دروس في الكفاية - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

للإنسان هو الملك ، وأين هذه (١) من الاعتبار الحاصل بمجرد إنشائه؟

وأما الدفع (٢) فهو : أن الملك يقال بالاشتراك على ذلك ويسمي بالجدة أيضا (٣) ، وعلى (٤) اختصاص شيء بشيء خاص وهو (٥) ناش إما من جهة إسناد وجوده إليه ؛ ككون العالم ملكا للباري «جلّ ذكره» (٦) ، أو من جهة الاستعمال والتصرف فيه ؛ ككون الفرس لزيد بركوبه له (٧) وسائر تصرفاته فيه (٨) ، أو من جهة إنشائه (٩) والعقد مع من اختياره (١٠) بيده ؛ كملك الأراضي والعقار البعيدة للمشتري بمجرد عقد البيع

______________________________________________________

(١) أي : وأين هذه الحالة المسماة بالملك والجدة من الاعتبار الحاصل بالإنشاء.

(٢) محصل ما أفاده في دفع التوهم المزبور : أن الملك مشترك لفظي بين معنيين :

أحدهما : إطلاقه على الجدة وهذا ليس بمراد هنا.

ثانيهما : إطلاقه على اختصاص شيء بشيء الذي هو من مقولة الإضافة ، وهذا هو المراد هنا. والذي يقبل الإنشاء هو المعنى الثاني المقصود في المقام ، والذي لا يقبل الإنشاء هو المعنى الأول الذي لا يكون مرادا هنا.

(٣) يعني : كما يسمى بالملك.

(٤) عطف على «ذلك» ، وهذا شروع في بيان المعنى الثاني للملك. وقد عرفت توضيحه.

(٥) أي : والاختصاص ناش إما من إسناد وجود شيء إلى شيء ... الخ.

(٦) فمن جهة إفاضة الوجود يكون العالم مضافا إليه تعالى وملكا له. وقد يكون هذا الاختصاص من جهة كون المختص به واسطة في انفتاح أبواب الفيض والبركات على الشيء المختص ؛ ككون الأرض وما فيها ملكا للنبي والإمام «عليهما‌السلام» لما ورد عن عاشر أئمة أهل البيت «عليهم الصلاة والسلام» : «بكم فتح الله وبكم يختم وبكم ينزل الغيث وبكم يمنع السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه» (١).

(٧) الأولى تبديله ب «عليه».

(٨) كسقي الزرع به وحمل الأثقال عليه ، ومثل هذه التصرفات حيازة المباحات ، فإن حيازتها بالتصرف فيها توجب الاختصاص كركوب الفرس.

(٩) أي : إنشاء الاختصاص و «أو من» كسابقه عطف على «إما من».

(١٠) الظرف متعلق بالعقد ، والضمير راجع على الشيء ، و «للمشتري ، بمجرد» متعلقان ب «الملك». والمراد به «من» الموصولة : من له ولاية التصرف في المال سواء كان

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٦١٥ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٩٩.

٢٤١

شرعا وعرفا (١) ، فالملك الذي يسمى بالجدة أيضا (٢) غير الملك الذي هو اختصاص ناش من سبب اختياري كالعقد أو غير اختياري كالإرث (٣) ونحوهما (٤) من الأسباب الاختيارية وغيرها.

فالتوهم إنما نشأ من إطلاق الملك على مقولة الجدة أيضا (٥) والغفلة (٦) عن أنه

______________________________________________________

مالكا له أم نائبا عن المالك بنحو من أنحاء النيابة أم وليا عليه. والتقييد بالبعيدة لإخراج الاختصاص الناشئ من التصرف والاستعمال كركوب الفرس ؛ بأن تمحّض منشؤه في العقد والإنشاء ، ولذا خصه بالمشتري ، مع أن البائع أيضا يملك الثمن ، لكن يمكن أن يكون منشأ اختصاصه بالثمن هو التصرف فيه ؛ إذ الغالب في المعاملات كون الثمن من النقدين ونحوهما مما هو مورد التصرف والابتلاء غالبا.

والحاصل : أن الاختصاص قد يحصل بعقد من له الولاية على التصرف ، فالمشتري يملك العقار مثلا بسبب العقد مع ولي التصرف في العقار كالمالك أو وليه أو وكيله.

(١) قيدان للملك ، والفرق بينهما واضح ؛ إذ قد يحصل الملك عرفا فقط. كما في بيع الخمر والخنزير ، فحصول الملك شرعا وعرفا بالبيع منوط بكون المال صالحا للانتقال شرعا كالأعيان المحللة نظير الحنطة.

(٢) يعني : كما يسمى بالملك.

(٣) المراد به : الموت ، فالأولى تبديله به ؛ لأنه السبب غير الاختياري للملك بمعنى الاختصاص في مقابل السبب الاختياري له كالعقد.

(٤) الضمير يرجع إلى خصوص العقد والإرث بقرينة قوله : «ومن الأسباب الاختيارية وغيرها».

(٥) كما يطلق على الأمر الاعتباري ، وهو الاختصاص الذي يكون من مقولة الإضافة.

(٦) عطف على «إطلاق» ، وضمير «أنه» راجع على «إطلاق» يعني : أن منشأ التوهم هي الغفلة عن كون الملك مشتركا لفظيا بين الجدة والإضافة وهي الاختصاص ، فعن صدر المتألهين ـ بعد ذكر مقولة الجدة وإطلاق الملك عليها ـ ما لفظه : «وقد يعبر عن الملك بمقولة له ، فمنه طبيعي ككون القوى في النفس ، ومنه اعتبار خارجي ككون الفرس لزيد ، ففي الحقيقة الملك يخالف هذا الاصطلاح ، فإن هذا من مقولة المضاف لا غير» (١).

__________________

(١) الحكمة المتعالية ١ : ٢٢٣.

٢٤٢

بالاشتراك بينه (١) وبين الاختصاص الخاص والإضافة الخاصة الإشراقية كملكه تعالى للعالم ، أو المقولية (٢) كملك غيره تعالى لشيء بسبب من تصرف واستعمال أو إرث أو عقد أو غيرهما من الأعمال (٣) ، فيكون (٤) شيء ملكا لأحد بمعنى ، ولآخر بالمعنى الآخر ، فتدبر.

إذا عرفت اختلاف الوضع في الجعل (٥) ، فقد عرفت أنه لا مجال لاستصحاب

______________________________________________________

(١) يعني : بين الملك المقولي وبين الإضافة الخاصة الحاصلة بإحدى الموجبات المذكورة ، والأولى أن يقال : «بينهما» لرجوع الضمير إلى مقولة الجدة حقيقة.

(٢) عطف على : «الإشراقية» وهي في غيره تعالى.

(٣) الموجبة للملكية الاختيارية أو الاضطرارية ، وقد تقدم تفصيل ذلك.

(٤) هذا متفرع على اختلاف معنى الملك وتعدده ، فإن ملكية العين التي استولى الغاصب عليها متصرفا فيها تصرفا خارجيا تكون بمعنى الجدة ؛ لأنها ـ كما تقدم ـ هي الهيئة الخاصة الحاصلة من إحاطة شيء بشيء كالعمامة والقميص المحيطين بالبدن ، وملكية تلك العين كالعمامة لمالكها الشرعي تكون بمعنى الاختصاص الذي هو إضافة مقولية.

