دروس في الكفاية - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

صح استصحاب أحكامه المعلقة ؛ لعدم (١) الاختلال بذلك فيما اعتبر في قوام الاستصحاب من (٢) اليقين ثبوتا (٣) والشك بقاء.

وتوهم (٤) : أنه لا وجود للمعلق قبل وجود ما علق عليه فاختل أحد ركنيه فاسد ؛

______________________________________________________

نشوء الشك في بقاء هذا الحكم المعلق على التغير الطارئ على الموضوع وهو العنب.

(١) تعليل لقوله : «صح استصحاب أحكامه المعلقة» ، والمشار إليه بقوله : «بذلك» هو التعليق يعني : لعدم الاختلال بسبب التعليق.

توضيحه : أن أركان الاستصحاب من اليقين بالثبوت والشك في البقاء ووجود الأثر الشرعي موجودة في الشك في الأحكام المعلقة ؛ كوجودها في الأحكام المطلقة بناء على صحة جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية ، والوجه في اجتماع أركانه هنا هو : أن للحكم المعلق على وجود شرط مفقود أو على فقد مانع موجود نحو وجود لم يثبت لحكم موضوع آخر مثلا ليس للتمر حكم الحرمة إذا غلى ، ويصدق عليه أنه فاقد للحرمة على تقدير الغليان.

بخلاف العنب فإنه واجد للحرمة على هذا التقدير ، واليقين بهذا الحكم المشروط والشك في بقائه مما يصدق عليه اليقين بشيء والشك فيه ، فيشمله عموم أو إطلاق دليل الاستصحاب. ولا دليل على اعتبار فعلية الحكم المتيقن ؛ بحيث تقدح تعليقيته في الاستصحاب.

وبالجملة : فالمقتضي لجريان الاستصحاب التعليقي موجود ، والمانع مفقود ، حيث إن ما ذكروه مانعا ليس صالحا للمانعية.

(٢) بيان ل «ما» الموصول ، فقوام الاستصحاب هو اليقين بالوجود والشك في البقاء.

(٣) التعبير بالثبوت دون الوجود للتعميم لجميع المستصحبات حتى العدمية ، حيث إن لها نحو تقرر.

وبالجملة : مختار المصنف «قدس‌سره» هو ما نسب إلى المشهور من حجية الاستصحاب التعليقي خلافا لجماعة.

(٤) إشارة إلى استدلال المنكرين لحجية الاستصحاب التعليقي استدلوا بوجوه ؛ يرجع بعضها إلى عدم المقتضي للاستصحاب وبعضها إلى وجود المانع عنه ، وتقدم تقريب هذه الوجوه مع الجواب ، فلا حاجة إلى إعادتها وتكرارها.

وهذا التوهم إشارة إلى ما هو منقول عن المناهل من الإشكال على الاستصحاب التعليقي. وحاصله : أنه لا بد في الاستصحاب من اليقين بوجود شيء والشك في بقائه ،

٣٢١

فإن المعلق قبله إنما لا يكون موجودا فعلا (١) لا أنه لا يكون موجود أصلا ...

______________________________________________________

والأول منتف في المقام ؛ إذ لا وجود للمعلق قبل وجود ما علق عليه ، فاختل أحد ركني الاستصحاب وهو اليقين بالثبوت.

وقد أجاب صاحب الكفاية عن هذا التوهم بقوله : «فاسد».

توضيح الفساد : يتوقف على مقدمة وهي : أن وجود كل شيء بحسبه ؛ لأن الوجود على أقسام ؛ كوجود الواجب ، ووجود الممكن. ثم وجود الممكن على أقسام ؛ كوجود مادي ، ووجود مجرد ، ووجود بالفعل ، ووجود بالقوة.

ومن أقسام وجود الممكن هو الوجود المنجز والوجود المعلق.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الوجود المعلق نحو وجود وهو موجود قبل وجود المعلق عليه على نحو التعليق ؛ لا أنه ليس بموجود أصلا فيقال : إن الحرمة التعليقية كانت موجودة قبل تحقق الشرط وهو الغليان على نحو التعليق ، فتستصحب عند الشك في بقائها عند عروض حالة على الموضوع كعنوان الزبيبية على العنب ؛ إذ لا يعتبر في الاستصحاب إلا اليقين بحدوث شيء والشك في بقائه ، وهذا موجود في الحكم المعلق.

فقوله : «فاسد» خبر «توهم» ودفع له ومحصله : أنه يعتبر في الاستصحاب الوجودي أن يكون المستصحب موجودا في الوعاء المناسب له من الخارج أو الاعتبار ، ومن الفعلي والإنشائي ، ولا يعتبر خصوص الوجود الفعلي في كل استصحاب ، فإذا كان المستصحب موجودا إنشائيا ، وكانت فعليته منوطة بشرط غير حاصل وشك في بقائه بسبب طروء حالة على موضوعه جاز استصحابه لكون الوجود الإنشائي من الموجودات الاعتبارية المشروطة التي يصح استصحابها إذا شك في بقائها ، ويشهد بكون الحكم المعلق موجودا جواز نسخها وإبقائها في لسان الدليل.

وبالجملة : فالوجود المعلق لا يعد معدوما ، ولذا يصح أن يقال : إن الحرمة المعلقة على الغليان ثابتة لماء العنب وغير ثابتة لماء الرمان وغيره من مياه الفواكه.

