دروس في الكفاية - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

وليس مفادها (١) حكم العمل بلا واسطة ، وإن كان ينتهي إليه ، كيف (٢)؟ وربما لا

______________________________________________________

(١) الظاهر رجوع الضمير إلى الاستصحاب ، فالأولى تذكيره ، وكذا ضمير «فيها» ، ويحتمل قويا رجوعهما إلى «حجيته» ، أو إلى المسألة الأصولية ، وهذا إشارة إلى ما اشتهر بينهم من تعريف الحكم الفرعي كما في القوانين (١) وغيره (٢) : بأنه ما يتعلق بالعمل بلا واسطة كوجوب الصلاة والحج وغيرهما.

ومقصود المصنف من هذه العبارة : بيان وجه عدم كون الاستصحاب من المسائل الفرعية ؛ لأن الحكم الفرعي ـ على هذا ـ لا بد أن يتعلق بعمل المكلف بلا واسطة ، وليس الاستصحاب كذلك ؛ لأن حقيقة الاستصحاب «الحكم ببقاء ما علم سابقا من حكم أو موضوع» ، سواء كان دليله النقل من النص أو الإجماع أم العقل ، ومن المعلوم : أن «الحكم ببقاء» يعم الحكم الفرعي كالوجوب ، والوضعي كحجية رأي الميت بقاء ، فلو كان مفاد الاستصحاب حكما فرعيا لما جرى في الأحكام الأصولية كالحجية.

وإن شئت فقل : إن الاستصحاب هو جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء ، من غير فرق بين كون الجعل الشرعي تأسيسيا كما إذا كان دليله النص أو الإجماع ، وبين كونه إمضائيا كما إذا كان دليله العقل ، أو بناء العقلاء ، فإنه ما لم يثبت هذا التلازم لا يمكن الحكم بنجاسة الماء المتغير الزائل تغيره من قبل نفسه مثلا. وضمير «إليه» راجع على العمل.

(٢) غرضه : إقامة الشاهد على أصولية المسألة يعني : كيف لا يكون الاستصحاب مسألة أصولية؟ والحال أنه قد يكون مجراه خصوص المسألة الأصولية؟ كاستصحاب حجية رأي الميت على ما يستدل به القائل بجواز البقاء على تقليد الميت ، فلو لم يكن الاستصحاب مسألة أصولية لما جرى في الحجية التي هي حكم أصولي ، والظاهر : أن كلامه هنا لا يخلو من تعريض بما أفاده الشيخ «قدس‌سره» في الأمر الثالث الذي عقده للبحث عن أصولية المسألة ، بناء على كلا القولين من كونه أمارة ظنية وأصلا عمليا ، قال : «إن مسألة الاستصحاب ـ على القول بكونه من الأحكام العقلية ـ مسألة أصولية يبحث فيها عن كون الشيء دليلا على الحكم الشرعي نظير حجية القياس والاستقراء» ، إلى أن قال : «وأما بناء على القول بكونه من الأصول العملية ففي كونه من المسائل

__________________

(١) قوانين الأصول : ٥.

(٢) هداية المسترشدين ١ : ٦٠ ، الفصول الغروية : ٣ ، تعليقة على معالم الأصول ١ : ٦٦.

١٠١

يكون مجرى الاستصحاب إلا حكما أصوليا كالحجية مثلا ، هذا (١) لو كان الاستصحاب عبارة عما ذكرنا (٢).

وأما لو كان عبارة عن بناء العقلاء على بقاء ما علم ثبوته ، أو الظن به الناشئ من

______________________________________________________

الأصولية غموض ؛ لأن الاستصحاب حينئذ قاعدة مستفادة من السنة وليس التكلم فيه تكلما في أحوال السنة ... والمسألة الأصولية هي التي بمعونتها يستنبط هذه القاعدة من قولهم «عليهم‌السلام» : «لا تنقض اليقين بالشك ...». نعم ؛ يندرج تحت هذه القاعدة مسألة أصولية يجري فيها الاستصحاب ، كما تندرج المسألة الأصولية أحيانا تحت أدلة نفي الحرج ، كما ينفي وجوب الفحص عن المعارض حتى يقطع بعدمه بنفي الحرج».

ثم اختار هو «قدس‌سره» ضابطا آخر للمسألة الأصولية يندرج معه الاستصحاب في علم الأصول ، وهو ما لا حظّ للمقلد في إجرائها في موردها ، هذا ما أفاده الشيخ.

وأما المصنف : فلمخالفته القوم في تعريف علم الأصول وفي موضوعه ـ بما تقدم منه في أول الكتاب ـ عدل عما أفاده الشيخ إلى ما في المتن ، حيث استدل على كون الاستصحاب مسألة أصولية بقوله : «حيث يبحث فيها لتمهيد قاعدة ... وليس مفادها حكم العمل بلا واسطة ...».

ولعل غرضه من قوله : «كيف؟ وربما ...» منع مقايسة الاستصحاب بقاعدة نفي الحرج الجارية في مثل وجوب الفحص عن المعارض وهو حكم أصولي ، فإن جريانها فيه لا يخرجها عن القواعد الفقهية ولا يدرجها في علم الأصول ، فالاستصحاب الجاري في الحكم الأصولي قاعدة فقهية أيضا.

وجه منع المقايسة : بطلان المقيس عليه ، وذلك لأن وجوب الفحص عن المعارض ليس حكما أصوليا حتى يقال : بأن نفيه بقاعدة الحرج لا يوجب كونها مسألة أصولية ، يتجه النقض حينئذ ؛ لوضوح : كون وجوب الفحص حكما فرعيا متعلقا بعمل المجتهد في مقام الاستنباط ، فلم تجر قاعدة نفي الحرج في حكم أصولي حتى يقاس الاستصحاب الجاري في الحكم الأصولي عليه.

وهذا بخلاف الحجية التي هي حكم أصولي محض ، فإن جريان الاستصحاب في الحجية شاهد على كونه مسألة أصولية لا فقهية ، ولا يقاس بقاعدة نفي الحرج هذا.

(١) أي : ما ذكرناه من الوجه لكون الاستصحاب مسألة أصولية.

(٢) من كونه أصلا عمليا ، وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع شك في بقائه.

١٠٢

ملاحظة ثبوته (١) فلا إشكال (٢) في كونه مسألة أصولية.

وكيف كان (٣) ؛ فقد ظهر مما ذكرنا في تعريفه (٤) : اعتبار أمرين في مورده : القطع بثبوت شيء والشك في بقائه ، ولا يكاد (٥) يكون الشك في البقاء إلا مع اتحاد

______________________________________________________

(١) أي : ثبوت ما علم ثبوته ، والمراد به وبقوله : «ثبوته» قبل ذلك : هو ما يقابل البقاء.

(٢) جواب «وأما لو كان» ، وقد عرفت توضيحه بما تقدم وهو قوله : «وأما على الثاني وهو كون الاستصحاب بناء العقلاء» ، وضميرا «ثبوته ، به» راجعان على «ما علم» من الحكم أو الموضوع ، وضمير «كونه» راجع على الاستصحاب.

(٣) يعني : سواء كان الاستصحاب مسألة أصولية أم فقهية.

وهذا إشارة إلى الأمر الثالث الذي تعرض له المصنف قبل الخوض في الاستدلال ، وهو بيان ركني الاستصحاب بناء على كونه أصلا عمليا مستندا إلى الأخبار الآتية. وقد تعرض له الشيخ «قدس‌سره» في الأمر الخامس فقال : «إن المستفاد من تعريفنا السابق الظاهر في استناد الحكم بالبقاء إلى مجرد الوجود السابق أن الاستصحاب يتقوم بأمرين أحدهما : وجود الشيء في زمان ، سواء علم به في زمان وجوده أم لا ... والثاني : الشك في وجوده في زمان لاحق عليه ...» (١).

