دروس في الكفاية - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

لعدم (١) إحرازها حقيقة (٢) ولا تعبدا ، ولا يكون (٣) تنزيله بلحاظه ، بخلاف (٤) ما لو كان تنزيله بلوازمه أو بلحاظ (٥) ما يعم آثارها ، فإنه (٦) يترتب باستصحابه ما كان بوساطتها.

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : «لم يترتب» ، وحاصله : أن وجه عدم ترتب أثر الواسطة على استصحاب ذي الواسطة فيما إذا كان مفاد الأخبار تنزيل الشيء وحده بلحاظ أثر نفسه هو عدم إحراز الواسطة التي هي موضوع حكمها لا وجدانا كما هو واضح ولا تعبدا ، إذ المفروض : اختصاص التعبد والتنزيل الاستصحابي بذي الواسطة ، فلا وجه أصلا لترتيب حكم الواسطة باستصحاب ذيها.

(٢) أي : وجدانا ، وعدم إحراز الواسطة وجدانا واضح كما مر ، وكذا عدم إحرازها تعبدا ؛ لما عرفت من : اختصاص التنزيل بذي الواسطة وعدم شموله للواسطة.

(٣) معطوف على «عدم» ومتمم لعلة عدم ترتب أثر الواسطة على استصحاب ذيها يعني : أن علة عدم ترتب أثرها على استصحاب ذي الواسطة هي عدم إحراز الواسطة ، وعدم كون تنزيل المستصحب بلحاظ مطلق آثاره وإن كانت مع الواسطة ؛ إذ مع وجود أحد هذين الأمرين يترتب أثر الواسطة على استصحاب ذيها كما تقدم سابقا ، وحق العبارة أن تكون هكذا : «ولعدم كون تنزيله بلحاظه» ، وضمير «تنزيله» راجع إلى «الشيء» وضمير «بلحاظه» إلى «ما» الموصول المراد به أثر الواسطة.

(٤) يعني : بخلاف ما لو كان تنزيل الشيء مع لوازمه كما هو مقتضى الاحتمال الثالث.

(٥) معطوف على «بلوازمه» يعني : بخلاف ما لو كان تنزيل الشيء بلحاظ مطلق آثاره كما هو مقتضى الاحتمال الثاني ، وحاصله : أن التنزيل إذا كان بأحد هذين النحوين ترتب على المستصحب آثار لوازمه كما مر تفصيله. وضمير «آثارها» راجع إلى «الواسطة».

(٦) متفرع على هذين الاحتمالين اللذين أشار إليهما بقوله : «بخلاف ما لو كان تنزيله بلوازمه ...» الخ ، ضرورة : أن لازمهما ترتب أحكام الواسطة باستصحاب ذيها كما مر تفصيله آنفا ، وضمير «فإنه» للشأن ، وضمير «باستصحابه» راجع إلى «الشيء» ، و «ما» الموصول فاعل يترتب ، وضمير «بوساطتها» راجع إلى الواسطة العقلية أو العادية. هذا تمام الكلام في المقام الأول المتكفل بحال الثبوت وبيان الوجوه المحتملة وبيان الوجوه المحتملة في أخبار الاستصحاب. وأما المقام الثاني فسيأتي.

٣٦١

والتحقيق (١) : أن الأخبار إنما تدل على التعبد بما ...

______________________________________________________

(١) هذا شروع في المقام الثاني ، وهو بيان أحد المعاني المذكورة ؛ بحيث يكون هو المدار في مقام الاستدلال ، وإجماله : تعيّن الاحتمال الأول ، وهو كون التنزيل بلحاظ أثر نفس المتيقن بلا واسطة. وتفصيله منوط ببيان أمور :

الأول : أنه قد تقدم كون مفاد «لا تنقض» جعل حكم مماثل للمستصحب أو لحكمه ، لا جعل حكم لغير المستصحب من اللوازم العقلية أو العادية ؛ وذلك لأن اليقين في باب الاستصحاب طريقيّ ، فالتعبد الاستصحابي لا بد أن يتعلق بما تعلق به اليقين ، فإذا كانت الحياة مثلا متيقنة سابقا ، وشك في بقائها كان مورد التعبد لا محالة نفس الحياة ؛ لأن اليقين تعلق بها لا بغيرها من لوازمها.

فالنتيجة : أنه لا يترتب على استصحاب الحياة إلّا أحكام نفسها ، دون آثار لوازمها التي لم يتعلق بها يقين وشك.

الثاني : إن لوازم المستصحب على قسمين : أحدهما : أن تكون لازمة له حدوثا وبقاء ؛ كضوء الشمس ، والآخر : أن تكون لازمة له بقاء فقط كنبات اللحية. ومحل الكلام هو القسم الثاني ؛ إذ لا أثر للقسم الأول بعد كونه بنفسه مجرى الاستصحاب ؛ لتعلق اليقين والشك به كملزومه.

الثالث : أن شرط التمسك بإطلاق الدليل أن لا يكون هناك قدر متيقن في مقام التخاطب ؛ إذ الإطلاق منوط بعدم البيان ، ومن المعلوم : أنه صالح للبيانية كما ثبت في محله ، فلا ينعقد معه إطلاق الدليل.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنه لا مجال لاستظهار الاحتمالين الأخيرين ؛ لأن جواز الأخذ بهما منوط بإطلاق دليل التنزيل حتى يكون ناظرا إلى التعبد بالملزوم واللوازم معا كما هو مقتضى الاحتمال الثاني ، أو إلى لحاظ مطلق الأثر ولو كان أثر الواسطة كما هو مقتضى الاحتمال الثالث. وقد عرفت : توقف الإطلاق على عدم البيان الذي ينتقض بالقدر المتيقن التخاطبي ، لصلاحيته للبيانية. وهذا موجود بما نحن فيه لأن المتيقن من «لا تنقض اليقين بالشك» بعد وضوح طريقيّة اليقين وعدم موضوعيته هو عدم نقض ما تعلق به اليقين أعني : الملزوم ؛ كحياة الغائب ، دون لوازمه المترتبة على بقائه ؛ كنبات اللحية ؛ إذ ليست نفس اللوازم متعلقة لليقين حتى يجري فيها الاستصحاب كي يثبت به آثارها الشرعية. كما أن مطلق الآثار الشرعية ـ ولو مع الواسطة ـ ليس ملحوظا في استصحاب الملزوم حتى يترتب باستصحابه تلك الآثار ؛ لتوقف هذا اللحاظ على الإطلاق الذي

٣٦٢

كان (١) على يقين منه فشك بلحاظ (٢) ما لنفسه من آثاره وأحكامه ، ولا دلالة لها (٣) بوجه (٤) على تنزيله (٥) بلوازمه التي لا تكون كذلك (٦) كما هي (٧) محل ثمرة

______________________________________________________

عرفت عدم تماميته لوجود القدر المتيقن.

فالنتيجة : قصور أخبار الاستصحاب عن إثبات حجية الأصل المثبت ، وأن المتعين من الاحتمالات الثلاثة المذكورة. فيها هو الاحتمال الأول الذي مقتضاه عدم اعتبار الاستصحاب المثبت.

(١) أي : بالمتيقن ؛ لأن اليقين طريق إليه بالخصوص ، فإن اليقين بالحياة لم يتعلق بلازمها كالنبات ، والاستصحاب لا يجري إلا فيما تعلق به اليقين وهو الحياة ، فلا بد أن يكون التعبد بأثر نفس المتيقن أيضا ؛ لأنه المتيقن والمشكوك دون غيره.

(٢) متعلق ب «التعبد» ، و «من آثاره» بيان ل «ما» الموصول ، وقد عرفت آنفا : أن التعبد بآثار نفس المتيقن إنما هو لتيقنه في مقام التخاطب ، وضمائر «منه ، لنفسه ، آثاره» راجعة إلى الموصول.

