دروس في الكفاية - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

مع العلم بوجوبهما في موضعهما ـ لكانت صحيحة وإن عوقب على مخالفة الأمر بالقصر أو الجهر.

فإنه يقال (١) : لا بأس بالقول به لو دل دليل على أنها تكون مشتملة على المصلحة ولو مع العلم ؛ لاحتمال (٢) اختصاص أن ...

______________________________________________________

الاستيفاء في ذاته موجبة لفوت مصلحة الواجب يلزم الحكم بصحة صلاة التمام من العالم بوجوب القصر أيضا ، مع استحقاقه العقوبة على مخالفة الواجب.

وبعبارة أخرى : أنه بناء على ما تقدم من اشتمال الإتمام في موضع القصر ، وهكذا كل من الجهر والإخفات في موضع الآخر على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء في نفسها وأن مع استيفائها لا يبقى مجال لاستيفاء مصلحة الواجب إذا صلى المكلف تماما في موضع القصر أو صلى جهرا أو إخفاتا في موضع الآخر عالما عامدا كانت صلاته صحيحة وإن استحق العقاب على مخالفة الواجب.

وحاصل الجواب : أن ذلك ثبوتا مما لا مانع عنه ، غير أنه إثباتا لا دليل لنا على الاشتمال على المصلحة مطلقا حتى في صورة العلم والعمد ؛ وذلك لاحتمال الاختصاص بصورة الجهل فقط.

(١) هذا دفع الإشكال : وقد تقدم إجمال الجواب ، وأما تفصيل ذلك فيقال : إنه لو كان الدليل اشتمال المأتي به ـ كالتمام في موضع القصر ـ على المصلحة إطلاق يشمل صورتي العلم بوجوب القصر والجهل به لقلنا بصحة التمام وإجزائه عن القصر مطلقا ، كما نقول بصحة تارك إنقاذ الغريق ولو عمدا ، حيث إن إطلاق دليل وجوب الصلاة يدل على مطلوبيتها المطلقة التابعة لوجود مصلحتها مطلقا حتى في حال التزاحم كإنقاذ الغريق.

وضمير «به» راجع على كون صلاته صحيحة مع العلم بوجوب القصر والجهر ، يعني : لا بأس بالقول بكون صلاته صحيحة ، مع العلم بوجوب القصر والجهر «لو دل دليل على أنها» أي : الصلاة «تكون مشتملة على المصلحة ولو مع العلم» يعني دل دليل على أن الصلاة غير المأمور بها واجدة للمصلحة ولو مع العلم بعدم الأمر بها.

(٢) تعليل لما يفهم من قوله : «لو دل دليل» من أنه لو لم يدل دليل على اشتمال غير المأمور به على المصلحة ـ ولو مع العلم بالمأمور به الواقعي كالقصر ـ لا يمكن الالتزام بالصحة ؛ لاحتمال اختصاص اشتماله على المصلحة بحال الجهل بوجوب القصر ؛ لقرب دعوى دخل الحالات من الجهل وغيره في المصالح والمفاسد التي هي ملاكات الأحكام ،

٤١

يكون (١) كذلك في صورة الجهل ، ولا بعد أصلا في اختلاف الحال فيها باختلاف الحال بوجوب شيء والجهل ، كما لا يخفى.

وقد صار بعض الفحول (٢) بصدد بيان إمكان كون المأتي به في غير ...

______________________________________________________

ومع هذا الاحتمال لا دليل على اشتماله على المصلحة حتى يجزئ عن المأمور به ، فقاعدة الاشتغال تقتضي لزوم الإعادة وعدم الاكتفاء بالتمام ، وحق العبارة أن تكون هكذا : «وفيه بأس لو لم يدل دليل على ذلك لاحتمال اختصاص ...» الخ.

(١) يعني : أن يكون المأتي به كذلك ، أي : مشتملا على المصلحة المهمة في صورة الجهل بالمأمور به الواقعي لا مطلقا حتى في صورة العلم به.

وضمير «فيها» راجع على الصلاة ، يعني : ولا بعد أصلا في اختلاف الحال في الصلاة المأتي بها بدلا عن المأمور به الواقعي ، ولا بعد في اختلاف حال المصلحة باختلاف المكلف من حيث علمه بوجوب شيء كالقصر والجهل به ، فإن لحالات المكلف كالسفر والحضر وغيرهما دخلا في المصالح والمفاسد الداعية إلى تشريع الأحكام.

فالمتحصل : أن المأتي به من التمام موضع القصر أو الجهر موضع الإخفات أو العكس لا يشتمل على المصلحة التامة حتى يجزئ عن المأمور به الواقعي ؛ إلا في صورة الجهل بالواجب الواقعي الفعلي.

(٢) وهو فقيه عصره الشيخ جعفر كاشف الغطاء في كشف الغطاء ، قال في مقدمات الكتاب ما هذا لفظه : «وتعلق الأمر بالمتضادين ابتداء غير ممكن ، للزوم التكليف بالمحال. ولو تضيّقا معا بالعارض تخير مع المساواة ، وقدم الراجح مع الترجيح بحقية المخلوق أو شدة الطلب ، ويرجع الأول إلى الثاني ؛ لأن انحصار المقدمة بالحرام بعد شغل الذمة لا ينافي الصحة وإن استلزم المعصية ، وأي مانع لأن يقول الآمر المطاع لمأموره : إذا عزمت على معصيتي في ترك كذا فافعل ، كما هو أقوى الوجوه في حكم جاهل الجهر والإخفات ، والقصر والإتمام ، فاستفادته من مقتضى الخطاب لا من دخوله تحت الخطاب ، فالقول بالاقتضاء وعدم الفساد أقرب إلى الصواب والسداد» «كشف الغطاء ، المبحث الثامن عشر من المقدمة ، ص ٢٧» على ما في «منتهى الدراية ، ج ٦ ، ص ٤٥٣».

وتوضيح الترتب : الذي أفاده كاشف الغطاء «قدس‌سره» هو : أن المأتي به كصلاة التمام يتعلق به الأمر بشرط العزم على عصيان الأمر بالقصر بنحو الشرط المتأخر ، فالأمر بصلاة القصر مطلق ، والأمر بضدها وهو الصلاة تماما مشروط بالعزم على عصيان أمر

٤٢

موضعه (١) مأمورا به بنحو الترتب. وقد حققنا (٢) في مبحث الضد : امتناع الأمر بالضدين ولو بنحو الترتب بما لا مزيد عليه ، فلا نعيد.

______________________________________________________

القصر ، فالعزم على عصيانه يوجب أمرين :

أحدهما : استحقاق العقوبة لتركه المأمور به اختيارا بترك الفحص والتعلم والآخر تعلق الأمر بصلاة التمام ؛ لتحقق موضوعه ، ولا مانع من تعلق الأمر بالضدين بنحو الترتب ، وعليه : فيكون التمام مأمورا به.

(١) يعني : التمام في موضع القصر ، أو الجهر في موضع الإخفات أو العكس.

(٢) هذا إشارة إلى رد الترتب المزبور وحاصله : أن الترتب مستلزم لطلب الجمع بين الضدين ، وهو محال ، ضرورة : أن خطاب القصر الفعلي لا يتوقف على شيء ، وخطاب التمام بالعزم على العصيان أيضا يصير فعليا ، ففي ظرف العزم على العصيان يجتمع الطلبان بالضدين في آن واحد ، وهو ممتنع.

