دروس في الكفاية - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

والعلامية (١) ، أو مع زيادة الصحة والبطلان (٢) ، والعزيمة والرخصة (٣) ، أو زيادة غير ذلك (٤) كما هو المحكي عن غيره (٥) ، ...

______________________________________________________

(١) كما هو المحكي عن الشهيد الثاني ، ومثال العلامية : خفاء الجدران المجعول علامة على حدّ الترخص ، وجعل الجدي خلف المنكب الأيمن علامة لقبلة أهل العراق ؛ لكن حكي عنه احتمال رجوعهما إلى السبب ، والعلامية إلى الشرط.

(٢) مطلقا كما عن ظاهر الحاجبي والعضدي ، أو في خصوص المعاملات كما عن بعض الشافعية ، وأما في العبادات : فقد حكم بكونهما عقليين. واختار المصنف «قدس‌سره» في مسألة اقتضاء النهي للفساد وعدمه قولا آخر ، فذهب إلى كونهما مجعولين في المعاملات ، وفي العبادات الثابتة بأمر ظاهري أو اضطراري كالصلوات العذرية المحرزة شرائطها بالأمارات الشرعية كالإتيان بها إلى الجهة التي شهدت البيّنة بكون القبلة فيها ، وكفعلها في لباس مستصحب الطهارة أو في آخر الوقت خالية عن السورة ، فإن حكم الشارع بتماميتها في هذه الصور ونظائرها مع عدم وفائها بتمام مصلحة الواقع هو المقصود من مجعولية الصحة.

وأما إذا كان المأمور به الاضطراري أو الظاهري وافيا بتمام ملاك المأمور به الاختياري أو بمعظمه ؛ بحيث لا يقتضي الباقي تشريع وجوب الإعادة أو القضاء ، فالصحة غير مجعولة ، بل هي أمر واقعي.

(٣) حكي زيادتهما عن الحاجبي والعضدي ، والأولى عن الآمدي ، وقد يقال بكونهما حكمين تكليفيين ؛ إذ العزيمة لزوم فعل شيء كالركعتين الأخيرتين من الرباعية للمسافر المقيم ، أو لزوم تركه كهاتين الركعتين للمسافر غير المقيم في غير مواطن التخيير. والرخصة جواز الفعل أو الترك كسقوط الأذان في موارده. لكنها غير الإباحة ، ضرورة : أن الأذان عبادة ، ولا معنى لجواز العبادة بمعنى الإباحة ؛ إذ لا بد في العبادة من الرجحان ، فلا يعقل تساوي فعل العبادة وتركها.

(٤) كزيادة التقدير ـ أي : فرض شيء مكان شيء مثل تنزيل الموجود منزلة المعدوم ؛ كتنزيل الماء الموجود المحتاج إلى شربه منزلة عدمه في تشريع جواز التيمم ، أو العكس كتنزيل المقتول منزلة الحي في ملكية الدية لتورث ؛ إذ لا يرث الوارث إلا ما ملكه الميت حال حياته ، والمفروض : أن الدية تجب بالموت لا قبله فينزل الموت منزلة الحياة.

وزيادة الحجج وهي التي يستند إليها القضاة من بيّنة ويمين ونحوهما.

(٥) أي : غير العلامة وهو صلاح الدين.

٢٢١

أو ليس (١) بمحصور ؛ بل كل ما ليس بتكليف مما له دخل فيه (٢) أو في متعلقه (٣) وموضوعه (٤) ، أو (٥) لم يكن له دخل مما أطلق عليه الحكم في كلماتهم ، ضرورة (٦) : أنه لا وجه للتخصيص بها (٧) بعد كثرة إطلاق الحكم في الكلمات على غيرها ، مع أنه (٨) لا تكاد تظهر ثمرة مهمة علمية أو عملية للنزاع في ...

______________________________________________________

(١) قوله : «أو ليس بمحصور» عطف على «محصور» يعني : لا وقع للنزاع في الحصر وعدمه.

(٢) أي : في التكليف ، والدخيل في نفس الحكم هو ما سيأتي في القسم الأول في كلام المصنف ، وذلك كالاستطاعة الدخيلة في توجه خطاب وجوب الحج إلى المكلف.

(٣) أي : في متعلق التكليف ، وهو القسم الثاني ، كالجزئية والشرطية للمكلف به كالصلاة والحج ، فشرطية الاستقبال في الصلاة ومانعية لبس ما لا يؤكل فيها حكمان شرعيان وضعيان ، وهكذا.

(٤) أي : في موضوع التكليف كالزوجية والملكية اللّتين يترتب عليهما آثار شرعية من جواز الاستمتاع ووجوب النفقة وغيرهما من الآثار المترتبة على الزوجية ، وجواز الهبة وشراء المملوك للعتق الواجب ، وغيرهما من الآثار المترتبة على الملكية.

(٥) عطف على «كان» المقدر الذي يتعلق به «مما» ، يعني : كان مما له دخل أو لم يكن مما له دخل.

وغرضه : أن بعض الأحكام الوضعية مع عدم دخلها في موضوع الحكم التكليفي ولا في متعلقه يصح عدّها من الأحكام الوضعية وإن لم يترتب عليها التكليف ، وذلك كحجية الأدلة غير العلمية ، فإنها ـ بناء على استقلالها في الجعل وعدم انتزاعها عن حكم تكليفي ـ تكون حكما وضعيا ، وكذا الوكالة على ما قيل.

قوله : «ما أطلق عليه ...» الخ بيان للموصول في «ما ليس بتكليف» وحاصله : أنه لا وجه للنزاع في حصر الحكم الوضعي وعدمه كما عرفت. وضمير «عليه» راجع على الموصول في «مما».

(٦) تعليل لقوله : «وكذا لا وقع للنزاع» ، وهو إشارة إلى أول الوجهين ، وقد تقدم بقولنا : «أحدهما عدم وجه في تخصيص ...» الخ.

(٧) هذا الضمير وضمير «غيرها» راجعان على المذكورات أو إلى أمور مخصوصة.

(٨) الضمير للشأن ، وهذا إشارة إلى الوجه الثاني المتقدم بقولنا : «والآخر عدم ترتب ثمرة عملية ...». ويمكن أن تكون الثمرة جريان الأصل فيما يعدّ من الأحكام الوضعية ، وعدم جريانه فيما لا يعد منها.

٢٢٢

ذلك (١) وإنما المهم (٢) في النزاع هو أن الوضع كالتكليف في أنه مجعول تشريعا بحيث يصح انتزاعه بمجرد إنشائه ، أو غير مجعول كذلك (٣) ؛ بل إنما هو منتزع عن التكليف ومجعول بتبعه وبجعله (٤).

والتحقيق : أن ما عدّ من الوضع على أنحاء منها : ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل تشريعا أصلا لا استقلالا ولا تبعا وإن كان مجعولا تكوينا عرضا بعين جعل موضوعه كذلك (٥).

______________________________________________________

(١) أي : في الحصر وعدمه.

(٢) بعد أن فرغ من الأمور الثلاثة شرع في تحقيق الحكم الوضعي والتفصيل بين أقسامه.

وحاصل ما أفاده : أنه لا وقع للنزاع في حصر الحكم الوضعي وعدمه لعدم كونه مهما ؛ بل المهم تحقيق كون الوضع كالتكليف في صحة جعله وإنشائه بالاستقلال ، وعدم كونه كالتكليف في قابليته للإنشاء بالاستقلال. والمصنف «قدس‌سره» اختار التفصيل في ذلك بين الأمور المعدودة من الأحكام الوضعية ، وحاصله : أن تلك الأمور على أقسام ثلاثة :

أحدها : ما لا يقبل الجعل الشرعي أصلا لا استقلالا ولا تبعا.

ثانيهما : ما يقبله تبعا للتكليف ولا يقبله أصالة واستقلالا.