وافتقار الحكم التعليقي من التكليفي والوضعي إلى إنشاء من بيده الاعتبار أقوى شاهد على أن له خطا من الوجود في مقابل عدمه المطلق ؛ إذ لو لم يوجد شيء بالإنشاء ولم ينتقض به العدم كان الإنشاء لقلقة اللسان.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) يعني : أن المنفي قبل وجود المعلق عليه كالغليان إنما هو الوجود الفعلي أي : غير المشروط بشيء دون مطلق الوجود ولو بنحو التعليق والاشتراط ، كما هو مقتضى

٣٢٢

ولو (١) بنحو التعليق.

كيف (٢)؟ والمفروض (٣) : أنه مورد فعلا للخطاب بالتحريم مثلا أو الإيجاب ، فكان (٤) على يقين منه قبل طروء الحالة ، فيشك فيه بعده ، ولا يعتبر (٥) في

______________________________________________________

الوجوب والحرمة المشروطين بشرط على ما هو ظاهر الخطابات المشروطة ، ومختار المصنف «قدس‌سره» كما تقدم في الواجب المشروط.

وضمير «قبله» راجع إلى «وجود ما علق عليه» ، وضمير «أنه» راجع على «المعلق» المراد به الحكم.

(١) كلمة «لو» وصلية وقيد للمنفي ، يعني : لا أن الحكم المعلق ليس له حظ من الوجود أصلا حتى الوجود التعليقي.

(٢) غرضه : إقامة الشاهد على كون الحكم المعلق موجودا لا معدوما يعني : كيف لا يكون للحكم المعلق وجود أصلا ، مع وضوح تعلق الخطاب به بمثل قوله : «ماء العنب إذا غلى يحرم» ، فبهذا الخطاب ينشأ الحكم التحريمي معلقا على الغليان ، ومن المعلوم : أن المنشأ قبل الإنشاء معدوم ، فلو لم يوجد بالإنشاء كان الإنشاء لغوا. نعم ؛ الموجود به وجود معلق ، وهو في وعاء الاعتبار نحو وجود ، وإذا تعلق اليقين والشك بهذا النحو من الوجود صار من صغريات كبرى الاستصحاب فيشمله دليله.

(٣) أي : أن الحكم المعلق يعني : والمفروض : أن الحكم المعلق مورد فعلا للخطاب الإنشائي بالتحريم كالحرمة المعلقة على الغليان ، أو إنشاء الملكية لشخص بعد موت الموصي ، فإن الملكية الفعلية للموصى له غير حاصلة ؛ لكن الملكية المعلقة على موت الموصى موجودة في وعاء الاعتبار ، وربما توجب هذه الملكية المعلقة اعتبارا ووجاهة للموصى له عند العقلاء لم تكن له هذه الوجاهة قبل الوصية.

(٤) بعد أن بيّن أن للحكم المعلق على وجود شرط نحو وجود وليس من المعدوم المطلق أراد أن يذكر كيفيّة جريان الاستصحاب فيه ، وقال : إنه كان على يقين من الحكم المعلق قبل طروء الحالة كالزبيبية على العنب ، فيشك في ذلك الحكم المعلق بعد عروض تلك الحالة ، فضميرا «منه ، فيه» راجعان إلى «المعلق» ، ويمكن رجوعهما إلى الخطاب بالتحريم مثلا أو الإيجاب ، تحفظا على إرجاع الضمير إلى القريب ، وإلا فالمفاد واحد.

وضمير «بعده» راجع إلى «طروء».

(٥) يعني : ولا يعتبر في صدق الاستصحاب غير اليقين بثبوت شيء والشك في بقائه ، وذلك موجود في المقام ، لليقين بالحكم المعلق على أمر غير حاصل ، والشك في بقائه لتغير حال من حالات الموضوع.

٣٢٣

الاستصحاب إلا الشك في بقاء شيء كان على يقين من ثبوته. واختلاف (١) نحو ثبوته لا يكاد يوجب تفاوتا في ذلك (٢).

وبالجملة : يكون الاستصحاب متمما لدلالة الدليل (٣) على الحكم فيما أهمل أو

______________________________________________________

فغرضه من قوله «قدس‌سره» : «ولا يعتبر في الاستصحاب» تطبيق ما يعتبر في الاستصحاب من اليقين والشك في البقاء في المقام ، وأن المقتضي لجريان الاستصحاب في الحكم التعليقي موجود كالحكم الفعلي ، واختلاف كيفية ثبوت الحكم ووجوده من حيث الفعلية والتعليقية ليس مانعا عن جريان الاستصحاب في الأحكام المعلقة ، فإن وجود كل شيء بحسبه.

(١) إشارة إلى ما ذكرناه من عدم مانعية تعليقية الحكم عن جريان الاستصحاب التعليقي ، وأن اختلاف نحو ثبوت الحكم من حيث الفعلية والتعليقية لا يوجب تفاوتا في أركان الاستصحاب ، وضمير «ثبوته» في الموضعين راجعان إلى «شيء».

(٢) أي : في اليقين والشك اللذين هما ركنا الاستصحاب. وفي المقام تطويل في الكلام تركناه رعاية للاختصار.