(٤) من كونه «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه» ، فإن المستفاد منه اعتبار أمرين فيه :

أحدهما : اليقين بثبوت شيء ، وهو يستفاد من قوله : «شك في بقائه» ؛ إذ الشك في البقاء يدل على الفراغ عن حدوثه.

ثانيهما : الشك في البقاء وهو مصرح به في التعريف.

(٥) حاصله : أن الشك في البقاء ـ الذي هو أحد ركني الاستصحاب ـ متقوم باتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة موضوعا ومحمولا ؛ إذ مع عدم اتحادهما لا يكون من الشك في البقاء ؛ بل من الشك في الحدوث ، ضرورة : أن البقاء هو الوجود الاستمراري للموجود السابق ، ومن المعلوم : إناطة صدقه بالاتحاد المزبور.

ومن هنا يظهر : أن المراد بالاتحاد : هو الاتحاد الوجودي بأن يكون الموجود اللاحق عين السابق عرفا حتى تتحقق الوحدة ، فلو كان الموجود السابق واللاحق متحدين ماهية ومتعددين وجودا ـ كما إذا فرض عمرو مقارنا لانعدام زيد ـ لم يكن الموجود السابق واللاحق واحدا ؛ بل متعددا مع اتحادهما في الإنسانية.

__________________

(١) فرائد الأصول ٣ : ٢٤.

١٠٣

القضية المشكوكة والمتيقنة بحسب الموضوع والمحمول (١) ، وهذا (٢) مما لا غبار عليه في الموضوعات الخارجية في الجملة.

______________________________________________________

ثم إن محمول القضية قد يكون من المحمولات الأولية كالوجود والعدم وغيرهما ، كقولنا : «زيد عادل أو شجاع» ، وعلى التقديرين : يكون المحمول تارة : وجوديا ، وأخرى : عدميا ، فالصور أربع ، ولا فرق في شرطية اتحاد القضيتين المتيقنة والمشكوكة بين هذه الصور.

والحاصل : أنه لا إشكال في اعتبار وحدة القضيتين المتيقنة والمشكوكة موضوعا ومحمولا في جريان الاستصحاب ، سواء كان المستصحب من الموضوعات الخارجية كحياة زيد ورطوبة الثوب وغير ذلك ، أم من الأحكام الشرعية كوجوب صلاة الجمعة ونجاسة الماء المتغير بالنجاسة إذا زال تغيره بغير الاتصال بالعاصم من الكرّ أو الجاري.

(١) كما عرفت في الأمثلة المتقدمة ، فمثل : «زيد عادل» قضية متيقنة فيما مضى كأمس ومشكوكة فعلا.

(٢) يعني : أن اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة مما لا غبار عليه في استصحاب غالب الموضوعات من القارة والتدريجية.

أما القارة ـ وهي التي تجتمع أجزاؤها في سلسلة الزمان من الجواهر كالحيوان والنبات ، والأعراض كالسواد والبياض ، والعلم والعدالة والفسق ، والغنى والفقر ، والحدث والخبث ، وحياة زيد وغير ذلك من الأمور الخارجية ، فإن موضوعاتها أعني : النفس والبدن وماهية زيد التي يعرض عليها الوجود تارة والعدم أخرى ـ فيمكن للعرف إحرازه ، فلا مانع من استصحاب العدالة والطهارة والحياة وغيرها في الأمور القارة.

وأما غير القارة من الأمور التدريجية ـ كالزمان وبعض الزمانيات ؛ كالماء النابع من العين والدم الخارج من عرق خاص ـ فإنه وإن أشكل فيها بعدم بقاء الموضوع لتقومها بالتصرم والتجدد ؛ لكن الحق جريان الاستصحاب فيها كما أفاده المصنف في التنبيه الرابع وفي حاشيته على الرسائل ، فإنها وإن لم تكن مجتمعة الأجزاء بحسب الوجود لتصرمها ، إلا إن وحدتها حقيقة لا تنثلم بذلك ما دامت الأجزاء متصلة لم يتخلل العدم بينها ، فلذا يجوز استصحاب الليل والنهار وجريان الماء من منبعه وغير ذلك.

نعم ؛ لا يجري الاستصحاب في بعض الموضوعات الخارجية التي لا يصدق فيها بقاء الموضوع عرفا ، كما إذا كان الماء أكثر من خمسين شبرا مثلا وهو أزيد من الكر على مذهب المشهور ، فأخذ منه مقدار يشك العرف معه في بقاء الموضوع وهو الكرّ البالغ

١٠٤

وأما الأحكام الشرعية سواء كان مدركها العقل (١) أم النقل (٢) فيشكل حصوله (٣) فيها ؛ لأنه (٤) لا يكاد يشك في بقاء الحكم إلا من جهة الشك في بقاء

______________________________________________________

ثلاثا وأربعين شبرا إلا ثمن شبر ، فإنه لا يمكن الإشارة إلى ما بقى من الماء بأن يقال : «كان هذا كرّا والآن كما كان» ؛ لفرض أن الكرّ كان الماء قبل نقص مقدار منه. وكذا الكلام في استصحاب القلة إذا أضيف إلى الماء مقدار يحتمل بلوغه حدّ الكثرة ، ونظيرهما استصحاب الاستطاعة المالية في أول عامها إذا كان المال وافيا بمئونة الحج ثم صرف مقدارا منه بحيث يشك في وفاء الباقي بها ، فإنه لا يجري استصحاب الموضوع أعني : الاستطاعة.

التقييد بقوله : «في الجملة» لإخراج ما إذا شك العرف في بقاء الموضوع وانثلام وحدته ، وقد عرفته بقولنا : «نعم ؛ لا يجري الاستصحاب ...».

(١) كحكم العقل بقبح الكذب الضار بالمؤمن الذي هو مستند حرمته الشرعية.

(٢) كالكتاب والسنة اللذين يستند إليهما أكثر الأحكام الشرعية. وكيف كان ؛ فغرضه من قوله : «وأما الأحكام الشرعية» : أن الشرط المزبور ـ أعني : وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة ـ يشكل إحرازه في استصحاب الأحكام الشرعية.

وحاصل وجه الإشكال : أن الشك في بقاء الحكم الشرعي ـ في غير النسخ ـ لا ينشأ إلا من جهة زوال وصف من أوصاف الموضوع مما يحتمل دخله فيه ، أو وجود ما يحتمل أن يكون لعدمه من دخل في الموضوع ، ومعه يرجع الشك في بقاء الحكم إلى الشك في بقاء موضوعه ، فلا يحرز بقاء الموضوع حتى يصح استصحاب الحكم ، مثلا : إذا ثبتت النجاسة للماء المتغير بوصف التغير ، ووجوب صلاة الجمعة في زمان حضور الإمام «عليه‌السلام» ، ثم زال تغير الماء بنفسه أو بعلاج ، وكذا إذا غاب الإمام «عليه‌السلام» ، فإن الشك في بقاء النجاسة ووجوب صلاة الجمعة حينئذ يستند إلى الشك في بقاء الموضوع ؛ لاحتمال دخل التغير والحضور في موضوع النجاسة والوجوب ، فلا يحرز وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة ، هذا.

ولا يخفى : أن ما أفاده المصنف بقوله : «وأما الأحكام الشرعية ...» الخ. إشارة إلى أحد تفاصيل الاستصحاب أعني : التفصيل بين الشبهات الحكمية الكلية والموضوعات الجزئية ، وحكاه الشيخ عن الأمين الاسترابادي ، وسيأتي نقل كلامه.