وقد يجاب عن الترتب الذي ذكره كاشف الغطاء «قدس‌سره» : بأن المقام ليس من صغريات الترتب المعروف وأجنبي عنها حيث إن مورده الضدان اللذان يكون كل منهما واجدا للملاك في عرض الآخر ؛ لا أن يكون ملاك أحدهما منوطا بعصيان خطاب الآخر كالمقام ، فإن ملاك صلاة التمام منوط بعصيان خطاب صلاة القصر وليست ذات ملاك في عرض صلاة القصر.

وقد تحصل من كلام المصنف «قدس‌سره» في حل الإشكال : أن المأتي به لاشتماله على المصلحة الوافية بمعظم مصلحة المأمور به الفائت مسقط له من دون أن يكون متعلقا للأمر ؛ إذ لا يدل النص على أزيد من عدم وجوب الإعادة وهو لازم أعم لكون التمام في موضع القصر مأمورا به أو مسقطا له بلا تعلق أمر به ؛ لعدم الملازمة بين صحة الشيء وتماميته وبين كونه مأمورا به كما مرّ سابقا ، فاستحقاق العقاب إنما هو على ترك القصر الواجب في كلتا حالتي العلم والجهل ، وعدم الإعادة يكون لسقوط الواجب بغيره.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ شرط الاحتياط لا يعتبر في حسن الاحتياط شيء سوى عدم كونه موجبا لاختلال النظام.

وتوهم : كونه عبثا ولعبا بأمر المولى فيكون منافيا لقصد الامتثال :

مدفوع : بأن تكرار العمل بالاحتياط ليس لازما ـ مساويا للعبثية المنافية لقصد

٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الامتثال ؛ لإمكان نشوئه عن غرض عقلائي ، كما إذا كان التكرار موجبا لتعوّده على العبادة أو دافعا لضرر عدوّ عن نفسه إذا كان استحى العدو من الإضرار به ما دام مصليا ، أو كان الفحص والسؤال موجبا للذل والمهانة ، أو كان الاحتياط لعبا في كيفية الامتثال فلا ينافي الامتثال.

قوله : «فافهم» لعله إشارة إلى الإشكال في أصل الاحتياط عرفا ، فإن العرف لا يرون حسن من يأتي بأوامر المولى على نحو الاحتياط. ألا ترى أن المولى لو أمر عبده بدق مسمار في الحائط فدق العبد في كل مكان من الحائط مسمارا كان للمولى حق العقاب ؛ لأن العبد لعب وعبث بأمر المولى؟

٢ ـ يعتبر في جريان البراءة العقلية : الفحص ؛ لأن موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان إنما هو عدم البيان الذي يمكن الوصول إليه ولو بالفحص. وعليه : فلا يستقل العقل بقبح العقاب قبل الفحص ؛ إذ لا يتحقق موضوع حكم العقل إلا بالفحص.

٣ ـ وأما البراءة الشرعية : فمقتضى إطلاق أدلتها وإن كان جواز إجرائها ولو قبل الفحص إلا إنه لا بد من رفع اليد عن هذا الإطلاق وتقييده بما بعد الفحص من دليل مقيد.

ولذلك ذكر الأصحاب وجوها لتقييد إطلاق أدلة البراءة الشرعية وهي : الإجماع والعقل والآيات والأخبار.

ثم يرد المصنف تقييد إطلاق أدلة البراءة بالإجماع والعقل.

وأما الإجماع : فالمحصل منه غير حاصل ، والمنقول منه لا يكون حجة.

وأما العقل : فبأن الكلام ليس في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ؛ بل في الشبهات البدوية إذ وجوب الفحص والاحتياط مختص بصورة وجود العلم الإجمالي.

٤ ـ الأولى الاستدلال على وجوب الفحص بما دل من الآيات مثل آية السؤال أو النفر الذي هو في معنى السؤال والأخبار : كالنبوي : «طلب العلم فريضة على كل مسلم» ، وقوله «عليه‌السلام» : «أيها الناس : اعلموا : أن كمال الدين طلب العلم والعمل به ، ألا إن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال» ، وغيرهما مما دل على وجوب التعلم ، فيقيد بها أخبار البراءة ، لأنها بإطلاقها تشمل قبل الفحص وبعده ، فبهذه الأخبار تقيد بما بعد الفحص.

٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

٥ ـ ويعتبر في التخيير العقلي : الفحص كما يعتبر في البراءة العقلية ؛ لأن الفحص كما يكون محرزا لعدم البيان في البراءة العقلية كذلك يكون محرز الموضوع التخيير العقلي ، وهو التساوي وعدم الترجيح ، فالتساوي بين الاحتمالين لا يحرز إلا بالفحص.

بقي الكلام في حكم العمل بالبراءة من دون فحص ، فيقع الكلام في مقامين : الأول في استحقاق العقوبة ، والثاني : في الصحة والفساد.

٦ ـ وأما استحقاق العقوبة ففيه أقوال :

الأول : استحقاق العقاب مطلقا أي : سواء صادف الواقع أم لا. كما يقول به المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك.

الثاني : استحقاقه على ترك التعلم المؤدي إلى المخالفة كما يقول به الشيخ «قدس‌سره».

الثالث : استحقاقه على مخالفة الواقع ؛ ولكن عند ترك التعلم والفحص كما ذهب إليه المصنف تبعا للمشهور.

ومنشأ هذا الاختلاف هو : أن وجوب التعلم هل هو نفسي أو طريقي أو إرشادي؟ فعلى الأول : يكون استحقاق العقاب على نفس ترك التعلم والفحص. وعلى الثاني : يكون استحقاق العقاب على ترك التعلم والفحص ؛ ولكن عند مخالفة الواقع. وعلى الثالث : يكون استحقاق العقاب على مخالفة الواقع عند ترك التعلم والفحص.

٧ ـ الإشكال في وجوب التعلم والفحص في الواجب المشروط والموقت :

وحاصل الإشكال : أن ما ذكر من وجوب التعلم والفحص في التكاليف المطلقة المنجزة تام ، وأما في التكاليف المشروطة والموقتة بزمان : فوجوب التعلم والفحص فيها مشكل ؛ إذ المفروض : عدم وجوب فعلي يوجبها لإناطة التكليف المشروط بتحقق شرطه ، فقبل تحقق الشرط لا تكليف حتى يجب التعلم ، فوجوب التعلم في التكاليف المشروطة محل للإشكال ، ولذا التجأ لدفع هذا الإشكال المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك إلى الالتزام بوجوب التعلم نفسيا ؛ ليكون العقاب على تركه لا على مخالفة الواقع ؛ إذ لا وجه لوجوب التعلم والفحص في التكاليف المشروطة لا قبل حصول الشرط ولا بعده.

أما الأول : فواضح لعدم حكم واقعي حينئذ حتى يجب عليه التعلم لئلا يفوت عنه الواقع فيعاقب عليه.

وأما الثاني : فلأجل الغفلة عن تلك التكاليف في وقتها الناشئة عن ترك التعلم قبله.

٨ ـ دفع هذا الإشكال بوجهين : أحدهما : هو الالتزام بالوجوب النفسي التهيئي

٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

للتعلم ، لتكون العقوبة على تركه لا على مخالفة الواقع.