(٣) أي : للأخبار. وجه عدم دلالتها على تنزيل المستصحب مع لوازمه أو تنزيله بلحاظ مطلق آثاره ولو مع الواسطة ـ حتى يكون الاستصحاب المثبت حجة بلحاظ هذين الوجهين اللذين تقدما في المقام الأول ، أعني به مرحلة الثبوت ـ هو ما مر من وجود القدر المتيقن المانع عن انعقاد الإطلاق للأخبار.

(٤) يعني : لا صراحة كما هو واضح ، ولا ظهورا إطلاقيا ، لما عرفت من وجود القدر المتيقن التخاطبي.

(٥) أي : تنزيل ما كان على يقين منه وهو المتيقن مع لوازمه التي لا تكون متيقنة سابقا ، ولم يكن المكلف على يقين منها. وبهذا أشار إلى أمرين ، أحدهما : منع الاحتمال الأول وهو تنزيل المتيقن مع لوازمه. وثانيهما : تعيين اللوازم التي تكون محل البحث في الأصل المثبت ، وهي ما تترتب على المستصحب بقاء فقط. وقد تقدم توضيحه في الأمر الثاني في توضيح قوله : «والتحقيق أن الأخبار ...» الخ.

(٦) أي : متيقنة سابقا ؛ إذ لو كانت كذلك لجرى الاستصحاب في نفسها ؛ لاجتماع ركني الاستصحاب من اليقين والشك فيها.

(٧) أي : اللوازم التي ليس المكلف على يقين منها محل ثمرة الخلاف في الأصل المثبت ، دون مطلق اللوازم ولو كانت مترتبة على الحدوث والبقاء ؛ لما عرفت : من أنها بنفسها كملزوماتها مورد الاستصحاب ، فهنا استصحابان.

٣٦٣

الخلاف ، ولا على تنزيله (١) بلحاظ ما له مطلقا ولو (٢) بالواسطة. فإن (٣) المتيقن إنما هو لحاظ آثار نفسه ، وأما آثار لوازمه فلا (٤) دلالة هناك على لحاظها ...

______________________________________________________

(١) معطوف على «تنزيله» ، يعني : ولا دلالة للأخبار على تنزيل المستصحب مع لوازمه بحيث تكون نفس اللوازم أيضا موردا للاستصحاب ، ولا على تنزيل المستصحب بلحاظ مطلق آثاره ولو مع الواسطة ؛ إذ لو كانت للأخبار دلالة على التنزيل بأحد هذين الوجهين كان الاستصحاب المثبت حجة ؛ لكن تسميته بالأصل المثبت بناء على جريان الاستصحاب في نفس اللوازم كجريانه في الملزومات ؛ كما هو مقتضى الوجه الأول أعني به قوله : «على تنزيله بلوازمه التي لا تكون كذلك» لا تخلو من المسامحة ، وضميرا «تنزيله ، له» راجعان إلى «الشيء».

(٢) بيان للإطلاق ، والمراد بالواسطة هي العقلية والعادية. وهذا إشارة إلى منع الاحتمال الثاني.

(٣) هذا تعليل لقوله : «ولا دلالة لها بوجه» ، وقد اتضح مما مرّ ، وحاصله : أنه لا إطلاق في الأخبار حتى تدل على أحد هذين التنزيلين اللذين بنى عليهما الاستصحاب المثبت ؛ وذلك لما عرفت : من أن المتيقن في مقام التخاطب ـ وهو تنزيل المتيقن بلحاظ آثار نفسه لا آثاره. مطلقا ولو مع الواسطة ـ مانع عن انعقاد الإطلاق في الأخبار ، فلا سبيل إلى استظهار أحد هذين التنزيلين المبني عليهما اعتبار الاستصحاب المثبت ؛ لابتنائه على إطلاقها المسدود بابه. وضميرا «نفسه ، لوازمه» راجعان إلى «ما كان على يقين منه» وهو الشيء المتيقن المستصحب.

(٤) هذه نتيجة القدر المتيقن ، يعني : بعد كون المتيقن من الأخبار هو تنزيل المستصحب بلحاظ آثار نفسه لا مطلق آثاره حتى آثار لوازمه يتضح : عدم دلالة تلك الأخبار على لحاظ آثار لوازمه ، لما عرفت : من توقف دلالتها على ذلك على إطلاقها المنوط بعدم البيان ، والمفروض : صلاحية القدر المتيقن للبيانية ، فلا ينعقد معه إطلاق للأخبار.

والحاصل : أن محذور حجية الأصل المثبت عند المصنف إثباتي ، فقوله : «فلا دلالة» لا يخلو من تعريض بما أفاده الشيخ «قدس‌سره» من كون المحذور عنده ثبوتيا ، قال : «ووجوب ترتيب تلك الآثار من جانب الشارع لا يعقل إلّا في الآثار الشرعية المجعولة من الشارع لذلك الشيء ؛ لأنها القابلة للجعل دون غيرها من الآثار العقلية والعادية ، فالمعقول من حكم الشارع بحياة زيد وإيجابه ترتيب آثار الحياة في زمان الشك هو حكمه بحرمة

٣٦٤

أصلا (١) ، وما لم يثبت لحاظها بوجه أيضا (٢) لما كان وجه لترتيبها عليه باستصحابه ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

تزويج زوجته والتصرف في ماله ، لا حكمه بنموه ونبات لحيته ؛ لأن هذه غير قابلة لجعل الشارع».

وحاصله : امتناع شمول يد التشريع لغير الآثار الشرعية ، فإن التنزيل من كل شخص لا بد أن يكون بلحاظ الآثار المتمشية من قبله ، ومن المعلوم : أن الأثر المتمشي من الشارع في مقام التشريع ـ لا التكوين ـ هو الأثر الذي تناله يد وضعه ورفعه ، وحيث إن مثل نبات اللحية ليس في حيطة تصرف الشارع بما هو شارع ، فالدليل ـ مثل : «لا تنقض اليقين بالشك» ـ غير ناظر إلى أثر الواسطة من أول الأمر ، هذا.

ووجه التعريض هو : دعوى إمكان شمول «لا تنقض» لأثر الواسطة كاستحباب خضاب اللحية وإن لم يصلح لإثباته نفس الواسطة أعني : نبات اللحية ؛ لعدم كونه مجعولا تشريعيا.

وعليه : فللشارع في استصحاب حياة زيد جعل مطلق ما يترتب عليها من الآثار الشرعية أعم من كونه بلا واسطة أو معها ، إذ المفروض : مجعولية كل أثر يترتب على المستصحب سواء ترتب عليه بلا واسطة أو معها. لكن هذا الإطلاق الممكن تحققه غير متحقق ؛ لما عرفت : من وجود القدر المتيقن التخاطبي المانع من الإطلاق هذا.

(١) يعني : لا بالصراحة كما هو واضح ولا بالإطلاق ، لما عرفت : من عدم تحققه مع وجود القدر المتيقن. ويمكن أن يراد بقوله : «أصلا» كلا اللحاظين : يعني : تنزيل المستصحب مع لوازمه ، وتنزيله بلحاظ آثاره مطلقا ولو مع الواسطة. وضمير «لحاظها» راجع «آثار».

(٢) يعني : كلحاظ لوازم المستصحب ، فكما لا تترتب آثار نفس المستصحب إلا بلحاظ المستصحب والتعبد به ، كذلك لا تترتب آثار لوازم المستصحب إلّا بلحاظها والتعبد بتلك اللوازم ، والمفروض : أنه قد ثبت عدم دلالة الأخبار على هذا اللحاظ والتعبد ، فلا وجه لترتيبها. وقوله : «بوجه» يراد به أحد الاحتمالين من تنزيل المستصحب مع لوازمه أو تنزيله بلحاظ مطلق آثاره.