«فتدبر» لعله إشارة على منع كون الملك مشتركا لفظيا بين الجدة والاختصاص الذي هو من الإضافة الإشراقية أو المقولية لإمكان أن يقال : إن الملك بمعنى الاختصاص القابل للإنشاء هو الملك بمعنى الجدة.

غاية الأمر : أن الملك الإنشائي هو الجدة ادعاء فتدبر.

أو إشارة إلى الإشكال في أصل المطلب وأن الملك ونحوه من الأحكام الوضعية ليست هي في الحقيقة أشياء في مقابل الأحكام التكليفية ، وإنما هي عبارة مجملة من عدة من الأحكام التكليفية. وفي المقام كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(٥) يعني : إذا عرفت أن قسما منه غير قابل للجعل الشرعي لا أصالة ولا تبعا ؛ بل هو أمر تكويني ذاتي كالسببية وغيرها من أجزاء علة التكليف وقسما منه ليس إلّا مجعولا بتبع التكليف وهو الجزئية وغيرها مما يكون دخيلا في متعلق التكليف ، وقسما منه مجعول بالاستقلال ، تعرف حال التفصيل المنسوب إلى الفاضل التوني «رحمه‌الله» في اعتبار الاستصحاب بين التكليف والوضع بجريانه في الثاني دون الأول ، حيث إن القسم الأول من الوضع لا يجري فيه الاستصحاب أصلا لعدم كونه حكما شرعيا ولا موضوعا له. ومجرد ترتب الحكم الشرعي كوجوب الصلاة على السبب كالدلوك لا يصحح جريان الاستصحاب في السببية ؛ إذ ليس ترتب الحكم الشرعي على سببه شرعيا

٢٤٣

دخل ما له الدخل (١) في التكليف ، إذا شك في بقائه على ما كان من الدخل (٢) ؛ لعدم (٣) كونه حكما شرعيا ، ولا يترتب عليه أثر شرعي. والتكليف (٤) وإن كان مترتبا عليه ؛ إلّا إنه ليس بترتب شرعي (٥) فافهم (٦).

______________________________________________________

بل هو عقلي ، ومن المعلوم : أن اتصاف الحكم بكونه شرعيا منوط بأمرين : أحدهما : أن يكون مما أنشأه الشارع ، والآخر : أن يكون ترتبه شرعيا أيضا ، كما إذا قال : «المستطيع يجب عليه الحج» ، فإن ترتب وجوب الحج على المستطيع شرعي ؛ لأن المستطيع موضوع في لسان الخطاب للوجوب. وهذا بخلاف سببية الدلوك ، فإن ترتب الوجوب عليها ليس شرعيا لأن ترتب الوجوب عليه مستند إلى الخصوصية الذاتية الكامنة فيه ، وليس كترتب وجوب الحج على المستطيع حتى يصح استصحاب سببية الدلوك إذا شك في بقائها كصحة استصحاب الاستطاعة إذا شك في بقائها ، ففرق واضح بين استصحاب الاستطاعة واستصحاب سببية الدلوك.

والحاصل : أن الاستصحاب لا يجري في القسم الأول من الأحكام الوضعية وهو ما لا تناله يد الجعل أصلا. ويجري في القسم الثاني وهو ما يكون مجعولا بالتبع كالجزئية المنتزعة عن الحكم التكليفي المتعلق بجملة أمور. كما يجري في القسم الثالث أيضا بالأولوية ، لكونه كالحكم التكليفي مجعولا مستقلا.

(١) كالسببية والشرطية والمانعية للتكليف.

(٢) تفسير للموصول في «ما كان» والمراد به السببية ونحوها.

(٣) تعليل لقوله : «لا مجال» وعدم كون مثل السببية حكما شرعيا واضح ؛ لأنها أمر ذاتي تكويني غير قابل للجعل التشريعي.

(٤) الأولى أن يقال : «ولا ما يترتب ...» ، والمقصود : أنه ليس موضوعا لحكم شرعي حتى يندرج في استصحاب الموضوعات ذوات الآثار الشرعية.

(٥) يعني : أن هذا الترتب الشرعي مما لا بد منه في استصحاب الموضوعات ، فإذا علمنا بوجوب المقتضي لوجوب الصلاة وبوجود مانعة ، ثم علمنا بارتفاع المانع وشك في بقاء المقتضي لم يجر استصحاب بقاء المقتضي ، لعدم كون المقتضى بنفسه حكما شرعيا ولا موضوعا له ، وإنما هو داع للشارع إلى إنشاء الوجوب عند تحققه ، على تقدير بقائه يترتب عليه الحكم ؛ لكن الإشكال كله في عدم كون هذا الترتب شرعيا ، فإن ترتب المسبب على سببه ليس بيد الشارع وإنما هو أمر واقعي.

(٦) لعله إشارة إلى إمكان عدم الفرق في جريان الاستصحاب بين الموضوع والسببية بأن يقال : إن مجرد كون السببية أمرا ذاتيا لا يمنع عن جريان الاستصحاب وإلّا لما جرى

٢٤٤

وأنه (١) لا إشكال في جريان الاستصحاب في الوضع المستقل بالجعل. حيث إنه كالتكليف (٢) ، وكذا ما كان مجعولا بالتبع (٣) ، فإن أمر وضعه ورفعه بيد الشارع ولو بتبع منشأ انتزاعه (٤) ، وعدم (٥) تسميته حكما شرعيا ـ لو سلم ـ غير ضائر بعد كونه مما تناله يد التصرف شرعا.

______________________________________________________

في الموضوع أيضا ؛ لأن موضوعية الموضوع تكون أيضا بما فيه من الملاك تكوينا ، وإلّا يلزم الجزاف.

أو إشارة إلى : أنه لو تم هذا لأشكل في استصحاب عامة الموضوعات الشرعية ، فإن ترتب التكليف عليها ليس إلّا لخصوصية ذاتية فيها. على أنه يمكن أن يقال : بعدم تسليم كون السبب ونحوه حقيقيا بل هو أمر صوري وإنما العلّة إرادة الشارع ، فليس ترتب وجوب الصلاة على الدلوك مثلا من قبيل ترتب المعلول على العلة.

(١) عطف على «أنه لا مجال» وقد عرفت توضيحه ، وضمير «أنه» للشأن.

(٢) في جريان الاستصحاب فيه بالبداهة ، فإن القسم الثالث مجعول بالأصالة ، وضمير «أنه» راجع على «الوضع».

(٣) وهو القسم الثاني من الأقسام التي ذكرها في الأحكام الوضعية ، ولذا أجرى المصنف البراءة الشرعية في الجزئية في بحث الأقل والأكثر الارتباطيين ؛ لأنها مما تنالها يد الجعل ولو تبعا لجعل منشأ انتزاعها.

(٤) هذا الضمير وضميرا «وضعه ، رفعه» راجعة على الموصول في «ما كان» المراد به الحكم الوضعي ، وحاصله : أن الجزئية يجري فيها الاستصحاب وجودا وعدما باعتبار منشأ انتزاعها وهو الأمر الضمني المتعلق بالسورة مثلا.

(٥) مبتدأ خبره «غير ضائر» ، وهو إشارة إلى توهم ودفعه.

أما التوهم فحاصله : أن عدم تسمية المجعول التبعي ـ كالجزئية للمأمور به ـ حكما شرعيا في الاصطلاح يقدح في جريان الاستصحاب فيه.