(٣) بعد إثبات جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي كجريانه في الحكم الفعلي نبّه على فائدة جريان الاستصحاب في جميع الموارد ومنها المقام ، ومحصله : أنه إذا ثبت حكم مطلق أو مشروط لموضوع فاقد لإطلاق يشمل جميع حالاته ، وشك في ثبوت ذلك الحكم لبعض حالاته المتبادلة ، كان الاستصحاب متمما لقصور دلالة الدليل ومثبتا للحكم في ظرف عدم دلالة دليله ، فالاستصحاب متمم شمولي لدلالة الدليل الاجتهادي المثبت لحكم لا يكون لدليله إطلاق يشمل جميع حالات الموضوع ، فالاستصحاب بمنزلة إطلاق الدليل في إثبات الحكم الثابت بالدليل الاجتهادي لموضوع في الجملة لذلك الموضوع في حالاته المتبادلة.

وعلى هذا : فالحرمة المعلقة على غليان ماء العنب لو شك فيها ـ لأجل تبدل حال العنبية بالزبيبية وفرض عدم دلالة دليل الحرمة على شمول الحكم لحال الزبيبية ـ يجري فيها الاستصحاب ، كما يجري في أحكامه المطلقة كالملكية وجواز الأكل وغيرهما من الأحكام الفعلية لو فرض شك فيها لطروء حال كالزبيبية على العنب.

ولا يخفى : أن ما أفاده بقوله : «وبالجملة» كان مما لا بد منه لإثبات حجية الاستصحاب في الأحكام المعلقة ، وقد نبّه عليه في حاشية الرسائل أيضا بعنوان مقدمة الاستدلال ، ولم يتعرض له الشيخ «قدس‌سره» ، ولعله لوضوح الأمر.

٣٢٤

أجمل (١) كان (٢) الحكم مطلقا أو معلقا ، فببركته يعم الحكم للحالة الطارئة (٣) اللاحقة كالحالة السابقة ، فيحكم ـ مثلا ـ بأن العصير العنبي يكون على ما كان عليه سابقا في حال عنبيته (٤) من أحكامه المطلقة والمعلقة (٥) لو شك فيها ، فكما يحكم (٦) ببقاء ملكيته يحكم بحرمته على تقدير غليانه.

______________________________________________________

وكيف كان ؛ فالأولى تبديل قوله : «وبالجملة» إلى ما يدل على التعليل ، بأن يقال : «لأن الاستصحاب متمم لدلالة الدليل على الحكم ...» الخ. وذلك بظهور : «بالجملة» في كونه خلاصة لما تقدم ، مع أنه لم يسبق منه هذا المطلب حتى يكون «وبالجملة» خلاصة له.

(١) الإهمال هو : كون المتكلم في مقام الجعل والتشريع فقط ، من دون تعرض للخصوصيات الدخيلة فيه ، والإجمال هو : عدم بيان المراد للمخاطب وتأديته بلفظ قاصر عن تأديته ؛ كتكلمه بلفظ مجمل لاشتراكه بين معنيين أو معان مع عدم نصب قرينة معينة على مراده.

(٢) يعني : سواء كان ذلك الحكم الثبات بالدليل المهمل أو المجمل مطلقا أي : فعليا ، أم معلقا أي : مشروطا ، فببركة الاستصحاب يصير الحكم عاما لحالات الموضوع ، وضمير «فببركته» راجع إلى الاستصحاب.

(٣) كالزبيبية ، والمراد بالحالة السابقة هي : الوصف الأوّلي كالعنبية.

وبالجملة : فالاستصحاب يثبت الحكم المطلق كالملكية أو المعلق كالحرمة للزبيب بعد أن كان نفس الدليل الاجتهادي قاصرا عن إثباتهما للزبيب لاختصاص دلالته بالعنب الذي هو مورده.

قوله «فيحكم» نتيجة تعميم الحكم ببركة الاستصحاب الذي هو بمنزلة الإطلاق الأحوالي للدليل الاجتهادي.

(٤) التي هو مورد الدليل الدال على أحكامه المطلقة والمعلقة. وقوله : «من أحكامه» بيان ل «ما» الموصول.

(٥) المطلقة كالملكية وجواز الأكل وغيرهما من التصرفات الاعتبارية والخارجية ، والمعلقة كالحرمة المشروطة بالغليان ، وكوجوب الزكاة المشروط بالنصاب فيما إذا شك في وجوبها ؛ لصيرورة النصاب كلا أو بعضا متعلقا للرهن.

(٦) غرضه : أن وزان الحكم المعلق وزان الحكم المطلق في جريان الاستصحاب ، والتعليقية من حيث هي ليست مانعة عن جريانه ما لم تقدح في أركان الاستصحاب من اليقين والشك وغيرهما.

٣٢٥

إن قلت : نعم (١) ؛ ولكنه لا مجال لاستصحاب المعلق لمعارضته باستصحاب ضده المطلق ، فيعارض استصحاب الحرمة المعلقة للعصير باستصحاب حليّته المطلقة (٢).

قلت : (٣) لا يكاد يضر استصحابه على نحو كان قبل عروض الحالة التي شك في

______________________________________________________

هذا ما يتعلق بالوجه الأول على عدم حجية الاستصحاب التعليقي وجوابه. وهناك تطويل في الكلام تركناه رعاية للاختصار.