وغرضه : أن ترتيب آثار لوازم المستصحب على استصحابه منوط بدلالة الدليل في مقام الإثبات على لحاظها ، وبدون دلالته عليه لا يترتب شيء من آثار لوازم المستصحب بمجرد استصحابه. وضمير «ترتيبها» راجع إلى «آثار» ، وضميرا «عليه ، باستصحابه»

٣٦٥

نعم (١) ؛ لا يبعد ترتيب خصوص ما كان منها محسوبا بنظر العرف من آثار نفسه لخفاء (٢) ما بوساطته ، بدعوى (٣) : أن مفاد الأخبار عرفا ما يعمه أيضا (٤) حقيقة (٥)

______________________________________________________

راجعان إلى المستصحب المستفاد من قوله : «ما كان على يقين منه».

فتلخص من جميع ما تقدم : عدم حجية الأصل المثبت عند المصنف «قدس‌سره» ؛ لكن قد استثنى من هذه الكلية موارد ثلاثة يأتي التعرض لها عند شرح المتن. وهناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(١) هذا إشارة إلى المورد الأول من الموارد الثلاثة المستثناة من عدم حجية الأصل المثبت ، وهذا المورد مما استثناه الشيخ «قدس‌سره» من الأصل المثبت.

ومحصله : أنه إذا كانت الواسطة في غاية الخفاء ؛ بحيث يعدّ أثرها أثرا لنفس المستصحب عرفا بلا واسطة ، كاستصحاب رطوبة الثوب الذي ألقته الريح أو غيرها على أرض متنجسة جافة ، فإن نجاسة الثوب ليست أثرا بلا واسطة لرطوبة الثوب الملاقي للأرض ؛ بل هي أثر لسراية النجاسة من المتنجس إلى ملاقيه بواسطة الرطوبة ، والسراية واسطة عقلية بين المستصحب وهي الرطوبة ، وبين النجاسة التي هي أثر السراية ؛ لكنه يترتب مع ذلك نجاسته باستصحاب بقاء رطوبة الثوب الملاقي للأرض المتنجسة بدعوى خفاء الواسطة وهي السراية ؛ بحيث يرى العرف نجاسة الثوب من آثار ملاقاته مع الرطوبة للأرض ، لا من آثار السراية ، فإذا كانت النجاسة من آثار المستصحب عرفا فلا محالة يشمله دليل الاستصحاب ؛ لاتباع نظر العرف في مقام الاستظهار من الخطابات.

قوله : «منها» أي : من آثار لوازم المستصحب إذا كانت تلك الآثار بنظر العرف من آثار نفس المستصحب ؛ لخفاء الواسطة بحيث يعدّون الأثر أثرا لنفس المستصحب لا للواسطة ، وضمير «نفسه» راجع إلى المستصحب.

(٢) تعليل لكون أثر الواسطة محسوبا بنظر العرف من آثار نفس المستصحب.

(٣) متعلق ب «لا يبعد» ، ودليل لنفي البعد ، ومحصله : أنه بعد كون أثر الواسطة لشدة خفائها مما يعدّ عرفا أثرا لنفس المستصحب يترتب على استصحابه ذلك ؛ لأن مفاد أخبار الاستصحاب عرفا هو التعبد بآثار المستصحب التي منها آثار واسطته الخفية التي تعد آثارا لنفس المستصحب ، وضمير «يعمه» راجع إلى «ما» الموصول في «ما كان».

(٤) يعني : كما أن مفاد الأخبار يشمل أثر نفس المستصحب حقيقة ، كذلك يشمل أثر الواسطة الخفية.

(٥) يعني : لا مسامحة في مرحلة التطبيق حتى يقال كما قيل : إنه لا عبرة

٣٦٦

فافهم (١).

______________________________________________________

بالمسامحات العرفية التطبيقية ، بعد فرض وضوح المفاهيم بحدودها ، ففيما نحن فيه يمكن أن يدعى أن أثر الواسطة الخفية أثر حقيقة لنفس الواسطة ، وعدّه أثرا للمستصحب مبني على المسامحة العرفية في مقام التطبيق ، ولا عبرة بها في هذه المرحلة وإنما هي معتبرة في مرحلة تشخص المفاهيم العرفية.

وعليه : فلا وجه لدعوى اعتبار الاستصحاب المثبت إذا كانت الواسطة خفية.

والمصنف «قدس‌سره» دفع هذا التوهم بعدم كون المقام من المسامحة في التطبيق ، حيث إن رفع اليد عن أثر الواسطة الخفية مع جريان الاستصحاب في ذي الواسطة يكون من نقض اليقين بالشك حقيقة ، كما إذا جرى استصحاب بقاء الرطوبة في المثال المزبور أعني : الثوب الملاقي للأرض الجافة المتنجسة ، ولم يترتب أثر النجاسة على الثوب عدّ من نقض اليقين بالشك ؛ لأن اليقين برطوبة الثوب الملاقي للأرض المزبورة يقتضي اليقين بنجاسته ، فعدم ترتيب نجاسته نقض لليقين بالشك ؛ لأن العرف يرون نجاسة الثوب الملاقي للأرض المتنجسة من آثار رطوبة الثوب ؛ لا من آثار الواسطة وهي السراية.

(١) الظاهر : أنه إشارة إلى ما نبه عليه في حاشية الرسائل من إشكال بعض الأجلة من السادة ـ وهو على ما حكاه العلامة المشكيني عن المصنف السيد المحقق السيد حسين الكوه كمري ـ على الشيخ الأنصاري ، من أن ترتيب أثر الواسطة الخفية على استصحاب ذي الواسطة يكون من باب تطبيق المفاهيم على مصاديقها العرفية مسامحة ، ومن المعلوم : عدم اعتبار مسامحات العرف في التطبيقات.

وقد دفع المصنف هذا الإشكال عن الشيخ بقوله : «بدعوى : أن مفاد الأخبار عرفا يعمه حقيقة» وقد تقدم تقريبه.

وبعبارة أخرى : لو استظهر الشيخ «قدس‌سره» من خطاب «لا تنقض» وجوب ترتيب الأثر بلا واسطة بالخصوص على المستصحب ، ومع ذلك ألحق به ترتيب أثر الواسطة الخفية من باب المسامحة في التطبيق من دون انطباق «لا تنقض» عليه حقيقة ، كان الإشكال عليه بعدم العبرة بمسامحات العرف في محله.

إلّا إن الظاهر من كلام الشيخ وجوب ترتيب الأثر بلا واسطة عرفا ، ومن المعلوم : أنه كما يكون تطبيق هذا المعنى حقيقيا عند عدم وجود الواسطة أصلا ، كذلك تطبيقه على ما إذا كان هناك واسطة ؛ لكن لخفائها يترتب الأثر حقيقة عرفية على ذي الواسطة. ومن الواضح : أجنبية هذا من المسامحات العرفية التطبيقية كي يشكله عليها بعدم اعتبارها ،

٣٦٧

كما لا يبعد (١) ترتيب ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفا بينه وبين المستصحب تنزيلا ، كما لا تفكيك بينهما واقعا (٢) ، أو بواسطة (٣) ما لأجل وضوح

______________________________________________________

وإنما هو توسعة في نفس مفهوم «لا تنقض» وصدقه حقيقة على مورد خفاء الواسطة.

(١) هذا إشارة إلى المورد الثاني من الموارد الثلاثة المستثناة من عدم حجية الأصل المثبت ، ولم أعثر على من تعرض له قبل المصنف ، قال في حاشية الرسائل : «ويلحق بذلك ـ أي : خفاء الواسطة ـ جلاؤها ووضوحها فيما كان وضوحه بمثابة يورث الملازمة بينهما في مقام التنزيل عرفا ؛ بحيث كان دليل تنزيل أحدهما دليلا على تنزيل الآخر كما هو كذلك في المتضايفين ؛ لأن الظاهر : أن تنزيل أبوة زيد لعمر ومثلا يلازم تنزيل بنوة عمرو له ، فيدل دليل تنزيل أحدهما على تنزيل الآخر ولزوم ترتيب ما له من الأثر».