وأما الدفع فملخصه : أن ذلك غير قادح في جريانه ، لأن مناط صحة جريانه ليس هو صدق الحكم اصطلاحا على المستصحب بل مناطها هو كونه مما يؤخذ من الشارع وإن لم يصدق عليه الحكم اصطلاحا كالماهيات المخترعة الشرعية كالصلاة والحج وغيرهما ، ضرورة : جريان الأصول العملية فيها مع عدم صدق الحكم عليها.

هذا مضافا إلى : أن منع صدق الحكم على كل ما يكون أمر وضعه ورفعه بيد الشارع غير مسلم ، وإليه أشار بقوله : «لو سلم».

٢٤٥

نعم ؛ لا مجال لاستصحابه (١) لاستصحاب سببه ومنشأ انتزاعه (٢) فافهم (٣).

______________________________________________________

(١) أي : لاستصحاب ما كان مجعولا بالتبع ، وهذا استدراك على جريان الاستصحاب في المجعول التبعي ، وحاصله : أن الاستصحاب وإن لم يكن مانعا من جريانه فيه ؛ إلّا إنه لا تصل النوبة إلى جريانه فيه لوجود الأصل الحاكم ، وهو استصحاب الحكم التكليفي الذي ينتزع عنه الجزئية ونحوها.

(٢) هذا الضمير وضمير «سببه» راجعان على المجعول التبعي ، والمراد به بالسبب ومنشأ الانتزاع هو الحكم التكليفي كما عرفت آنفا.

(٣) لعله إشارة إلى جريان الاستصحاب في المجعول التبعي إذا كان للأصل الحاكم معارض يمنع عن جريانه في السبب كاستصحاب عدم وجوب الأقل نفسيا المعارض لاستصحاب عدم الأكثر كذلك ، فإنه يجري حينئذ استصحاب عدم جزئية المشكوك بلا مانع إذا فرض ترتب أثر شرعي على هذا الاستصحاب في نفسه ، وإلّا فلا ، كما إذا قلنا : إن الجزئية ونحوها من الأمور الانتزاعية ليست موضوعات للآثار ؛ لعدم قيام المصلحة بأمر انتزاعي ، وعلى هذا فيكون المجعول التبعي كالقسم الأول وهو السببية ونحوها للتكليف في عدم جريان الاستصحاب فيه.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

ويتلخص البحث في أمور :

١ ـ في التفصيل المنسوب إلى الفاضل التوني ، وهو جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية دون الأحكام التكليفية.

توضيح هذا التفصيل صحة وفسادا : يتوقف على ذكر أمور من باب المقدمة :

الأول : هو الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي مفهوما ، فلا ريب في أن مفهوم الوضع يخالف مفهوم التكليف على نحو التباين الكلي ، وأما مصداقا : فالنسبة بينهما هي عموم من وجه مادة الاجتماع كالملكية وإباحة التصرف ، ومادة الافتراق من جانب التكليف ؛ كجواز أكل الضيف من طعام المضيف.

ومادة الافتراق من جانب الوضع : كمن كان محجورا عن التصرف في ماله شرعا كالمجنون والسفيه.

الثاني : صحة تقسيم الحكم ببعض معانيه إلى التكليفي والوضعي ، والشاهد على ذلك : كثرة إطلاق الحكم على الحكم الوضعي في كلماتهم.

الثالث : أن الأحكام التكليفية محصورة في الخمسة وهي : الوجوب والحرمة

٢٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

والاستحباب والكراهة والإباحة بلا خلاف أصلا ، ولكن الأحكام الوضعية ففي كونها محصورة خلاف قيل : إنها محصورة ، وقيل : إنها غير محصورة.

٢ ـ الكلام في تحقيق حال الوضع :

فيقال : إن الحكم الوضعي على ثلاثة أقسام :

منها : ما لا يقبل الجعل الشرعي أصلا لا استقلالا ولا تبعا للتكليف.

ومنها : ما يقبله تبعا للتكليف لا استقلالا.

ومنها : ما يقبل الجعل بكلا قسميه أي : استقلالا وتبعا.

والقسم الأول : كالسببية والشرطية والمانعية والرافعية.

فإن هذه الأمور أمور تكوينية توجد بأسبابها التكوينية لا بالجعل والإنشاء.

والثاني : كجزئية السورة تقبل الجعل تبعا للتكليف المتعلق بأمور منها السورة.

والثالث : كالملكية حيث تقبل الجعل بكلا قسميه ، إما استقلالا : فمثل جعل الشارع وإمضائه الملكية عند تحقق عقد.

وإما تبعا : فكانتزاع الملكية من الحكم بإباحة تصرف كل من البائع والمشتري في العوضين بعد العقد.

٣ ـ نتيجة هذه الأمور : فيقال بعد هذه الأمور من باب المقدمة : أنه لا يجري الاستصحاب في جميع أقسام الوضع ؛ بل يجري في القسم الثالث المجعول استقلالا ، ولا يجري في القسم الأول أصلا وأما في القسم الثاني وهو المجعول تبعا للتكليف فيجري الاستصحاب على ما هو ظاهر كلام المصنف.

فالحكم بجريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية مطلقا دون الأحكام التكليفية كما هو ظاهر الفاضل التوني «رحمه‌الله» غير سديد بل غير صحيح ؛ لما عرفت من : جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية لكونها مجعولات شرعية بلا إشكال ، فيوجد فيها ما هو المناط في جريان الاستصحاب من كون المستصحب من مجعولات شرعية ، هذا مضافا إلى : عدم جريان الاستصحاب في جميع أقسام الوضع ؛ لأن القسم الأول لا يقبل الجعل أصلا ، فكيف يجري فيه الاستصحاب؟

٤ ـ وهم ودفع ـ وحاصل الوهم : أن الملك من مقولة «الجدة» التي لا تحصل إلا بأسبابها الخاصة مثل التعمم والتقمص ونحوهما ، وله تأصل في الخارج ، فكيف قلتم : بأنه من الأمور الجعلية التي توجد بالإنشاء.

٢٤٧

ثم إن هاهنا تنبيهات (١).

______________________________________________________

وحاصل الدفع : إن للملك إطلاقين :

الأول : إطلاقه على «الجدة» وهذا ليس بمراد هنا.

الثاني : إطلاقه على اختصاص شيء بشيء الذي هو من مقولة الإضافة ، وهذا هو المراد هنا فلا تنافي بينهما أصلا ؛ إذ المراد في المقام هو الملك بالمعنى الثاني وهو مما يقبل الجعل.

والمعنى الأول الذي لا يقبل الجعل ليس بمراد في المقام حتى يرد الإشكال.

٥ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية.

٢ ـ جريان الاستصحاب في القسم الثالث من أقسام الوضع.

٣ ـ جريان الاستصحاب في القسم الثاني المجعول تبعا للتكليف.

٤ ـ عدم جريان الاستصحاب في القسم الأول الذي لا يقبل الجعل والإنشاء أصلا لا استقلالا ولا تبعا.

في تنبيهات الاستصحاب

(١) لما فرغ المصنف «قدس‌سره» من الاستدلال على القول المختار تعرض تبعا ـ للشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ـ لتنبيهات الاستصحاب الباحثة إما عن أحوال اليقين والمتيقن كالستة الأولى.

وإما عن أحوال الشك كالتنبيه الرابع عشر وغيره.

وإما عن الأثر العملي المترتب على الاستصحاب كالتنبيه السابع والثامن والتاسع.

