة تامة للفعلية لا مقتضيا لها حتى يمكن رفع فعليته ، وحمله على الاقتضائي بسبب عروض عنوان ثانوي عليه مطلقا ، سواء كان هو الضرر أم غيره ، كوجوب إنقاذ نبيّ أو وصيّ ، فإن هذا الوجوب فعلي مطلقا وإن كان موجبا للضرر أو الحرج على الغير ، فلا يحمل على الاقتضائي بالتوفيق العرفي بين دليله ودليل حكم العنوان الثانوي كالضرر وغيره.

(٥) يعني : ليس مجعولا بنحو الاقتضاء حتى يكون موردا للتوفيق العرفي المزبور ؛ بل هو مجعول بنحو يكون علة تامة للفعلية.

وقوله : «أن الحكم» نائب فاعل ل «أحرز» ، والمراد بالوجه المعتبر : الدليل المعتبر.

(٦) كحرمة نكاح المحارم ، ووجوب الدفاع عن النفس وعن بيضة الإسلام ، وارتكاب خلاف الواقع عن عذر لا ينافي عليّة الحكم وبقائه ، غاية الأمر : أن المكلف معذور في مخالفته ولا يعاقب عليها لأجل العذر ، فنكاح المحارم شبهة لا يرفع حرمته الواقعية.

والمراد بالعلية التامة : عدم ارتفاع الحكم الواقعي بطروء عنوان ثانوي من الضرر والإكراه والاضطرار وغيرها عليه ؛ لا عدم المعذورية في مخالفته لطروء عذر من الأعذار الموجبة للأمن من العقوبة ، فإن المعذورية لا تنافي بقاء الحكم الواقعي كما مر في نكاح المحارم شبهة ، فإن حرمته الواقعية لا ترتفع بالشبهة ، بل الشبهة تمنع عن استحقاق العقوبة

٧٢

وبالجملة (١) : الحكم الثابت بعنوان أولي تارة : يكون بنحو الفعلية مطلقا (٢) ، أو بالإضافة (٣) إلى عارض دون عارض ، بدلالة (٤) لا يجوز الإغماض عنها بسبب (٥) دليل حكم العارض المخالف له فيقدم (٦) دليل ذاك العنوان (٧) على دليله.

______________________________________________________

على ارتكاب الحرام الواقعي ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٦ ، ص ٥٢٢».

(١) هذا حاصل ما ذكره في قوله : «نعم» وما قبله ، وملخصه : أن الدليل المتكفل لحكم الفعل بعنوانه الأولي إن دل على فعلية الحكم مطلقا ـ بحيث لا ترتفع فعليته بشيء من العناوين الثانوية من الضرر وغيره كالمثال المتقدم وهو وجوب حفظ النبي والوصي «صلوات الله عليهما» ، أو بالإضافة إلى بعض العناوين الثانوية ـ وجب تقديمه في الصورة الأولى على كل عنوان ثانوي يطرأ عليه ؛ لأن المفروض : كون علة تامة للفعلية. وفي الصورة الثانية على بعض العناوين الثانوية كوجوب الوضوء ، فإنه مقدم على دليل الضرر إن لم يكن المال المبذول بإزاء ماء الوضوء مجحفا وموجبا لوقوعه في الحرج وإن كان مجحفا وحرجيا ، فدليل نفي الضرر مقدم على دليل وجوب الوضوء ؛ للتوفيق العرفي الموجب لحمل وجوب الوضوء حينئذ على الاقتضائي.

وإن دل على فعلية الحكم لا بنحو الإطلاق والعلية التامة فسيأتي حكمه.

(٢) يعني : بالنسبة إلى جميع العوارض وهي العناوين الثانوية كما مر آنفا.

(٣) عطف على «مطلقا» ، وقد تقدم المراد بقوله : «إلى عارض دون عارض» ، ومثاله بقولنا : «أو بالإضافة إلى بعض العناوين الثانوية وجب تقديمه في الصورة الأولى ...» الخ.

(٤) متعلق ب «يكون» ، يعني : أن دلالة الدليل على فعلية الحكم بالعنوان الأولي تارة : تكون بنحو تأبى عن حملها على الاقتضائي كما إذا كانت دلالته بالنصوصية ، فيقدم حينئذ دليل الحكم الأولي على دليل الحكم الثانوي ؛ لتقدم النص على الظاهر ، وضمير «عنها» راجع على الدلالة.