(٣) أي : حصول اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة في الأحكام الشرعية.

(٤) تعليل لقوله : فيشكل ، وقد عرفت تقريبه ، قال الأمين الاسترابادي فيما حكاه عنه

١٠٥

موضوعه بسبب تغير بعض ما هو عليه (١) مما احتمل دخله (٢) فيه (٣) حدوثا (٤) أو بقاء ؛ وإلّا (٥) لا يختلف الحكم عن موضوعه إلّا بنحو البداء بالمعنى ...

______________________________________________________

الشيخ «قدس‌سره» ما لفظه : «إن صور الاستصحاب المختلف فيها عند النظر الدقيق والتحقيق راجعة على أنه إذا ثبت حكم بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته تجريه في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه ، ومن المعلوم : أنه إذا تبدل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد اختلف موضوع المسألتين ، فالذي سمّوه استصحابا راجع في الحقيقة إلى إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر متحد معه في الذات مختلف معه في الصفات ، ومن المعلوم عند الحكيم : أن هذا المعنى غير معتبر شرعا ...».

واستدل الفاضل النراقي على هذا القول بوجه آخر سيأتي التعرض له في التنبيه الرابع إن شاء الله تعالى.

(١) يعني : بسبب تغير بعض الأوصاف التي يكون الموضوع واجدا لها ، فضمير «هو» راجع على الموضوع ، وضمير «عليه» إلى «ما» الموصول المراد به أوصاف الموضوع.

(٢) الضمير راجع على الموصول في «مما» المراد به الوصف الزائل يعني : من الصفات التي يحتمل دخلها في الموضوع.

(٣) يعني : أنه قد يكون احتمال دخل الشيء الزائل في مرحلة الحدوث فقط ؛ كاحتمال كون التغير دخيلا في موضوع الحكم بالنجاسة حدوثا فقط ، فلا ترتفع النجاسة بزوال التغير بنفسه ، بل تبقى بحالها.

(٤) وقد يكون احتمال دخله في مرحلة البقاء ؛ كما إذا احتمل دخل عدم فسخ الصبي الذي عقد له الولي في بقاء العقد بعد بلوغه ورشده ، فإذا فسخه بعد البلوغ لا يمكن استصحاب بقاء أثر العقد ؛ لاحتمال دخل عدم فسخ المعقود له في بقاء العقد ، فلا يحرز بقاء الموضوع مع الفسخ.

(٥) أي : وإن لم يكن الشك في الحكم ناشئا من الشك في بقاء الموضوع بل كان الموضوع معلوم البقاء ، فلا يتصور الشك حينئذ في بقاء الحكم ؛ لعدم تخلفه عن موضوعه ، ضرورة : أن الموضوع كالعلة له ، فكما لا يتخلف المعلول عن العلة فكذلك لا يتخلف الحكم عن الموضوع.

نعم ؛ يتصور التخلف بنحو البداء ، كما إذا جعل حكما لموضوع إلى الأبد باعتقاد اشتماله على مصلحة دائمية ، وبعد مضي زمان ظهر له كون مصلحته موقتة ، فيرتفع

١٠٦

المستحيل (١) في حقه تعالى ، ولذا (٢) كان النسخ بحسب الحقيقة دفعا لا رفعا.

ويندفع هذا الإشكال (٣) : بأن الاتحاد في القضيتين بحسبهما وإن كان مما لا

______________________________________________________

الحكم عن موضوعه بانتفاء مصلحته ، وهذا هو البداء المستحيل في حقه تعالى ، ولذا كان النسخ في الأحكام الشرعية دفعا لا رفعا ، والمراد بالدفع : أن الحكم من أول الأمر كان محدودا بهذا الحد ، وتأخر بيان أمده لمصلحة ، لا أن الحكم شرع إلى الأبد ثم نسخ في هذا الزمان ، فإنه مستحيل في حقه «سبحانه وتعالى» ؛ لاستلزامه الجهل وعدم إحاطته بجهات الحسن والقبح. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

فليس النسخ رفعا لأمر ثابت بل دفعا أي : إظهارا لعدم تشريع الحكم إلا موقتا ؛ لعدم المقتضى لتشريعه إلى الأبد.

فصار المتحصل : أن منشأ الشك في بقاء الحكم الكلي الفرعي منحصر في اختلاف بعض ما عليه الموضوع من الأوصاف ؛ كما عرفت في الأمثلة المذكورة ، ومعه لا يمكن إحراز وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة. هذا بخلاف غالب الشبهات الموضوعية.

(١) وهو : أن يظهر للحاكم خطأ حكمه السابق فيعدل عنه. وأما البداء بالمعنى الممكن أعني : الإبداء والإظهار فلا مانع منه.

(٢) أي : ولكون البداء ـ بمعنى الظهور والعلم بالشيء ـ مستحيلا في حقه تعالى كان نسخ الحكم الشرعي بمعنى الدفع لا الرفع كما عرفت.

(٣) أي : إشكال عدم اتحاد الموضوع في القضية المتيقنة والمشكوكة في الأحكام الكلية.

وحاصل ما أفاده في دفع الإشكال هو : أن وحدة الموضوع وإن كانت مما لا بد منه في الاستصحاب ؛ إلا إن المدار في الاتحاد المزبور هو النظر العرفي لا العقلي ، ولا ما هو ظاهر الدليل على ما سيأتي تحقيقه في الخاتمة إن شاء الله تعالى ، ومع حكم العرف باتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة ـ وصدق الإبقاء والنقض على إثبات الحكم ونفيه مع اختلاف بعض حالات الموضوع ـ يسهل الأمر في إحراز وحدة القضيتين في استصحاب الأحكام إذا احتل بعض أوصاف الموضوع مما لا يكون بنظر العرف مقوما له ؛ بل من حالاته وعوارضه وإن كان بنظر الدقي العقلي دخيلا في الموضوع كما لا يخفى ، ففي مثال وجوب صلاة الجمعة : لا يكون حضور الإمام «عليه‌السلام» مقوما له بنظر العرف ؛ بل من حالاته. وكذا موضوع حكم الشارع بالانفعال وهو ذات الماء الذي طرأ عليه التغير ، فلا مانع من استصحاب الأحكام الكلية.

١٠٧

محيص عنه في جريانه (١) ؛ إلا إنه لما كان الاتحاد بحسب نظر العرف كافيا في تحققه (٢) وفي صدق الحكم ببقاء ما شك في بقائه ، وكان بعض ما عليه الموضوع من (٣) الخصوصيات التي يقطع معها بثبوت الحكم له مما يعد بالنظر العرفي من حالاته (٤) ـ وإن كان واقعا من قيوده ومقوماته (٥) ـ كان (٦) جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية الثابتة لموضوعاتها عند الشك فيها لأجل (٧) طروء انتفاء بعض ما احتمل دخله فيها مما عدّ من حالاتها لا من مقوماتها (٨) بمكان (٩) من الإمكان ،

______________________________________________________

ثم إن هذا الجواب قد تكرر في كلمات الشيخ ، فقال هنا في جوابه الحلي من كلام الأمين الاسترابادي ما لفظه : «بأن اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة الذي يتوقف صدق البناء على اليقين ونقضه بالشك عليه أمر راجع على العرف ؛ لأنه المحكم في باب الألفاظ».

وضمير «بحسبهما» راجع على الموضوع والمحمول أي : بحسب الموضوع والمحمول.

(١) أي : جريان الاستصحاب ، وضمير «عنه» راجع على الموصول في «مما» المراد به الاتحاد.

(٢) أي : تحقق الاتحاد بنظر العرف ، وضمير «أنه» للشأن.