ومحصله : أن وضوح الواسطة وجلاءها إن كان بمثابة يمنع التفكيك بينهما وبين ذيها تنزيلا ، كما يمنع التفكيك بينهما واقعا كالمتضايفين ؛ كان التعبد بأحدهما تعبدا بالآخر ، فالتعبد بأخوة بكر في الرضاع مثلا لبشر الذي هو ولد بطني للمرضعة ملازم للتعبد بأخوة بشر لبكر وهكذا بسائر الأمور المتضايفة ، وقد أضاف المصنف الواسطة الجلية إلى الخفية.

ثم إن ما ذكره من الواسطة الجلية ينقسم إلى قسمين : الأول : ما أشار إليه بقوله : «ما لا يمكن التفكيك عرفا ...» الخ ، وهذا القسم يكون فيما إذا كان مورد الاستصحاب العلة التامة أو الجزء الأخير منها ؛ إذ كما لا تفكيك بين العلة ومعلولها واقعا ، كذلك لا تفكيك بينهما تنزيلا بنظر العرف.

(٢) قيد لقوله : «لا تفكيك» كما أن «تنزيلا» قيد لقوله : «لا يمكن التفكيك» يعني : أن الارتباط بين المستصحب والواسطة يكون بمثابة لا يمكن التفكيك بينهما لا واقعا ولا تنزيلا.

(٣) معطوف على قوله : «بوساطة» ، وهذا إشارة إلى القسم الثاني من الواسطة الجلية ، وهو يكون في موردين : أحدهما : لازم الشيء ، والآخر : ملازمه.

أما الأول : فكضوء الشمس ، فإذا جرى الاستصحاب في بقاء قرص الشمس في قوس النهار ترتب على لازمها ـ وهو الضوء ـ أثره الشرعي أعني : طهارة الأرض والحصر والبواري المجففة بضوئها ، فإن استصحاب بقاء الشمس ملازم لاستصحاب ضوئها الموجب لترتب أثره الشرعي وهو الطهارة المزبورة.

وكالجود بالنسبة إلى حاتم ، فإن استصحاب حياته والتعبد ببقائها يستلزم التعبد ببقاء

٣٦٨

لزومه له ، أو ملازمته (١) معه بمثابة عدّ أثره أثرا لهما ، فإن (٢) عدم ترتيب مثل هذا

______________________________________________________

جوده وترتيب الأثر الشرعي المترتب عليه. وكالفوت الذي هو لازم عدم الإتيان بالفريضة في الوقت ، فإن استصحاب عدم الإتيان بها في وقتها يوجب ترتب وجوب القضاء الذي هو الأثر الشرعي المترتب على الفوت ، إلى غير ذلك من النظائر. والفارق بين هذا القسم والقسم الأول المشار إليه بقوله : «بواسطة ما لا يمكن التفكيك عرفا» هو : امتناع التفكيك واقعا في الأول ، وإمكانه في الثاني ؛ لوضوح : عدم ملازمة الحياة للجود واقعا ؛ بحيث يستحيل انفكاكهما ، وإنما تكون الملازمة عرفية.

وأما الثاني : فهو على ما مثل له في حاشية الرسائل كالمتضايفين ، فإن تنزيل أبوة زيد لعمرو مثلا يلازم تنزيل بنوة عمرو له. وكذا سائر المتضايفات.

(١) هذا الضمير وضميرا «لزومه ، أثره» راجعة إلى الموصول المراد به الواسطة ، وقوله : «لزومه» ناظر إلى لوازم المستصحب ، و «ملازمته» ناظر إلى ملازماته ، وضميرا «له ، معه» راجعان إلى المستصحب ، وضمير «لهما» راجع إلى المستصحب ، والواسطة التي عبر عنها ب «ما» الموصول و «بمثابة» متعلق ب «وضوح» أي : «وضوح اللزوم أو الملازمة بمثابة ...» الخ.

وحاصل العبارة : «أو بوساطة واسطة عدّ أثرها لأجل وضوح لزومها للمستصحب ، أو ملازمتها معه أثرا للمستصحب أيضا». وكلمة «بمثابة» مستغنى عنها ظاهرا.

إلّا أن يقال : إن «مثابة» خبر ل «هو» المقدر العائد إلى «ما» الموصول فكأنه قيل : أو بواسطة ما هو بمثابة يعدّ أثره أثرا لهما لأجل وضوح لزومه ...» الخ. لكن العبارة على كل حال لا تخلو عن مسامحة.

(٢) الظاهر : أنه تعليل لترتيب أثر الواسطة الخفية والجلية على المستصحب ، بتقريب : أن النهي عن نقض اليقين بالشك ، كما يشمل أثر المستصحب بلا واسطة أصلا ، كذلك يشمل أثره بلا واسطة عرفا وإن كان هناك حقيقة كنجاسة أحد المتلاقيين مع رطوبة أحدهما ، فإن العرف يرى النجاسة من آثار الملاقاة مع الرطوبة ، وإن كانت هي بالدقة من آثار سراية شيء من أجزاء المتنجس إلى ملاقيه ؛ لكن المتبع في باب الاستصحاب هو النظر العرفي دون الدقي.

وعليه : ففي كل مورد يكون أثر الواسطة بنظر العرف أثرا للمستصحب يشمله إطلاق «لا تنقض اليقين بالشك» الثابت بمقدمات الحكمة ، فهذا الدليل بنفسه يثبت أثرا الواسطة باستصحاب ذيها ، وخفاء الواسطة وجلاؤها لزوما أو ملازمة للمستصحب منا شيء لكون أثر الواسطة أثرا له حتى يصح شمول «لا تنقض» له.

٣٦٩

الأثر (١) عليه يكون نقضا ليقينه بالشك أيضا (٢) بحسب (٣) ما يفهم من النهي عن نقضه عرفا ، فافهم (٤).

ثم لا يخفى (٥) : وضوح الفرق بين الاستصحاب وسائر الأصول التعبدية ، وبين

______________________________________________________

(١) أي : أثر الواسطة الجلية أو هي مع الخفية.

(٢) يعني : كما يكون عدم ترتيب أثر نفس المستصحب عليه نقضا ليقينه بالشك ، كذلك يكون عدم ترتيب أثر الواسطة المذكورة على المستصحب نقضا ليقينه بالشك ، وضمير «عليه» راجع إلى المستصحب.

(٣) متعلق بقوله : «نقضا» وإشارة إلى دفع ما توهم من أن التمسك بدليل الاستصحاب لترتيب آثار الواسطة الجلية ، أو التي لا يمكن التفكيك بينها وبين المستصحب حقيقة وتنزيلا يكون من باب المسامحة العرفية في التطبيق التي لا عبرة بها أصلا ، كما أشرنا إليه عند شرح قوله : «فافهم» فيما يتعلق بالواسطة الخفية.

(٤) الظاهر : أنه إشارة إلى أجنبية المقام عن المسامحات التطبيقية العرفية ، حيث إنه إن كان أثر الواسطة أثرا لنفس المستصحب عرفا بمعنى : توسعة العرف مفهوم موضوع الحكم ؛ بحيث يصدق على كل من المستصحب والواسطة ، فإطلاق «لا تنقض» الثابت بمقدمات الحكمة يقتضي ترتيب أثر الواسطة على المستصحب وإن لم يكن أثرا لنفسه ؛ لكن لا تنفك الواسطة عن المستصحب ، فوجه ترتيب أثرها على المستصحب هو تنزيل ثانوي التزامي يقتضيه التنزيل الأوّلي المطابقي. فعلى التقديرين : لا يكون ثبوت أثر الواسطة للمستصحب بسبب المسامحة العرفية التطبيقية حتى يتوهم عدم اعتباره.