(١) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من الوجوه التي احتج بها المنكرون لحجية الاستصحاب التعليقي ، وهو يرجع إلى وجود المانع عن حجيته ، ومحصله : أن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب الحكم الفعلي الذي هو ضد الحكم المعلق ، فلا أثر لهذا الاستصحاب التعليقي مع ابتلائه دائما بالمعارض ، ففي مثال العصير الزبيبي يكون حكمه الفعلي الثابت له قبل عروض الزبيبية للعنب هو الإباحة ، وبعد عروضها كما تستصحب حرمته المعلقة على الغليان كذلك تستصحب حليته المطلقة الثابتة له قبل الزبيبية ، وبعد تعارض الاستصحابين يرجع إلى قاعدة الحل.

ففي جميع موارد الاستصحابات التعليقية يكون الحكم الفعلي المعارض للحكم المعلق ثابتا ؛ لعدم خلو الموضوع قبل حصول المعلق عليه عن الحكم لا محالة.

وعليه : فقوله : «نعم» تصديق لاجتماع أركان الاستصحاب في الاستصحاب التعليقي ، وأن الثبوت التقديري لا يوجب تفاوتا في أركان الاستصحاب كما توهمه المتوهم.

ولكنه مع ذلك لا مجال لاستصحاب الحكم المعلق لابتلائه بالمعارض دائما ، فهذا الوجه راجع إلى وجود المانع عن الحجية ، كما أن الوجه السابق كان راجعا إلى عدم المقتضي لها ، وضمير «لكنه» للشأن ، وضمير «لمعارضته» راجع إلى «استصحاب» ، وضمير «ضده» إلى المعلق ، وضمير «حليته» إلى «العصير» ، وقوله : «باستصحاب» متعلق ب «فيعارض».

(٢) أي : غير المشروطة بشيء ، وهي التي كانت ثابتة له قبل الغليان فتستصحب للشك في ارتفاعها بالغليان.

(٣) هذا إشارة إلى دفع الوجه الثاني من الوجوه المانعة عن حجية الاستصحاب التعليقي ، والجواب عنه ، وحاصله : أن كل حكمين متضادين أنيط أحدهما بشيء فلا بد أن يناط الآخر بنقيضه ؛ لاقتضاء تضاد الحكمين ذلك ، كحرمة النكاح المنوطة بالرضاع بشرائطه المقررة ، فلا محالة تكون حلية النكاح منوطة بعدم الرضاع ، فيكون الرضاع غاية لحلية النكاح بهذا النحو.

٣٢٦

بقاء حكم المعلق بعده (١) ، ضرورة (٢) : أنه (٣) كان مغيّا بعدم ما علق عليه المعلق ، وما كان كذلك (٤) لا يكاد يضر ثبوته بعده بالقطع فضلا عن الاستصحاب ؛ لعدم (٥)

______________________________________________________

ففي مثال العنب كما يكون الغليان غاية لحليته في حال كونه عنبا ، وشرطا لحرمته في تلك الحالة ، كذلك يكون غاية وشرطا لهما في حال الزبيبية ، فكما يصح اجتماع الحلية المغياة بالغليان مع الحرمة المعلقة عليه قطعا من دون تضاد بينهما في حال العنبية ، فكذلك يصح بقاؤهما في حال الزبيبية استصحابا من غير تضاد بينهما أصلا.

وعليه : فاستصحاب الحرمة المعلقة يوجب انتفاء الإباحة مع فرض وجود الغليان خارجا الذي هو شرط الحرمة ، وغاية أمد الحلية ، فليس حكم فعلي إلّا الحرمة ، فلا مجال لاستصحاب الحلية الفعلية حتى يعارض استصحاب الحرمة المعلقة.

(١) أي : بعد عروض الحالة.

وضمير «استصحابه» راجع إلى «ضده» يعني : لا يكاد يضر استصحاب ضده المطلق ـ وهو الحلية ـ في مثال العنب على نحو كان قبل عروض حالة الزبيبية مثلا الموجبة للشك في بقاء الحكم المعلق وهو الحرمة بعد عروض حالة الزبيبية ، والمراد بقوله : «على نحو» هو الحلية المغياة بالغليان ، ومن المعلوم : ارتفاع الحلية بهذا النحو بحصول غايته.

(٢) تعليل لقوله : «لا يكاد يضر» ؛ وحاصله : أن الضرر إنما يكون بين الحل والحرمة إذا كانا مطلقين أو مشروطين بشيء واحد.

وأما إذا لم يكونا كذلك ـ بأن كان أحدهما مطلقا والآخر مشروطا ، أو كان أحدهما مشروطا بأمر وجودي والآخر بنقيضه كمثال العنب ، حيث إن حرمته مشروطة بالغليان وحليّته منوطة بعدم الغليان ـ فلا ضير في اجتماعهما ؛ لعدم تضادهما أصلا ، بداهة : جواز اجتماع حلّية العنب منوطة بعدم الغليان مع حرمته المعلقة على الغليان ، وعدم تنافيهما أصلا مع العلم بهما بهذا النحو فضلا عن ثبوتهما بالاستصحاب.

(٣) أي : أن ضده المطلق وهو الحلية : يعني : أن الحلية كانت مغياة بعدم الغليان الذي علق عليه الحرمة ، والحكم المغيّى بعدم الغليان لا يضر ثبوته بعد عروض الحالة ؛ كالزبيبية للعنب بالقطع الوجداني فضلا عن التعبد الاستصحابي.