(٣) بيان للموصول في «ما عليه» ، وضمير «معها» راجع على «الخصوصيات» ، وضمير «له» إلى «الموضوع».

(٤) أي : حالات الموضوع ، ومن المعلوم : أن شأن الحال عدم ارتفاع الموضوع بارتفاعه.

(٥) الضميران راجعان على الموضوع ، ومن الواضح : أن ما يكون مقوما عقلا للموضوع يوجب انتفاؤه انتفاء الموضوع.

(٦) جواب «لما كان» ، وقد عرفت توضيحه.

(٧) تعليل للشك ، يعني : أن منشأ الشك في الأحكام هو انتفاء بعض حالات الموضوع ، وضمير «فيها» راجع على الأحكام.

(٨) هذا الضمير وضميرا «فيها ، حالاتها» راجعة على الموضوعات ، ومن المعلوم : أن شأن المقوم هو انتفاء الموضوع بانتفائه كالعادل والمجتهد ، فإذا زالت العدالة وملكة الاجتهاد ترتفع أحكامهما كنفوذ الشهادة وجواز التقليد ؛ لتقوم موضوعهما بالعدالة والاجتهاد.

(٩) خبر «كان» ، يعني : لا إشكال في جريان الاستصحاب حينئذ.

١٠٨

ضرورة (١) : صحة إمكان دعوى بناء العقلاء على البقاء تبعدا ، أو لكونه (٢) مظنونا ولو نوعا ، أو (٣) دعوى : دلالة النص أو قيام الإجماع عليه قطعا بلا تفاوت (٤) في ذلك بين كون دليل الحكم نقلا أو عقلا.

______________________________________________________

(١) تعليل لكفاية الاتحاد عرفا ؛ وذلك لأن المدار في صحة جريان الاستصحاب على صدق الشك في البقاء ، ومن المعلوم : صدقه على الاتحاد العرفي ، سواء كان اعتباره ببناء العقلاء أم الظن أم النص أم الإجماع ، فلا وجه لتوهم اختصاص كون الموضوع عرفيا بما إذا كان دليل الاعتبار النصوص ؛ بدعوى : كون الأخبار مسوقة بلحاظ الموضوع العرفي ، لأنها ملقاة إلى العرف ، فالمتبع في تشخيص الموضوع وصدق الشك في البقاء هو نظر العرف.

وجه فساد التوهم : صحة دعوى كون التزام العقلاء وكذا الإجماع والظن بلحاظ الموضوع العرفي أيضا.

إلّا أن يقال : إن لبّية الدليل من الإجماع وبناء العقلاء تقتضي لزوم الاقتصار على القدر المتيقن ؛ إذ لا إطلاق له كالنص حتى يؤخذ به.

(٢) عطف على قوله : «تعبدا» ، وضمير «لكونه» راجع على «البقاء».

(٣) عطف على «دعوى بناء العقلاء». وقوله : «أو قيام» عطف على «دلالة النص».

جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف بحكم العقل

(٤) متعلق ب «صحة إمكان دعوى بناء العقلاء» ، يعني : بلا تفاوت في بنائهم على البقاء «بين كون دليل الحكم نقلا ...» الخ. وهذا إشارة إلى تفصيل آخر في حجية الاستصحاب ابتكره الشيخ «قدس‌سره» ، وهو التفصيل بين الحكم الشرعي المستند إلى الأدلة النقلية ؛ كالكتاب والسنة كأغلب كالتكاليف ، والمستند إلى الحكم العقلي ؛ كحسن العدل وردّ الوديعة والصدق النافع ، وقبح الظلم والكذب الضار بالمؤمن ، ونحوها بجريان الاستصحاب في الأول دون الثاني ، واعترض عليه المصنف هنا وفي الحاشية ، قال الشيخ في الوجه الثاني من وجوه تقسيم الاستصحاب باعتبار الدليل الدال على المستصحب ما لفظه : «نظرا إلى أن الأحكام العقلية كلها مبينة مفصلة من حيث مناط الحكم الشرعي والشك في بقاء المستصحب وعدمه لا بد وأن يرجع إلى الشك في موضوع الحكم ... والموضوع لا بد أن يكون محرزا معلوم البقاء في الاستصحاب ...

وهذا بخلاف الأحكام الشرعية ، فإنه قد يحكم الشارع على الصدق بكونه حراما ، ولا يعلم أن المناط الحقيقي فيه باق في زمان الشك أو مرتفع فيستصحب الحكم الشرعي ...».

١٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

والمستفاد منه : أن المانع من جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المستكشفة من حكم العقل أمران :

أحدهما : عدم إحراز وحدة الموضوع في القضيتين المتيقنة والمشكوكة مع اشتراط الاستصحاب به ، بيانه : أنه ـ بناء على القول بالتحسين والتقبيح العقليين أي : درك العقل العملي بأن هذا مما ينبغي فعله وذاك مما ينبغي تركه مع الغض عن خطاب الشارع ، وبناء على ثبوت الملازمة بين حكمي العقل والشرع ـ فإذا أدرك العقل حسن ردّ الوديعة وقبح الكذب الضار بنفس محترمة ترتب عليه حكم الشارع بوجوب الرّد وحرمة الكذب بما هما موضوعان لحكم العقل ، ومن المعلوم : أن إدراكه للحسن والقبح لا يتطرق إليه الإهمال والإجمال ؛ لأنه إن أحرز جميع القيود الدخيلة في مناط التحسين أو التقبيح استقل بالحكم به ، وإن لم يحرزه لم يستقل به ؛ إذ القيود في القضايا العقلية بأجمعها من الجهات التقييدية الراجعة على نفس موضوع الحكم الذي هو فعل المكلف ، فإذا زالت بعض الأوصاف كانتفاء الضرر عن الكذب ، أو استلزام ردّ الأمانة للخوف انتفى حكم العقل قطعا ، ينتفي بتبعه أيضا تحريم الشارع في الأوّل وإيجابه في الثاني ، ضرورة : كون الموضوع للحرمة في القضية المتيقنة «الكذب المضر» ، والموضوع في المشكوكة هو مطلق الكذب لانتفاء قيد الإضرار حسب الفرض ، ومن المعلوم : امتناع استصحاب حرمة الكذب المضر ـ في الشبهة الحكمية ـ لإثبات حرمة مطلق الكذب ؛ لاحتمال دخل وصف الإضرار في موضوع الحكم الشرعي ، وبمجرد هذا الاحتمال لا يحرز وحدة الموضوع.

ثانيهما : اختلال ركن الاستصحاب ، وهو الشك في البقاء ، قال الشيخ «قدس‌سره» : «ألا ترى أن العقل إذا حكم بقبح الصدق الضار ، فحكمه يرجع إلى إن الضار من حيث إنه ضار حرام ، ومعلوم : أن هذه القضية غير قابلة للاستصحاب عند الشك في الضرر مع العلم بتحققه سابقا ...».

وتوضيحه : أن تقبيح العقل للصدق المضر ليس لموضوعية خصوص عنوان «الصدق المضر» لحكمه بالقبح ؛ بل لصغرويته لكبرى حكم العقل بقبح الإضرار بالغير ، ولا شك في هذه الكبرى الكلية كي يجري فيها الاستصحاب ، وإنما الشاك في وجودات الضار التي هي مصاديق ما أدركه العقل كلية ، وبزوال وصف الضرر لا يحكم على ذات الصدق بالقبح ، كما لا يحكم عليه بالحرمة شرعا ؛ لاقتضاء الملازمة بين حكمي العقل

١١٠

أما الأول (١) : فواضح. وأما الثاني (٢) : فلأن الحكم الشرعي المستكشف به عند

______________________________________________________

والشرع للقطع بانتفاء الحكم الشرعي المستند إلى الإدراك العقلي حتى لو قلنا بكون المناط في تشخيص الموضوع العرف لا الدليل ولا العقل ، لفرض : أن كل عنوان تعلق به تحسين العقل أو تقبيحه فهو بنفسه متعلق الخطاب الشرعي ، وحيث ارتفع الحكم العقلي من جهة اختلال بعض خصوصيات الموضوع ارتفع الحكم الشرعي المستند إليه أيضا ، فلا شك في بقائه كي يستصحب.