(٥) متعلق ب «الإغماض» ، يعني : لا يجوز الإغماض عن دلالة دليل الحكم الأولي بسبب دليل حكم العنوان الثانوي المخالف للحكم الأولي ؛ لما فرض من عدم جواز الإغماض عن دلالته بالنصوصية مثلا.

(٦) هذا نتيجة فعلية الحكم الأولي مطلقا ، إذ لازم دلالة دليله ـ بحيث لا يجوز الإغماض عنها ـ هو تقدمه على دليل العنوان الثانوي.

(٧) يعني : أن العنوان الأولي يقدم على دليل العنوان الثانوي ، وضمير «دليله» راجع على «حكم العارض».

٧٣

وأخرى (١) : يكون على نحو لو كانت هناك دلالة للزم الإغماض عنها بسببه عرفا ، حيث كان اجتماعهما قرينة على أنه بمجرد المقتضي ، وأن العارض مانع فعلي ، هذا (٢) ولو لم نقل بحكومة دليله على دليله (٣) ، لعدم (٤) ثبوت نظره إلى مدلوله.

______________________________________________________

(١) عطف على «تارة» ، وهذا هو الشق الثاني الذي أشرنا إليه بقولنا : «وإن دل على فعلية الحكم لا بنحو الإطلاق والعلية التامة ...» الخ.

وتوضيحه : أن دليل حكم الفعل بعنوانه الأولي إن كانت دلالته على فعلية الحكم بمثابة لا تأبى عن التصرف فيها بحمل الحكم على الاقتضائي ؛ كما إذا كانت دلالته بالعموم أو الإطلاق وجب الإغماض عن دلالته بسبب دليل حكم العنوان الثانوي ، وحمل الحكم الأولي على الاقتضائي ؛ إذ العرف يوفق بينهما بجعل اجتماع الدليلين قرينة على أن الحكم الأولي ليست فعليته بنحو العلية التامة حتى يأبى عن التصرف فيه بالحمل على الاقتضائي ؛ بل يقبل التصرف ، فيحمل على الاقتضائي ، ويجعل العنوان الثانوي مانعا فعليا عن فعليته ، حيث إن دلالة دليل الحكم بالعنوان الأولي تكون بالإطلاق ، وهو ظاهر في شموله لجميع الحالات والعناوين الثانوية ودلالة دليل الحكم بالعنوان الثانوي تصلح لتقييد إطلاق فعليته ، وحمله على الاقتضائي ، ولا عكس إذ لازم حمل العنوان الثانوي على الاقتضائي عدم صيرورته فعليا أصلا ، فيلغو تشريعه.

قوله : «عرفا» قيد ل «لزم» ، وضمير «عنها» راجع على «دلالة» ، وضمير «بسببه» إلى «دليل حكم العارض».

وقوله : «لو كانت هناك دلالة» أي : دلالة على العلية.

قوله : «حيث» تعليل للزوم الإغماض ، وقد مر توضيحه بقولنا : «إذ العرف يوفق بينهما بجعل اجتماع الدليلين قرينة ...» الخ. وضمير «أنه» راجع على «الحكم الثابت».

(٢) أي : تقديم دليل العنوان الثانوي على دليل حكم العنوان الأولي ثابت ؛ وإن لم نقل بحكومة دليله على دليل حكم العنوان الأولي.

وغرضه : أن التقديم المزبور مسلم إما للحكومة كما هو مختار الشيخ «قدس‌سره» ، وإما للتوفيق العرفي إن لم يتم حديث الحكومة.

(٣) أي : دليل حكم العنوان الأولي ، والضمير الأول راجع على «العارض».

وقوله : «ولو لم نقل» تعريض بما أفاده الشيخ «قدس‌سره» من الحكومة كما سيأتي تفصيله.

(٤) هذا تعليل لعدم حكومة دليل نفي الضرر على أدلة أحكام العناوين الأولية.

٧٤

كما قيل (١).

ثم انقدح بذلك (٢) : حال توارد دليلي العارضين كدليل نفي العسر ودليل نفي

______________________________________________________

توضيحه : أن الشيخ «قدس‌سره» قائل بحكومة دليل قاعدة الضرر على أدلة أحكام العناوين الأولية ، قال في الرسائل : «ثم إن هذه القاعدة حاكمة على جميع العمومات الدالة بعمومها على تشريع الحكم الضرري ؛ كأدلة لزوم العقود وسلطنة الناس على أموالهم ... إلى أن قال : والمراد بالحكومة : أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر من حيث إثبات حكم لشيء أو نفيه عنه.