ثالثها : ما يقبل كلا من الجعل الاستقلالي والتبعي ، وقد تقدم تفصيل كل من هذه الأقسام.

(٣) أي : تشريعا ، وإن كان مجعولا تكوينيا للشارع بما هو خالق هويات الممكنات.

(٤) الضميران راجعان على التكليف. ثم إن هذا مبني على مختاره من كون الحكم التكليفي من الاعتبارات الجعلية ، والمعاني الإنشائية التي تنالها يد التشريع ، سواء كان بلفظ الإنشاء كصيغة «افعل» ، أم بلفظ الإخبار مثل «هذا واجب» و «ذاك حرام».

وأما بناء على كون حقيقة الحكم مجرد العلم بالصلاح والفساد من دون استتباعه للشوق المحرك للعضلات الباعث على إيجاد الفعل أو على الأمر بإيجاده ، أو كونه هو الشوق المؤكد المعبر عنه بالحالة النفسانية البعثية ، فلا يبقى إنشاء ؛ بل جميع الخطابات إخبار عن المصالح والمفاسد والترجحات النفسية.

(٥) أي : تكوينا ، كجعل دهنية الدهن ، فإنها مجعولة تكوينا بجعل الدهن وإيجاده.

ثم إنه قد يتوهم التنافي بين ما أفاده المصنف «قدس‌سره» في أول البحث من صدق

٢٢٣

ومنها : ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل التشريعي إلّا تبعا للتكليف (١).

ومنها : ما يمكن فيه الجعل استقلالا بإنشائه وتبعا (٢) للتكليف بكونه (٣) منشأ لانتزاعه ؛ وإن كان الصحيح انتزاعه من إنشائه وجعله ، وكون التكليف من آثاره وأحكامه على ما يأتي الإشارة إليه.

اما النحو الاول (٤) : فهو كالسببية والشرطية والمانعية والرافعية ...

______________________________________________________

الحكم ببعض معانيه على الوضع ، وبين ما أفاده هنا من إخراج القسم الأول من الأحكام الوضعية طرا ، لأنها غير مجعولة لا استقلالا ولا تبعا ؛ إذ لا يتمشى صدق الحكم الشرعي على ما لا يقبل الجعل أصلا ؛ لكنه مندفع : بأن حقيقة الحكم الوضعي وإن كانت متقومة بأحد نحوي الجعل ؛ إلّا إن ذكر القسم الأول ـ الخارج عن الأحكام الوضعية حقيقة ـ إنما هو للمماشاة مع القوم ، حيث عدّوا السببيّة للتكليف مثلا من الوضعيات ؛ مع وضوح عدم صدق ضابط الحكم بمعنى المجعول الشرعي التأسيسي أو الإمضاء عليها ، ولأجل التنبيه على هذه النكتة قال المصنف «قدس‌سره» : «إن ما عد من الوضع على أنحاء ...» ، ولم يقل «الأحكام الوضعية على أنحاء ...».

(١) كانتزاع الجزئية لجزء المركب كالسورة من الصلاة ، فإن إيجاب مركب خاص يوجب قهرا اتصاف كل واحد من أجزائه بالجزئية للواجب.

(٢) عطف على «استقلالا» والجعل الاستقلالي في هذا القسم كأن يقول من بيده الاعتبار : «هذه الدار ملك لزيد» ، والتبعي كأن يقول : «يجوز لزيد أن يتصرف في هذه الدار بما يتوقف على مالكيته لها».

(٣) أي : بكون التكليف منشأ لانتزاع الوضع ؛ كانتزاع حجية الأمارة من وجوب العمل بها على ما قيل. والضمائر في «إنشائه ، إلى أحكامه» راجعة إلى الوضع.

(٤) وهو ما لا تناله يد التشريع لا أصالة ولا تبعا.

ومحصل ما أفاده فيه : أنهم اختلفوا في مجعولية سببية شيء للتكليف ـ وكذا أخواتها الثلاث ـ على أقوال ثلاثة :

الأول : أنها مجعولة بالاستقلال كما نسبه الشيخ إلى المشهور ، حيث قال : «إن الحكم الوضعي حكم مستقل مجعول كما اشتهر في ألسنة جماعة أولا» (١).

الثاني : أنها منتزعة عن التكليف المترتب على موضوعاتها كانتزاع السببيّة عن

__________________

(١) فرائد الأصول ٣ : ١٢٥.

٢٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وجوب الصلاة المترتب على الدلوك في مثل : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)(١) ، ولهذا اشتهر في ألسنة الفقهاء سببيّة الدلوك ومانعية الحيض ، ولم يرد من الشارع إلا إنشاء طلب الصلاة عند الأول ، وطلب تركها عند الثاني.

الثالث : أنها منتزعة عن الخصوصية التكوينية القائمة بما هو سبب أو شرط أو مانع ، فليست مجعولة بالاستقلال ولا منتزعة عن التكليف.

والمصنف اختار الوجه الأخير وأبطل الأوّليين.

وأما بطلان ما هو المشهور ـ وهو الوجه الأول ـ فلأن هذه الأمور لو كانت مجعولة بالاستقلال لزم الخلف ؛ إذ لو كانت السببيّة وأخواتها دائرة مدار الجعل المستقل فاللازم امتناع انتزاعها من غيرها ، مع وضوح بطلانه لصحة انتزاعها وإن لم تنشأ السببيّة للدلوك مثلا ، بل أنشأ الوجوب عند الدلوك بأن يقال : «إذا زالت الشمس فصلّ» ، فإن المنشأ هو الوجوب عند الدلوك ، ويصح انتزاع السببية من نفس هذا الإنشاء ، ولزم عدم صحة انتزاعها له إن لم يترتب وجوب الصلاة عليه ؛ وإن أنشئت السببية له.

وأما بطلان القول الثاني : فلأن لازمه تأثير المتقدم في المتأخر ، حيث إن أجزاء العلة متقدمة على المعلول ، فإذا فرض توقف بعض أجزائها على وجود المعلوم لزم تأثير المتأخر ـ أعني : المعلول ـ في المتقدم ، وهذا غير معقول.

وتطبيقه في المقام : أن الأمر الانتزاعي متأخر عن منشأ الانتزاع ؛ إذ لو لا وجود المنشأ لا معنى لانتزاع شيء منه ، مع أن مقتضى سببية شيء للتكليف هو تقدمه عليه لكون السبب في مرتبة العلة والتكليف في مرتبة المعلول ، وعليه : فالالتزام بانتزاع السببية عن التكليف يستلزم كون المتأخر عن التكليف متقدما عليه والمتقدم عليه متأخرا عنه ، وهذا معنى اجتماع المتقابلين المستحيل. هذا في السببية.

وكذا الحال في الشرطية والمانعية ، فإن شرط التكليف ومانعة في رتبة متقدمة على المشروط والممنوع ، فالالتزام بانتزاعيتهما يقتضي تأخرهما وهو تأخر ما هو المتقدم ، وذلك باطل.

وبعد وضوح بطلان هذين القولين يتعين المصير إلى كون منشأ انتزاع السببية وغيرها هي الخصوصية الذاتية القائمة بذات السبب والشرط ونحوهما من أجزاء العلة ؛ إذ لو لم

__________________

(١) الإسراء : ٧٨.

٢٢٥

لما (١) هو سبب التكليف وشرطه ومانعة ورافعه ، حيث إنه (٢) لا يكاد يعقل انتزاع هذه

______________________________________________________

تكن تلك الخصوصية الموجبة للربط الخاص بين السبب والمسبب المقتضي لتأثير السبب فيه لأثر كل شيء في كل شيء ، كتأثير الماء في الإحراق والنار في التبريد ، ومن المعلوم فساده ، بداهة : وجود الربط التكويني الخاص بين أجزاء العلة به تؤثر في المعلوم.