في الفرق بين مثبتات الأمارات والأصول

(٥) حيث إن المشهور بين الأصوليين هو حجية مثبتات الأمارات ، دون مثبتات الأصول ، فلا بد من بيان الفرق بين الأمارة والأصل ، ثم بيان وجه حجية مثبتات الأمارة دون الأصل ويقال : إنه ما هو الفرق بين مثبتات الأصول ومثبتات الأمارات مع اشتراكهما في التعبد في المؤدى.

وأما بيان الفرق بينهما فنقول : إن كلماتهم في ذلك وإن كانت مختلفة ؛ إلّا إن المشهور بينهم في الفرق بينهما هو : أن الجهل بالواقع والشك فيه مأخوذ في موضوع الأصول دون الأمارات ، بل الموضوع المأخوذ في لسان أدلة حجية الأمارات هو نفس الذات بلا تقييد بالجهل والشك.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن في الحجج الشرعية ـ سواء كانت طرقا

٣٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى الأحكام الإلهية كأخبار الآحاد أم أمارات على الموضوعات مثل قيام البيّنة على موضوع خارجي كضوء الشمس أو غروبها ـ جهتين.

إحداهما : كشفها عن مدلولها ؛ لأن شأن كل أمارة كشفها عن مؤداها كشفا ناقصا ، والكاشف عن شيء كاشف عما لا ينفك عنه تصوره من ملزوماته ولوازمه وملازماته ؛ بحيث يدل عليه اللفظ تبعا لدلالته على معناه المطابقي ، فإن لفظ «الشمس» مثلا وإن وضع لنفس القرص ، لكنه يدل على ضوئها أيضا لما بينه وبين نفس الشمس من العلقة اللزومية الموجبة للدلالة التبعية المزبورة.

وبالجملة : الدلالة الناقصة في الطرق والأمارات بالنسبة إلى كل من المدلول المطابقي والالتزامي ثابتة.

ثانيتهما : إطلاق دليل الحجية الثابت بمقدمات الحكمة ، فإنه يدل على حجية الطرق والأمارات في جميع ما لهما من الدلالة المطابقية والتضمنية والالتزامية من دون تفاوت بينها ، فإذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ، ثم قامت البيّنة على نجاسة أحدهما المعين ، فقد دلت على لازمها أيضا وهو طهارة الإناء الآخر.

وهذا بخلاف الاستصحاب وغيره من الأصول العملية موضوعية كانت أم حكمية ، فإنه لا دلالة فيها بوجه على الملزوم ، فضلا عن اللازم حتى يدل دليل الاعتبار على حجيته ؛ كدلالته على حجية الملزوم ، فعليه : لا يقتضي دليل اعتبار الأصل إلّا التعبد بنفس المشكوك بترتيب الأثر الشرعي المترتب على نفسه دون الآثار الشرعية المترتبة على لوازمه وملزومه وملازماته ؛ لعدم دلالة عليها حتى يثبت اعتبارها بدليل حجية الأصل كثبوت اعتبارها في الحجج الشرعية الكشفية بدليل اعتبارها ، فاستصحاب حياة زيد لا يقتضي إلّا التعبد بالآثار الشرعية الثابتة للحياة الواقعية ، دون الآثار الشرعية المترتبة على لوازمها كالنمو ونبات اللحية مثلا ؛ إذ لم يدل على لوازم الحياة شيء حتى يقال بحجية هذه الدلالة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الجهة الأولى ـ وهي الكشف عن اللوازم ـ موجودة في الطرق ومفقودة في الأصول ، وهي التي أوجبت حجية مثبتات الأمارات دون الأصول ، ومع عدم ما يوجب الدلالة على وجود اللوازم في الأصول لا مقتضي لاعتبار مثبتاتها لتفرع الحكم على موضوعه ، والمفروض : عدم ما يدل على وجود الموضوع ، فإن الأصول إنما تحكم تعبدا بمفادها ، فإذا قال : «كل شيء طاهر» فليس معنى ذلك إلّا أن

٣٧١

الطرق والأمارات ، فإن (١) الطريق أو الأمارة حيث إنه كما يحكي (٢) عن المؤدى ويشير إليه ، كذا يحكي عن أطرافه من ملزومه ولوازمه وملازماته ، ويشير (٣) إليها ،

______________________________________________________

هذا الشيء طاهر ، وليس هناك علم بلازمه ولا تعبد بالنسبة إليه ، فلو كان لازم هذا الشيء نجاسته شيء آخر لم يكن دليل شرعي أو عقلي على ذلك اللازم ، ولذا لا يقال بترتيب ذلك اللازم على مجرد هذا الأصل.

وهذا بخلاف الطرق والأمارات ، فإنها جعلت كاشفة عن الواقع ، ففي كون خبر الواحد حجة أن مفاده هو الواقع ، كما أن معنى كون البيّنة حجة أن قولها هو الواقع ، فإذا قاما على شيء كان ذلك الشيء ثابتا ـ تعبدا ـ وكما أنه يترتب على ذلك الشيء لازمه وملازمه كذلك يترتب على وجوده التعبدي ، فلو دل الدليل على أن صلاة الظهر يوم الجمعة واجبة ، وهناك دليل آخر على أنه لا صلاتين في يوم واحد كان ذلك مقتضيا لعدم وجوب الجمعة ، فكما أنه لو علمنا بمفاد هذين الخبرين لم تجب الجمعة ، كذلك إذا كشف لنا الشارع عنهما بالتعبد.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الفرق بين مثبتات الأصول ومثبتات الأمارات.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) هذا شروع في بيان وجه الفرق بين الأصول العملية وبين الطرق والأمارات ، وقد مر توضيح ذلك مفصلا.

(٢) حكايته إنما هي لأجل دلالته على المؤدى ، وكشفه عنه ، والدلالة على الملزوم دلالة على اللازم ، فكما يحكي الطريق عن المؤدى مطابقة فكذلك يحكي عن لوازمه وملازماته وملزومه التزاما ، فالحكاية في الأمارة وإن كانت واحدة صورة لكنها تنحل إلى حكايات متعددة لبّا بحسب ما للمحكي من الملزوم واللازم والملازم.

وعليه : فيشمل دليل اعتبار الخبر كل واحدة من هذه الحكايات.

وضمائر «إليه ، أطرافه ، ملزومه ، لوازمه ، ملازماته» راجعة إلى «المؤدى» ، والأولى تأنيثها ، لرجوعها إلى المؤنث وهو «الأمارة والطريق» التي هي أيضا مؤنث مجازي.

(٣) معطوف على «يحكي» ، وضمير «إليها» راجع إلى «أطرافه» ، والمراد بحكاية الطريق كما قيل هو دلالتها على المؤدى وكشفها عنه ، لا ظاهره حتى يرد عليه : أنه ربما لا يكون المخبر ملتفتا إلى لوازم المؤدى ، ومع عدم الالتفات كيف يحكي عنها ؛ إلّا إن تفسير الحكاية بالدلالة خلاف الظاهر.

وقوله : «كان مقتضى إطلاق ...» الخ جواب : «حيث» وإشارة إلى الجهة الثانية

٣٧٢

كان مقتضى إطلاق دليل اعتبارها لزوم تصديقها في حكايتها ، وقضيته (١) حجية المثبت منها كما لا يخفى. بخلاف (٢) مثل دليل الاستصحاب ...

______________________________________________________

المذكورة في المقدمة. كما أن قوله : «حيث إنه كما يحكي عن المؤدى ويشير إليه» إشارة إلى الجهة الأولى المذكورة في المقدمة أيضا. وضمائر «اعتبارها ، تصديقها ، حكايتها» راجعة إلى «الطريق أو الأمارة».