فالأول : مثل ما دل على الطهارة بالاستصحاب ، أو بشهادة العدلين ، فإنه حاكم على ما دل على أنه «لا صلاة إلّا بطهور» ، فإنه يفيد بمدلوله اللفظي على أن ما ثبت من الأحكام للطهارة في مثل : «لا صلاة إلّا بطهور» وغيرها ثابت للمتطهر بالاستصحاب أو بالبينة.

والثاني : مثل الأمثلة المذكورة ـ يعني بها حكومة مثل أدلة نفي الضرر والحرج ورفع الخطأ والنسيان ونفي السهو عن كثير السهو ونفي السبيل على المحسنين ، إلى غير ذلك ـ بالنسبة إلى الأحكام الأولية». انتهى. «دروس في الرسائل ، ج ٤ ، ص ٢٣٢».

ومحصل إشكال المصنف «قدس‌سره» على هذه الحكومة كما أوضحه في حاشية الرسائل هو : عدم انطباق ضابط الحكومة بنظر الشيخ على قاعدة الضرر ، حيث إنه يعتبر في الحكومة أن يكون الدليل الحاكم ناظرا بمدلوله اللفظي إلى مدلول الدليل المحكوم وشارحا له. وليس دليل نفي الضرر كذلك ؛ لعدم نظر له إلى أدلة الأحكام الأولية ؛ بل هو في عرضها ، نظير : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) ونحوها ، ولازم عدم انطباق ضابط الحكومة هنا ملاحظة مرجحات باب التعارض.

(١) القائل : هو الشيخ «قدس‌سره» ، وقد تقدمت عبارته ، وضمير «نظره» راجع على دليل العارض ، وضمير «مدلوله» ، إلى دليل الحكم الأولي.

٢) أي : بالتوفيق العرفي بين دليل نفي الضرر وأدلة الأحكام الأولية بحمل الأول على الفعلية والثاني على الاقتضاء ظهر حال توارد دليلي العنوانين الثانويين ، وأن التوفيق العرفي لا يجري فيهما ؛ بل لهما حكم آخر وهو جريان حكم التزاحم أو التعارض فيهما.

وهذا إشارة إلى المبحث الثاني ، وهو نسبة دليل الضرر مع أدلة أحكام العناوين الثانوية غير الضرر كالحرج والنذر واليمين والشرط ؛ كما إذا كان حفر بئرا أو بالوعة في ملكه

٧٥

الضرر مثلا ، فيعامل معهما معاملة المتعارضين لو (١) لم يكن من باب تزاحم المقتضيين ، وإلا فيقدم ما كان مقتضيه أقوى وإن كان دليل الآخر أرجح وأولى.

______________________________________________________

مضرا بجاره وتركه كان حرجا على نفسه ، وكما إذا كان شرب التتن مضرا بحاله وتركه عسرا عليه ، وكما إذا نذر الصلاة في المسجد المعين مثلا وكان أداؤها فيه مستلزما للضرر ، فحينئذ : يقع التهافت بين أدلة النذر والضرر والحرج وكل منها عنوان ثانوي ، فلا يتأتى فيها التوفيق العرفي بحمل أحدهما على الفعلي والآخر على الاقتضائي لتساويها في الفعلية والاقتضاء ، وكونها من قبيل الواحد لعرضيتها وعدم طوليتها حتى يوفق بينها بحمل أحدها على الفعلي والآخر على الاقتضائي.

ويعامل مع دليلي العنوانين الثانويين معاملة المتعارضين إن كان المقتضي للحكم في أحدهما دون الآخر ، فيرجح ذو المزية منهما على الآخر ، وعلى تقدير التكافؤ : يتخير أو يرجع إلى ما يقتضيه الأصل في المسألة.

وإن كان المقتضى له في كليهما مطلقا حتى في ظرف الاجتماع كإنقاذ الغريقين المؤمنين ـ حيث إن الملاك في إنقاذهما حتى حال الاجتماع موجود ، وعدم قدرة المكلف على إنقاذهما معا مانع عن امتثال أمر كليهما ، لكون إنقاذ أحدهما حرجيا والآخر ضرريا ، لتوقفه على بذل مال كثير مضر بحاله مثلا ـ عومل معهما معاملة التزاحم من تقديم ما هو أهم ملاكا ؛ كما إذا كان أحدهما عالما عاملا على الآخر. والتخيير مع عدم إحراز أهمية الملاك في أحدهما.