وحيث إن المناط في السببية تلك الخصوصية الذاتية المقتضية للتأثير ، فلا يعقل تحققها بالإنشاء والجعل ، لعدم كونها من سنخ الاعتبارات المتقومة باعتبار من بيده الأمر ، فإنشاؤها لا يؤثر في وجود تلك الخصوصية تكوينا ، فقوله : «الدلوك سبب لوجوب الصلاة» لا يقتضي حدوث السببية له تعبدا ؛ لأن سببية شيء للتكليف لا تختلف عن سببية مثل النار للإحراق ، وشرطية شيء له لا تختلف عن شرطية مثل المجاورة والمحاذاة بين النار والمحترق له ، ومانعية شيء له كمانعية الرطوبة عن الإحراق ، فهي أمور تكوينية ، فكما لا يعقل صيرورة شيء حجرا بمجرد الجعل والتشريع ، فكذا سببية مثل بلوغ المتعاقدين لتأثير العقد في إفادة ملكية الثمن والمثمن للبائع والمشتري لأجل خصوصية فيه يفقدها الصبي المميز الذي يقل سنه عن البلوغ بساعة مثلا.

فالمتحصل : أن السببية لا تنزع عن التكليف المترتب على موضوعه لتأخره عن السببية ، وإلا يلزم تأثير المتأخر في المتقدم.

وعليه : فلا مجال للالتزام لما ذهب إليه الشيخ من انتزاعها من التكليف ، كما لا تكون مجعولة بالاستقلال ، فلا محيص عن الذهاب إلى كون منشأ انتزاع السببية ونحوها من أجزاء العلة هي الخصوصية الذاتية التي تكون ثابتة لها تكوينا بتبع تكوّن نفس السبب والشرط وغيرهما كما لا يخفى :

١ ـ مثال السببية : نظير الدلوك لوجوب الصلاة.

٢ ـ مثال الشرطية : نظير الاستطاعة الشرعية لوجوب الحج.

٣ ـ مثال المانعية : كالعجز المانع عن التكليف بالطهارة المائية.

٤ ـ مثال الرافعية : كالمرض الطارئ على من تمكن من الحج مباشرة مع كون المرض مما لا يرجى زواله ، فإنه رافع لوجوب الحج مباشرة وموجب للاستنابة.

(١) متعلق بالسببية وأخواتها.

(٢) الضمير للشأن ، وهذا شروع في إبطال كون السببية ونحوها منتزعة عن الحكم التكليفي لتكون مجعولة تشريعا تبعا ، كما ذهب إليه بعض ، وقد عرفت توضيحه ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «أما بطلان القول الأول فلأن لازمه تأثير ...».

٢٢٦

العناوين لها من التكليف (١) المتأخر عنها ذاتا حدوثا (٢) وارتفاعا (٣) ، كما أن اتصافها بها ليس إلّا لأجل ما عليها من (٤) الخصوصية المستدعية لذلك (٥) تكوينا ؛ للزوم (٦) أن يكون في العلة بأجزائها ربط خاص به (٧) كانت مؤثرة في معلولها ...

______________________________________________________

(١) متعلق ب «انتزاع» ، وضميرا «لها ، عنها» راجعان على السببية وأخواتها.

(٢) كما في السبب والشرط والمانع ، أما الأولان : فلترتب الحكم عليهما ترتب المعلول التكويني على سببه وشرطه. وأما الأخير : فلتقدمه على عدم التكليف ، لاستناد هذا العدم إليه بعد فرض تحقق كل ما له دخل في وجود المعلول إلّا عدم المانع ، فإذا كان عدم التكليف متأخرا عن وجود المانع فلا محالة يكون وجود التكليف متأخرا عنه حفظا لمرتبة النقيضين ، فالمانعية كالسببية والشرطية مقدمة على حدوث التكليف كما هو واضح.

(٣) كما في الرافع ، فإنه مقدم على بقاء التكليف ، لاستناد بقائه إلى عدم الرافع كاستناد حدوثه إلى عدم المانع ، وإذا كان عدم الرافع مقدما على بقاء التكليف فوجوده أيضا مقدم عليه ، حفظا لمرتبة النقيضين. وما في بعض الحواشي من إرجاع الارتفاع إلى كل من المانع والرافع لا يخلو من شيء ، فإن المانع يزاحم المقتضي في مقام تأثيره ، فهو كالسبب ، والشرط مقدم على نفس الشيء ، بخلاف الرافع. ولعل الأولى تبديل «ارتفاعا» ب «بقاء» ، وإن كان الرفع دالا على البقاء في قبال الحدوث.

وبالجملة : فالمانع يمنع الحدوث ، والرافع يرفع البقاء. فالأول دفع والثاني رفع.

وقوله : «كما أن اتصافها ...» يعني : اتصاف المذكورات ـ من سبب التكليف وشرطه ومانعة ورافعه ـ بالسببية والشرطية والمانعية والرافعية.

غرضه : الإشارة إلى مذهبه من كون منشأ انتزاع هذه الأمور نفس الخصوصية التكوينية التي تكون في السبب وأخواته ، دون الجعل الشرعي. وقد عرفت توضيحه.

(٤) بيان للموصول في «ما عليها» ، والضمير راجع على السبب والشرط والمانع والرافع ، والأولى ذكر ضمير «هي» بين «ما» و «عليها» كما لا يخفى.

(٥) أي : لاتصاف هذه الأمور بالسببية والشرطية والمانعية والرافعية ، والأولى تبديل «المستدعية» ب «المقتضية».

(٦) تعليل لقوله : «ليس إلّا لأجل» وقوله : «تكوينا» قيد ل «الخصوصية» ، يعني : أن الخصوصية التكوينية اقتضت الاتصاف المزبور.

(٧) أي : بذلك الربط الخاص كانت العلة مؤثرة. وضمير «أجزائها» راجع على العلة ،

٢٢٧

لا في غيره (١) ولا غيرها (٢) فيه ، وإلّا لزم أن يكون كل شيء مؤثرا في كل شيء ، وتلك الخصوصية لا يكاد توجد فيها (٣) بمجرد إنشاء مفاهيم العناوين (٤) ، ومثل (٥) قول : دلوك الشمس سبب لوجود الصلاة إنشاء (٦) لا إخبارا ، ضرورة : بقاء الدلوك على ما هو عليه قبل إنشاء السببية له من كونه واجدا لخصوصية مقتضية لوجوبها ، ..

______________________________________________________

والمراد بالأجزاء هو المقتضي والشرط وعدم المانع.

(١) أي : في غير هذا المعلول الخاص من سائر معاليل العلل الأخرى.

(٢) أي : ولا غير العلة في المعلول ، فالربط الخاص يقتضي عدم تأثير كل علة في معلول معين ، للزوم السنخية ، فسخونة الماء والإحراق لا تؤثر فيهما إلّا علة معيّنة وهي النار.

قوله : «وإلّا لزم أن يكون كل شيء مؤثرا في كل شيء» يعني : وإن لم يكن في أجزاء العلة ربط خاص لزم أن يكون كل شيء مؤثرا في كل شيء ؛ لما عرفت من : أن تأثير كل جزء من أجزاء العلة سواء كان سببا أم غيره لا بد من استناده إلى خصوصية ذاتية فيه بها يؤثر في المعلول ، وتلك الخصوصية لا تقبل الجعل الشرعي لا أصالة ولا تبعا.

(٣) يعني : تلك الخصوصية التكوينية لا توجد في السبب والشرط والمانع والرافع بمجرد الإنشاء مع قصد حصولها ، لفرض عدم كونها كالأحكام التكليفية وبعض الوضعيات من الأمور الاعتبارية ، فإن التكوين لا يوجد بالتشريع ، فاندفع بقوله : «وتلك الخصوصية» احتمال الجعل الاستقلالي للسببية وأخواتها كما نسب إلى المشهور.