(١) يعني : ومقتضى لزوم تصديق الأمارة الحاكية عن أطراف مؤداها من ملزومه ولوازمه وملازماته هو حجية مثبتات الأمارة ؛ إذ المفروض : أنها تدل على جميعها وتحكي عنها كما تحكي عن نفس مؤداها ، وحيث إن دليل اعتبارها مطلق لعدم ما يوجب تقييده من القدر المتيقن في مقام التخاطب وغيره ـ وهو يدل على اعتبارها من حيث الكشف والطريقية ـ فلا محالة تكون حجة في كل ما ينكشف بها من أطراف مؤداها من الملزوم واللازم والملازم ، سواء اعتقد المخبر بالأمارة باللزوم أم لا. فإذا أخبرت البيّنة بولادة المرأة الفلانية في تاريخ كذا ، وانقضى من ذلك التاريخ إلى زمان شهادتها خمسون سنة ثبت لازمها وهو يأسها إذا كانت غير قرشية وإن لم تلتفت البيّنة إلى هذا اللازم ، ويترتب على هذا اللازم عدم وجوب العدّة إذا طلّقت ، وجواز تزويجها بعد الطلاق بلا فصل.

(٢) يعني : بخلاف دليل الاستصحاب وغيره من الأصول العملية ، فإنه يفارق دليل الأمارة من حيث إن الأمارة لما كانت حاكية عن جميع مداليلها المطابقية والتضمنية والالتزامية كان مقتضى إطلاق دليل حجيتها اعتبار جميعها ؛ إذ المفروض : فعلية دلالتها على الجميع ، وعدم مانع عن إطلاق دليل حجيتها وأما دليل الاستصحاب وغيره من الأصول العملية فلا يقتضي حجيتها في لوازمها ؛ إذ المفروض : عدم دلالة الأصول على مؤدياتها وكشفها عنها حتى تدل على لوازم مؤدياتها وتشملها أدلة الأصول ، فتنزيل الحياة المشكوكة بسبب الاستصحاب عبارة عن التعبد بالأثر الشرعي المترتب على نفس الحياة ، دون آثار لوازمها كنبات اللحية والبلوغ خمسين سنة مثلا ؛ لأن التعبد بأحكام اللوازم منوط بإحراز موضوعها أعني : نفس اللوازم إما وجدانا وإما تعبدا ، وكلاهما مفقود.

أما الأول : فواضح. وأما الثاني : فلأن مورد التعبد الاستصحابي هو نفس الحياة ؛ لأنها المعلومة حدوثا المشكوكة بقاء ، والتعبد بها لا يقتضي إلّا التعبد بالحكم الشرعي المترتب على نفسها دون غيرها وإن كان من لوازمها كما هو واضح.

التعبير بالمثل في قوله : «مثل دليل الاستصحاب» إشارة إلى عدم اختصاص عدم

٣٧٣

فإنه (١) لا بد من الاقتصار بما فيه من الدلالة على التعبد بثبوته (٢) ، ولا دلالة له إلّا على التعبد بثبوت المشكوك بلحاظ أثره (٣) ، حسبما عرفت (٤) ، فلا (٥) دلالة له على اعتبار المثبت منه كسائر الأصول التعبدية ؛ إلّا (٦) فيما عدّ أثر الواسطة أثرا له ، لخفائها أو شدة وضوحها وجلائها حسبما حققناه.

______________________________________________________

حجية الأصل المثبت بالاستصحاب ، وأن أدلة سائر الأصول العملية كدليل الاستصحاب لا تقتضي اعتبار مثبتات الأصول.

(١) هذا بيان ما يقتضيه الاستصحاب ، يعني : فلا بد من الاقتصار على ما يدل عليه دليل الاستصحاب من التعبد بالمشكوك بلحاظ أثر نفسه بلا واسطة ؛ لأنه مورد التعبد والتنزيل ، فلا بد من الاقتصار على أثر نفس المستصحب دون غيره من لوازمه وملزوماته وملازماته.

(٢) الأولى أن يقال : «بثبوت المشكوك ، ولا دلالة إلّا على التعبد بثبوته بلحاظ أثره» ، حتى يكون مرجع ضمير «ثبوته» مذكورا في الكلام ، فحق العبارة أن تكون هكذا «فإنه لا بد من الاقتصار بما فيه من الدلالة على التعبد بثبوت المشكوك ، ولا دلالة له إلّا على التعبد بثبوته بلحاظ أثره».

(٣) هذا الضمير وضمير «ثبوته» راجعان إلى المشكوك المستفاد من العبارة ، ولو قال : «بلحاظ أثر نفسه» كان أنسب بقوله : «ولا دلالة إلّا على التعبد ...» الخ ، وضمير «فيه» راجع إلى «دليل» ، و «من الدلالة» بيان للموصول في «بما فيه» ، وضمير «له» راجع إلى «دليل الاستصحاب».

(٤) حيث قال : «والتحقيق : أن الأخبار إنما تدل على التعبد بما كان على يقين منه فشك بلحاظ ما لنفسه من آثاره ...» الخ.

(٥) هذه نتيجة ما تقدم من عدم دلالة دليل الاستصحاب إلّا على التعبد بالمشكوك ، فإن لازم هذا التعبد الاقتصار على الحكم الشرعي المترتب على نفس المستصحب دون غيره وإن كان ذلك لازما أو ملزوما أو ملازما له ؛ لاختصاص التعبد والتنزيل بما تعلق به اليقين والشك. وضمير «له» راجع إلى «دليل» ، وضمير «منه» إلى الاستصحاب.

(٦) استثناء من قوله : «فلا دلالة له» يعني : فلا دلالة لدليل الاستصحاب على اعتبار المثبت منه إلّا في الواسطة التي عد أثرها لخفائها أو جلائها أثرا للمستصحب ، فحينئذ يكون دليل الاستصحاب دليلا على اعتبار المثبت منه بالتقرير المتقدم. وضمائر «لخفائها ، وضوحها ، جلائها» راجعة إلى الواسطة ، وضمير «له» إلى «المشكوك».

٣٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فتلخص من جميع ما تقدم : أن المصنف «قدس‌سره» ينكر حجية الأصل المثبت إلّا في موردين ، أحدهما : خفاء الواسطة وهو الذي يقوله به الشيخ «قدس‌سره» أيضا.

ثانيهما : جلاء الواسطة ، وله صورتان ، إحداهما : أن يكون مورد التعبد الاستصحابي العلة التامة أو الجزء الأخير منها.

ثانيتهما : أن يكون مورد التعبد الاستصحابي من الأمور المتضايفة ، وقد تقدم توضيح ذلك كله.

هذا تمام الكلام في التنبيه السابع.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ الغرض من عقد هذا التنبيه السابع هو : البحث عن حجية الأصل المثبت.

وأما بيان ما هو محل الكلام : فلا خلاف في حجية الاستصحاب فيما إذا كان المستصحب حكما شرعيا ، أو موضوعا ذا أثر شرعي ، وإنما الكلام فيما إذا كان المستصحب موضوعا ذا أثر عقلي أو عادي يترتب عليه الأثر الشرعي بواسطة الأثر العقلي أو العادي ويسمى هذا الأصل بالأصل المثبت.

٢ ـ ومنشأ هذا الخلاف : هو مفاد الأخبار ؛ إذ فيه احتمالات.

توضيح ذلك : أنه لا شك في أن مفاد الأخبار عبارة عن تنزيل المشكوك بمنزلة المتيقن بلحاظ ما للمتيقن من الآثار وهي على أقسام ، وفيما هو المراد منها احتمالات :

الأول : أن يكون المراد منها هو الأثر الشرعي بلا واسطة فقط.