هذا كله في الأحكام الشرعية المستكشفة من حكم العقل بقاعدة الملازمة.

وأما الأحكام الشرعية المستندة إلى الأدلة النقلية : فلما كان تمييز موضوعها بيد العرف ، واحتمل وجود مناط آخر للحكم لم يطلع عليه العقل جرى الاستصحاب فيها ؛ كما إذا حكم الشارع بحرمة الكذب المضر ، ولم يعلم أن المناط هو الإضرار أو نفس الكذب ـ بما أنه إخبار غير مطابق للواقع ـ وزال الضرر أو شك في زواله ، فإنه يجري استصحاب الحرمة في الشبهتين الحكمية والموضوعية.

هذا محصل ما يستفاد من كلام الشيخ ، وحيث إن المصنف ناقش في كلا الوجهين كما سيظهر فلذا أوضحنا المقصود مقدمة لتعليقه عليه ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٧ ، ص ٤٠ ـ ٤٢».

(١) وهو المستند إلى النقل ، ووجه وضوحه : أن تشخيص وحدة الموضوع في القضيتين في هذه الأحكام يكون بيد العرف قطعا ، لأنه المخاطب بها.

(٢) وهو المستند إلى القضايا العقلية ، وهذا شروع في مناقشة الوجه الأول مما أفاده الشيخ «قدس‌سره» ، أعني : شبهة عدم إحراز وحدة الموضوع.

وبيانه : أنه إذا حكم العقل بقبح التصرف في مال الغير عدوانا ووجوب ردّ الأمانة ، ثم عرض الاضطرار أو الخوف من الرّد ، واحتمل دخله في مناط التحسين والتقبيح انتفى حكم العقل قطعا ؛ لعدم إدراكه فعلا ، حيث إنه لم يحرز ما هو الدخيل في موضوع حكمه ؛ لكن ارتفاع حكم العقل لا يمنع استصحاب الحكم الشرعي المستند إليه كحرمة التصرف ووجوب الرّد المذكورين ، وذلك لأنه بعد استكشاف خطاب شرعي بهما من قاعدة الملازمة يشك في بقاء وجوب ردّ الوديعة المستلزم للخوف وحرمة التصرف المستلزمة للاضطرار ، لاحتمال دخل هذا الوصف في الموضوع ، فإن كان المناط في وحدة الموضوع النظر الدقي العقلي تمّ ما أفاده الشيخ ؛ لكن يلزمه المنع من حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية والموضوعية في الأحكام المستندة إلى الأدلة النقلية

١١١

طروء انتفاء ما احتمل دخله في موضوعه (١) مما لا يرى مقوّما له (٢) كان (٣) مشكوك البقاء عرفا (٤) ؛ لاحتمال (٥) عدم دخله فيه واقعا وإن كان لا حكم للعقل بدونه

______________________________________________________

أيضا ؛ كما إذا ورد : «يحرم الصدق الضار» ، واحتمل مدخلية هذا الوصف في موضوع الحكم ، فإذا شك في بقاء مضريته لا يجري الاستصحاب ؛ لعدم إحراز وحدة الموضوع ، وهذا مما لا يلتزم به.

وإن كان المناط صدق الوحدة بالنظر العرفي كما هو مختار الشيخ «قدس‌سره» أيضا فلا بد من التفصيل بين الأوصاف ، فإن كان الوصف الزائل مقوما للموضوع أو مما يحتمل مقوّميته له ـ كما هو الحال في اعتبار ملكة العدالة في مرجع التقليد المستفاد من مثل : «قلد المجتهد العادل» ـ فبزواله لا مجال للاستصحاب ؛ لعدم إحراز وحدة الموضوع في القضيتين لو لم نقل بإحراز عدمها.

وإن كان الوصف الزائل غير مقوم لموضوع الحكم : جرى الاستصحاب كما هو الحال في مثل : «الماء المتغير متنجس» في عدّ التغير من الحالات.

وحيث إن الخصوصيات الدخيلة في حكم العقل معدودة عرفا من الحالات المتبادلة على الذات ، فاللازم القول بحجية الاستصحاب في هذا السنخ من الأحكام.

وضمير «به» راجع على العقل أي : المستكشف بالعقل بعد تسليم قاعدة الملازمة.

(١) أي : موضوع الحكم الشرعي ، وضمير «دخله» راجع على «ما احتمل» المراد به الوصف الزائل ، وذلك كالتغير في تقيّد الموضوع ـ أعني : ذات الماء ـ به ، وكذا الحال في وصف الضرر بالنسبة إلى حرمة الصدق المضر فإنه مما يحتمل في الموضوع ؛ لكنه ليس مقوما له.

(٢) يعني : مما لا يرى بنظر العرف مقوّما للموضوع ؛ وإن كان مقوما له بالنظر الدقي ؛ إذ لو لا دخله للغا أخذه.

(٣) خبر «فلأن الحكم» ، وكان الأولى تبديله ب «يصير».

وغرضه : أن المعيار في جريان الاستصحاب ـ وهو كون الشيء مشكوك البقاء عرفا ـ حاصل هنا فيجري بلا مانع.

(٤) وحيث إن المدار على وحدة موضوع القضيتين عرفا لا عقلا فلا بد من الالتزام باعتبار الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي.

(٥) تعليل لقوله : «كان مشكوك البقاء» ، وضميرا «دخله ، بدونه» راجعان على الموصول في «مما» المراد به الوصف الزائل ، وضمير «فيه» راجع على الموضوع.

١١٢

قطعا (١).

إن قلت : كيف هذا (٢) مع الملازمة بين الحكمين؟

قلت : ذلك (٣) لأن الملازمة إنما تكون في مقام الإثبات والاستكشاف لا في مقام

______________________________________________________

(١) قيد ل «لا حكم». يعني : أن حكم العقل مرتفع قطعا عند زوال وصف موضوعه أو قيده ، إما لإحراز دخله بالخصوص في الملاك ، وإما لأن إحراز العقل لوجود الملاك يكون في ظرف وجود ذلك الشيء من باب القدر المتيقن وإن لم يكن دخيلا واقعا في المناط ، بخلاف حكم الشرع ، فإنه لا قطع بعدمه فيجري فيه الاستصحاب ، وضمير «بدونه» راجع على «ما احتمل دخله».

(٢) يعني : كيف هذا أي : التفكيك بين حكمي العقل والشرع بجعل الأول مقطوع الانتفاء عند زوال بعض القيود ، والثاني مشكوك البقاء ومحكوما بالإبقاء تعبدا؟

وحاصل هذا الإشكال : أن الملازمة بين الحكمين تقتضي وحدة موضوعيهما وعدم أوسعية أحدهما من الآخر ؛ إذ المفروض : استكشاف خطاب الشارع من قاعدة الملازمة ، فكما ينتفي حكم العقل بتبدل بعض خصوصيات الموضوع ، فكذلك الحكم الشرعي المستند إليه ، وإجراء الاستصحاب فيه من تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر ، وهو أجنبي عن الاستصحاب المصطلح المتقوم بوحدة القضيتين موضوعا ومحمولا.