والآخر : كون الوجوب في الواجب المشروط والموقت مطلقا بجعل الشرط وقتا كان أم غيره من قيود المادة لا الهيئة ، فالوجوب فعلي غير مشروط بشيء ، ويترشح منه الوجوب على مقدماته كالتعلم وهو الواجب المسمى بالواجب المطلق المعلق ، فترك التعلم والفحص حينئذ يصحح العقوبة على ما يقع بعد ذلك غفلة من مخالفة الواقع.

٩ ـ وأما الإشكال على الواجب المعلق : بأن يقال : إن مقتضاه وجوب إيجاد مقدماتها الوجودية قبل حصول الشرط وقبل دخول الوقت ، مع أن المسلم عندهم عدم وجوب تحصيل المقدمات قبل الشرط والوقت ، فيكون هذا دليلا على أن الشرط والوقت من قيود الهيئة لا المادة ، فلا وجوب قبل الشرط والوقت حتى يترشح منه الوجوب على التعلم : فمدفوع ؛ بأن جعل هذا الواجب في الواجب المطلق المعلق إنما يكون بمثابة لا يجب تحصيل مقدماته قبل الشرط والوقت إلا خصوص التعلم ، ودخل سائر المقدمات إنما بوجودها الاتفاقي لا بوجودها التحصيلي ، وعلى هذا فيكون بين المقدمات تفاوت في ترشيح الوجوب من الواجب على بعضها كالفحص والتعلم ، وعدم ترشحه على بعضها الآخر كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج ، والطهارة بالنسبة إلى الصلاة.

١٠ ـ وأما الحكم الوضعي : فالمدار في صحة العمل هو الموافقة للواقع والمخالفة له مطلقا ، أي : سواء كان عبادة أو معاملة ، غاية الأمر : يعتبر في صحة العبادة ـ مضافا إلى الموافقة للواقع ـ قصد القربة ولو رجاء ، فالمعيار في الصحة والفساد بالنسبة إلى المعاملة هو موافقتها للواقع ومخالفتها له ، فصحت على الأول وبطلت على الثاني.

وأما العبادة : فالمعيار في صحتها أمران : موافقتها للواقع ، وتمشّي قصد القربة ، فصحت عند تحققها وبطلت عند انتفاء أحدهما.

١١ ـ صحة الإتمام في موضع القصر والجهر في موضع الإخفات والإخفات في موضع الجهر إنما هو لدليل وهو الرواية الصحيحة.

لا يقال : إنه كيف يحكم بصحة العبادة في الموضعين مع عدم الأمر بها مع أن الصحة تتوقف على الأمر؟ وهذا أولا. وثانيا : كيف يحكم باستحقاق العقوبة على ترك المأمور به حتى في صورة القدرة على إعادته في الوقت؟

فإنه يقال : إنما حكم بالصحة لاشتمال الصلاة تماما على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء وإن كانت أقل من مصلحة القصر ، فالحكم بالصحة إنما هو بلحاظ الملاك

٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

والمصلحة لا بلحاظ الأمر حتى يقال بعدم الصحة لعدم الأمر.

وأما استحقاق العقوبة مع تمكن المكلف عن الإعادة : فلأنه لا فائدة في الإعادة ؛ إذ لا مصلحة تقتضي الإعادة ، مع أنه فوّت مقدار المصلحة على المولى لا يمكن تداركها ، فاستحقاق العقاب إنما هو لأجل تفويت مقدار من المصلحة على المولى.

١٢ ـ إن قلت : على ما ذكرتم من أنه لا يتمكن من الإتيان بالصلاة قصرا بعد الإتيان بالصلاة تماما ، وكذلك الأمر في الجهر موضع الإخفات وبالعكس ، ولازم ذلك : أن يكون التمام موضع القصر والجهر موضع الإخفات حراما لأنه سبب ومقدمة لترك الواجب ، ومقدمة الحرام حرام والنهي في العبادة يقتضي الفساد ، فالإتمام موضع القصر والجهر موضع الإخفات فاسد ، فكيف يقال بصحة الإتمام موضع القصر والجهر موضع الإخفات؟

وبعبارة أخرى : أن ترك المأمور به ـ وهو القصر ـ حرام وحيث إن إتمام الصلاة مقدمة لهذا الترك المحرم يكون حراما ومنهيا عنه ، والنهي في العبادة يقتضي الفساد. وعليه : فالصلاة تماما لحرمتها فاسدة ، ومع فسادها كيف حكم بصحتها وإجزائها عن المأمور به؟

وحاصل الجواب : أن التمام ليس مقدمة لترك الواجب الفعلي وهو القصر ؛ بل التمام والقصر ضدان وهما في مرتبة واحدة ، فعدم كل منهما يكون أيضا في رتبة وجود الآخر ، فلا يكون وجود أحدهما مقدمة لعدم الآخر لاعتبار التقدم في المقدمة ، فلا يكون التمام سببا لفوت المأمور به حتى يتصف لأجل المقدّمية بالحرمة والفساد.

١٣ ـ لا يقال : بناء على اشتمال الصلاة تماما في موضع القصر والجهر في موضع الإخفات على مصلحة تامة يلزم الحكم بصحة الصلاة تماما في موضع القصر من العالم بوجوب القصر ، وكذا الجهر في موضع الإخفات صح من العالم بوجوب الإخفات مع استحقاق العقوبة على مخالفة الواجب الواقعي ، مع أنه مما لم يقل به أحد.

فإنه يقال : إن ذلك ثبوتا مما لا مانع عنه ، غير أنه إثباتا لا دليل لنا على اشتمال المصلحة مطلقا حتى في صورة العلم والعمد ؛ وذلك لاحتمال الاختصاص بصورة الجهل فقط.

١٤ ـ قال كاشف الغطاء : بكون التمام موضع القصر والجهر موضع الإخفات مأمورا به بنحو الترتب بتقريب : أن المأتي به ـ كالصلاة تماما ـ يتعلق به الأمر بشرط العزم على عصيان الأمر بالقصر بنحو الشرط المتأخر ، فالأمر بصلاة القصر مطلق ، وبضدها ـ وهو

٤٧

ثم إنه ذكر (١) لأصل البراءة شرطان آخران : أحدهما : أن لا يكون موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى.

______________________________________________________

التمام ـ مشروط بالعزم على عصيان أمر القصر ، فالعزم على عصيانه يوجب أمرين : أحدهما : استحقاق العقوبة لتركه المأمور به اختيارا بترك الفحص والتعلم ، والآخر : تعلق الأمر بصلاة التمام ؛ لتحقق موضوعه ، ولا مانع من تعلق الأمر بالضدين بنحو الترتب ، وعليه : فيكون التمام مأمورا به.

ولكن الترتب باطل ؛ لكونه مستلزما لطلب الضدين ، فيلزم التكليف بالمحال وهو باطل.

١٥ ـ نظريات المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ حسن الاحتياط مطلقا إلا أن يكون موجبا لاختلال النظام.

٢ ـ اعتبار الفحص في البراءة العقلية.

٣ ـ اعتبار الفحص في التخيير العقلي.

٤ ـ اعتبار الفحص في البراءة الشرعية بالآيات والروايات.

٥ ـ استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع عند الرجوع إلى البراءة من دون فحص.

٦ ـ المدار في صحة المعاملة عند ترك الفحص هو الموافقة للواقع.

٧ ـ المعيار في صحة العبادة الموافقة للواقع مع قصد القربة.

٨ ـ بطلان الترتب.