الثاني : أن يكون المراد منها جميع الآثار عقلية أو عادية أو شرعية. ثم الشرعية بلا واسطة أو معها.

الثالث : أن يكون المراد منها هو مطلق الأثر الشرعي بلا واسطة أو معها.

ثم الحق أن المراد هو الاحتمال الأول دون الأخيرين.

فيكون مفاد الأخبار : تنزيل المشكوك منزلة المتيقن كي يترتب على المشكوك الأثر الشرعي الذي لا واسطة له أصلا ، ولازم ذلك : عدم حجية الأصل المثبت وهو ما يترتب على المستصحب الأثر الشرعي بواسطة الأثر العقلي أو العادي.

٣ ـ الإشكال في أن الاستصحاب كما يثبت به نفس المستصحب ويترتب عليه

٣٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الأثر الشرعي كحرمة التصرف في المال في استصحاب الحياة ، فهل يثبت به لوازم المستصحب كنبات اللحية في استصحاب حياة زيد حتى يترتب عليه آثاره الشرعية من حرمة حلقها واستحباب تسريحها أم لا يثبت؟

فالمتحصل : أنه إذا كان للمستصحب لازم عقلي أو عادي ؛ وكان لذلك اللازم أثر شرعي ، فهل يترتب ذلك الأثر الشرعي على مجرد استصحاب ملزومه أم لا؟ فمن يقول بحجية الأصل المثبت يقول : نعم ، ومن قال بعدمها بقول : لا ، والمشهور عدمها.

٤ ـ المصنف ممن يقول بعدم حجية الأصل المثبت ؛ لكن استثنى موارد ثلاثة :

المورد الأول : ما إذا كانت الواسطة خفية ؛ بحيث يعد أثر الواسطة الشرعي أثرا للمستصحب عرفا بلا واسطة ؛ كاستصحاب رطوبة الثوب الملاقي لأرض متنجسة وجافة لإثبات نجاسة الثوب الملاقي لها ، فإن النجاسة ليست أثرا بلا واسطة ؛ بل بواسطة سراية النجاسة من المتنجس إلى الملاقي ، فالسراية واسطة عقلية بين المستصحب وهي الرطوبة ، وبين النجاسة التي هي أثر السراية ؛ لكنه يترتب على المستصحب بدعوى خفاء الواسطة ؛ بحيث يرى العرف نجاسة الثوب من آثار ملاقاته مع الرطوبة للأرض المتنجسة لا من آثار السراية.

٥ ـ المورد الثاني والثالث هو : جلاء الواسطة ووضوحها فيما إذا كان الوضوح بمثابة يورث الملازمة بينهما في مقام التنزيل عرفا ؛ بحيث كان دليل تنزيل أحدهما دليلا على تنزيل الآخر كما هو كذلك في المتضايفين هذا هو المورد الثاني ، والعلة التامة ومعلولها هذا هو المورد الثالث.

فإن جلاء الواسطة في هذين الموردين يمنع التفكيك بينها وبين ذيها تنزيلا ، كما لا يمكن التفكيك بينهما واقعا.

٦ ـ الفرق بين مثبتات الأصول ومثبتات الأمارات ، حيث تكون الثانية حجة دون الأولى.

وخلاصة الفرق بينهما : أن الدلالة في الأمارات بالنسبة إلى كل من المدلول المطابقي والالتزامي ثابتة ، وإطلاق دليل حجيتها يدل على حجيتها في جميع ما لها من الدلالة المطابقية والالتزامية من دون تفاوت بينهما ، فإذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ، ثم قامت البينة بنجاسة أحدهما المعين ، فقد دلت على لازمها أيضا وهو طهارة الإناء الآخر.

هذا بخلاف الاستصحاب وغيره من الأصول العملية ، فإنه لا دلالة فيها بوجه على

٣٧٦

الثامن (١) : أنه لا تفاوت في الأثر المترتب على المستصحب بين أن يكون مترتبا

______________________________________________________

الملزوم فضلا عن اللازم حتى يدل دليل الاعتبار على حجيته كدلالته على حجية الملزوم.

فاستصحاب حياة زيد لا يقتضي إلّا التعبد بالآثار الشرعية الثابتة للحياة الواقعية ، دون الآثار الشرعية المترتبة على لوازمها كالنمو ونبات اللحية مثلا ؛ إذ لم يدل على لوازم الحياة شيء حتى يقال بحجية هذه الدلالة.

٧ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو عدم حجية الأصل المثبت إلّا في موردين أحدهما : خفاء الواسطة ، والآخر : جلاؤها.

في الموارد الثلاثة التي توهم كون الأصل فيها مثبتا

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه الثامن : دفع توهم مثبتية الأصل في موارد ثلاثة :

وقبل الخوض في توضيح هذه الموارد نقول : إن بحث الأصل المثبت في التنبيه السابع كان كبرويا بمعنى : أنه كان البحث في حجية الأصل المثبت فيقال : هل الأصل المثبت حجة أم لا؟

وقد ثبت في التنبيه السابع أنه ليس بحجة ، ثم بحث الأصل المثبت في هذا التنبيه الثامن يكون صغرويا ، وهذا البحث الصغروي ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

القسم الأول : ما لا يكون الأصل فيه مثبتا بالاتفاق ؛ كما إذا كان المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا ذا حكم شرعي.

القسم الثاني : ما يكون الأصل فيه مثبتا بالاتفاق ؛ كما إذا كان الأثر الشرعي مترتبا على المستصحب بواسطة الأثر العادي أو العقلي.

القسم الثالث : ما وقع النزاع في كون الأصل الجاري فيه من الأصل المثبت ، وهي ثلاثة موارد وقع النزاع بين الشيخ وصاحب الكفاية في كون الأصل الجاري فيها من الأصل المثبت.

وقبل البحث تفصيلا في هذه الموارد الثلاثة نقول : إنه قد ظهر من مباحث التنبيه السابع أمران :

أحدهما : أن مفاد أدلة الاستصحاب إنشاء حكم مماثل للمستصحب في استصحاب الأحكام ومماثل لأحكامه في استصحاب الموضوعات ، سواء ترتب الأثر على المستصحب بلا وساطة شيء كاستصحاب عدالة زيد ليترتب عليه جواز الاقتداء به ، أم بواسطة أثر شرعي كاستصحاب طهارة الماء لترتيب أثره الشرعي عليه ، وهذا أعم من

٣٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ترتبه عليه بلا واسطة ؛ كجواز الوضوء به ، أو بواسطة أثر شرعي ؛ كجواز الدخول في الصلاة المترتب على صحة وضوئه ، وهكذا ، فالأصل هنا ليس مثبتا بالاتفاق ، فهنا كبرى كلية سلبية وهي عدم كون الأصل مثبتا بالاتفاق.

ثانيهما : أن الأثر الشرعي المترتب على المستصحب بواسطة لازمه أو ملازمه أو ملزومه أو مقارنه ـ فيما عدا خفاء الواسطة أو جلائها ـ لا يترتب عليه لعدم اعتبار الأصول المثبتة كما تقدم ، والأصل هنا مثبت بالاتفاق ، فتكون هناك كبرى كلية إيجابية وهي كون الأصل مثبتا بالاتفاق.

وبعد وضوح حكم هاتين الكبريين قد وقع النزاع في بعض المقامات من جهة صغرويته للكبرى الثانية ؛ حتى لا يجري فيها الاستصحاب لكونه مثبتا ، أو للكبرى الأولى حتى يجري فيها الاستصحاب لعدم كونه مثبتا.

وكيف كان ؛ فقد ذكر المصنف في هذا التنبيه موارد ثلاثة يتوهم كون الأصل فيها مثبتا.

الأول : الأصل الجاري في الموضوعات الخارجية لإثبات الأثر الشرعي لها.