قوله : «فيعامل معهما معاملة المتعارضين» من الترجيح أو التخيير أو التوقف والرجوع إلى الأصل العملي. وضمير «معهما» راجع على «دليلي العارضين».

(١) قيد ل «فيعامل» يعني : لو لم يكن توارد دليلي العارضين من باب تزاحم المقتضيين وهما ملاكا تشريع الحكمين ، فإن كانا من هذا الباب عومل معهما معاملة التزاحم ، لأنهما حينئذ من صغرياته ، ويكفي في إحراز المقتضي في كليهما إطلاق دليلي العارضين الشامل لجميع الحالات التي منها حال الاجتماع ، وهذا الإطلاق متبع إلى أن يقوم دليل من الخارج على عدم المقتضى في أحدهما حال الاجتماع ، فيعامل معهما حينئذ معاملة التعارض.

ولعل قوله : «لو لم يكن من باب تزاحم المقتضيين» مع ظهور كل عنوان ثانوي في كونه مقتضيا وذا ملاك للحكم وعدم المجال معه للترديد بقوله : «لو لم يكن من باب تزاحم المقتضيين» ناظر إلى أدلة خصوص العناوين الثانوية الواردة مورد الامتنان ، حيث

٧٦

ولا يبعد أن الغالب في توارد العارضين أن يكون من ذاك الباب (١) لثبوت (٢) المقتضى فيهما مع (٣) تواردهما ، لا من باب التعارض ، لعدم ...

______________________________________________________

إنها لا تجري فيما يلزم من إجرائها خلاف الامتنان ، فدليل نفي الضرر لا يشمل المورد الذي يلزم من جريانه فيه الحرج ، وكذا دليل الحرج قاصر عن شموله المورد يلزم الضرر من جريانه فيه ، فلا إطلاق في دليلي هذين العارضين حتى يتمسك به لإثبات المقتضى في مورد الدوران.

وبالجملة : إن كان ترديد المصنف بين التعارض والتزاحم من جهة استلزام جريانها لخلاف الامتنان الموجب لقصور المقتضي عن الشمول لموارد الدوران فله وجه ، فتدبر ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٦ ، ص ٥٢٩».

قوله : «وإلّا فيقدم ما كان مقتضيه أقوى» أي : وإن كانا من باب تزاحم المقتضيين قدّم ما هو الأقوى ملاكا على غيره ؛ لأنه المرجح في باب التزاحم ، والأولى من صاحبه في التأثير كمصلحة إنقاذ العالم الورع التي أهم من مصلحة إنقاذ المؤمن الجاهل ، وأهمية الملاك مرجحة توجب التقدم وإن كان دليل الآخر بحسب الجهات المعتبرة في الحجية أولى ؛ وذلك لاختصاص تلك الجهات بباب التعارض ، وعدم شمولها لباب التزاحم ، فالترجيح بالسند ونحوه لا يجري في باب التزاحم.

والمراد من قوله : «أولى» هو الأولى من حيث الدليلية.

(١) يعني : باب التزاحم ، وغرضه من قوله : «ولا يبعد» : التعرض لمقام الإثبات بعد احتمال كل من التعارض والتزاحم ثبوتا ، وقال : إن غلبة ثبوت المقتضي في توارد العارضين أي : العنوانين الثانويين توجب اندراجهما في باب التزاحم وجريان أحكامه عليهما.

(٢) تعليل للغلبة المزبورة ، وحاصله : أن ثبوت المقتضي في العارضين غالبا في حال تواردهما دليل على كونهما من صغريات كبرى التزاحم ، دون التعارض الذي يكون المقتضي فيه في أحد الدليلين لا كليهما والضمير المستتر في «يكون» الذي هو اسمه راجع على «توارد».

(٣) متعلق ب «لثبوت» ، وضميرا «فيهما ، تواردهما» راجعان على «العارضين».

وغرضه : أن المقتضى في كل من العارضين في حال تواردهما على مورد ثابت ـ كثبوته فيهما حال انفراد كل منهما عن الآخر وثبوته فيهما حال التوارد ـ أوجب اندراجهما في باب التزاحم. وقوله : «لا من باب» عطف على «ذاك الباب».

٧٧

ثبوته (١) إلّا في أحدهما كما لا يخفى.

هذا (٢) حال تعارض الضرر مع عنوان أولي أو ثانوي آخر (٣).