(١) الذاكر هو : الفاضل التوني في محكي الوافية (١) ، ونسب إلى الفاضل النراقي أيضا ، ولا اختصاص للبراءة بهذين الشرطين ، بل يشترك فيه جميع الأصول العدمية ، فإذا وقعت نجاسة في أحد الإناءين ، كان إجراء أصالة الطهارة في أحدهما معناه الحكم بنجاسة الإناء الآخر ووجوب الاجتناب عنه ، فالأصل هنا أوجب ثبوت حكم شرعي لغير مجراه ، وهذا معنى قوله : «من جهة أخرى» ، وكذا لو وقعت نجاسته في ماء مشكوك الكرية فإن إجراء أصالة عدم الكرية موجب لإثبات القلة والنجاسة ، فمثل هذين الأصلين لا يجريان لأنهما موجبان لإثبات حكم شرعي آخر.

وكيف كان ؛ فشأن أصالة البراءة هو نفي الحكم لا إثباته ، لأن المستفاد من أدلتها هو : أنها مسوقة للامتنان ، وكون إجرائها مستلزما لثبوت حكم آخر مناف لذلك ، فلا يجري في مثل ما إذا كان لشخص مال وشك في وجود الدين ؛ بحيث يصير مستطيعا بذاك المال

__________________

(١) الوافية في أصول الفقه : ٢١.

٤٨

ثانيهما (١) : أن لا يكون موجبا للضرر على آخر.

ولا يخفى (٢) : أن أصالة البراءة عقلا ونقلا في الشبهة البدوية بعد الفحص لا

______________________________________________________

على فرض عدم الدين ، فإذا نفي الدين بالبراءة يلزم منه ثبوت الاستطاعة ووجوب الحج.

فالمتحصل : أنه إذا كانت أصالة البراءة نافية لحكم عن موضوع ومثبتة له لموضوع آخر ، كما إذا اقتضى استصحاب الطهارة أو قاعدتها عدم نجاسة أحد الإناءين اللذين علم إجمالا بنجاسة أحدهما ، فإن شيئا منهما لا يجري فيه ؛ لأن جريانه فيه يثبت وجوب الاجتناب عن الآخر.

وإن شئت فقل : إن أصالة البراءة عن وجوب الاجتناب عن أحد الإناءين في المثال المزبور تثبت وجوب الاجتناب عن الإناء الآخر ، فلا تجري فيه ؛ لأن شأن البراءة نفي الحكم فقط لا النفي من جهة والإثبات من جهة أخرى ، ولذا لم تعدّ من الأدلة ؛ إذ لو كانت مثبتة لحكم شرعي لعدّت من الأدلة الشرعية.

وقيل في وجه عدم جريان أصل البراءة إذا كان مثبتا لحكم شرعي من جهة أخرى : إنه أصل مثبت والأصل المثبت ليس حجة.

(١) هذا هو الشرط الثاني.

وحاصل الكلام في المقام : أنه يعتبر في جريان أصالة البراءة : أن لا يكون موجبا لضرر الغير من مسلم أو من بحكمه ، كما إذا فتح إنسان قفص الطير الذي هو لإنسان آخر ، أو حبس شاته حتى مات ولدها ، أو أمسك رجلا فهربت دابته وضلت ، فإن إجراء أصل البراءة عن الضمان في أمثال هذه الموارد موجب لضرر صاحب الطير والشاة والدابة ، فمثل هذا الأصل لا يجري ؛ لما عرفت من : أن أصالة البراءة تكون للامتنان ، وكون إجرائها مستلزما لورود ضرر على الغير يكون منافيا للامتنان.

(٢) هذا شروع في ردّ الشرط الأول.

توضيح الرد : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٦ ، ص ٤٨٧» ـ أن موضوع الحكم الشرعي تارة : يكون أمرا ظاهريا أو أعم منه كعدم استحقاق العقوبة الذي هو مقتضى البراءة العقلية والإباحة ، وعدم الحكم الذي هو مقتضى البراءة الشرعية ، كما إذا فرض أن جواز البيع مترتب على كل ما يكون حلالا ولو ظاهرا ، فحينئذ إذا شك في حرمة شرب التتن ونحوه من الشبهات البدوية ، وبعد الفحص جرت فيه البراءة الشرعية المثبتة لحليته ثبت جواز بيعه أيضا ؛ إذ المفروض : كون موضوع جواز بيعه حليته ولو ظاهرا ؛ إذ لو لم يترتب جواز بيعه على هذه الحلية لزم تخلف الحكم عن موضوعه وهو محال ؛ للخلف والمناقضة.

٤٩

محالة تكون جارية (١) ، وعدم (٢) استحقاق العقوبة الثابت بالبراءة العقلية والإباحة (٣) أو رفع التكليف الثابت بالبراءة النقلية ، لو كان (٤) موضوعا لحكم شرعي أو ملازما

______________________________________________________

وأخرى : يكون أمرا واقعيا ، كما إذا ترتب على عدم الحكم واقعا لا ظاهرا ولا أعم من الواقع والظاهر ، كما إذا فرض أن موضوع وجوب الحج ملكية الزاد والراحلة مع عدم الدين واقعا ، فإن إجراء البراءة عن الدين لا يثبت وجوب الحج لعدم إحراز موضوعه وهو عدم الدين واقعا ، فعدم ترتب الحكم الشرعي على البراءة الشرعية في مثل هذا المثال إنما هو لعدم تحقق موضوعه وهو عدم الدين واقعا ، حيث إن أصل البراءة لا يحرز الواقع.

فالمتحصل : أن موضوع الحكم الشرعي إن كان أعم من الواقع والظاهر ، فلا محالة يترتب عليه حكمه بمجرد جريان أصل البراءة فيه ؛ كترتب سائر الأحكام عند تحقق موضوعاتها ، وإن كان خصوص الواقع لا يترتب الحكم على البراءة ، لعدم إحراز موضوعه ، فلا محصل للشرط الأول الذي ذكره الفاضل التوني «رحمه‌الله» ؛ إذ على تقدير : لا محيص عن ثبوت الحكم ، لتحقق موضوعه بالبراءة ، وعلى تقدير آخر : لا موضوع لذلك الحكم حتى يثبت بالبراءة.

فإن كان غرض الفاضل التوني «رحمه‌الله» عدم جريان البراءة بعد الفحص في الصورة الأولى ـ وهي كون موضوع الحكم الشرعي أعم من الواقع والظاهر ـ فهو خلاف أدلتها ، وإن كان غرضه جريانها بدون ترتب الحكم الشرعي عليها فهو خلاف دليل ذلك الحكم وطرح له بلا موجب.

(١) لإطلاق أدلة البراءة النقلية الذي لم يقيد إلا بالفحص المفروض تحققه ، ولاحتمال عدم دخل شيء في البراءة العقلية إلا الفحص ، فبعد حصوله لا وجه للتوقف في جريانها.

(٢) مبتدأ خبره «لو كان» ، والجملة مستأنفة و «الثابت» صفة ل «عدم».

(٣) عطف على «عدم» ، وقوله : «ورفع» عطف على «الإبادة» ، و «الثابت» صفة ل «الإباحة ورفع» والأولى تثنيته ، بأن يقال : «الثابتان» والتعبير بالإباحة تارة وبالرفع أخرى ، لرعاية مدلول أخبار البراءة ، لظهور حديث الحل في جعل الإباحة الظاهرية ، وحديث الرفع في مجرد نفي الإلزام المجهول.