(٣) أي : التفكيك ، وهذا الجواب كما يتخلص به عن إشكال التفكيك بين حكمي العقل والشرع كذلك يندفع به الوجه الثاني المتقدم في توضيح كلام الشيخ أعني : انتفاء ركن الاستصحاب وهو الشك في البقاء.

وتوضيح هذا الجواب يتوقف على مقدمة ، وهي بيان أمرين :

الأول : إن للحكم العقلي مرتبتين وهما الشأنية والفعلية ، والمراد بالأولى : هو المناط الواقعي للحكم من المصلحة أو المفسدة الكامنة في الأفعال التي لم يطلع عليها العقل ، وبالثانية : إدراك العقل له فعلا الموجب لتحسين أمر وتقبيح آخر ، وهذا الحكم الفعلي موقوف على لحاظ الموضوع بجميع الخصوصيات المعتبرة فيه ، ومع اختلال بعض الشرائط والقيود الدخيلة في إدراك الحسن والقبح يكون انتفاء ذلك الإدراك قطعيا ، وهذا بخلاف حكمه الشأني ، فإنه حكم تقديري معلق على الإحاطة بالملاكات النفس الأمرية ، وهي قد تختلف مع المناطات المعلومة التي تكون منشأ لإدراكه الفعلي للحسن والقبح.

الثاني : أن الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي إنما يتبع حكمه الشأني في مقام

١١٣

الثبوت (١) ، فعدم (٢) استقلال العقل إلا في حال (٣) غير ملازم لعدم حكم الشرع إلا

______________________________________________________

الثبوت ، يعني أنا ما هو ملاك حكم العقلي واقعا هو بنفسه ملاك حكم الشرع ، ويتبع حكمه الفعلي في مقام الإثبات ، يعني : في مرحلة استكشاف خطاب الشارع لا بد من فعلية إدراك العقل.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الملازمة بين حكمي العقل والشرع لا تنافي أوسعية موضوع حكم الشرع من موضوع حكم العقل ؛ لعدم كون التلازم في مرحلة الثبوت ، ضرورة : عدم توقف حكم الشرع على حكم العقل الفعلي واقعا وفي نفس الأمر كي يتحد موضوعهما حقيقة ؛ بل الملازمة إنما تكون في مقام الكشف والإثبات والعلم بخطاب الشارع ، بمعنى : أن الدليل على الحكم الشرعي هو العقل ، كما قد يكون غيره من النص والإجماع.

وعليه : فالحكم العقلي واسطة في الإثبات والعلم بالحكم الشرعي ، لا في الثبوت وأصل وجوده حتى ينتفي بانتفائه ، ومن المعلوم : أن التبعية في مقام الإثبات لا تلازم التبعية في مقام الثبوت.

نعم ؛ الملازمة الثبوتية تكون بين الحكم الشرعي والحكم العقلي الشأني ، لكن الكلام في تبعيته لحكمه الفعلي ، لأنه موضوع قاعدة الملازمة وإذا زال بعض ما يحتمل دخله في موضوع حكم العقل انتفى حكمه ، لكن يشك في ارتفاع حكم الشارع ؛ لاحتمال بقاء ملاكه ، فلا بد من ملاحظة أن الوصف المتبدل هل يكون مقوّما أم حالا على التفصيل المتقدم بقولنا : «لكن زوال حكم العقل لا يمنع استصحاب الحكم الشرعي ...». وبهذا التقريب كما لا يتعدد الموضوع بنظر العرف كذلك يحصل الشك في بقاء الحكم الشرعي ، فيستصحب لاجتماع أركان الاستصحاب.

(١) يعني : دوران الحكم الشرعي مدار الحكم العقلي الفعلي وجودا فقط ؛ بحيث لو أحرز العقل العلة التامة للحسن أو القبح حكم بأنه مما ينبغي فعله أو تركه ، ولا يدور مداره عدما أيضا ؛ إذ لا يدل على انحصار عليته للحكم الشرعي ، فلا يصدق قولنا : «لو لم يكن للعقل حكم لم يكن للشرع حكم أيضا» ؛ لعدم الدليل على هذا التلازم ؛ بل الدليل على خلافه ، إذ ربما لا يكون للعقل حكم فعلي ؛ لقصوره عن إدراك المناطات الواقعية ، كما هو الحال في غالب الأحكام الثابتة بالأدلة النقلية ، والشارع لاطلاعه على تلك الملاكات ينشئ أحكاما على طبقها.

(٢) هذا متفرع على كون التلازم في مقام العلم والإثبات لا الثبوت.

(٣) وهو حال اجتماع الخصوصيات الدخيلة في حكمه ، كما في قبح الكذب

١١٤

في تلك الحال (١) ؛ وذلك (٢) لاحتمال أن يكون ما هو ملاك حكم الشرع من المصلحة أو المفسدة التي هي ملاك حكم العقل كان (٣) على حاله في كلتا الحالتين (٤) ، وإن لم يدركه (٥) إلّا في إحداهما ؛ لاحتمال (٦) عدم دخل تلك الحالة فيه ، أو احتمال (٧) أن يكون معه ملاك آخر بلا دخل لها فيه أصلا ...

______________________________________________________

الضار بالغير غير النافع للكاذب.

(١) وهي حال احتمال الشرائط ، لإمكان حكم الشرع مع زوال بعض ما يراه العقل دخيلا في حكمه. وقوله : «غير ملازم» خبر «فعدم».

(٢) بيان لعدم الملازمة ، وكون موضوع الحكم الشرعي أوسع مما يراه العقل.

(٣) خبر «أن يكون ما هو» ، و «من المصلحة» بيان ل «ما هو». ولو أبدل «كان على حاله» ب «ثابتا» كان أخصر ؛ لصيرورة العبارة هكذا : «لاحتمال أن يكون ما هو ملاك حكم الشرع ... ثابتا في كلتا الحالتين».

(٤) يعني : حالتي بقاء ذلك الوصف وارتفاعه.

(٥) أي : وإن لم يدرك العقل الملاك إلّا في إحدى الحالتين وهي حالة وجود الوصف ، فوجود الوصف دخيل في العلم بالملاك لا في أصل وجوده.

(٦) تعليل لاحتمال وجود الملاك في الحالتين وإن لم يدركه العقل إلّا في إحدى الحالتين التي هي طريق استكشاف العقل للملاك من دون دخلها فيه ثبوتا ، فالملاك في كلتا الحالتين موجود ، وضمير «فيه» في الموضعين ، وضمير «معه» راجع على الملاك.

(٧) عطف على «احتمال عدم» يعني : أو لاحتمال أن يكون مع ذاك الملاك ملاك آخر ، بلا دخل لتلك الحالة الزائدة فيه أصلا ، وإن كان لتلك الحالة دخل في اطلاع العقل على الملاك واستكشافه له. وهذا وجه ثان لاستصحاب الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي ، والفرق بين الوجهين : أنه على الأول : يطرد ملاك واحد في الحالتين ، وعلى الثاني : يوجد ملاكان يختص أحدهما بحال وجود الوصف ، ويشترك الآخر بين حالتي وجوده وعدمه.

ومن المعلوم : أن احتمال وجود ملاك آخر معه ـ كاحتمال بقاء الملاك الأول ـ ملزوم لاحتمال بقاء الحكم الشرعي ، وهو كاف في جريان الاستصحاب لوجود مناطه وهو الشك في البقاء.

فإن قلت : تصحيح إجراء الاستصحاب بهذا الوجه الثاني غير سديد ، إذ مع فرض انتفاء الملاك في الفعل الواجد للوصف ، واحتمال قيام مناط آخر بالفعل الفاقد للوصف

١١٥

وإن كان لها (١) دخل فيما اطلع عليه من الملاك.