وأما (٤) لو تعارض مع ضرر آخر ، فمجمل القول فيه : أن الدوران إن كان بين ضرري شخص واحد (٥) أو اثنين (٦) ، فلا مسرح إلا لاختيار ...

______________________________________________________

(١) أي : المقتضى ، وهذا تعليل للمنفي وهو التعارض ، وضمير «أحدهما» راجع على «العارضين».

والحاصل : أن ثبوت المقتضي في العنوانين الثانويين حال تواردهما على مورد واحد يدرجهما في باب التزاحم ، دون التعارض المنوط بعدم ثبوت المقتضي إلّا في أحدهما.

(٢) يعني : أن ما ذكرناه إلى الآن كان راجعا إلى علاج تعارض دليل نفي الضرر مع دليل حكم العنوان الأولي والثانوي غير عنوان الضرر من التوفيق العرفي في الأول ، وإجراء حكم التزاحم أو التعارض في الثاني.

وأما تعارض عنوان الضرر مع مثله ، فسيأتي الكلام فيه.

(٣) أي : عنوان ثانوي آخر غير عنوان الضرر.

(٤) يعني : لو تعارض الضرر مع ضرر آخر. هذا إشارة إلى البحث الثالث وهو ملاحظة نسبة دليل نفي الضرر مع مثله ، ويعبّر عنه بتعارض الضررين ، وهو تارة : يكون بين ضرري شخص واحد ، وأخرى : بين ضرري شخصين ، وثالثة : بين ضرر نفسه وغيره ، وسيأتي تفصيلها.

وتوضيح المتن طبقا لما في منتهى الدراية.

(٥) هذا هو القسم الأول ، وله صورتان :

إحداهما : أن يكون الضرران واردين على غير المكره ؛ كما إذا أكرهه الجائر على أن يأخذ قطيع غنم من زيد أو ألف دينار منه ، سواء كان مالية الثاني أقل من مالية القطيع بكثير أو مساوية لها أو أقل منها.

ثانيتها : أن يكونا واردين على نفس المكره ؛ كما إذا أكره الظالم زيدا على دفع أحد شيئين من مال نفسه إليه.

(٦) هذا هو القسم الثاني ، كما إذا وجه الظالم الضرر على اثنين آخرين غير المكره المتقدم في الصورتين الأوليين ؛ بحيث كان الضرر دائرا بينهما والمكره خارجا عنهما ؛ كما إذا أكره زيد على أن يأخذ للجائر مائة دينار مثلا من عمرو أو بكر من دون خصوصية لأحدهما ؛ بحيث يندفع شر الظالم بدفع المبلغ المذكور إليه من أي واحد منهما كان.

٧٨

أقلهما (١) لو كان وإلّا (٢) فهو مختار.

وأما (٣) لو كان بين ضرر نفسه وضرر غيره فالأظهر عدم لزوم تحمله الضرر ولو

______________________________________________________

والمصنف «قدس‌سره» جعل جميع هذه الصور من صغريات التزاحم نظرا إلى وجود المقتضي لجريان قاعدة الضرر فيها ، فإن كان أحد الضررين أقل من الآخر قدّم ذلك ، وإلّا تخيّر.

ثم إن المصنف «قدس‌سره» وإن عبر عن تزاحم الضررين بالتعارض ؛ لكن من المعلوم : أن مراده هو التزاحم ؛ لأن حكمه الذي أفاده من «اختيار أقل الضررين لو كان وإلّا فالتخيير» هو حكم التزاحم ؛ لا التعارض الذي حكمه التساقط والرجوع إلى عمومات أخر.

(١) أي : أقل الضررين لو كان أحدهما أقل ، فإن هذا حكم التزاحم ، وأما بناء على كونهما من باب التعارض ـ كما ذهب إليه الشيخ ـ فيسقطان معا عن الاعتبار ، ويرجع إلى عمومات أخر كقاعدة السلطنة أو غيرها.

(٢) أي : وإن لم يكن أحدهما أقل ؛ بأن كانا متساويين فهو مختار عقلا في الأخذ بأيهما شاء كغيره من موارد التزاحم.

(٣) «هذا إشارة إلى الصورة الثالثة ، وهي : تعارض ضرري شخصين يكون المكره ـ بالفتح ـ أحدهما ، كما إذا أكرهه الجائر على أن يدفع إليه مائة دينار مثلا إما من مال نفسه ، أو من مال زيد.