(٤) يعني : لو كان عدم استحقاق العقوبة والإباحة موضوعا لحكم شرعي كإباحة شرب التتن ولو ظاهرا التي هي موضوع جواز البيع كما تقدم آنفا ، أو ملازما لحكم شرعي ، كما إذا دخل وقت الفريضة وشك في اشتغال ذمته بواجب فوري كأداء دين من

٥٠

له ، فلا محيص عن ترتبه عليه بعد إحرازه ، فإن (١) لم يكن مترتبا عليه ، بل على نفي التكليف واقعا فهي وإن كانت جارية إلا إن ذاك الحكم لا يترتب ، لعدم (٢) ثبوت ما يترتب عليه بها ، وهذا (٣) ليس بالاشتراط.

وأما اعتبار (٤) أن لا يكون موجبا للضرر ، فكل مقام تعمه قاعدة نفي الضرر وإن

______________________________________________________

نفقة زوجته أو غيرها ، فإنه بجريان البراءة في الدين يثبت وجوب الصلاة فعلا الملازم لنفي الدين ظاهرا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

قوله : «بعد إحرازه» أي : إحراز عدم استحقاق العقوبة ورفع التكليف بإجراء البراءة بعد الفحص ، وضمير «عليه» راجع على عدم استحقاق العقوبة ورفع الحكم ، وضمير «فهي» راجع على البراءة.

(١) هذا بيان للصورة الثانية ، وهي : كون التكليف مترتبا على عدم الحكم واقعا ، وأصالة البراءة تجري فيها ، ولكن لا يترتب عليه الحكم ؛ لعدم تحقق موضوعه وهو عدم الحكم واقعا ، حيث إن الثابت بالبراءة عدم الحكم ظاهرا لا واقعا. واسم «يكن» ضمير مستتر راجع على الحكم ، و «بل على» عطف على «مترتبا» وقد تقدم مثال ترتب الحكم على عدم التكليف بوجوده الواقعي في مثال الحج المنوط بعدم الدين.

(٢) تعليل لعدم ترتب ذلك الحكم على نفي التكليف بأصل البراءة. وحاصله : أن عدم ترتبه عليه كعدم ترتب وجوب الحج على نفي الدين بأصل البراءة إنما هو لعدم الموضوع أعني : عدم الدين واقعا ؛ لا لأجل اشتراط جريان البراءة بعدم ترتب حكم شرعي عليه ، فالمراد ب «ما» الموصول هو الموضوع ، والضمير المستتر في «يترتب» راجع على الحكم ، وضمير «عليه» راجع على الموصول. وضمير «بها» راجع على البراءة.

(٣) يعني : وعدم ترتب التكليف على البراءة حينئذ ليس لأجل اشتراط البراءة بعدم ترتب حكم شرعي عليه ، بل إنما هو لأجل انتفاء موضوع ذلك الحكم ؛ إذ موضوعه بالفرض عدم الحكم واقعا ، وهو لا يثبت بالبراءة إذ الثابت بها نفي الحكم ظاهرا كما مر آنفا.

(٤) هذا شروع في رد الشرط الثاني الذي ذكره الفاضل التوني «رحمه‌الله» وهو : أن لا يكون جريان البراءة في مورد موجبا للضرر على آخر.

ومحصل الرد ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٦ ، ص ٤٩٠» ـ هو : أن المورد إن كان مما تجري فيه قاعدة الضرر فلا مجال لجريان البراءة فيه ، لكون القاعدة دليلا اجتهاديا ،

٥١

لم يكن مجال فيه (١) لأصالة البراءة ، كما هو (٢) حالها مع سائر القواعد الثابتة بالأدلة الاجتهادية ؛ إلا إنه (٣) حقيقة لا يبقى لها مورد ، ...

______________________________________________________

والبراءة أصلا عمليا ، وقد ثبت في محله عدم المجال للأصل مع الدليل ، لوروده أو حكومته على الأصل كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

وإن كان مما لا تجري فيه قاعدة الضرر ، فلا مانع من جريان البراءة فيه ومجرد احتمال صغرويته لقاعدة الضرر لا يمنع عن جريان البراءة فيه مع فرض الفحص وعدم الظفر بدليل على حكم الضرر.

وبالجملة : فمع الظفر بالدليل الاجتهادي مطلقا من دليل الضرر وغيره من الأدلة الاجتهادية لا مجال للبراءة ؛ لعدم المقتضي لها ، حيث إن الدليل رافع لموضوعها ، فعدم جريانها مع الدليل إنما هو لعدم المقتضى ، لا لعدم شرطه ، ضرورة : أن الشرط متأخر رتبة عن المقتضى ، فلا يطلق الشرط إلا مع إحراز المقتضي ، ومع عدم المقتضي لا يطلق الشرط كالمقام.

فإن كان مراد الفاضل التوني من الاشتراط : أن جريان البراءة مشروط بعدم ترتب الضرر عليها ، ففيه أولا : أن إطلاق الشرط عليه لا يخلو من المسامحة ؛ لما مر آنفا من : أن عدم الجريان حينئذ مستند إلى عدم المقتضى ، لا إلى عدم الشرط.

وثانيا : أنه لا اختصاص للضرر ؛ بل جريان البراءة منوط بعدم الدليل الاجتهادي مطلقا من دليل الضرر وغيره ، كما أن عدم الجريان لا يختص بالبراءة ، بل كل أصل عملي يتوقف جريانه على عدم دليل اجتهادي في مورده.

(١) أي : في المقام الذي تجري فيه قاعدة الضرر.

(٢) يعني : كما أن عدم المجال لجريان البراءة مع قاعدة نفي الضرر حال البراءة مع سائر القواعد الثابتة بالأدلة الاجتهادية ، وضمير «حالها» راجع على أصالة البراءة.

(٣) الضمير للشأن ، وحاصله : أن أصالة البراءة وإن لم يكن لها مجال في موارد الضرر ، إلا إن عدم جريانها فيها ليس لأجل شرطية عدم قاعدة الضرر لجريان البراءة ؛ بل لعدم المقتضي لجريانها معها ؛ لما مر من أن دليل قاعدة الضرر كسائر الأدلة الاجتهادية يرفع الشك الذي هو موضوع أصل البراءة وغيره من الأصول العملية ، فالدليل الاجتهادي رافع لموضوع الأصل ولو ظاهرا كما هو مقتضى الأدلة غير العلمية ، فمع الدليل لا مقتضي لأصالة البراءة ؛ لا أن عدم الدليل شرط لجريان البراءة.

٥٢

بداهة (١) : أن الدليل الاجتهادي يكون بيانا وموجبا للعلم بالتكليف ولو ظاهرا (٢) ، فإن كان المراد من الاشتراط ذلك (٣) فلا بد من اشتراط أن لا يكون على خلافها دليل اجتهادي ، لا خصوص قاعدة الضرر (٤) فتدبر ، والحمد لله على كل حال.

______________________________________________________

فقوله : «إلا إنه حقيقة» إشارة إلى عدم المقتضي للبراءة ، وضمير «لها» راجع على أصالة البراءة.

(١) تعليل لقوله : «لا يبقى لها مورد» ، وتوضيحه ما تقدم بقولنا : «بل لعدم المقتضي لجريانها».