(٤) أي : كان مغيّا بعدم ما علق عليه الحكم بالحرمة.

وضميرا «ثبوته ، عليه» راجعان إلى «ما» الموصول ، وضمير «بعده» إلى عروض الحالة ، و «بالقطع» متعلق ب «ثبوته» ، و «المعلق» صفة للحكم المحذوف المراد به الحرمة في المثال.

(٥) تعليل لقوله : «لا يكاد يضر ثبوته» ، وقد اتضح آنفا وجه عدم المضادة بينهما ؛

٣٢٧

المضادة بينهما ، فيكونان (١) بعد عروضها بالاستصحاب كما كانا (٢) معا بالقطع قبل (٣) بلا منافاة أصلا وقضية ذلك (٤) انتفاء حكم المطلق بمجرد ثبوت ما علق عليه المعلق ، فالغليان في المثال كما كان شرطا للحرمة كان غاية للحلية ، فإذا شك (٥) في حرمته المعلقة بعد عروض حالة عليه شك (٦) في حليته المغياة لا محالة أيضا (٧) ،

______________________________________________________

لاشتراط الحل بعدم الغليان والحرمة بوجوده. وضمير «بينهما» راجع على الحلية المغياة بعدم الغليان والحرمة المعلقة على الغليان.

(١) هذا متفرع على اشتراط الحكمين ، يعني : فيكون الحل المغيّى بالغليان والحرمة المشروطة به ـ بعد عروض وصف الزبيبية الموجب للشك ـ مجتمعين بالاستصحاب كما كانا مجتمعين بالقطع للعنب قبل عروض حالة الزبيبية عليه. وضمير «عروضها» راجع إلى «الحالة» ، وقوله : «بالاستصحاب» متعلق ب «فيكونان».

(٢) خبر «فيكونان» يعني : فيكون وجود الحكمين بالاستصحاب بعد عروض حالة الزبيبية كوجودهما معا بالقطع قبل عروض وصف الزبيبية بلا منافاة بينهما أصلا كما مر آنفا ، و «بالقطع» متعلق ب «كانا».

(٣) أي : قبل عروض الحالة الزبيبية ، و «بلا منافاة» متعلق ب «كانا».

(٤) أي : كون الحل مغيّا بالغليان والحرمة مشروطة به يقتضي انتفاء الحكم المطلق وهو الحل بمجرد ثبوت ما علق عليه الحرمة وهو الغليان ، حيث إنه كما يكون شرطا للحرمة كذلك يكون غاية لأمد الحلية ، فوجود الغليان رافع للحلية وموجب للحرمة.

(٥) هذا من نتائج غائية الغليان للحلية وشرطيته للحرمة ، وحاصله : أنه إذا شك في حرمته المعلقة على الغليان بعد طروء الزبيبية على العنب كان ذلك مساوقا للشك في بقاء حليته المغياة به ؛ إذ مرجع الشك إلى أن الغليان في حال الزبيبية هل هو شرط وغاية كما كان كذلك في حال العنبية أم لا؟ ففي حال الزبيبية يشك في حليته وحرمته بعد الغليان للشك في شرطيته وغائيته في حال الزبيبية.

(٦) جواب «إذا» ، والملازمة بين هذين الشكين نشأت من وحدة وزان شرطية الغليان للحرمة وغائيته للحلية ، فإن كان ثبوتهما له في حال الزبيبية كثبوتهما له في حال العنبية فلا إشكال في ثبوت الحرمة الفعلية له بمجرد الغليان ؛ وإلّا بأن شك في ثبوتهما له في حال الزبيبية كان الحكم الفعلي من الحلية والحرمة مشكوكا فيه.

(٧) يعني : كالشك في الحرمة ؛ لما عرفت : من الملازمة بين الشكين.

وقوله : «لا محالة» إشارة إلى الملازمة ، وضميرا «حليته ، حرمته» راجعان إلى العصير ،

٣٢٨

فيكون الشك في حليته أو حرمته فعلا بعد عروضها متحدا (١) خارجا مع الشك في بقائه على ما كان عليه من الحلية والحرمة بنحو كانتا (٢) عليه ، فقضية (٣) استصحاب حرمته المعلقة بعد عروضها الملازم (٤) لاستصحاب حليته المغياة حرمته فعلا بعد غليانه

______________________________________________________

وضمير «عروضها» إلى «حالة» ، و «بعد عروضها» متعلق ب «شك».

(١) يعني : أن الشك في الحكم الفعلي من الحلية والحرمة ـ بعد طروء الزبيبية مثلا على العنب متحد خارجا مع الشك في بقاء العنب على ما ثبت له من الحلية المغياة والحرمة المعلقة ، والاختلاف بينهما إنما هو في كون أحدهما بلحاظ الحالة السابقة دون الآخر.

وقوله : «متحدا» إشارة إلى ردّ الحكومة التي أفادها الشيخ «قدس‌سره» جوابا عن إشكال معارضة الاستصحاب التعليقي مع الاستصحاب التنجيزي ، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى عند التعرض لحاشية المصنف على المقام.