(٤) يعني : مفهوم السببية وأخواتها.

(٥) عطف على «إنشاء» يعني : بمجرد «مثل قول : ...».

(٦) وهو قصد حصول المعنى باللفظ أو بآلة أخرى كالفعل في المعاطاة ، والمراد بالإخبار : هو الحكاية عن تحقق المعنى في موطنه المناسب له. ومقصوده «قدس‌سره» : أن ما تقدم من امتناع إيجاد خصوصية السببية في مثل الدلوك بقوله : «الدلوك سبب لوجوب الصلاة» إنما هو إذا كان الكلام إنشاء أي : قصد به تحقق أحد هذه العناوين كالسببية بمجرد هذا الجعل ممن بيده أمر التشريع ، وأما إذا قصد بهذا الكلام الإخبار عن ثبوت الخصوصية الذاتية للدلوك ونحوه ؛ فعدم تحقق السببية بهذا الكلام واضح ؛ لعدم اقتضاء الإخبار والحكاية تحقق هذه العناوين أصلا ؛ إذ لو كانت موجودة في الواقع كان الإخبار صدقا وإلّا فهو كذب ، وليس شأن الخبر إيجاد ما ليس بموجود ، وإنما هو شأن الإنشاء.

٢٢٨

أو فاقدا لها (١) ، وإن (٢) الصلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن هناك ما (٣) يدعو إلى وجوبها ، ومعه (٤) تكون واجبة لا محالة وإن لم ينشأ السببية للدلوك أصلا.

ومنه (٥) انقدح أيضا عدم صحة انتزاع السببية له حقيقة من إيجاب الصلاة عنده (٦) ؛ لعدم اتصافه (٧) بها بذلك ضرورة.

نعم (٨) ؛ لا بأس ...

______________________________________________________

قوله : «ضرورة» تعليل لقوله : «لا يكاد توجد» ، وهذا إشارة إلى بطلان القول المنسوب إلى المشهور من كون السببية وأخواتها مجعولة بالاستقلال وقد تقدم توضيحه.

(١) أي : للخصوصية ، فلو كان الدلوك واجدا لتلك الخصوصية لم يؤثر الإنشاء في جعل السببية ، ولو كان فاقدا لها فكذلك ؛ إذ لا معنى لتأثير التشريع في التكوين بإعطاء ما هو فاقد له.

(٢) عطف على «بقاء» وهو متمم التعليل.

(٣) المراد بالموصول هو : تلك الخصوصية القائمة بالدلوك. وضمير «وجوبها» راجع على الصلاة.

(٤) الضمير راجع على الموصول المراد به الخصوصية ، يعني : ومع تلك الخصوصية تكون الصلاة واجبة لا محالة وإن لم تنشأ السببية للدلوك أصلا.

(٥) يعني : ـ ومن عدم كون منشأ انتزاع السببية إلّا الخصوصية الذاتية دون إنشاء السببية له ـ ظهر : عدم صحة انتزاع السببية حقيقة للدلوك من مثل إيجاب الصلاة عنده بدون تلك الخصوصية حتى تكون السببية مجعولة.

وهذا إشارة إلى بطلان القول بكون السببية وأخواتها مجعولة بتبع التكليف ، وقد عرفت توضيحه.

وهذا وإن تقدم بيانه في المتن ؛ لكنه لا بأس بإعادته لأجل التمهيد لأمر آخر وهو بيان ما يراد من إطلاق السبب على الدلوك في الأخبار ، وسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

(٦) هذا الضمير وضمير «له» راجعان على الدلوك.

(٧) أي : لعدم اتصاف الدلوك بالسببية بسبب إيجاب الصلاة عنده.

(٨) استدراك على «عدم صحة انتزاع السببية له حقيقة».

وغرضه : أنه لا مانع من إطلاق السبب على الدلوك مجازا ولو بلحاظ تلازمهما في الوجود ؛ لعدم انفكاك وجوب الصلاة عن الدلوك ، فإنهما متلازمان وجودا ، ولا ينفك أحدهما عن الآخر ؛ كعدم انفكاك المسبب عن سببه ، وإلّا فلا سببية ولا مسببية حقيقة ،

٢٢٩

باتصافه (١) بها عناية وإطلاق (٢) السبب عليه مجازا ، كما لا بأس (٣) بأن يعبر عن إنشاء وجوب الصلاة عند الدلوك ـ مثلا ـ بأنه سبب لوجوبها ، فكنى به (٤) عن الوجوب عنده.

فظهر بذلك (٥) : أنه لا منشأ لانتزاع السببية وسائر ما لأجزاء العلة (٦) للتكليف إلّا ما هي عليها (٧) من الخصوصية الموجبة لدخل كل (٨) فيه على نحو غير دخل الآخر (٩) ، فتدبر (١٠).

______________________________________________________

لكون سببية الدلوك ووجوب الصلاة معا معلولين لتلك الخصوصية التكوينية ، فاتصاف الدلوك بالسببية بإيجاب الصلاة عنده من دون تلك الخصوصية يكون مجازا ، أو لإناطة المجعول التشريعي به ، فيكون ثابتا بثبوته التشريعي ومن خصوصياته ، فينسب الجعل إليه مجازا.

(١) أي : باتصاف الدلوك بالسببية بعناية التلازم في الوجود.

(٢) عطف على «اتصافه» ومفسر له.

(٣) هذا دفع لما قد يتوهم ـ من دلالة بعض النصوص على كون الشيء الفلاني سببا للحكم الفلاني ـ من أن السببية قابلة للجعل الشرعي حقيقة كقابلية الأحكام التكليفية له.

وحاصل وجه الدفع : أن هذا التعبير كناية عن إنشاء الوجوب للصلاة مثلا عند الدلوك ؛ لا أن المجعول حقيقة هو السببية كما ربما يكون ذلك ظاهر الكلام.

(٤) أي : بكونه سببا ، وضمير «عنده» راجع على الدلوك.

(٥) أي : فظهر ـ ببطلان انتزاع السببية وأخواتها من الخطاب أصلا لا استقلالا ولا تبعا ـ أنه ينحصر منشأ انتزاع السببية في الخصوصية الذاتية.

(٦) كالشرط وأخويه.

(٧) الضمير راجع على الموصول المراد به الخصوصية ، وضمير «هي» راجع على أجزاء العلة.

(٨) أي : كل واحد من أجزاء العلة في التكليف.

(٩) لدخل بعضها سببيا والآخر شرطيا. وهكذا.

(١٠) لعله إشارة إلى أن كلام المصنف لا يخلو من الإشكال ؛ لأن ما أفاده المصنف ـ من انتزاع السببية من ذات السبب وكونها من خارج المحمول ـ لا يخلو من شيء ؛ لما أفيد من أنه خلط بين موضوعات التكاليف وملاكاتها ، فإن الخصوصية التكوينية المقتضية لتشريع الحكم وإن امتنع انتزاعها عن الحكم ، لتأخره عنها ، إلّا إنه ليس محل البحث ، إذ

٢٣٠

وأما النحو الثاني (١): فهو كالجزئية والشرطية والمانعية لما هو جزء المكلف به وشرطه ومانعة وقاطعه ، وحيث إن اتصاف شيء بجزئية المأمور به أو شرطيته أو غيرهما لا يكاد يكون إلّا بالأمر بجملة أمور مقيدة بأمر وجودي أو عدمي ، ولا يكاد

______________________________________________________

الكلام في سبب المجعول لا الجعل ، ومن المعلوم : عدم ترتب الحكم على موضوعه إلّا بعد وجوده وفعليته ، ويكون تأخره عنه رتبيا لا زمانيا ، وهو بمنزلة المعلول في عدم انفكاكه عن العلة زمانا ، وحينئذ يكون منشأ انتزاع السببية ـ أعني : الحكم ـ مقارنا لوجود الموضوع لا متأخرا عنه حتى يلزم تأخر ما هو المتقدم.