(٢) يعني : فلا يكون موردا للبراءة العقلية وهي قبح العقاب بلا بيان ولا البراءة النقلية ؛ لتحقق البيان بالدليل الاجتهادي ، ومعه ينتفي موضوع كلتا البراءتين ، ولا يبقى مقتض لجريانهما.

(٣) أي : عدم بقاء مورد لأصل البراءة مع قاعدة نفي الضرر ، فإن كان هذا مراد الفاضل «رحمه‌الله» من الاشتراط ، فلا بد من اشتراط عدم مطلق دليل اجتهادي على خلاف أصل البراءة ، لا خصوص قاعدة الضرر ؛ إذ الوجه في عدم جريانها مع قاعدة الضرر هو : كونها رافعة لموضوع البراءة ، وهذا الوجه جار في جميع الأدلة الاجتهادية ، وقد عرفت سابقا : أن إطلاق الشرط على الدليل الاجتهادي الرافع لموضوع البراءة مبني على المسامحة. وضمير «خلافها» راجع على أصالة البراءة.

(٤) لما مر من عدم الفرق بين قاعدة الضرر وبين سائر القواعد الاجتهادية في رفع الشك الذي هو موضوع البراءة.

قوله : «فتدبر» لعله إشارة إلى دقة المطلب.

هذا تمام الكلام في شرائط الأصول العمليّة. فيقع الكلام في تفصيل قاعدة نفي الضرر.

٥٣

ثم إنه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان قاعدة الضرر والضرار (١) على نحو

______________________________________________________

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

(١) وقد جعل المصنف «قدس‌سره» الكلام فيها في جهات :

الأولى : في بيان مدركها.

الثانية : في شرح مفادها بحسب المادة تارة والهيئة التركبية أخرى.

الثالثة : في بيان نسبتها مع الأدلة المتكفلة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأولية المعارضة لها بحسب الظاهر ؛ كأدلة وجوب الصلاة والصيام والحج ونحوها ، وكذلك نسبتها مع الأدلة الثانوية ؛ كأدلة نفي العسر والحرج والإكراه ، ونحوها من العناوين الثانوية العارضة للعناوين الأولية كالصلاة وغيرها من العبادات والمعاملات.

وأما الكلام في الجهة الأولى : فقد استدل لإثبات هذه القاعدة بالأدلة الأربعة.

أما الإجماع : فواضح لا يحتاج إلى البيان.

وأما العقل : فإنه قد يحكم مستقلا بأن الضرر والضرار مناف للعدل واللطف فلا يجوز.

وأما الكتاب : فقد استدل له بقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً)(١).

وأما السنة : فقد استدل عليها بأخبار كثيرة ، وقد اكتفى المصنف «قدس‌سره» بذكر ما هو أشهرها قصة وأصحها سندا وأكثرها طرقا وأوضحها دلالة ، وهي الرواية المتضمنة لقصة سمرة بن جندب مع الأنصاري.

وتفصيل القصة موجود في المتن فلا يحتاج إلى مزيد من البيان.

وقد ادعى تواترها ولو إجمالا. فلا إشكال في مدرك قاعدة لا ضرر.

وأما الكلام في الجهة الثانية : فقد أشار المصنف إليها بقوله : «وأما دلالتها ...» الخ. وتوضيحها يتوقف على شرح معاني مفردات الألفاظ الواقعة في متن الحديث من كلمات «لا» ، و «ضرر» ، و «ضرار».

وأما «ضرر» : فالمحكي عن جملة من كتب اللغويين كالصحاح (٢) والنهاية (٣) الأثيرية التي هي عند العامة كمجمع البحرين عندنا ـ والقاموس هو : «أنه ما يقابل النفع» ، كما أن المحكي عن الصحاح والمصباح : «أن الضرر اسم مصدر والمصدر الضرّ» ، فالضر الذي

__________________

(١) البقرة : ٢٣١.

(٢) الصحاح ٢ : ٧١٩ ـ ضرر.

(٣) النهاية في غريب الحديث ٣ : ٨١ ـ ضرر.

٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

هو فعل الضار نتيجته الضرر ، وهو النقص في المال أو النفس أو العرض أو الطرف وهو الأعضاء كاليدين والرجلين ونحوهما من الأطراف.

ولكنه لا يطلق على مطلق النقص ؛ بل خصوص النقص من الشيء الذي من شأنه عدم ذلك النقص ، مثلا : لا يطلق الأعمى على مطلق فاقد البصر ، بل على خصوص فاقده الذي من شأنه أن يكون بصيرا كالحيوان ، فلا يطلق على الجدار ونحوه.

وعليه : فالتقابل بين النفع والضرر تقابل العدم والملكة ، فوجود البصر للإنسان مثلا نفع ، وعدمه ضرر ، وكذا وجود اليدين له نفع وعدم إحداهما أو كليتهما ضرر ؛ بل وجود كل ما يقتضيه طبيعة الشيء وخلقته الأصلية نفع له وعدمه ضرر.

هذا ما ينسب إلى اللغويين ؛ لكن العرف العام مخالف له ، حيث إن الضرر عندهم عدم التمام الذي هو مقتضى طبيعة الشيء لا أنه مقابل للنفع الذي هو شيء زائد على ما يقتضيه الخلقة الأصلية. هذا تمام الكلام في معنى كلمة الضرر.

وأما الضرار : فقيل : إنه استعمل في معان :

أحدها : ما أشار إليه المصنف واستظهره في المقام من أن الضرار بمعنى الضرر ، فهو وإن كان مصدرا من مصادر باب المفاعلة ؛ لكنه ليس هنا فعل الاثنين ، لوجوه : منها : إطلاق لفظ «المضار» على سمرة في كلام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» في رواية الحذاء : «ما أراك يا سمرة إلا مضارا» (١) ، وفي مرسلة زرارة : «إنك رجل مضار» (٢) مع وضوح أن الضرر في قضية سمرة لم يصدر إلا من سمرة.

ومنها : ما عن النهاية الأثيرية من أنه «قيل : هما أي الضرر والضرار ـ بمعنى واحد والتكرار للتأكيد» (٣).

ومنها : ما عن المصباح من : «أن ضاره يضاره مضارة وضرارا : يعني ضره».

ومنها : غير ذلك مما يشهد بوحدة الضرر والضرار معنى ، وأنه فعل الواحد مع كونه مصدر باب المفاعلة.

ثانيها : أن الضرار فعل الاثنين ، فعن النهاية الأثيرية أيضا : «والضرار فعل الاثنين» (٤).

ثالثها : أن الضرار الجزاء ، فعن النهاية أيضا : «والضرر ابتداء الفعل ، والضرار الجزاء (٥)

__________________

(١) الفقيه ٣ : ١٠٣ / ذيل ح ٣٤٢٣ ، الوسائل ٢٥ : ٤٢٥ / ٣٢٢٧٩.

(٢) الكافي ٥ : ٢٩٤ / ذيل ح ٨ ، الوسائل ٢٥ : ٤٢٩ / ٣٢٢٨٢.

(٣ و ٤ و ٥) النهاية في غريب الحديث ٣ : ٨١ ـ ضرر.

٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

عليه ، ولعله يرجع إلى المعنى الثاني ، وإن كان تعددهما غير بعيد».

رابعها : أن تضر صاحبك من دون أن تنفع به في قبال الانتفاع به ، كحفر بالوعة في قرب دار الجار مع تضرر الجار بها وانتفاع الحافر بها.