(٢) أي : كانت الحرمة والحلية على النحو المزبور ، وهو كون الحرمة معلقة على الغليان والحلية مغياة به ، وضمير «بقائه» راجع إلى العصير ، وضمير «عليه» إلى «ما» في قوله : «ما كان عليه».

(٣) هذه نتيجة شرطية الغليان للحرمة وغائيته للحلية ، فإنه بعد عروض وصف الزبيبية للعنب وتحقق الغليان خارجا يكون مقتضى استصحاب حرمته المعلقة فعلية الحرمة وانتفاء الحلية ؛ لأنه مقتضى استصحاب حليته المغياة بغاية متحققة خارجا كما هو المفروض.

ولا يخفى : أنه يستفاد من قوله : «فقضية استصحاب حرمته إلى قوله». «وانتفاء حليته» الوجه الثالث من الوجوه التي استدل بها المنكرون لحجية الاستصحاب التعليقي.

ومحصله : أن الاستصحاب التعليقي من الأصول المثبتة التي لا نقول باعتبارها.

بيانه : أن الحرمة المعلقة حكم شأني ، وليست حكما فعليا حتى تكون بنفسها موردا للاستصحاب ، ولا موضوعا ذا أثر شرعي حتى يجري فيه الاستصحاب. نعم ؛ بقاء الحرمة المعلقة إلى أن يصير زبيبا غالبا مستلزم عقلا لفعلية الحرمة. وضمير «حرمته» راجع إلى العصير ، وضمير «عروضها» إلى «حالة».

(٤) صفة ل «استصحاب حرمته». وجه الملازمة : هو شرطية الغليان للحرمة وغائيته للحلية ، واستصحاب الحلية المغياة يقتضي ارتفاعها بمجرد حصول الغاية ، وكون الحكم الفعلي هي الحرمة.

٣٢٩

وانتفاء (١) حليته ، فإنه (٢) قضية نحو ثبوتهما كان (٣) بدليلهما أو بدليل الاستصحاب كما لا يخفى بأدنى التفات على ذوي الألباب ، فالتفت ولا تغفل.

______________________________________________________

(١) معطوف على «حرمته» التي هي خبر «فقضية». وضمائر «حليته ، غليانه ، حليته» راجعة إلى العصير ، و «بعد غليانه» قيد لفعلية حرمته.

(٢) يعني : أن ما ذكر من ثبوت الحرمة الفعلية وانتفاء الحلية المغياة هو مقتضى كيفية جعل الحكمين ؛ إذ لازم شرطية الغليان للحرمة وغائيته للحلية هو ذلك ، وهذا إشارة إلى جواب الوجه الثالث ، ومحصله.

أن اللوازم على قسمين :

أحدهما : لوازم الشيء بوجوده الواقعي كحكم العقل بضدية الأضداد الوجودية للصلاة واستحالة اجتماعها معها كضدية النوم والأكل مثلا للصلاة ، فإن الصلاة بوجودها الواقعي مضادة لهما.

ثانيهما : لوازم الشيء بمطلق وجوده من الواقعي والظاهري ؛ كحكم العقل بلزوم الامتثال للتكليف الثابت ولو بأمارة غير علمية أو أصل ، ووجوب المقدمة وحرمة الضد بناء على كونهما من الأحكام العقلية.

فإن كانت اللوازم العقلية من قبيل القسم الأول لم يكن الأصل الجاري في الملزوم مثبتا لها إلّا على القول بحجية الأصل المثبت.

وإن كانت من قبيل القسم الثاني كان الأصل الجاري في ملزوماتها مثبتا لها بلا إشكال ، والحرمة الفعلية المذكورة وإن كانت من اللوازم العقلية ، لكنها من القسم الثاني الثابت لما هو أعم من الواقع والظاهر ، فتترتب على الحرمة المعلقة بالغليان مطلقا ، من غير فرق بين ثبوتها بالدليل كقوله : «ماء العنب إذا غلى يحرم» ، أو بالأصل كاستصحاب حرمته المعلقة بعد صيرورته زبيبا ، وسيأتي التفصيل إن شاء الله تعالى في الأصل المثبت.

(٣) يعني : سواء كان ثبوت الحكمين ـ اللذين أحدهما مشروط والآخر مغيّا ـ بدليل اجتهادي أم أصل عملي كالاستصحاب.

وغرضه : الإشارة إلى كون الحرمة الفعلية من اللوازم العقلية لمطلق وجود الحرمة المعلقة أي : الأعم من الوجود الواقعي والظاهري فلا مانع من ترتبها على الحرمة المعلقة ، الثابتة بالدليل الاجتهادي كما عرفت غير مرة.

وهناك تطويل في الكلام تركناه رعاية للاختصار.

٣٣٠

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ بيان ما هو محل الكلام في المقام فنقول : إن الحكم تارة : يكون فعليا من جميع الجهات ، وأخرى : يكون فعليا من بعض الجهات دون بعض ، ويعبّر عن الأول : بالحكم التنجيزي ، وعن الثاني : بالحكم التعليقي تارة وبالحكم التقديري أخرى ، ومحل الكلام في هذا التنبيه الخامس هو : جريان الاستصحاب في القسم الثاني بعد القول بجريانه في القسم الأول وهو الحكم التنجيزي.