لكن المصنف خالف الشيخ في عدد التنبيهات والأمور المبحوث فيها ؛ لأنه أسقط ما عنونه الشيخ في التنبيه الثالث ـ من عدم جريان الاستصحاب في المستقلات العقلية ـ تعويلا على ما أفاده في أوائل الاستصحاب من عدم الفرق في جريانه في الحكم الشرعي بين أن يكون مستنده النقل أو قاعدة الملازمة.

كما أن المصنف زاد التنبيه الأول والثاني والعاشر ، فبلغ المجموع أربعة عشر تنبيها.

وكيف كان ؛ فهذه التنبيهات تتضمن مطالب هامة لا يسع الطالب إهمالها والغض عنها ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٧ ، ص ٣٠٣» مع تصرف ما.

٢٤٨

الأول (١) : أنه يعتبر في الاستصحاب فعلية الشك واليقين ، فلا استصحاب مع

______________________________________________________

التنبيه الأول : اعتبار فعلية الشك واليقين

(١) الغرض من هذا الأمر الأول : هو بيان اعتبار فعلية اليقين والشك اللذين هما ركنا الاستصحاب ، وعدم كفاية وجودهما التقديري فيه.

فهذا التنبيه متكفل لأصل وهو اعتبار فعلية اليقين والشك ، وفرع وهو الحكم بصحة صلاة من أحدث ثم غفل وصلى وشك بعد الفراغ في أنه تطهر أم لا؟ وذلك لعدم جريان استصحاب الحدث حال الغفلة عنه ؛ لعدم الشك الفعلي ، فيحكم بصحة الصلاة لقاعدة الفراغ.

وكيف كان ؛ فتوضيح ما ذكر في هذا التنبيه ـ من اعتبار فعلية اليقين والشك في الاستصحاب ـ يتوقف على مقدمة ، وهي التنبيه على أمور مسلمة :

أحدهما : أن كل حكم تابع لوجود موضوعه حدوثا وبقاء حتى قيل : «إن فعلية الحكم ـ أي : وجوده ـ بوجود موضوعه» فلا حكم بدونه.

ثانيها : أن الشك واليقين وكذا الظن من الحالات الوجدانية ، والصفات النفسانية التي لا يعقل تحققها للغافل ، بداهة : أن الإنسان في حال الغفلة لا يصدق عليه العالم ولا الظان ولا الشاك ، بل يصدق عليه نقيضها ؛ وإلّا يلزم ارتفاع النقيضين أو اجتماعهما ، ومن المعلوم : أن فعلية هذه الصفات عين وجودها ، وعدم فعليتها عين عدمها.

ثالثها : أن موضوع الأصول العملية ومنها الاستصحاب ـ التي هي أحكام ظاهرية ووظائف للشاك والمتحير في الأحكام الواقعية ـ هو الشك الذي قد عرفت أنه كاليقين والظن من صفات الإنسان الملتفت ، ولذا قيّد الشيخ في أول الرسائل المكلف بالملتفت. ومن هنا يظهر : أن موضوع الحكم الواقعي يخالف موضوع الحكم الظاهري ؛ لعدم تقيّد الأول بالالتفات ، بخلاف الثاني ، فإن قوامه بالالتفات الشكي ، وبدون الشك لا وجود للحكم الظاهري حقيقة.

إذا عرفت هذه الأمور من باب المقدمة يتضح لك من هذه الأمور : وجه اعتبار فعلية الشك واليقين في الاستصحاب كوضوح اعتبار فعلية الشك في سائر الأصول العملية ؛ بل ينبغي عدّه من القضايا التي قياساتها معها.

فالنتيجة : أنه مع الغفلة لا تحير في الحكم الواقعي ؛ لعدم الشك المتقوم بالالتفات ، فلا يجري فيه الاستصحاب الرافع للتحير ، فوجود الشك الفعلي ـ وكذا اليقين ـ مما لا بد منه في جريان الاستصحاب ، ولا عبرة بالتقديري منهما ؛ إذ ليس التقدير إلّا فرض الوجود

٢٤٩

الغفلة ؛ لعدم (١) الشك فعلا ، ولو (٢) فرض أنه يشك لو التفت ، ضرورة : أن الاستصحاب وظيفة الشاك ، ولا شك مع الغفلة أصلا (٣) ، فيحكم (٤) بصحة صلاة

______________________________________________________

للعدم ، وقد عرفت : أن العبرة بوجودهما الفعلي كسائر موضوعات الأحكام ، والتقدير لا يخرج المقدر عن العدم الذي ليس موضوعا للحكم.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(١) تعليل لعدم جريان الاستصحاب مع الغفلة ، ومرجع التعليل إلى عدم الموضع للاستصحاب مع الغفلة ؛ لما عرفت من : أن الشك كاليقين والظن متقوم بالالتفات ؛ فلا وجود لها مع الغفلة ، ولذا يحمل عليه العدم بالحمل الشائع.

(٢) وصلية ، يعني : ولو فرض أنه يشك لو التفت وزالت غفلته ، وهذا هو الشك التقديري الذي لا عبرة به ؛ لأنه فرض الوجود ، والمعتبر هو الوجود الفعلي ، ولا يجدي فرضه.

(٣) لما عرفت آنفا من : عدم تعقل الشك كاليقين والظن مع الغفلة ، وهذا من غير فرق فيه بين حجية الاستصحاب من باب الأخبار وحجيته كشفا من باب الأمارات العقلائية ؛ لما عرفت من : كون توقف الاستصحاب على فعلية اليقين والشك من باب توقف الحكم على موضوعه.

(٤) هذا متفرع على اعتبار فعلية اليقين والشك في جريان الاستصحاب ، وعدم كفاية وجودهما التقديري في جريانه.

توضيحه : أن من تيقن بالحدث أول الزوال مثلا ، وغفل وصلى غافلا عن الحدث ، وشك بعد الصلاة في أنه تطهر ـ بعد القطع بالحدث ـ حتى يكون قد أتى بها متطهرا ، أو لم يتطهر وصلى محدثا حكم بصحة صلاته ؛ إذ لم يحصل له شك فعلي قبل الصلاة حتى يحكم ببطلانها لأجل استصحاب الحدث. والشك التقديري مع الغفلة وإن كان موجودا قبل الصلاة ، لكنه لا أثر له ، لإناطة الاستصحاب كسائر الأصول العملية بالشك الفعلي المفقود في المقام ، فالمرجع حينئذ قاعدة الفراغ التي موردها الشك الفعلي الحادث بعد العمل كما هو المفروض في المقام ، حيث إن الشك الفعلي حدث بعد الصلاة.

نعم ؛ بناء على كفاية الشك التقديري في الاستصحاب تبطل الصلاة ولا يمكن تصحيحها بقاعدة الفراغ ؛ إذ المفروض : جريان استصحاب الحدث قبل الصلاة القاضي بوقوعها حال الحدث ، ومن المعلوم : بطلان الصلاة مع الحدث الاستصحابي كبطلانها مع الحدث القطعي ، فكما لا تجري قاعدة الفراغ مع الحدث القطعي فكذلك لا تجري مع الحدث الاستصحابي.

٢٥٠

من أحدث ثم غفل وصلى ، ثم شك (١) في أنه تطهر قبل الصلاة ؛ لقاعدة الفراغ (٢) ، بخلاف من التفت قبلها (٣) وشك ثم غفل وصلى ، فيحكم بفساد صلاته فيما إذا قطع بعدم تطهيره بعد الشك (٤) ؛ لكونه (٥) محدثا قبلها بحكم الاستصحاب (٦) ، مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابي.