وهنا كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(١) يعني : ما لا يمكن الجعل فيه إلّا تبعا للحكم التكليفي ، وهو كل ما له دخل في المكلف به ؛ بأن يكون جزءا أو شرطا أو مانعا أو قاطعا له.

وحاصل ما أفاده في هذا القسم هو : أن جزئية شيء للمأمور به وأخواتها لا تنتزع إلّا من أمر يتعلق بأمور متعددة تقوم مصلحة واحدة تدعو الشارع أو غيره ممن بيده الاعتبار إلى إنشاء أمر واحد وحكم فارد بتلك الأمور ، وما لم يتعلق أمر وحداني بها لا يتصف شيء منها بالجزئية للمأمور والمكلف به ، بداهة : أن اتصاف شيء بكونه مأمورا به منوط بتعلق الأمر به ، فاتصاف ما له دخل في متعلق الأمر بالجزئية ونحوها موقوف أيضا على تعلق الأمر بجملة تلك الأمور.

فالمتحصل : أن الجزئية للمأمور به وكذا الشرطية والمانعية والقاطعية له منتزعة عن الأمر المتعلق بعدة أمور متشتتة يجمعها غرض واحد مقيدة بأمر وجودي كالطهارة في الصلاة ، أو عدمي كعدم لبس الحرير وما لا يؤكل فيها.

وعليه : فالقسم الثاني من الأحكام الوضعية لا يكون إلا مجعولا بتبع الحكم التكليفي ، ولا جعل لها بالاستقلال ؛ لأن جزئية السورة مثلا لا تنتزع إلّا عن الأمر المتعلق بجملة أمور ، فبدون هذا الأمر لا تنتزع جزئيتها للمأمور به ، وإن قال الشارع : «جعلت السورة جزءا للصلاة» لما عرفت من توقف جزئية شيء للمأمور به على تعلق الأمر بعدة أمور.

وكيف كان ؛ فالأشياء الأربعة المذكورة في المتن قابلة للجعل تبعا وليست قابلة للجعل استقلالا : وأما أن هذه الأمور قابلة للجعل تبعا فلأنه إذا ورد أمر بجملة أمور تدريجية متصلة مقيدة بوجود شيء وعدم شيء آخر كانت تلك الأمور أجزاء ، وما يقطع هذا الاتصال قاطعا ، وما أخذ وجوده قيدا شرطا ، وما أخذ عدمه قيدا مانعا ، فإذا ورد

٢٣١

يتصف شيء بذلك ـ أي : كونه جزءا أو شرطا (١) للمأمور به ـ إلّا بتبع ملاحظة الأمر بما (٢) يشتمل عليه مقيدا بأمر (٣) آخر ، وما لم يتعلق بها (٤) الأمر كذلك لما كاد اتصف (٥) بالجزئية (٦) أو الشرطية ؛ وإن أنشأ الشارع ...

______________________________________________________

الأمر بالتكبير والقراءة والركوع والسجود بشرط الاتصال مقيدة بالطهارة وعدم لبس غير المأكول ؛ كانت الأربعة ـ التكبير وأخواتها ـ أجزاء ، والضحك المنافي للاتصال قاطعا ، والطهارة شرطا ، ولباس غير المأكول مانعا.

وأما أن هذه الأمور غير قابلة للجعل استقلالا : فلأنه لو لم يأمر الشارع بالصلاة ثم قال : الركوع جزء أو الطهارة شرط لم يفد قوله هذا في تشريع الجزئية والشرعية ؛ إذ لا شيء مأمور به حتى يكون له جزء وشرط.

ثم إن المصنف «قدس‌سره» بيّن وجه إمكان الجعل التبعي بقوله : «حيث إن اتصاف شيء بجزئية المأمور به أو شرطيته أو غيرهما» كمانعيته وقاطعيته «لا يكاد يكون إلّا بالأمر بجملة أمور» كالركوع والسجود والتكبير «مقيدة بأمر وجودي» كالطهارة «أو عدمي» كالضحك ولبس غير المأكول.

(١) أو مانعا أو قاطعا ، وإن أمكن شمول الشرط ـ بمعنى أوسع ـ للمانع والقاطع ؛ بأن يراد بالشرط مطلق ما لخصوصيته دخل في المشروط وجوديا كان أو عدميا.

(٢) متعلق بالأمر ، وضمير «عليه» راجع على «شيء» ؛ والضمير الفاعل المستتر في «يشتمل» راجع على الأمر ، و «مقيدا» حال من فاعل «يشتمل».

وغرضه : أن منشأ انتزاع الجزئية وأخواتها هو تعلق الأمر بشيء كالركوع والسجود والسورة مقيدا بكونها عن طهارة ، وبعدم الاستدبار ، وبعدم وقوعها في شعر ما لا يؤكل ووبره ، فتنتزع الجزئية للركوع ، والشرطية للطهارة ، والقاطعية للاستدبار ، والمانعية للبس غير المأكول من الأمر بالصلاة المشتملة على الركوع ونحوه ، مع تقيدهما بالطهارة.

(٣) أي : بشيء آخر كالطهارة ، وليس المراد منه الطلب.

(٤) أي : إذا لم يتعلق الأمر بجملة من الأمور مقيدا بأمر آخر وجودي أو عدمي لم تنتزع الجزئية والشرطية وغيرهما. فقوله «كذلك» أي : مقيدا.

(٥) الأولى : «يتصف» لكونه خبرا لفعل المقارنة ، أو حذف «كاد».

(٦) الأولى : حذفها ؛ لأن عنوان الجزئية ينتزعها العقل من نفس الأمر بجملة أمور ، سواء قيدت بشرط وجودي أو عدمي أم لا ، فإن جزئية الركوع للصلاة تنتزع من نفس الأمر بماهية أوّلها التكبير وآخرها التسليم. وإنما المنوط بلحاظ الأمر مقيدا بشيء آخر هو الشرطية والمانعية والقاطعية.

٢٣٢

له (١) الجزئية أو الشرطية.

وجعل (٢) الماهية وأجزائها ليس إلّا تصوير ما فيه المصلحة المهمة الموجبة للأمر بها ، فتصورها بأجزائها وقيودها لا يوجب اتصاف شيء منها بجزئية المأمور به أو شرطيته قبل الأمر بها (٣) ، فالجزئية للمأمور به أو الشرطية له إنما ينتزع لجزئه أو شرطه (٤)

______________________________________________________

وأوامر الأجزاء وإن كانت ارتباطية ، لتقيد وجوب السورة بوقوعها بعد التكبير وقبل الركوع ، فكل منها ملحوظ بشرط شيء ، لكن هذه المتكثرات قد عرض عليها الوحدة بتعلق أمر واحد نفسي بالمركب منها ، ولا يتوقف انتزاع الجزئية على تقيد ذلك الأمر بالمركب بشيء آخر ، وإنما يتوقف انتزاع الشرطية على التقيد بأن يقال : «صلّ متطهرا».

(١) أي : لذلك الشيء ، وحاصله : أن إنشاء الجزئية ونحوها بالاستقلال لا يجدي في اتصاف شيء بالجزئية ونحوها ما لم يتعلق أمر بجملة أمور قائمة بمصلحة واحدة كالنهي عن الفحشاء بالنسبة إلى الأمر بماهية الصلاة ، لما عرفت من : كون اتصاف مركب بعنوان المأمور به متقوما بتعلق الأمر والطلب به ، فما لم يتعلق أمر بمركب لا يتصف أجزاؤه بكونها أجزاء المأمور به ؛ وإن اتصفت بكونها أجزاء المركب والماهية وذي المصلحة كما لا يخفى.