٢ ـ العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام على ثلاثة أقسام :

الأول : أخذ العنوان لمجرد الإشارة إلى حقيقة المعنون بلا دخل للعنوان في ثبوت الحكم كقولنا : «الحنطة حلال» ، فيفهم من الدليل الحكم بالحلية حتى مع تبدل حالات الحنطة كصيرورتها دقيقا أو خبزا أو نحوهما.

الثاني : أن يكون الأمر بعكس ذلك بمعنى يفهم من نفس الدليل : أن الحكم يدور مدار العنوان ؛ كما في حرمة الخمر فإنها تابعة لصدق عنوان الخمر ، فتنفي بانتفاء العنوان.

الثالث : لا يستفاد أحد الأمرين من نفس الدليل ، فنشك في بقاء الحكم بعد تبدل العنوان لاحتمال مدخلية العنوان في ترتب الحكم ؛ كالتغير المأخوذ في نجاسة الماء ، فإنه لا يعلم أن النجاسة دائرة مدار التغير حدوثا وبقاء أو أنها باقية بعد زوال التغير أيضا ؛ لكونه علة لحدوثها فقط. وهذا القسم هو محل الكلام في جريان الاستصحاب.

٣ ـ أن البحث في الاستصحاب التعليقي ذو أثر كبير في باب الفقه للتمسك به في موارد كثيرة منها : استصحاب حرمة العصير العنبي بعد غليانه إذا شك فيها بعد زوال عنوانه وتبدله إلى زبيب ، فيقال : إنه لا إشكال في حرمة ماء العنب إذا غلى قبل أن يذهب ثلثاه ، وإنما الإشكال فيما إذا صار العنب زبيبا هل كان استصحاب الحرمة التعليقية جاريا فيحرم عند تحقق الغليان أم لا؟ بل تستصحب الإباحة السابقة التي كانت لماء الزبيب قبل الغليان.

٤ ـ وفي المسألة قولان ؛ قول لصاحب الكفاية حيث يقول : بجريان الاستصحاب التعليقي ، وذكر في تقريبه : أن قوام الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك في البقاء متحقق في الأحكام التعليقية ؛ لأن غاية ما يقال في نفيه وعدم جريانه هو : أن الحكم التعليقي لا وجود له قبل وجود ما علق عليه فلا يقين بحدوثه ، وهذا قول فاسد ؛ لأنه لا

٣٣١

السادس (١):

______________________________________________________

وجود له فعلا قبل الشرط لا أنه لا وجود له أصلا ولو بنحو التعليق فالوجه في حجية الاستصحاب التعليقي هو اجتماع أركانه فيه من اليقين السابق والشك اللاحق.

٥ ـ استدل القائل بعدم حجية الاستصحاب التعليقي بوجوه :

الأول : عدم المقتضي.

الثاني : عدم اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة.

الثالث : أنه معارض باستصحاب الإباحة والحلية الثابتة قبل الغليان ، فبعد التساقط بالتعارض يكون المرجع قاعدة الحل والطهارة.

الرابع : أنه من الشك في المقتضي والاستصحاب غير معتبر فيه.

٦ ـ وأما الجواب عن هذه الوجوه : فإن الوجه الأول مردود من جهة أن الملاك في جريان الاستصحاب هو كون الحكم المستصحب بيد الشارع ، من دون فرق بين الشك في الرافع أو في المقتضي.

والحكم المستصحب في الاستصحاب التعليقي يكون جعله بيد الشارع ، فيجري الاستصحاب لوجود الملاك.

وأما عن الوجه الثاني : فمن جهة منع عدم الاتحاد بين القضيتين ؛ لأن عنوان العنبية والزبيبية يكون من حالات الموضوع لا من مقوماته.

وأما الجواب عن الوجه الثالث : فبأن استصحاب الحرمة التعليقية حاكم على استصحاب الإباحة والحلية ؛ لأن الشك في الإباحة ناش عن الشك في الحرمة التعليقية ، فبعد استصحاب الحرمة لا شك في الإباحة.

وأما الجواب عن الوجه الرابع : فلا اعتبار الاستصحاب في مورد الشك في المقتضي.

مع أن الشك يكون في الرافع لا في المقتضي.

٧ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو حجية استصحاب الحكم التعليقي.

التنبيه السادس في استصحاب عدم النسخ

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه السادس : هو تعميم حجية استصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى كل حكم إلهي ، سواء كان من أحكام هذه الشريعة أم من أحكام الشرائع السابقة.

وقبل الخوض في أصل البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام في المقام ، وتوضيح

٣٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ذلك يتوقف على مقدمة وهي بيان أمرين :

أحدهما : أن في أحكام الشرائع السابقة احتمالات :

الأول : أن يكون حكم من أحكامها مما قام الدليل على بقائه وعدم نسخه.

الثاني : أن يكون مما قام الدليل على نسخه وعدم بقائه في هذه الشريعة.

الثالث : أن يكون مما لا تعرّض له في هذه الشريعة لا نفيا ولا إثباتا.

هذا الأخير هو محل الكلام.

ثانيهما : أن حقيقة النسخ عندنا لما كانت تقييد الحكم زمانا وكان دليل النسخ كاشفا عن انتهاء أمده ، فلا يجري استصحاب عدم النسخ إلّا بعد فرض أمرين ، أحدهما : فقدان الإطلاق الأزماني لدليل الحكم ، ثانيهما : ثبوت الحكم في الشريعة السابقة بنحو القضية الحقيقية لعامة المكلفين ؛ لا لخصوص تلك الملة.