وحاصل الكلام : أن ما استظهره المصنف هو المعنى الأول وهو : أن الضرار بمعنى الضرر جيء به للتأكيد. هذا تمام الكلام في كلمة الضرر والضرار.

وأما كلمة «لا» النافية : فحاصل ما أفاده المصنف «قدس‌سره» فيها هو : أن الأصل في مثل تركيب «لا ضرر» ومما دخل فيه «لا» النفي على اسم النكرة ك «لا رجل في الدار» هو نفي حقيقة مدخولها ، فمعنى «لا رجل» نفي طبيعة الرجل في الدار حقيقة أو ادعاء بلحاظ نفي آثار تلك الطبيعة ؛ إذ انتفاء آثارها المطلوبة منها يصحح نفي نفس الطبيعة تنزيلا لوجودها الذي لا يترتب عليه الأثر المرغوب منه منزلة عدمه.

إذا عرفت شرح معاني المفردات الواقعة في متن الحديث فاعلم : أن ما اختاره المصنف «قدس‌سره» من إرادة نفي حقيقة الضرر ادعاء تنزيلا لوجود الضرر الذي لا يترتب عليه الأثر منزلة عدمه ، فالوضوء الضرري منفي شرعا بلحاظ عدم ترتب أثره وهو الوجوب عليه ، فكأنه قيل : «وجوب الوضوء الضرري معدوم» ؛ لأن مرجع نفي الضرر تشريعا مع وجوده تكوينا إلى نفي حكمه شرعا ، وهذا من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع. فحاصل ما اختاره المصنف «قدس‌سره» من كون نفي الضرر من نفي الموضوع والحقيقة ادعاء وإرادة : نفي الحكم منه.

توضيح ذلك : أنه لما تعذرت إرادة المعنى الحقيقي ـ وهو نفي الضرر حقيقة ؛ لكونه كذبا ، لوجود الضرر في الخارج ـ دار أمره بين جملة من المعاني :

منها : إرادة الحكم من الضرر بعلاقة السببية والمسببية ؛ بأن يكون الضرر مستعملا في الحكم بتلك العلاقة ، حيث إن الحكم سبب للضرر وإنه لم يجعل الحكم الضرري في الإسلام مطلقا أي : سواء كان واجبا أو مستحبا تكليفيا أو وضعيا ، فإذا وجب الوضوء مع كون استعمال الماء مضرا أو لزم البيع الغبني ، فإن الضرر في الأول ناش عن حكم الشارع بوجوب الوضوء ، وفي الثاني عن حكمه بلزوم البيع على المغبون ، فهذان الوجوب واللزوم منفيان بقاعدة الضرر ، فمرجع هذا الوجه إلى استعمال لفظ الضرر مجازا في سببه وهو الحكم الشرعي التكليفي أو الوضعي.

وبهذا التصرف المجازي يصير النفي حقيقيا لعدم جعل طبيعة الحكم الذي ينشأ منه

٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الضرر حقيقة ، ففي وعاء التشريع لا ضرر حقيقة ويسمى هذا التصرف بالمجاز في الكلمة ، ويعبر عنه : بأن الحكم الضرري لا جعل له ، فالضرر عنوان لنفس الحكم ومحمول عليه بالحمل الشائع ؛ كالحرج الذي هو عنوان الحكم ومنفي في الشرع ، كما هو مقتضى قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، وهذا ما اختاره الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ، حيث قال : «إن المعنى بعد تعذر إرادة الحقيقة عدم تشريع الضرر ، بمعنى : أن الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضرر على أحد تكليفيا أو وضعيا ، فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون فينتفي». «دروس في الرسائل ، ج ٤ ، ص ٢٢٧».

ومنها : إرادة نفي نوع من طبيعة الضرر حقيقة بنحو المجاز في الحذف بأن يقال : إن الضرر غير المتدارك لا جعل له شرعا ، فالمنفي هو الضرر لا مطلقا ؛ بل خصوص الضرر لا يجبر ولا يتدارك كإتلاف مال الغير بدون الضمان ، أو صحة البيع الغبني بدون جبران ضرر المغبون بالخيار ، فكل ضرر متدارك بجعل الشارع للضمان أو الخيار أو غيرهما ، وهذا مختار الفاضل التوني.

ومنها : جعل كلمة «لا» ناهية ؛ بأن يراد من «لا ضرر» : الزجر عنه وطلب تركه ، نحو قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ)(١).

إن قلت : «لا» الناهية تختص بالفعل المضارع ، فلا يصح أن يقال بأنها ناهية في المقام مع كونها داخلة على الاسم.

قلت : لا يكون المراد أنها ناهية باصطلاح أهل الأدب ؛ بل المراد أنها تكون مفيدة للزجر والنهي ؛ لأن الجملة المشتملة عليها مستعملة في نفي الضرر إخبارا أو إنشاء بداعي الزجر عنه.

ولكن هذا الحمل بعيد ، ويكون خلاف الظاهر منها ، كما أن حملها على نفي الصفة والضرر الغير المتدارك أيضا بعيد ؛ بل ركيك ، فيدور الأمر بين المجاز في الكلمة ، وبين الحمل على نفي الماهية ادعاء ، والظاهر أنهما يرجعان إلى معنى واحد ، وهو مختار المصنف «قدس‌سره» : فالنتيجة هي : أن دلالة الرواية على قاعدة ضرر واضحة.

وأما الجهة الثالثة : وهي النسبة بين قاعدة لا ضرر وبين الأدلة المتكفلة لأحكام الأشياء بعناوينها الأولية : فيكون بينهما عموم من وجه ، لأن الأدلة المتكفلة لأحكام الأشياء

__________________

(١) البقرة : ١٩٧.

٥٧

الاختصار ، وتوضيح مدركها وشرح مفادها ، وإيضاح نسبتها مع الأدلة المثبتة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأولية (١) أو الثانوية (٢) وإن كانت أجنبية (٣) عن مقاصد الرسالة ، إجابة لالتماس بعض الأحبة ، فأقول وبه أستعين : إنه قد استدل عليها (٤) بأخبار كثيرة منها : موثقة زرارة عن أبي جعفر «عليه‌السلام» : «أن سمرة بن جندب (٥) كان له عذق (٦) في حائط لرجل من الأنصار ، وكان منزل الأنصاري

______________________________________________________

بعناوينها الأولية تدل على ثبوتها ، سواء كانت ضررية أو لا ، ويدل لا ضرر على النفي أعم من أن يكون ذلك الحكم الأول وجوب الوضوء أو الغسل أو الصلاة أو غيرها.

ويظهر من غير واحد بأنه يكون التعارض بين لا ضرر وبين أدلة الأحكام الأولية ؛ ولكن يقدم لا ضرر عليها للأقوائية ، إلا إن أقوائيته في جميع الموارد يكون محل التأمل ، وقال الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» : يقدم لا ضرر عليها لحكومته عليها وكونه شارحا لها.

وقال صاحب الكفاية «قدس‌سره» : يقدم لا ضرر عليها للتوفيق العرفي بينه وبينها ؛ وإن لم يكن له نظر الحاكمية والشارحية والأظهرية ، ويشترك ذلك مع قول الشيخ الأنصاري من حيث النتيجة ، وقد يسمى التوفيق العرفي بالحكومة العرفية ، وما أفاده الشيخ من الحكومة بالحكومة الاصطلاحية. هذا تمام الكلام في الجهات الثلاث.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) كأدلة وجوب الصلاة والصيام والحج وغيرها من العناوين الأولية.