(٢) دفع لما يتوهم من أن الشارع إذا جعل ماهية واخترع أمرا مركبا من عدة أمور مقيدة بأمور خاصة فبمجرد جعله لها واختراعه لكل جزء من أجزائها عنوان الجزئية ، ولكل قيد من قيودها عنوان الشرطية من قبل أن يأمر بها ويتعلق بها التكليف ، وعليه : فلا تكون الجزئية أو الشرطية مجعولة بتبع التكليف.

وحاصل الدفع : أن جعل الماهية واختراعها ليس إلّا تصورها بأجزائها وقيودها ، وأنها مما فيه مصلحة ملزمة مقتضية للأمر بها. ومن المعلوم : أن مجرد تصورها كذلك مما لا يوجب اتصاف شيء من أجزائها ولا شرائطها بالجزئية للمأمور به أو الشرطية له ؛ ما لم يؤمر بتلك الماهية ويتعلق التكليف بها.

وبالجملة : ما لم يتعلق الأمر بالماهية المركبة لم يتصف شيء من أجزائها ولا شرائطها بكونه جزءا أو شرطا للمأمور به ؛ وإن اتصف بكونه جزءا أو شرطا للماهية المتصورة أو المشتملة على المصلحة الملزمة. فقوله : «وجعل» مبتدأ خبره «ليس إلّا».

(٣) الضمائر المؤنثة من «بها» إلى هنا راجعة على الماهية ، و «قبل الأمر» ظرف ل «اتصاف».

(٤) هذا الضمير وضميرا «له ، لجزئه» راجعة على المأمور به.

٢٣٣

بملاحظة الأمر بلا حاجة إلى جعلها (١) له ، وبدون الأمر به (٢) لا اتصاف بها أصلا وإن اتصف بالجزئية أو الشرطية للمتصور أو لذي المصلحة (٣) كما لا يخفى.

وأما النحو الثالث (٤) : فهو كالحجية والقضاوة والولاية والنيابة والحرية والرقية

______________________________________________________

(١) أي : بلا حاجة إلى جعل الجزئية والشرطية لذلك الشيء جعلا مستقلا ، فإن منشأ الانتزاع تعلّق الأمر بالكل الموجب لاتصاف جزئه وشرطه بالجزئية والشرطية ، وضمير «جعلها» راجع على الجزئية والشرطية.

(٢) يعني : وبدون الأمر بالمأمور به لا اتصاف بالجزئية لأجزائه أصلا.

(٣) وهو خارج عن محل البحث ، لما عرفت من : أن منشأ انتزاع جزئية السورة مثلا للصلاة ليس دخلها في الوفاء بالغرض ولا في كونها بعض الملحوظ وإنما هو اتصاف الكل بالمطلوبية الناشئة من تعلق الطلب به المنبسط على كل جزء منه.

فتحصل مما ذكره المصنف في القسم الثاني : أن الشيء الذي له دخل في متعلق الأمر لا ينتزع عنوان الجزئية ونحوها له إلّا بعد تعلق الأمر بجملة أمور مؤثرة في غرض واحد وملاك فارد ، فهذا القسم الثاني من الأحكام الوضعية ليس مجعولا بالاستقلال ، بل بالتبع والعرض ؛ لكونها منتزعة عن التكليف ، فافترقت عن القسم الأول غير القابل للجعل أصلا والأجنبي عن الحكم الوضعي قطعا ، وعن القسم الثالث الآتي بيانه ؛ لأنه مما يصح تطرق كل من الجعل الاستقلالي والعرضي إليه.

(٤) من أنحاء الحكم الوضعي ، وهو الذي يصح جعله استقلالا ويصح جعله تبعا للتكليف.

وبعبارة أخرى : أنه ما يكون قابلا للجعل أصالة بإنشائه مستقلا وتبعا للتكليف ، وإن كان الصحيح كونه مجعولا بالاستقلال.

وضابط هذا القسم : كل أمر اعتباري له أثر شرعا وعرفا كالحجية لخبر الواحد مثلا ، «والقضاوة» بأن يكون لفرد حق فصل الخصومات ويكون أمره نافذا فيها ، «والولاية» بأن يكون لأحد حق التصرف في الشئون الاجتماعية أو في شئون القصّر والغيّب.

والأموات ، «والنيابة» بأن يكون شخص نائبا عن الإمام «عليه‌السلام» مثلا فيجوز له أن يتصرف فيما لا يجوز لغير الإمام التصرف فيه من أمور الحسبة والجهاد وإجراء الحدود ، «والحرية» بأن يكون شخص مختارا فيما يفعل مما أباحه الشرع. «والرقية» بأن يكون شخص مقيدا لغيره في جميع الشئون باستثناء ما ألزمه الشارع ، «والزوجية» بأن يحل لأحد الوطء والنظر وتجب النفقة وتجب الإطاعة ، «والملكية» بأن يكون لأحد التصرف

٢٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

في شيء كما أراد باستثناء ما منعه الشارع ، «إلى غير ذلك» كجعل الوكالة لشخص ، فإن الوكيل نائب عن الموكل فيما وكل فيه.

وكيف كان ؛ فإن هذا النحو من الأحكام الوضعية يحتمل فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون منتزعا عن الحكم التكليفي ؛ لإمكان انتزاعه عن الأحكام الشرعية التي تكون في مواردها ، فيقال : الزوجية مثلا منتزعة عن جواز المباشرة والنظر واللمس ونحوها ، وإليه ذهب الشيخ «قدس‌سره» حيث أنكر جعل هذه الأمور الاعتبارية أصالة ، وادعى كونها منتزعة من التكليف.

وثانيهما : أن يكون مجعولا بالاستقلال ، يعني : جعل كل واحد من هذه الأمور الاعتبارية بالذات ، وجعل أحكامها المترتبة عليها تبعا ، فإن هذا القسم من الوضعيات لما كان من الأمور الاختراعية التي يدور وجودها في وعاء الاعتبار مدار لحاظ معتبرها وجعله ، كان المهم في ترتب أحكامها عليها إنشاءها ، سواء كان بعقد أم إيقاع على اختلافها ، فتنتزع الملكية الواقعية من جعله تعالى شيئا ملكا لأحد كأمره «جلّ وعلا» رسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» بإعطاء فدك لبضعته الطاهرة سيدة نساء العالمين «عليها الصلاة والسلام» ، ومن إجازة التصرف وإباحته بأنحائه في مال معين ، فإن كل واحد من هذين النحوين منشأ لانتزاع الملكية.

واختار المصنف «قدس‌سره» الوجه الثاني. وعليه : فمدعاه مؤلف من عقدين إيجابي ، وهو كون هذا القسم الثالث مجعولا بالاستقلال كالأحكام التكليفية ، وسلبي وهو عدم كونه مجعولا بتبع الحكم التكليفي ومنتزعا منه.

واستدل على العقد الإيجابي بوجه واحد ، وعلى السلبي بوجوه ثلاثة.

وأما الدليل على العقد الإيجابي : فهو ما أشار إليه بقوله الآتي : «إلّا إنه لا يكاد يشك في صحة انتزاعها من مجرد جعله تعالى» ، ومحصله ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٧ ، ص ٢٨» ـ : عدم الإشكال في صحة انتزاع الملكية والزوجية والحرية ونحوها من مجرد جعله تعالى أو من جعل من بيده الاعتبار بإنشاء مفاهيمها ، من دون إناطتها بتكليف يصلح لانتزاعها منه ، بل توجد هذه الاعتبارات بصرف إنشائها ، كوجود الأحكام التكليفية بنفس إنشائها كإنشاء الملكية بالبيع أو الهبة وغيرهما من النواقل ، وكإنشاء الزوجية بعقد النكاح وهكذا. ومن المعلوم : أن المنشأ بالعقد وغيره نفس المفاهيم بلا دخل للحكم التكليفي.