وكذا مثل الضرر الوارد على الجار بحفر المالك البالوعة في ملكه ، وعلى المالك بترك حفرها فيه ، في غير صورة ورود الضرر من الظالم.

ومحصل ما أفاده المصنف فيه هو : أن الأظهر عدم وجوب تحمله للضرر عن الغير كما نسب إلى المشهور ؛ بل المحكي عن المبسوط والتذكرة نفي الخلاف فيه ، وإن كان ضرر صاحبه أكثر ؛ إذ لا تجري فيه قاعدة الضرر التي وردت مورد الامتنان ، فإن جريانها في ضرر الغير يوجب تحمل الضرر عنه ، ومن المعلوم : أنه لا منّة على تحمل الضرر لدفعه عن صاحبه ، فمقتضى قاعدة السلطنة جواز التصرف في ملكه ؛ وإن استلزم الضرر على الغير.

وعليه : فيجوز أن يحفر بئرا أو بالوعة في داره وإن تضرر جاره به. وقد مثل له أيضا : بما إذا أكره الجائر شخصا على التولي من قبله ، حيث إنه بقبوله للولاية يتضرر المسلمون ، وبعدم قبوله لها يقع هو في الضرر ، فيتعارض الضرران ويرجع إلى قاعدة نفي الحرج ، فلا

٧٩

كان ضرر الآخر أكثر ، فإن نفيه (١) يكون للمنة على الأمة ، ولا منّة على تحمل الضرر لدفعه عن الآخر ، وإن كان أكثر.

نعم (٢) ؛ لو كان الضرر متوجها إليه ليس له (٣) دفعه عن نفسه بإيراده على الآخر.

______________________________________________________

يجب قبول الولاية من الجائر مطلقا ، سواء كان الضرران متساويين ؛ كما إذا كان الضرر الوارد عليه من ناحية الجائر ـ على تقدير عدم قبول الولاية ـ مائة دينار ، وكان ضرر المسلمين بوسيلته مع فرض قبولها هذا المقدار أيضا. أم كانا متفاوتين ؛ لفقدان شرط جريان قاعدة نفي الضرر وهو الامتنان مطلقا.

والحاصل : أن المصنف «قدس‌سره» ذهب إلى أن التعارض في القسمين الأوليين يكون من باب التزاحم ، وفي القسم الثالث يكون من باب التعارض.

ثم إن ما أفاده المصنف «قدس‌سره» هنا من التفكيك بين ضرري شخص وشخصين بما عرفت توضيحه في الصور الثلاث تعريض بما أفاده الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» من معاملة التعارض بينهما وإن كان المستفاد من كلامه في رسالته المستقلة (١) : إجراء حكم المتزاحمين على تعارض الضررين.

(١) تعليل لعدم لزوم تحمل الضرر عن الغير الناشئ عن جريان قاعدة نفي الضرر في ضرر الآخر ؛ إذ مقتضى نفيه عن الآخر هو : تحمل الضرر عنه.

ومحصل التعليل : أن قاعدة الضرر لا تجري في ضرر الغير ؛ لأن لازمه تحمل صاحبه عنه وهو خلاف الامتنان ، فلا تجري فيه وإن كان ضرره أكثر. وضميرا «نفيه ، لدفعه» راجعان على الضرر ، والضمير المستتر في «وإن كان» راجع على ضرر الآخر.

(٢) استدراك على قوله : «فالأظهر عدم لزوم» ، ومحصله : أن عدم لزوم تحمل الضرر عن الغير إنما هو فيما إذا كان الضرر دائرا بينهما ، وأما إذا كان الضرر متوجها إليه ابتداء : فلا يجوز له دفعه عن نفسه وتوجيهه إلى غيره ؛ كما إذا أكره الظالم زيدا على أن يدفع إليه من مال نفسه مائة دينار ، وأراد أن يوجه هذا الضرر إلى غيره ويدفعه عن نفسه ، أو توجه إليه الضرر بآفة سماوية كالسيل ونحوه ، فإنه ليس له دفعه إلى غيره ؛ بل عليه تحمل الضرر.

(٣) لأنه ظلم على الآخر وهو قبيح وحرام ؛ إذ المفروض : عدم توجه الضرر إلى الغير ، فتوجيهه إليه إنما هو من ناحية نفسه.

والحاصل : أن تحمل الضرر ليس لأجل جريان القاعدة في حق الغير حتى يقال

__________________

(١) منتهى الدراية ٦ : ٥٣٣.

٨٠