وبالجملة (٢) : حكم الشرع إنما يتبع ما هو ملاك حكم العقل واقعا لا ما هو مناط حكمه فعلا ، وموضوع حكمه كذلك (٣) مما لا يكاد يتطرق إليه الإهمال والإجمال مع تطرقه إلى ما هو موضوع حكمه شأنا ، وهو ما قام به ملاك حكمه واقعا ، فربّ

______________________________________________________

يكون الحكم المنبعث عن الملاكين متعددا ، ولا يجري في مثله الاستصحاب ؛ لأنه من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلي ، وهو الشك في حدوث فرد للكلي مقارنا لارتفاع فرده الموجود سابقا ، ومن المعلوم : أن الفرد المشكوك الحدوث محكوم بعدم حدوثه بالأصل.

قلت : ليس المقصود إجراء الاستصحاب في ملاك الحكم ومناطه الدائر بين الزائل والحادث ؛ بل الغرض استصحاب الحكم الشرعي الشخصي الذي يستند حدوثه إلى مناط وبقاؤه إلى مناط آخر ، ومن المعلوم : أن تبدل الملاك لا يقتضي تبدل نفس الحكم ؛ كوجوب إكرام زيد لكونه عالما ، وبعد زوال علمه ـ لمرض مثلا ـ لكونه هاشميا ، ونظيره في التكوينيات تبديل عمود الخيمة بمثله الحافظ للهيئات الموجودة الشخصية ، فإنه لا يوجب تغيرا في تلك الهيئة الوحدانية.

والنتيجة : أن احتمال حدوث ملاك آخر قائم بالفعل الفاقد للوصف يوجب احتمال بقاء حكمه الشرعي ، فيستصحب لاجتماع أركانه من اليقين بحدوث الجعل والشك في الارتفاع.

(١) أي : لتلك الحالة كالإضرار في حرمة الكذب وقبحه ، فإنه دخيل في موضوع حكم العقل بالقبح ، وغير دخيل في المفسدة الواقعية التي لم يطلع عليها العقل.

(٢) هذا حاصل ما أفاده في الإيراد على كلام الشيخ «قدس‌سره» ، وحاصله ـ كما عرفت ـ أن حكم الشارع تابع للملاك الواقعي لحكم العقل الشأني ؛ بحيث لو التفت إليه لحكم به فعليا ، وليس حكم الشرع تابعا لحكم العقل فعلا لأجل إحرازه مناط حكمه ؛ إذ يمكن أن يكون مناط حكم الشرع أعم من ملاك حكم العقل.

(٣) أي : فعلا.

وغرضه : ردّ ما تقدم من الشيخ من أن الأحكام العقلية كلها مفصلة من حيث المناط ولا إهمال فيها ، ويدور أمرها بين وجودها قطعا وعدمها كذلك ، فلا يتطرق الشك فيها كي تستصحب.

وحاصل الرّد : أن للعقل حكمين أحدهما شأني والآخر فعلي ، فإن كان الغرض

١١٦

خصوصية لها دخل في استقلاله (١) مع احتمال بقاء ملاكه (٢) واقعا ، ومعه (٣) يحتمل بقاء حكم الشرع جدا ؛ لدورانه (٤) معه وجودا وعدما. فافهم وتأمل جيدا.

ثم إنه لا يخفى (٥) : اختلاف آراء الأصحاب في حجية الاستصحاب مطلقا وعدم حجيته كذلك (٦) ، والتفصيل بين الموضوعات والأحكام ، أو بين ما كان الشك في الرافع وما كان في المقتضي إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة (٧) على (٨) أقوال

______________________________________________________

إنكار الإهمال في حكمه الفعلي فهو كلام متين ؛ لأنه إذا أحاط بمناط حكمه حكم وإلّا فلا يحكم ، لكن زوال الوصف إنما يوجب انتفاء الحكم العقلي الفعلي الكاشف عن الخطاب الشرعي ، ولا يقتضي انتفاء الملاك الواقعي المنبعث عنه الحكم الشرعي.

وإن كان الغرض إنكار الإهمال في حكم العقل الشأني فهو غير ظاهر الوجه ؛ لاحتمال وجود مصالح ومفاسد في الأفعال واقعا لم يطلع عليها العقل ، كما هو كذلك في أكثر الأحكام الشرعية ، ولو اطلع عليها لأدرك حسنها وقبحها قطعا ، ولأذعن بما أنشأه الشارع للتحفظ على تلك الملاكات ، فالعقل بالنسبة إلى المناطات الواقعية شاك ، وليس له سبيل إلى الجزم بانتفائها بمجرد عدم إحاطته بها ، وحيث احتمل وجود ملاك واقعي غير ما أدركه العقل فالشك في بقاء الخطاب الشرعي متحقق جزما ، ومعه يجري الاستصحاب.

(١) أي : استقلال العقل في حكمه الفعلي الموضوع لقاعدة الملازمة.

(٢) يعني : مع احتمال بقاء ملاك حكم العقل واقعا بدون تلك الخصوصية.

(٣) أي : ومع احتمال بقاء الملاك واقعا بدون تلك الخصوصية يحتمل بقاء حكم الشرع.

(٤) أي : لدوران حكم الشرع مدار الملاك الواقعي ـ لا المعلوم ـ وجودا وعدما.

وقد تحصل مما أفاده المصنف : أنه لا فرق في حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية بين كون دليل الحكم هو العقل أو النقل ؛ إذا صدق وحدة القضيتين عرفا. وهنا كلام طويل أضربنا عنه تجنبا عن التطويل.

(٥) وحيث انتهى عن صحة استصحاب الحكم حتى العقلي منه شرع في بيان دليل الاستصحاب فقال : «ثم إنه لا يخفى اختلاف آراء الأصحاب ...» الخ.

(٦) أي : مطلقا ، وهذان الإطلاقان في قبال التفاصيل التي أشار إلى بعضها.

(٧) التي تقدمت الإشارة إليها في أول البحث ، والتي أنهاها الشيخ «قدس‌سره» في الرسائل إلى أحد عشر قولا.

(٨) متعلق ب «اختلاف».

١١٧

شتى لا يهمنا نقلها ونقل ما ذكر من الاستدلال عليها (١) ، وإنما المهم الاستدلال على ما هو المختار منها (٢) وهو (٣) الحجية مطلقا على نحو يظهر بطلان سائرها (٤) ، فقد استدل عليه (٥) بوجوه : الوجه الأول (٦) : بناء العقلاء من الإنسان بل ذوي الشعور من

______________________________________________________

(١) فإنه إطالة بغير طائل.

(٢) أي : من هذه الأقوال.

(٣) أي : هو القول الأول أعني «الحجية مطلقا».

(٤) فلا حاجة إلى إطالة الكلام بالبحث عن أدلتها وردّها ؛ لكنه «قدس‌سره» تعرض لتفصيل الشيخ الأنصاري بين الشك في المقتضي والرافع ، وللتفصيل بين الوضع والتكليف.

(٥) أي : على المختار وهو حجية الاستصحاب مطلقا.

أدلة حجية الاستصحاب

(٦) المراد ببناء العقلاء وسيرتهم : هو عملهم في قبال الإجماع القولي ، غاية الأمر : أن السيرة تطلق ـ كما قيل ـ على عملهم بما هم متدينون بدين ومتشبثون بشريعة ؛ كاستقرار طريقتهم على بيع المعاطاة ، واكتفائهم بالعقد الفعلي استنادا إلى تدينهم بدين ، واعتبار هذه السيرة منوط بالإمضاء. والبناء يطلق أيضا على استقرار العقلاء بما هم عقلاء على أمر شرعي كبنائهم على اعتبار الخبر الموثوق الصدور.