______________________________________________________

فالمتحصل : أن الصلاة في الفرض المزبور صحيحة بناء على اعتبار فعلية اليقين والشك في الاستصحاب ، وباطلة بناء على كفاية التقديري منهما فيه.

(١) يعني : بعد الفراغ حصل له الشك في أنه تطهر قبل الصلاة أو لا.

(٢) تعليل لصحة الصلاة ؛ لكن لا بد من فرض احتمال التوضؤ قبل الصلاة ؛ وإلّا فلا تجري فيها القاعدة.

(٣) أي : قبل الصلاة ، فإذا التفت قبلها وشك ، ثم عرض له الغفلة وصلى غافلا بطلت صلاته ؛ لأنه قبل الصلاة صار بحكم الاستصحاب ـ مع هذا الشك الفعلي ـ محدثا فصلى محدثا ، فالمعيار في جريان الاستصحاب قبل الصلاة هو الشك الفعلي ، ومعه تبطل الصلاة ؛ لعدم جريان قاعدة الفراغ فيها. وبدون الشك الفعلي قبل الصلاة تصح الصلاة ؛ لجريان قاعدة الفراغ فيها بلا مانع ؛ إذ المانع هو الاستصحاب ، والمفروض : عدم جريانه ؛ لعدم موضوعه وهو الشك الفعلي ، ومع وجود المقتضي وعدم المانع تجري القاعدة المصححة للصلاة.

(٤) وأما إذا احتمل التطهير بعد الشك قبل الصلاة فيحكم بصحة صلاته ؛ إذ يجري بالنسبة إليه قاعدة الفراغ أيضا. فإنه حين الشك وإن كان محكوما بالحدث بمقتضى الاستصحاب ولكن استصحاب الحدث ليس بأقوى من القطع بالحدث ، فكما أنه إذا قطع بالحدث ثم غفل وصلى واحتمل بعد الصلاة أنه تطهر بعد القطع بالحدث قبل الصلاة صحت صلاته لقاعدة الفراغ ، فكذلك فيما إذا استصحب الحدث ثم غفل وصلى واحتمل بعد الصلاة أنه تطهر بعد استصحاب الحدث قبل الصلاة صحت صلاته بطريق أولى.

(٥) تعليل للحكم بفساد الصلاة.

(٦) ضرورة : أنه مع الالتفات والشك الفعلي ـ كما هو المفروض ـ يجري استصحاب الحدث ، ومعه لا يمكن تصحيح الصلاة بقاعدة الفراغ ؛ لما مر من أن الحدث المستصحب كالحدث المعلوم في إبطال الصلاة وعدم جريان قاعدة الفراغ معه. وضمير «قبلها» راجع على «صلاته».

٢٥١

لا يقال (١) : نعم ؛ ولكن استصحاب الحدث في حال الصلاة بعد ما التفت بعدها يقتضي أيضا فسادها.

______________________________________________________

(١) هذا إشكال على صحة الصلاة في الفرض الأول وهو عدم الشك الفعلي قبل الصلاة ، ومحصله : أن استصحاب الحدث قبل الصلاة وإن لم يكن جاريا لعدم الشك الفعلي ؛ لكن جريانه بعدها لمكان الشك الفعلي يقتضي بطلان الصلاة ، حيث إن مقتضى هذا الاستصحاب هو كونه محدثا قبل الصلاة وفي أثنائها ؛ لأن زمان الصلاة من الأزمنة المتخللة بين زمان اليقين بالحدث والشك في ارتفاعه.

وعليه : فلا فرق بين الصورتين في بطلان الصلاة وعدم جريان قاعدة الفراغ فيها. فقوله : «نعم» تصديق لعدم جريان الاستصحاب في الفرض الأول ؛ لعدم الشك الفعلي قبل الصلاة ، لكن الاستصحاب الجاري بعدها ـ لفرض الشك الفعلي حينئذ ـ كاف في بطلانها.

والمتحصل في تقريب الإشكال : أنه نعم من أحدث ثم غفل وصلى ثم شك في أنه تطهر قبل الصلاة أم لا لم يكن شاكا قبل الصلاة كي يجري في حقه استصحاب الحدث ؛ ولكن بعد ما صلى وشك في ذلك يجري في حقه استصحاب الحدث من حين اليقين به إلى حال الصلاة وبعدها ، فتبطل صلاته قهرا.

وقد دفع المصنف هذا الإشكال بقوله : «فإنه يقال».

وتوضيح الدفع : أن مقتضى الاستصحاب الجاري بعد الصلاة ـ لزوال الغفلة وفعلية الشك ـ وإن كان هو بطلان الصلاة كبطلانها في صورة الالتفات وفعلية الشك قبل الصلاة ؛ لكن المانع عن البطلان في صورة حصول الالتفات بعد الصلاة هو جريان قاعدة الفراغ فيها ، دون صورة حصول الالتفات قبل الصلاة ؛ لعدم جريانها فيها ؛ إذ مناط جريانها ـ وهو حدوث الشك بعد العمل ـ موجود في صورة الالتفات وحصول الشك بعد الصلاة ومفقود في فرض حدوث الشك قبلها.

نعم ؛ يجدي هذا الاستصحاب في لزوم تحصيل الطهارة لما يأتي بعد ذلك مما يشترط فيه الطهارة.

قوله : «بعد» متعلق بقوله : «استصحاب» ، يعني : لكن استصحاب الحدث حال الصلاة الجاري ذلك الاستصحاب حين الالتفات الحاصل بعد الصلاة يقتضي فسادها ؛ كاقتضاء الاستصحاب الجاري قبل الصلاة لفسادها. وضميرا «بعدها ، فسادها» راجعان على الصلاة.

٢٥٢

فإنه يقال : نعم ؛ لو لا قاعدة الفراغ المقتضية لصحتها (١) المقدمة (٢) على أصالة فسادها (٣).

الثاني (٤) : أنه هل يكفي في صحة الاستصحاب الشك في بقاء شيء على تقدير

______________________________________________________

(١) أي : لصحة الصلاة.

وحاصل الجواب : أنه نعم يجري استصحاب الحدث فعلا بعد الصلاة ويقتضي بطلانها ؛ لكن لو لا تقدم قاعدة الفراغ عليه المقتضية لصحتها.

(٢) «هذا» و «المقتضية» نعتان ل «قاعدة الفراغ» ، وضميرا «صحتها ، فسادها» راجعان على الصلاة.

(٣) هذا الفساد هو مقتضى استصحاب الحدث ، والأولى أن يقال : «المقدمة على استصحاب الحدث المقتضي لفسادها» ؛ إذ لم يعهد إطلاق أصالة الفساد في العبادات.

وأضربنا عما في المقام من التطويل رعاية للاختصار.

خلاصة البحث :

هو اعتبار فعلية اليقين والشك في الاستصحاب. وهذا هو رأي المصنف «قدس‌سره».

التنبيه الثاني : استصحاب مؤديات الأمارات

(٤) وهذا التنبيه مما زاده المصنف على التنبيهات التي تعرض لها الشيخ في الرسائل.