(٢) كأدلة نفي الحرج والعسر والإكراه ، ونحوها من العناوين الثانوية العارضة للعناوين الأولية كالصلاة وغيرها من العبادات والمعاملات.

(٣) لكون قاعدة الضرر من القواعد الفقهية ، فمحل بحثها هو الفقه.

(٤) أي : على قاعدة الضرر. هذه إحدى جهات البحث ، ومحصلها : أن مدرك قاعدة الضرر أخبار كثيرة ومنها : موثقة زرارة وتوصيفها بالموثقة لوقوع ابن بكير الفطحي الموثق في سندها ، ولا يخفى : اختلاف ما في المتن مع ما نقله الوسائل عن المشايخ الثلاثة ، لكنه غير قادح في الاستدلال لأنه في حكاية القصة لا في الذيل الذي هو مورد الاستدلال.

(٥) بفتح السين المهملة وضم الميم وفتح الراء المهملة وهو من الأشقياء. فراجع ترجمته.

(٦) بفتح العين المهملة والذال المعجمة : النخلة بحملها وبالكسر : عنقود التمر.

٥٨

بباب البستان ، وكان سمرة يمر إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء ، فأبى سمرة ، فجاء الأنصاري إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» فشكا إليه ، فأخبر بالخبر ، فأرسل رسول الله وأخبره بقول الأنصاري وما شكاه ، فقال : إذا أردت الدخول فاستأذن ، فأبى ، فلما أبى فساومه حتى بلغ من الثمن ما شاء الله ، فأبى أن يبيعه فقال : لك بها عذق في الجنة ، فأبى أن يقبل ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» للأنصاري : اذهب فاقلعها وارم بها إليه. فإنه لا ضرر ولا ضرار» (*).

وفي رواية الحذاء (١) عن أبي جعفر «عليه‌السلام» مثل ذلك (٢) ، إلا إنه فيها بعد الإباء : «ما أراك يا سمرة إلا مضارا ، اذهب يا فلان فاقلعها وارم بها وجهه» (**) ، إلى غير ذلك من الروايات الواردة في قصة سمرة (٣) وغيرها ، وهي كثيرة وقد ادعى

______________________________________________________

(١) هو : أبو عبيدة زياد بن عيسى ، وروايته خالية عن جملة «لا ضرر ولا ضرار».

(٢) مع اختلاف يسير لا يقدح في دلالة الخبر على المطلوب.

(٣) وهي : رواية ابن مسكان عن زرارة ، رواها الوسائل (١) عن الكافي (٢) ، وفيها قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لسمرة : «إنك رجل مضار ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن قال : ثم أمر بها فقلعت ورمى بها إليه ، فقال له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : انطلق فاغرسها حيث شئت».

قوله : «مع اختلافها لفظا وموردا» إشارة إلى إشكال على دعوى التواتر.

وحاصل الإشكال : أن التواتر بكلا قسميه من اللفظي والمعنوي مفقود هنا ؛ إذ التواتر اللفظي ـ وهو حصول التواتر على لفظ أو ألفاظ مخصوصة كحديث الغدير ـ غير حاصل هنا قطعا ؛ لوضوح : عدم تحقق التواتر على كلمة «لا ضرر ولا ضرار». وكذا التواتر المعنوي ، وهو حصول النقل المتواتر على قضية خاصة بألفاظ مختلفة ، كتواتر شجاعة المولى أمير المؤمنين «عليه‌السلام» بنقل ما صدر منه «عليه‌السلام» في الحرب مع عمرو ابن عبد ود من قتله مع كونه «لعنه الله» من أشجع شجعان العرب ، فإن التواتر المعنوي أيضا مفقود في المقام ، لعدم مورد واحد نقل متواترا كالشجاعة ، لتعدد الموارد

__________________

(*) الكافي ٥ : ٢٩٢ / ٢ ، تهذيب الأحكام ٧ : ١٤١ / ٦٥١ ، الوسائل ٢٥ : ١٢٩ / ٣٢٢٨١.

(**) الفقيه ٣ : ١٠٣ / ٣٤٢٣ ، وفيه «فاقطعها». الوسائل ٢٥ : ٤٢٧ / ٣٢٢٧٩.

(١) الوسائل ٢٥ : ٤٢٩ / ٣٢٢٨٢.

(٢) الكافي ٥ : ٢٩٤ / ٨.

٥٩

تواترها ، مع اختلافها لفظا وموردا فليكن المراد به تواترها إجمالا ، بمعنى القطع بصدور بعضها.

والإنصاف أنه ليس في دعوى التواتر كذلك (١) جزاف ، وهذا (٢) مع استناد المشهور إليها موجب لكمال الوثوق بها وانجبار (٣) ضعفها ، مع أن بعضها (٤) موثقة ،

______________________________________________________

هنا ، فإن مورد بعض نصوص الباب قصة سمرة ، ومورد بعضها الآخر الشفعة ، وبعضها الآخر منع فضل الماء ، وبعضها شيء آخر.

وبالجملة : فالتواتر اللفظي والمعنوي يشتركان في وحدة المورد ، ويفترقان في اعتبار وحدة اللفظ أو الألفاظ في الأول والاختلاف في الثاني.

فملخص الإشكال على التواتر : أن التواتر الذي ادعاه الفخر «قدس‌سره» لا لفظي ولا معنوي ، ولذا التجأ المصنف إلى توجيه التواتر بالإجمالي. وضميرا «تواترها ، اختلافها» راجعان على الروايات. وقد أشار إلى دفع الإشكال المزبور بقوله : «فليكن المراد به تواترها إجمالا».

وحاصل الدفع : أنه يمكن أن يراد بالتواتر هنا التواتر الإجمالي ، وهو القطع بصدور بعض الروايات الواردة في قضايا متعددة غير مرتبطة ، فيقال فيما نحن فيه :

يعلم إجمالا بصدور رواية من روايات قاعدة الضرر.

(١) أي : إجمالا بمعنى : القطع بصدور بعضها.

(٢) أي : التواتر الإجمالي مع عمل المشهور بتلك الروايات ، واستنادهم إليها في الفتوى موجب لكمال الوثوق والاطمئنان بصدورها وسبب لانجبار ضعف سندها.

(٣) عطف على «كمال» ، وانجبار ضعف إسنادها ـ بإسناد المشهور إلى الروايات الضعيفة ـ مبني على ما هو المشهور من جابرية عملهم لضعف الرواية ، وحيث إن إسناد كثير من الروايات المحتج بها على المقام ضعيفة على المشهور احتج لاعتبارها باستناد المشهور إليها. وضمائر «إليها ، بها ، ضعفها» راجعة على الروايات.

(٤) وهو : موثقة زرارة المتقدمة ، فإن صاحب الوسائل رواها عن الكافي عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن بكير ، عن زرارة ، عن أبي جعفر «عليه‌السلام». وهذا السند معتبر ؛ إذ في العدة علي بن إبراهيم القمي صاحب التفسير ، وهو ثقة (١). وأحمد بن محمد البرقي وثقه الشيخ (٢) والنجاشي (٣)

__________________

(١) رجال النجاشي : ٢٦٠ / ٦٨٠ ، خلاصة الأقوال : ١٨٦ / ٤٥.

(٢) الفهرست : ٦٢ / ٦٥.

(٣) رجال النجاشي : ٧٦ / ١٨٢.

٦٠