الثاني : الأصل الجاري في الشرط ونحوه لإثبات الشرطية.

الثالث : الأصل الجاري في عدم استحقاق العقوبة لإثبات البراءة.

وأما المورد الأول ـ وهو جريان الاستصحاب في الفرد لإثبات الحكم المتعلق بالكلي له ـ فهو على قسمين :

الأول : أن يكون اللازم العادي أو العقلي متحدا مع المستصحب وجودا.

الثاني : أن يكون مباينا ومغايرا له في الوجود ، فقد قال الشيخ : بعدم الفرق بين القسمين في مثبتية الأصل ، فالأصل مثبت في كلا القسمين ، والمصنف دفع هذا التوهم ، وقال بالتفصيل وهو الفرق بين كون الواسطة متحدة وجودا مع المستصحب ، فلا يكون الأصل مثبتا وبين كونها مغايرة له وجودا ، فيكون الأصل مثبتا.

وتوضيح ما أفاده المصنف من التفصيل يتوقف على مقدمة وهي بيان أمرين :

الأول : أن يكون المحمول ذاتي الموضوع وحقيقته التي هي جنسه وفصله ، وهي الذاتي في باب الإيساغوجي كحمل «الحيوان الناطق» على الإنسان.

الثاني : أن يكون المحمول عنوانا مشتقا من مبدأ قائم بذات الموضوع ومنتزع عن نفس ذاته ؛ بأن يكفي ذاته في انتزاعه ، من دون حاجة إلى ضم ضميمة كالإمكان الذي ينتزع

٣٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

من ذات الإنسان مثلا ، ويحمل ما يشتق منه عليه فيقال : «الإنسان ممكن» وكذا الزوجية ونحوها من لوازم الماهيات ، فيقال : «الأربعة زوج» ، فإن ذات الإنسان كافية في انتزاع الإمكان له ، وكذا ذات الأربعة لانتزاع الزوجية منها ، وهذا المحمول هو الذاتي البرهاني المغاير للذاتي الإيساغوجي ، حيث إن إمكان الممكن أمر اعتباري ، وليس مقوما ، بخلاف الذاتي الإيساغوجي ، فإنه مقوّم.

الثالث : أن يكون المحمول عنوانا مشتقا من مبدأ قائم بالموضوع قياما انضماميا أي : من دون أن يكون المبدأ ذاتيا برهانيا ولا إيساغوجيا للموضوع ، وهو إما لا وجود له في الخارج كالعلم والعدالة والملكية والزوجية والأبوة وجميع الأمور الاعتبارية ، ونحوها من الأمور الانتزاعية كالفوقية والتحتية.

وإما له وجود في الخارج ؛ كالسواد والبياض ونحوهما من الأعراض الخارجية المنضمة إلى الأجسام الموجودة ، فإن مفاهيم هذه العناوين الاشتقاقية كالعالم والعادل والأسود والأبيض ونظائرها ليست منتزعة عن نفس الذوات كالإمكان ؛ بل منتزعة عنها بانضمام مبادئ الاشتقاق من المصادر الأصلية ؛ كالعلم والعدل والسواد والبياض ، أو المصادر الجعلية ؛ كالحرية والرقية والزوجية ونحوها.

وثانيهما : أن بعض أهل العقول اصطلح على بعض المحمولات بالخارج المحمول ، وعلى بعضها بالمحمول بالضميمة ، والأول هو : الأمور الانتزاعية المحمولة على المعروض بعد انتزاعها من حاق الذات وصميمها كعوارض الماهية ، والثاني هو : الأمر المتأصل المحمول على المعروض بضميمة الوجود ، أو بواسطته كعوارض الوجود كالأسود والأبيض في الأجسام ؛ ولكن ليس مقصود المصنف من هذين الاصطلاحين مفهومهما عند أهل المعقول ؛ بل مراده بالخارج المحمول هو مطلق الأمور الاعتبارية ؛ لا خصوص ما ينتزع عن حاق الشيء كإمكان الإنسان ؛ بل يشمل الأعراض التي ليس لها ما يحاذيها في الخارج ؛ كالعدالة والعلم ونحوهما من الاعتبارات على ما حكى المحقق المشكيني عن مجلس درس المصنف.

إذا عرفت هذين الأمرين ، فاعلم : أن نقطة الخلاف بين الشيخ والمصنف «قدهما» : أن الشيخ حكم يكون الأصل مثبتا في جميع الاحتمالات المذكورة في الأمر الأول ، وقال : بعدم جريان استصحاب الفرد وإجراء أحكام الكلي عليه في جميع الأقسام الثلاثة المذكورة في الأمر الأول. والمصنف فصل بين القسمين الأوّلين والقسم الثالث ، حيث

٣٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

حكم بكون الأصل مثبتا في القسم الثالث دون القسم الأول والثاني ؛ وذلك لتغاير الواسطة مع المستصحب في القسم الثالث دون القسم الأول والثاني ، فإن الواسطة متحدة مع المستصحب وجودا فيهما.

والملاك في مثبتية الأصل عند المصنف : أن تكون الواسطة مغايرة وجودا للمستصحب ؛ كالسواد والبياض ونحوهما من المحمولات بالضميمة التي لها ما بإزاء في الخارج ؛ وإن كانت قائمة بمعروضاتها ، فإن كان لسواد الجسم مثلا أثر شرعي لا يترتب على استصحاب الجسم أثر سواده.

وحاصل الكلام في المقام : أن مورد الأصل المثبت عند المصنف هو ما إذا كانت بين المستصحب والواسطة مغايرة وجودا. وأما إذا كان بينهما اتحاد وجودي ؛ بحيث تحمل الواسطة على المستصحب بالحمل الشائع لم يكن الاستصحاب لترتيب أثر الواسطة على المستصحب من الأصل المثبت أصلا ، ضرورة : أن متعلق الحكم على ما ثبت في محله وإن كان هو الكلي ؛ لكنه بلحاظ وجوده ، لعدم قيام الملاكات الداعية إلى تشريع الأحكام بالطبائع بما هي هي ؛ بل بلحاظ وجودها ، ومن المعلوم : أن الكلي موجود بعين وجود فرده ، سواء كان منتزعا عن ذات الفرد كالإنسان المنتزع عن زيد مثلا ، أم منتزعا عن اتصافه بعوارض ليس لها ما بإزاء في الخارج ؛ بل هي متحدة وجودا مع معروضها كالعالم والعادل ونحوهما من العناوين الاشتقاقية التي لا يكون لمبادئها ما يحاذيها في الخارج.

وعليه : فإذا شككنا في بقاء مائع على خمريته ، فاستصحاب خمريته لترتيب حرمة طبيعة الخمر عليه ليس مثبتا. وكذا استصحاب عدالة زيد مثلا لترتيب آثار طبيعة العادل عليه ليس مثبتا.

هذا كله بناء على تعلق الأحكام بالطبائع. وأما بناء على تعلقها بالأفراد فالأمر أوضح ؛ لكون الفرد بخصوصيته موضوع الحكم ، من دون حاجة في إثبات الحكم له إلى انطباق الطبيعي عليه.

ونتيجة البحث في المورد الأول : هي كون الأصل مثبتا عند الشيخ نظرا إلى وجود الواسطة وهي الكلي ؛ لأن الحكم للفرد إنما هو بواسطة الكلي ، وليس الأصل مثبتا عند المصنف نظرا إلى اتحاد الواسطة مع المستصحب وجودا ؛ لأن الكل لا يعدّ لازما عقليا للفرد كي يكون الاستصحاب من الأصل المثبت ، بل هو عين الفرد وجودا ومتحد معه خارجا ، فلا يكون الأصل مثبتا. هذا تمام الكلام في المورد الأول من الموارد الثلاثة.

٣٨٠