وقبل البحث تفصيلا في هذا التنبيه الثاني ينبغي بيان ما هو محل الكلام فيه ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن اليقين والشك من أركان الاستصحاب ؛ بحيث لولاهما لما جرى الاستصحاب أصلا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا كلام ولا إشكال فيما إذا علمنا وجدانا بحدوث شيء ثم شككنا في بقائه ، فهذا هو القدر المتيقن من مورد الاستصحاب ؛ لما عرفت من : أن اليقين بالحدوث من أركان الاستصحاب ، ففيما إذا كان المتيقن محرزا باليقين يكون هذا الركن محرزا. وإنما الكلام والإشكال فيما إذا كان محرزا بالأمارة وشك في بقائه ، كما إذا قامت الأمارة على الطهارة أو العدالة ، ثم شككنا في بقائها. فهل يحكم بالبقاء أم لا؟ فيه إشكال.

وجه الإشكال : أنه لا يقين بالحدوث فكيف يحكم بالبقاء ، فإذا لم يكن يقين بالحدوث فلا شك أيضا ؛ لأن الشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو الشك في بقاء المتيقن لا مطلق الشك ، وليس في المقام شك في بقاء المتيقن ؛ بل الشك في البقاء

٢٥٣

ثبوته ، وإن لم يحرز ثبوته فيما (١) رتب عليه أثر شرعا أو عقلا؟ إشكال ...

______________________________________________________

على تقدير الحدوث ، فلا يجري الاستصحاب لانتفاء كل من اليقين والشك المأخوذين في موضوعه.

وقد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بما حاصله : من أن دليل الاستصحاب يتكفل التعبد بالبقاء على تقدير الحدوث ، فنظره إلى بيان بقاء الحادث وأن الحادث يدوم بلا خصوصية لليقين به ؛ بل لوحظ طريقا إلى متعلقه.

فمرجع ما أفاده المصنف في دفع الإشكال هو : أن موضوع الاستصحاب ـ على ما يستفاد من أدلته ـ ليس هو الشك في البقاء الفعلي حتى يتوقف حصوله على اليقين بالثبوت ؛ بل البقاء التقديري ، وهو البقاء على فرض الثبوت.

فمفاد أدلة الاستصحاب جعل الملازمة بين ثبوت شيء وبقائه.

وبعبارة أخرى : أن دليل الاستصحاب يتكفل جعل الملازمة الظاهرية بين الحدوث والبقاء وأن كل ما هو حادث باق تعبدا ، فالحدوث أخذ موضوعا للتعبد بالبقاء ، واليقين لوحظ طريقا لإحراز الموضوع كاليقين بسائر موضوعات الأحكام ، فالمجعول هو البقاء على تقدير الحدوث واقعا.

وعليه : فإذا قامت الأمارة على الحدوث كانت حجة على البقاء كما هي حجة على الحدوث نظير سائر الأمارات القائمة على الموضوعات فإنها تكون حجة على الحكم المترتب عليها.

وما نحن فيه من هذا القبيل ؛ لأنه بعد أن كان المجعول هو البقاء ظاهرا على تقدير الحدوث واقعا ، كان الحدوث الواقعي موضوعا للحكم الظاهري بالبقاء ، فإذا قامت الحجة على الحدوث كانت حجة على حكمه وأثره وهو البقاء الظاهري ، فتكون الأمارة مثبتة لموضوع الحكم الاستصحابي.

هذا غاية ما يقال في توضيح ما أفاده في دفع هذا الإشكال ، وهناك إيرادات عديدة على جواب المصنف عن الإشكال المذكور تركنا التعرض لها رعاية للاختصار.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(١) متعلق ب «بقاء» ، يعني : في المورد الذي رتب على البقاء التقديري أثر شرعي كاستصحاب الموضوع ذي الأثر الشرعي كالملكية وغيرها من الموضوعات ذوات الآثار الشرعية ، أو أثر عقلي كاستصحاب نفس الحكم الشرعي كالوجوب والحرمة اللذين يترتب عليهما أثر عقلي وهو وجوب الإطاعة.

٢٥٤

من (١) عدم إحراز الثبوت فلا يقين ، ولا بد منه (٢) ، بل ولا شك (٣) ، فإنه (٤) على تقدير (٥) لم يثبت ومن (٦) أن اعتبار اليقين إنما هو لأجل أن التعبد والتنزيل شرعا إنما

______________________________________________________

وأما إذا كان الأثر مترتبا على البقاء الفعلي ، فلا يجري فيه الاستصحاب ؛ لعدم أثر ترتب على مؤداه. وضميرا «ثبوته» في الموضعين راجعان على «شيء». وضمير «عليه» راجع على «بقاء».

(١) هذا أحد وجهي الإشكال وهو وجه عدم الكفاية.

توضيحه : أن أول ركني الاستصحاب وهو اليقين بالثبوت مفقود في باب الأمارات غير العلمية ، ضرورة : عدم العلم بكون مؤدياتها أحكاما واقعية كعدم العلم بكونها أحكاما ظاهرية أيضا ، إذ المفروض حجية الأمارات غير العلمية بناء على الطريقية المحضة التي لا أثر لها إلّا تنجيز الواقع مع الإصابة والتعذير مع الخطأ ، ومن المعلوم : عدم جريان الاستصحاب لعدم اليقين بالثبوت ؛ بل ركنه الآخر وهو الشك في البقاء أيضا مفقود ، لأنه شك في بقاء المتيقن ثبوته ، وبدون اليقين بثبوته لا يتصور الشك في بقائه.

نعم ؛ يتصور احتمال البقاء فيما احتمل ثبوته ، لكنه غير مقصود في الشك في البقاء في باب الاستصحاب.

(٢) أي : من اليقين كما هو مقتضى مثل : «لا تنقض اليقين بالشك».

(٣) يعني : بل الركن الثاني وهو الشك في البقاء أيضا مفقود ؛ لأن الشك في البقاء في مؤديات الأمارات إنما هو على فرض ثبوتها ، وهو غير معلوم ، فالشك في بقاء المتيقن هنا غير ثابت ، فيختل كلا ركني الاستصحاب في مؤديات الأمارات.

(٤) هذا تعليل لقوله : «ولا شك» ، وقد أشرنا إلى بيانه بقولنا : «لأن الشك في البقاء ...» الخ. وضمير «فإنه» راجع على «شك».

(٥) وهو فرض كون مؤديات الأمارات أحكاما واقعية ، وهذا الفرض لم يثبت حتى يكون الشك في بقائها.

(٦) هذا ثاني وجهي الإشكال وهو وجه الكفاية ، ومحصله : أن اليقين في أدلة الاستصحاب لم يؤخذ موضوعا وإنما أخذ طريقا إلى الثبوت حتى يترتب عليه الشك في البقاء الذي هو مورد التعبد ، فدليل الاستصحاب يدل على جعل الملازمة بين الثبوت الواقعي والبقاء ، وقد عبّر عن الثبوت باليقين مع عدم دخله في الحكم ؛ لأنه أجلى الطرق المحرزة للثبوت. وعليه : فلا مانع من جريان الاستصحاب في البقاء على تقدير الثبوت.

٢٥٥

هو في البقاء لا في الحدوث (١) ، فيكفي (٢) الشك فيه على تقدير الثبوت ، فيتعبد به على هذا التقدير (٣) فيترتب عليه الأثر فعلا (٤) فيما كان هناك أثر (٥).

وهذا (٦) هو الأظهر (٧) ، وبه (٨) يمكن أن يذب ...