٢٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما الوجه الأول من الوجوه الثلاثة التي استدل بها على العقد السلبي ، فهو ما أشار إليه بقوله : «كما تشهد به ضرورة صحة انتزاع الملكية ...» ، وهذا شروع في إثبات العقد السلبي بوجوه يستفاد منها صحة العقد الإيجابي أيضا.

وحاصل هذا الوجه الأول : أنه لو كانت الزوجية منتزعة عن التكليف للزم عدم صحة اعتبارها إلا بملاحظة ذلك التكليف ؛ كجواز النظر إلى الزوجة واللازم باطل بالضرورة ، فالملزوم مثله ؛ إذ لا شبهة في صحة اعتبار الزوجية من إنشاء مفهومها بقوله : «زوجتك فلانة» ، من دون ملاحظة جواز النظر ووجوب الإنفاق وغيرهما من الأحكام التكليفية ؛ بل ومع عدم التفاته إليها كما هو واضح وأما الملازمة فواضحة ؛ إذ المفروض أنه لا منشأ لاعتبار الزوجية إلّا التكليف فلا وجود لها بدونه.

والوجه الثاني : ما أشار إليه بقوله : «وللزم أن لا يقع ما قصد ووقع ما لم يقصد» وحاصله : أنه ـ بناء على مجعولية الملكية مثلا بتبع التكليف ـ يلزم أن يكون المقصود غير واقع والواقع غير مقصود ؛ إذ المقصود من قوله : «بعتك داري» مثلا هو إنشاء مفهوم البيع أعني : التمليك دون التكاليف الثابتة للملك كجواز التصرف ، والمفروض : أن التمليك لا يتحقق بمجرد الجعل والإنشاء ؛ بل يتبع الأحكام ، فاللازم حينئذ أن يكون الواقع بقوله : «بعت» هو التكليف والمفروض : عدم قصده ؛ إذ المقصود هو إيجاد الملكية والمفروض عدم وقوعها ، لكونها تابعة للتكليف ، فيلزم تخلف قاعدة تبعية العقود للمقصود ، فلا محيص عن الالتزام بكون الملكية ونحوها من الأمور المجعولة أصالة لا تبعا.

وأما الوجه الثالث : فهو ما أشار إليه بقوله : «كما لا ينبغي أن يشك في عدم صحة انتزاعها عن مجرد التكليف» ، ويحتمل فيه إرادة أحد أمرين :

الأول : أنه لا يصح انتزاع الملكية مثلا من التكليف ؛ إذ قد يكون التكليف موجودا ولا يصح انتزاع الملكية منه كإباحة التصرفات في الإباحات الأصلية ، وقد لا يكون التكليف موجودا فعلا مع وجود الملكية قطعا كما في شراء الولي متاعا للمولّى عليه من الصغير أو المجنون أو السفيه ، فإن المولّى عليه يملك ، مع عدم جواز التصرف له فعلا لمحجوريته.

وكذا الزوجية ، فإنها لا تنتزع عن جواز المباشرة ونحوه من أحكامها ، ضرورة : جوازها في الأمة المملوكة والمحللة مع عدم كونها زوجة ، وبداهة : وجود الزوجية مع حرمة المباشرة كما في الصغيرة والحائض.

٢٣٦

والزوجية والملكية ، إلى غير ذلك حيث إنها وإن كان من الممكن (١) انتزاعها من الأحكام التكليفية التي تكون في مواردها ـ كما قيل ـ ومن (٢) جعلها بإنشاء أنفسها ؛ إلّا (٣) إنه لا يكاد يشك في صحة انتزاعها من مجرد جعله تعالى أو من بيده الأمر (٤)

______________________________________________________

الثاني : أن هذه الاعتبارات كالزوجية والملكية ونحوهما قد أخذت في الخطابات الشرعية موضوعات لأحكام كوجوب الإنفاق على الزوجية وحرمة التصرف في مال الغير بدون إذنه ونحو ذلك ، ومن المعلوم : أن الموضوع مقدم على الحكم رتبة ، فإذا فرض تبعيته له لزم الدور ، لترتب الزوجية حينئذ على الحكم لانتزاعها عنه ، وتقدمها على الحكم ؛ لكونها موضوعا له.

والفرق بين هذين الوجهين ظاهر ، فإن الأول منهما ناظر إلى امتناع الانتزاع في بعض الموارد ، فالدليل أخص من المدعى ، وهو كاف في منع دعوى الانتزاع كلية ، والثاني ناظر إلى امتناع الانتزاع بالمرة لمحذور الدور الذي عرفته ، فإنه برهان على استحالة الانتزاع عقلا حتى في مورد واحد ؛ إذ لا معنى لانتزاع الملزوم من لازمه المتأخر عنه.

وتعبير المصنف ب «عدم صحة انتزاعها» وإن كان أوفق بالتقريب الثاني ؛ لأنه يمنع الانتزاع كلية إلّا إن إرادة التقريب الأول لعلها أقرب إلى مقصود المصنف ، لإمكان تقريب الانتزاع بوجه لا يترتب عليه محذور الدور ، وذلك بعدم انتزاع الملكية والزوجية من مطلق الأحكام التكليفية المتأخرة عن نفسها رتبة ؛ بل أراد حكم خاص وهو ما أفاده في حاشية الرسائل بقوله : «معنى ما ذكرنا أنه يصح انتزاعه من الآثار التكليفية للمورد بما فيه من الخصوصيات المقتضية لها ، لا عما اعتبر آثارا له منها كي يستلزم انتزاع الملزوم عن لازمه المساوق لتقدم المعلول على علته» كما في «منتهى الدراية ، ج ٧ ، ص ٢٨٣».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(١) أي : ومن المحتمل وإن كان هذا الاحتمال ضعيفا كما أشار إليه بقوله : «كما قيل» ، وفي هذا تعريض بما تقدم عن الشيخ «قدس‌سره» من انتزاع الوضع من التكليف حتى مثل ضمان الصبي لما أتلفه مع عدم مخاطبته بوجوب الأداء فعلا.

(٢) عطف على «من الأحكام» ، وضمائر «أنها ، جعلها ، أنفسها ، انتزاعها» راجعة على المذكورات من الحجية وما تلاها.

(٣) هذا شروع في إثبات العقد الإيجابي ، وقد تقدم توضيح ذلك.

(٤) وهو النفس المقدسة النبوية والولوية «صلوات الله وسلامه عليهما».

٢٣٧

من قبله «جلّ وعلا» لها (١) بإنشائها ؛ بحيث يترتب عليها آثارها ، كما تشهد به (٢) ضرورة صحة انتزاع الملكية والزوجية والطلاق والعتاق بمجرد العقد أو الإيقاع ممن (٣) بيده الاختيار بلا ملاحظة (٤) التكاليف والآثار ، ولو (٥) كانت منتزعة عنها لما كاد يصح اعتبارها إلّا بملاحظتها ، وللزم (٦) أن لا يقع ما قصد ووقع ما لم يقصد.

كما لا ينبغي (٧) أن يشك في عدم صحة انتزاعها (٨) عن مجرد التكليف في

______________________________________________________

(١) هذا ، و «بإنشائها» متعلقان ب «جعله» ، وهذان الضميران كضميري «عليها ، آثارها» راجعان على المذكورات في القسم الثالث من الحجية وغيرها. و «بحيث» بيان لإنشائها بأنفسها.

(٢) أي : بما ذكر من صحة انتزاعه من مجرد جعله ، وهذا شروع في إثبات العقد السلبي بوجوه يستفاد منها صحة العقد الإيجابي أيضا ، وقد تقدم الكلام في الوجوه الثلاثة فلا حاجة إلى الإعادة والتكرار رعاية للاختصار.