ويقابل هذين البناءين ما يطلق عليه فهم العرف كاقتضاء فهمهم بما هم عرف في تعيين المرادات من ظواهر الألفاظ ؛ كبنائهم على اعتبار الظواهر وأصالة الحقيقة ونحوهما.

وكيف كان ؛ فالاستدلال ببناء العقلاء على اعتبار الاستصحاب مؤلف من مقدمتين :

أما الأولى ـ فمحصلها : استقرار بناء العقلاء على إبقاء ما كان على ما كان ، بمعنى : كون الاعتماد على الوجود السابق المتيقن في ظرف الشك في بقائه من مرتكزات العقلاء في جميع أمورهم وشئونهم ، فالشك المسبوق باليقين وغير المسبوق به ليسا على حدّ سواء عندهم ؛ لعدم اعتنائهم باحتمال تبدل ذلك المعلوم السابق بغيره ، بخلاف ما إذا لم تكن الحالة السابقة محرزة ، فإنهم يرجعون إلى أمور أخرى كالاحتياط العقلي ونحوه.

بل يمكن دعوى : عدم اختصاص هذا البناء بالعقلاء ؛ لأنه دأب كل ذوي الشعور ومن جبليات جميع النفوس ؛ لما يرى من رجوع الحيوانات إلى أوكارها بعد تركها.

١١٨

كافة أنواع الحيوان على العمل على طبق الحالة السابقة ، وحيث (١) لم يردع عنه الشارع كان ماضيا.

وفيه أولا : منع استقرار بنائهم على ذلك (٢) ...

______________________________________________________

وأما الثانية ـ فبيانها : أن هذا البناء حجة شرعا ؛ لعدم ردع الشارع عنه ، وهذا المقدار كاف في الإمضاء.

وعليه : فمقتضى هذا الدليل حجية الاستصحاب مطلقا من باب الأصل لا الأمارة ؛ لأن اعتباره لأجل الظن بالبقاء هو مقتضى الوجه الثاني الآتي.

قال الشيخ الأنصاري في عداد أدلة اعتبار الاستصحاب مطلقا : «ومنها : بناء العقلاء على ذلك في جميع أمورهم كما ادعاه العلامة في النهاية وأكثر من تأخر عنه ، وزاد بعضهم : أنه لو لا ذلك لاختل نظام العالم ...» (١).

(١) هذا إشارة إلى وجه حجية بناء العقلاء ؛ إذ من المعلوم : عدم كون بنائهم بنفسه حجة ، وإنما يتوقف اعتباره على إمضاء الشارع ، وهذا الإمضاء قد يستكشف بالدليل اللفظي ، وقد يستكشف بعدم الردع بشرط إمكانه وعدم مانع عنه من تقية وغيرها في البين ، وضمير «عنه» راجع على بناء العقلاء.

(٢) أي : على العمل على طبق الحالة السابقة. ثم إن المصنف «قدس‌سره» أورد على التمسك ببناء العقلاء على اعتبار الاستصحاب بوجهين ؛ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٧ ، ص ٥٧» :

الأول : ما يرجع إلى منع المقدمة الأولى ، يعني : أن المقصود بالاستدلال بهذا البناء إثبات تعويلهم على الحالة السابقة تعبدا ، وكفاية نفس الوجود السابق بما هو متيقن لترتيب آثاره عليه في ظرف الشك ، مع أنه ممنوع ؛ إذ لا معنى للتعبد المحض في عمل العقلاء به ارتكازا ؛ بل لا بد من استناده إلى منشأ عقلائي وهو أحد أمور ثلاثة ، فقد يكون منشؤه الاحتياط كما إذا كان له ابن في بلد آخر ، وجرت عادة الأب على الإنفاق عليه وسدّ حاجاته المالية ، فإنه لو شك الوالد في حياة ابنه أرسل إليه الأموال رجاء واحتياطا حذرا من ابتلاء ابنه بضيق المعاش على تقدير بقائه حيا.

وقد يكون منشؤه الاطمئنان بالبقاء أو الظن به ، وذلك كالتاجر الذي يرسل البضائع إلى تاجر في بلد آخر ، فإنه وإن لم يتفحص عن بقائه كل مرة ، ولكنه مطمئن بحياته ، ولذا يرسلها إليه بحيث لو علم بموت جماعة من أهل ذلك البلد واحتمل كون وكيله

__________________

(١) فرائد الأصول ٣ : ٩٤.

١١٩

تعبدا (١) ؛ بل إما رجاء واحتياطا ، أو اطمئنانا بالبقاء أو ظنا به ولو نوعا (٢) ...

______________________________________________________

منهم لم يرسل الأموال الخطيرة إليه قطعا ؛ لزوال اطمئنانه ـ بل ظنه ـ بالبقاء وقد يكون منشؤه الغفلة عن شكه الفعلي في بقاء ما كان ؛ كما إذا غيّر مسكنه وغفل عنه ، فإنه قد يسلك الطريق إلى داره الأولى. وهذا في الحيوانات أظهر لأجل عادتها الحاصلة من تكرار الفعل السابق ، ومع تبدل عادتها لا ترجع إلى محلها الأول إلّا لأجل الغفلة.

وعليه : فليس من ارتكازيات العقلاء العمل تعبدا بالمتيقن السابق في ظرف الشك في بقائه كي يتجه الاستدلال به على اعتبار الاستصحاب.

الثاني : ما يرجع إلى منع المقدمة الثانية ، أعني : تحقق شرط الاعتبار ، وحاصله : أن حجية هذا البناء العقلائي ـ كسائر موارده كبنائهم على العمل بخبر الثقة ـ منوطة بالإمضاء ولو بعدم الردع ، لكنه ممنوع ؛ إذ لا دليل على الإمضاء ، بل دل على الردع عنه طائفتان من الأدلة :

الأولى : ما دل بالعموم على ردعه ، وعدم اعتباره كالآيات والروايات الناهية عن العمل بغير العلم ، كقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) وهي شاملة للمقام ؛ إذ المفروض : زوال اليقين ببقاء الحالة السابقة ، وغاية ما يمكن دعواه : وجود الظن باستمرارها ، ومن المعلوم : أن كل ما ليس بعلم موضوع للنهي عن اتباعه.

الثانية : ما دل من الكتاب والسنة على كون المرجع في الشبهات أصالة البراءة كما هو مذهب الأصوليين ، أو أصالة الاحتياط كما هو مذهب الأخباريين ، فإن إطلاق أدلة البراءة يشمل ما إذا كان الشك في ثبوت التكليف مسبوقا بالعلم به وغير مسبوق بالعلم به ، فمثل : «رفع ما لا يعلمون» ينفي ظاهرا وجوب صلاة الجمعة المعلوم وجوبها حال حضور الإمام المعصوم «عليه‌السلام» وبسط يده ، والمشكوك بقاؤه حال الغيبة لاحتمال كون حضوره «عليه‌السلام» مقوّما لوجوبها.

وكذا أدلة الاحتياط الآمرة بالوقوف عند الشبهة ، فإنها بإطلاقها تقتضي الأخذ بالحائطة للدين ، سواء كان الشك مسبوقا بالعلم بالتكليف أم لم يكن.

وقد تحصل : أن بناء العقلاء على الأخذ باليقين السابق ـ على تقدير تحققه ـ يكون مردوعا عنه ، فلا عبرة به لإثبات حجية الاستصحاب.

(١) لما عرفت من : عدم ابتناء عمل العقلاء على التعبد.

(٢) أي : الظن بالبقاء الحاصل للنوع وإن لم يحصل لهذا الشخص بالخصوص ،

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

١٢٠