______________________________________________________

(١) يعني : أن التعبير باليقين إنما هو للتنبيه على أن مورد التعبد وجعل الحكم المماثل هو البقاء ؛ إذ لو عبر بغير ذلك التعبير مثل : «ابن على المشكوك» أو «اعمل بالشك» ونظائرهما لم يفهم منها كون محل التعبد هو الحدوث أو البقاء ؛ لكن التعبير المزبور يدل على أن مورد التعبد هو البقاء ؛ لأنه متعلق الشك دون الحدوث ؛ إذ لا وجه للتعبد بشيء مع اليقين به.

(٢) هذه نتيجة عدم موضوعية اليقين ، يعني : فيكفي الشك في البقاء على تقدير الثبوت في جريان الاستصحاب ؛ إذ المفروض : جعل الملازمة بين الثبوت الواقعي والبقاء ، فيتعبد بالبقاء على تقدير الثبوت. وضمائر «فيه ، به ، عليه» راجعة على البقاء.

(٣) أي : تقدير الثبوت.

(٤) لزوم ترتب الأثر فعلا على البقاء إنما يكون فيما إذا قام دليل على وجوب الشيء كصلاة الجمعة مثلا ، وشك في بقائه ، فإن التعبد الاستصحابي ببقاء شيء ـ على تقدير ثبوته ـ يوجب ترتيب الأثر فعلا على وجوب صلاة الجمعة ، وإلّا فمجرد التعبد بالبقاء على تقدير الثبوت لا يكفي في ترتيب الأثر الفعلي على البقاء ، فيكون هذا الدليل بمنزلة الصغرى لكبرى الاستصحاب.

(٥) بحيث كان ذلك الأثر مترتبا على البقاء التقديري كما مر في مثل صلاة الجمعة.

(٦) أي : الوجه الثاني ، وهو قوله «ومن أن اعتبار اليقين إنما هو لأجل ...» الخ. وقد عرفت تقريبه بقولنا : «وتوضيحه : أن أول ركني الاستصحاب وهو اليقين بالثبوت مفقود ...» الخ.

(٧) لعل وجه الأظهرية هو : تعارف التعبير عن وجود الموضوع باليقين به من دون دخل لنفس اليقين فيه أصلا.

(٨) أي : بهذا الوجه الثاني ـ الذي هو الأظهر ـ يمكن دفع إشكال جريان الاستصحاب في الأحكام التي هي مؤديات الأمارات المعتبرة ، وقد مر تقريب الإشكال ، وحاصله : اختلال اليقين بالثبوت فيها ؛ لعدم كون الأمارات الغير العلمية موجبة لليقين بمؤدياتها ، فلا يقين فيها حتى يجري الاستصحاب في بقائها. ويدفع هذا الإشكال : بأن مفاد أدلة الاستصحاب هو التعبّد بالبقاء على تقدير الحدوث.

٢٥٦

عما (١) في استصحاب الأحكام التي قامت الأمارات المعتبرة على مجرد ثبوتها (٢) وقد شك في بقائها على تقدير ثبوتها من الإشكال (٣) بأنه لا يقين بالحكم الواقعي ، ولا يكون هناك حكم (٤) آخر فعلي بناء على ما هو التحقيق من (٥) أن قضية حجية

______________________________________________________

وهذا الدفع هو ثاني وجهي الإشكال الذي تقدم توضيحه.

(١) الأولى إبداله ب «وبه يمكن أن يدفع ما في استصحاب الأحكام ...» الخ ؛ إذ الذب عن الشيء هو تثبيته وإحكامه لا دفعه ، وهو من الأغلاط المشهورة الموجودة في غير واحد من الكتب.

(٢) أي : ثبوت الأحكام ، وغرضه من قوله : «على مجرد ثبوتها» هو : أن تلك الأمارات تدل على مجرد الثبوت ، ولا إطلاق لها بالنسبة إلى الحالات ؛ وإلّا لم يقع شك في البقاء ؛ لوضوح حكمه من نفس تلك الأمارات ، فلا حاجة إلى الاستصحاب ، فالشك في البقاء إنما يكون في صورة إجمال الدليل بالنسبة إلى حكم البقاء. وضميرا «بقائها ، ثبوتها» راجعان على «الأحكام».

(٣) بيان للموصول في قوله : «عما». قوله : «بأنه» متعلق ب «الإشكال» وتقريب له ، وحاصله : بعد ما تقدم من تفصيله هو : عدم اليقين بالحدوث الذي لا بد منه في جريان الاستصحاب ، حيث إن خطأ الأمارة الغير العلمية وعدم إصابتها للواقع محتمل ، فالحكم الواقعي في الأمارات غير معلوم ، والمفروض : عدم حكم آخر فيها أيضا بناء على حجية الأمارات على الطريقية ، وباختلال اليقين بالحدوث في الأمارات لا يجري الاستصحاب فيها.

(٤) يعني : غير الحكم الواقعي وهو الحكم الظاهري ، حيث إنه بناء على حجية الأمارات على السببية تكون مؤدياتها أحكاما ظاهرية ، فيجتمع فيها حينئذ أركان الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، فلا إشكال في جريانه في مؤديات الأمارات بناء على السببية ، بمعنى : كون قيام الأمارة سببا لحدوث ملاك في المؤدى يستتبع حكما على طبقه.

(٥) بيان ل «ما» الموصول ، وقد عرفت مقتضى طريقية الأمارات وهو تنجزّ الحكم مع الإصابة والعذر مع المخالفة ، فالأمارات غير العلمية بناء على الطريقية ليست إلّا كالحجية العقلية من العلم والظن الانسدادي على الحكومة ، حيث إنهما ينجزان الواقع إن كان ، وإلّا فيعذران فلا حكم في موردهما من حيث العلم والظن ، بل هما طريق محض.

٢٥٧

الأمارة ليست إلّا تنجز التكاليف مع الإصابة. والعذر مع المخالفة كما هو (١) قضية الحجة المعتبرة عقلا كالقطع والظن في حال الانسداد على الحكومة ؛ لا إنشاء (٢) أحكام فعلية شرعية ظاهرية كما هو ظاهر الأصحاب.

ووجه الذب بذلك (٣) : أن الحكم الواقعي الذي هو مؤدى الطريق حينئذ (٤) محكوم بالبقاء ، فتكون (٥) الحجة على ثبوته حجة على بقائه تعبدا (٦) ؛ للملازمة (٧)

______________________________________________________

(١) الضمير راجع على ما يفهم من العبارة من التنجز مع الإصابة والعذر مع المخالفة.

(٢) عطف على قوله : «ليست» يعني : لا أن قضية حجية الأمارات أحكام فعلية شرعية ظاهرية ، والأولى أن تكون العبارة هكذا : «من أن قضية حجية الأمارات تنجز التكاليف مع الإصابة ... لا إنشاء أحكام فعلية ...» الخ ، وقد عرفت جريان الاستصحاب في مؤديات الأمارات بناء على السببية.

(٣) أي : بكفاية الشك في البقاء على تقدير الثبوت.

توضيحه : أن مفاد دليل الاستصحاب هو جعل الملازمة بين ثبوت الشيء وبقائه من دون نظر إلى تيقن حدوثه.