(٣) وهو المالك في الأول ، والزوجة في الثاني ، والزوج في الثالث ، والسيد في الرابع.

(٤) متعلق ب «صحة انتزاع» ، والمراد بالآثار : الأحكام الشرعية المترتبة على هذه العناوين الأربعة.

(٥) أي : والحال أن هذه الأمور لو كانت منتزعة عن التكاليف في مواردها امتنع اعتبارها بدون ملاحظة تلك التكاليف ، مع أنه يصح الانتزاع بدون ملاحظتها ؛ بل قد لا يكون في مورد الوضع تكليف أصلا كما في ملكية الصبي والمجنون لما انتقل إليهما بمثل الإرث ؛ إذ ليس إباحة التصرف ونفوذه في مالها إلا للولي ، وليس لهما هذه الإباحة حتى تكون هي منشأ الانتزاع.

وانتزاع الملكية الفعلية لهما من جواز تصرفهما بعد البلوغ والإفاقة مشكل جدا ، ضرورة : أن فعلية الأمر الانتزاعي ـ وهي الملكية مثلا ـ تستدعي فعلية المنتزع عنه ، والمفروض : عدم فعليته ؛ إذ قلم التكليف مرفوع عنهما.

(٦) هذا هو الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة ، وقد تقدم توضيحه.

(٧) هذا هو الوجه الثالث ، وقد تقدم تفصيل هذا الوجه الثالث ، فلا حاجة إلى الإعادة والتكرار حفاظا على ما هو المقصود من الاختصار.

(٨) أي : الحجية والقضاوة وأخواتها مما تقدم ، وضمير «موردها» راجع على الحجية وأخواتها ، والأولى أن يقال : «في مواردها».

٢٣٨

موردها ، فلا (١) ينتزع الملكية عن إباحة التصرفات ، ولا الزوجية عن جواز الوطء ، وهكذا سائر الاعتبارات في أبواب العقود والإيقاعات (٢).

فانقدح بذلك (٣) : أن مثل هذه الاعتبارات إنما تكون مجعولة بنفسها يصح انتزاعها بمجرد إنشائها (٤) كالتكليف ، لا مجعولة بتبعه ومنتزعة عنه.

وهم ودفع : أمّا الوهم (٥) فهو : أن الملكية كيف جعلت من الاعتبارات الحاصلة

______________________________________________________

(١) متفرع على عدم صحة انتزاع القسم الثالث من الأمور الوضعية عن التكاليف.

(٢) فلا ينتزع الضمان من وجوب الغرامة بدفع بدل التالف ، ولا الحجية من وجوب العمل بقول الثقة أو العادل أو المفتي ، ولا البينونة في الطلاق من وجوب الاعتداد ، وهكذا والوجه في ذلك كله هو انفكاك الوضع عن التكليف ، وعدم استلزام التكليف له دائما.

(٣) أي : بما ذكرناه من الوجوه الثلاثة الدالة على بطلان انتزاع هذه الأحكام الوضعية من التكاليف في مواردها ، وقوله : «فانقدح» نتيجة تلك الوجوه الثلاثة ، حيث إن مقتضاها كون الاعتبارات المزبورة مجعولة بالاستقلال.

(٤) هذا هو المراد بجعلها استقلالا وأصالة في قبال انتزاعها من التكليف. وضميرا «بتبعه ، عنه» راجعان على «التكليف».

(٥) أما الوهم : فهو إشكال على جعل الملكية من الاعتباريات القابلة للجعل أصالة كالحجية والقضاوة والولاية ونحوها.

فيقال في تقريب الإشكال والوهم : إن عدّ الملكية من الاعتبارات القابلة للجعل غير سديد بل غير صحيح ؛ وذلك لأن الملكية من مقولة الجدة التي يكون لها ما يحاذيها في الخارج ، فهي من المقولات المحمولات بالضميمة يعني : أنها توجد في الخارج كالهيئة الحاصلة من التعمم ونحوها ؛ ومن المعلوم : أن الملكية التي لها ما يحاذيها في الخارج أجنبية عن الملكية المجعولة بالإنشاء التي لا تكون إلا محض الاعتبار ولا وجود لها في الخارج ، ولا ريب في أن الموجود الخارجي التكويني لا يوجد بالأمر الاعتباري ؛ بل بالسبب التكويني كالتعمم.

والحاصل : أن الملكية لا توجد بصرف الإنشاء ، لأنها متأصلة والمتأصل لا يقبل الجعل الاعتباري فينبغي إخراج الملكية عن هذا السنخ من الأمور الوضعية.

وأما الدفع فتوضيحه يتوقف على مقدمة وهي أن الملك مشترك بين معنيين أحدهما : هي المقولة التي يعبر عنها بالجدة وهي من المقولات التسع ، وثانيهما : هي الإضافة التي

٢٣٩

بمجرد الجعل والإنشاء التي تكون من خارج المحمول ، حيث ليس بحذائها في الخارج شيء ، وهي إحدى المقولات المحمولات بالضميمة (١) التي لا تكاد تكون بهذا السبب (٢) ؛ بل بأسباب أخر كالتعمم والتقمص والتنعل (٣) ، فالحالة الحاصلة منها

______________________________________________________

قد تحصل بالعقد وقد تحصل بغيره من إرث ونحوه ، فالذي هو من الأحكام الوضعية والاعتبارات الحاصلة بالجعل والإنشاء ويكون من خارج المحمول هو الملك بالمعنى الثاني والذي هو من الأعراض المتأصلة ، ويكون من المحمولات بالضميمة ، أي : التي لا تحصل بالجعل والإنشاء هو الملك بالمعنى الأول.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المراد بالملك في المقام هو المعنى الثاني وهو يقبل الجعل والإنشاء والملك الذي لا يقبل الإنشاء هو معناه الأوّل فلا ينبغي أن يشتبه أحدهما بالآخر حتى يقال : بعدم صحة اعتبار الملكية بمجرد الإنشاء.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

قوله : «خارج المحمول» وقد فسر الخارج المحمول بما ينتزع عن ذات الشيء بدون ضم ضميمة إليه كالإنسانية المنتزعة عن ذات الإنسان بدون ضم شيء إليها كما يشهد له قول الحكيم السبزواري :

«والخارج المحمول من صميمه

يغاير المحمول بالضميمة»

ويطلق على كل ما لا يحاذيه شيء في الخارج ، فالملكية المجعولة بقوله : «بعت» لا يطلق عليها الخارج المحمول لوجود ما بحذائها في الخارج ، «حيث» تعليل لكون الاعتبارات المذكورة من الخارج المحمول الذي لا يحاذيه شيء في الخارج ؛ إذ ليس لتلك الأمور الاعتبارية ما يحاذيها في الخارج. والواو في قوله : «وهي إحدى ...». للحال من نائب «جعلت» ، يعني : والحال أن الملكية إحدى المقولات التسع ، فكيف تعدّ أمرا اعتباريا؟ كما هو حال الأحكام الشرعية.

(١) وهي باصطلاح أهل المعقول المحمولات المنتزعة عن الشيء مع ضميمة كالأسودية المنتزعة عن الجسم المتلون بالسواد ، فالمحمول بالضميمة هو ما يحاذيه شيء في الخارج كالهيئة الحاصلة من التعمم ونحوه.

(٢) أي : بالجعل والإنشاء ، بل بأسباب أخر تكوينية كالتعمم والتقمص ونحوهما.

(٣) وهي هيئة تحصل بسبب كون جسم في محيط بكله أو بعضه بحيث ينتقل المحيط بانتقال المحاط ، فتلك الهيئة الحاصلة بلبس القميص المنتقل بانتقال لابسه هو الملك ، وهذا المعنى الخارجي أجنبي عن الملكية الاعتباريّة الحاصلة بالعقد.

٢٤٠