نعم ؛ في مقام تطبيق الاستصحاب على مورد لا بد من إحراز الثبوت حتى يحكم تعبدا ببقائه عند الشك ، ففرق بين الجعل والتطبيق ، ففي مقام إجراء الاستصحاب يكفي الشك في البقاء على تقدير الثبوت ، فمؤدى الأمارة على فرض ثبوته يحكم ببقائه ؛ لكونها دليلا على أحد المتلازمين ، إذ المفروض : ثبوت الملازمة بالاستصحاب بين الحدوث والبقاء ، فالشك في البقاء على تقدير الثبوت كاف في جريان الاستصحاب في مؤديات الطرق.

(٤) أي : حين كفاية الشك في البقاء على تقدير الثبوت.

(٥) هذه نتيجة الدفع المزبور ، وحاصله : أنه بعد البناء على كفاية الثبوت التقديري في الحكم بالبقاء يكون مؤدى خبر الواحد كوجوب صلاة الجمعة لاحتمال مصادفته للواقع محكوما بالبقاء ؛ لما مر من الملازمة بين الحدوث والبقاء بمقتضى الاستصحاب ، ودليل أحد المتلازمين دليل على الآخر ، وضميرا «ثبوته ، بقائه» راجعان على الحكم الواقعي.

(٦) قيد لقوله : «بقائه» ؛ إذ بقاؤه في حال الشك يكون بالتعبد الاستصحابي.

(٧) تعليل لكون الحجة على الثبوت حجة على البقاء ، وحاصله : أن الملازمة بين حدوث الشيء وبقائه أوجبت كون الحجة على الحدوث حجة على البقاء ؛ لما مر مرارا من أن الدليل على أحد المتلازمين دليل على الآخر ، وهذه الملازمة ظاهرية ؛ لكونها ثابتة بالاستصحاب الذي هو من الأصول العملية التي موضوعها الشك.

٢٥٨

بينه وبين ثبوته واقعا (١).

إن قلت (٢) : كيف (٣)؟ وقد أخذ اليقين بالشيء في التعبد ببقائه في الأخبار ، ولا يقين في فرض تقدير الثبوت.

قلت : نعم (٤) ؛ ولكن الظاهر أنه أخذ كشفا عنه ومرآة لثبوته ؛ ليكون (٥) التعبد في

______________________________________________________

(١) قيد لقوله : «ثبوته» يعني : للملازمة بين بقاء الحكم وبين ثبوته الواقعي.

(٢) هذا إشكال على كفاية البقاء على تقدير الثبوت.

وحاصل الإشكال : أنه يكفي في صحة الاستصحاب الشك في بقاء الشيء على تقدير ثبوته وقد أخذ اليقين بالشيء في التعبد ببقائه في الأخبار ، ولا يقين في فرض تقدير الثبوت ، فلا يجري الاستصحاب لانتفاء اليقين وهو من أركان الاستصحاب.

وحاصل الجواب : أنه نعم قد أخذ اليقين بالشيء في التعبد ببقائه في الأخبار ؛ ولكنه قد أخذ بما هو كاشف عن الواقع ، فيكون التعبد في مرحلة البقاء فقط دون الثبوت ، والتعبد مع فرض ثبوته بالحجة في مرحلة بقائه أيضا.

فالمتحصل : أن المقصود هو ثبوت الشيء سواء كان باليقين أو بغيره من الحجة كالأمارات المعتبرة.

توضيح بعض العبارات :

(٣) يعني : كيف يجري الاستصحاب ويثبت به الحكم والحال أنه لم يتم ركنه وهو اليقين السابق؟ والحال أن اليقين بالثبوت دخيل في الحكم بالبقاء على ما هو ظاهر أخبار الاستصحاب ، ومن المعلوم : أن فرض الثبوت ـ كما هو المفروض في الأمارات لعدم اليقين بمصادفتها للواقع ـ ليس يقينا بالثبوت ، فلا يشمل دليل الاستصحاب مؤديات الأمارات.

(٤) هذا تصديق للإشكال وهو أخذ اليقين بالشيء دخيلا بحسب أدلة الاستصحاب في التعبد بالبقاء ، والمفروض : انتفاء اليقين في الأمارات.

ولكن أورد عليه : بأن الظاهر أن اليقين في أخبار الاستصحاب لم يؤخذ موضوعا ؛ بل أخذ كشفا عن متعلقه ومرآة لثبوته ؛ ليكون التعبد وجعل الحكم المماثل في بقائه.

وضمير «أنه» راجع على «اليقين» ، وضمائر «عنه ، لثبوته ، بقائه» راجعة على «الشيء».

(٥) تعليل لأخذ اليقين مع دخله الموضوعي في التعبد بالبقاء.

وحاصل التعليل : الإشارة إلى أن التعبد في الاستصحاب إنما يكون في البقاء فقط دون الثبوت ، والشك في بقاء شيء متفرع على حدوثه ، فلا بد من إحرازه حتى يكون بقاؤه موردا للتعبد الاستصحابي.

٢٥٩

بقائه ، والتعبد (١) مع فرض ثبوته إنما يكون في بقائه ، فافهم (٢).

______________________________________________________

(١) يعني : ومن المعلوم أن التعبد بشيء مع ثبوته بحجة يقينا كانت أو غيره يكون في مرحلة بقائه ، دون ثبوته المفروض قيام الحجة عليه. وضميرا «ثبوته ، بقائه» راجعان على الشيء.

(٢) لعله إشارة إلى أن حمل اليقين على الطريقية خلاف الظاهر الذي لا يصار إليه بلا قرينة ، بداهة : أن الأصل في كل عنوان يؤخذ في حيّز خطاب من الخطابات الشرعية هو الموضوعية لا الطريقية ، فالوجه في الدفع : أن المؤدى للأمارة منزّل منزلة الواقع ولذا يصح استصحابه أو إشارة إلى أن المراد باليقين ليس هو خصوص الاعتقاد الجازم ؛ بل مطلق الحجة سواء كانت ذاتية كاليقين أم جعلية كالأمارات الشرعية ، حيث إنها بدليل حجيتها تصير كالعلم في الاعتبار وعدم الاعتناء باحتمال الخلاف فيها ، فإن هذا الاحتمال ملغى في العلم عقلا وفي الأمارات نقلا.

كما أن المراد باليقين الناقض في قوله «عليه‌السلام» : في صحيحة زرارة «ولكنه ينقضه بيقين آخر» هو مطلق الحجة لا خصوص العلم.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ بيان محل الكلام : أن اليقين والشك من أركان الاستصحاب ولا يجري مع انتفاء أحدهما فضلا عن انتفائهما معا.

وعليه : فلا كلام ولا إشكال فيما إذا علمنا وجدانا بحدوث شيء ثم شككنا في بقائه ، فيجري الاستصحاب بلا كلام ولا إشكال.

وإنما الكلام والإشكال فيما إذا قامت الأمارة على حدوث شيء كالطهارة مثلا ، ثم شك في بقائها.

وجه الإشكال : انتفاء اليقين بحدوث الطهارة لأن الأمارة ليست من اليقين فكيف يجري الاستصحاب؟

٢ ـ جواب المصنف عن هذا الإشكال : أنه لا يقين سابقا كما هو مفروض الإشكال ؛ ولكن الظاهر كون أخذ اليقين من باب المرآة إلى الثبوت والحدوث حتى يرد التعبد على البقاء ، فدليل الاستصحاب على جعل الملازمة بين الثبوت الواقعي والبقاء يكفي في التعبد بالبقاء بالاستصحاب ، وعليه : فلا مانع من استصحاب الحكم بقاء على تقدير ثبوته ولو بالأمارة المعتبرة.

٢٦٠