أما الأمر الأول : فلأنه لو كان لدليل الحكم إطلاق أزماني كان هو المرجع عند الشك في النسخ لا الاستصحاب ، لحكومته على الاستصحاب.

وبيانه : أن حكم الشريعة السابقة إما أن يكون وافيا بإثباته لعامة المكلفين في جميع الأزمنة للتصريح بإطلاقه الأزماني ، أو ما هو كالصريح فيه ، وفي مثله لا يحتمل النسخ ، وهذا نظير وجوب أصل الصلاة والصوم ونحوهما من الفرائض وإما أن يكون دليله وافيا بإثباته للعموم إلى الأبد بإطلاقه المستند إلى مقدمات الحكمة ، وفي مثله يحتمل النسخ بالشريعة اللاحقة ، إلّا إن الدافع لاحتمال النسخ هو الإطلاق لا الاستصحاب ، ونسخه منوط بورود الناسخ الذي هو مقيد لإطلاق الخطاب زمانا.

وإما أن يكون متكفلا لثبوت الحكم في تلك الشريعة بنحو الإجمال كبعض الآيات الواردة لبيان أصل تشريع الأحكام بلا نظر خصوصياتها ، كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(١) حيث إنها ليست في مقام بيان تمام ما له الدخل في الصوم ، فلو ثبت أصل الحكم في شريعة سابقة وشك في نسخه في الشريعة اللاحقة فيحث إنه لا إطلاق له حتى بمعونة المقدمات كان مورد النزاع في المقام من حيث جريان الاستصحاب فيه وعدمه.

وأما الثاني : ـ أعني : اعتبار أن يكون الحكم ثابتا بنحو القضية الحقيقية ـ فلأنه مع

__________________

(١) البقرة : ١٨٣.

٣٣٣

لا فرق أيضا (١) بين أن يكون المتيقن من أحكام هذه الشريعة أو الشريعة السابقة

______________________________________________________

ثبوته للمكلفين بنحو القضية الخارجية لا يجري فيه الاستصحاب إذا شك في بقائه لأشخاص آخرين ؛ لاختلاف الموضوع حينئذ ، وكونه من تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر ، ومن المعلوم : أنه أجنبي عن الاستصحاب ، فلا تعمه أدلته.

مثلا : إذا ورد حكم في التوراة بعنوان «يا أيها اليهود» ونحوه ، فليس للمسلم استصحاب ذلك الحكم ؛ لتعدد الموضوع ، إلّا إذا أحرز كون اليهود عنوانا مشيرا إلى كل مكلف.

ثم إن الفرق بين هذا البحث وما سيأتي في التنبيه الثاني عشر من استصحاب النبوة هو : أن المقصود بالبحث في هذا التنبيه استصحاب بعض أحكام الشريعة السابقة بعد اليقين بورود شريعة أخرى ؛ للشك في أن المنسوخ جميع الأحكام أو بعضها ، بخلافه في التنبيه الثاني عشر ؛ إذ المقصود بالبحث فيه إثبات عدم منسوخية الشريعة السابقة ، وإنكار تشريع دين آخر ، كإنكار اليهود بعثة نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» اعتمادا على استصحاب نبوة موسى «عليه‌السلام» ، على تقدير إرادة الأحكام الفرعية من النبوة لا نفس الصفة الملكوتية القائمة بنفس النبي ، وسيأتي تفصيله هناك إن شاء الله تعالى.

وكيف كان ؛ فيقع الكلام في أنه هل تستصحب أحكام الشرائع السابقة أم لا؟

فيه خلاف ، واختار صاحب الكفاية وفاقا للشيخ الأنصاري استصحاب أحكام الشريعة السابقة ؛ وذلك لتمامية أركان الاستصحاب من اليقين السابق بالحكم ، والشك اللاحق ، فيستصحب لعدم اختصاص أدلة الاستصحاب بما إذا كان المستصحب حكما محتمل النسخ من شرائع الإسلام ؛ بل يجري فيما إذا كان حكما محتمل النسخ من أحكام الشرائع السابقة أيضا ، وذلك لوجود المقتضي وفقد المانع على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ؛ وخالف فيه جمع كالمحقق في الشرائع وصاحبي القوانين والفصول على ما حكي عنهما.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) يعني : كما لا فرق في اعتبار الاستصحاب بين كون المستصحب حكما فعليا وتعليقيا ، كذلك لا فرق في اعتباره بين كون الحكم المشكوك نسخه من أحكام هذه الشريعة ، وبين كونه من أحكام الشرائع السابقة إذا شك في نسخه في هذه الشريعة المقدسة.

٣٣٤

إذا شك في بقائه وارتفاعه بنسخه (١) في هذه الشريعة لعموم (٢) أدلة الاستصحاب.

وفساد (٣) توهم اختلال أركانه فيما كان المتيقن من أحكام الشريعة السابقة لا

______________________________________________________

(١) متعلق بقوله : «وارتفاعه» يعني : أن يكون الشك في ارتفاعه بسبب نسخه في هذه الشريعة ، لا بسبب آخر كتبدل حال من حالات الموضوع مثلا ، فإن ذلك أجنبي عن الشك في النسخ ، فالشك في النسخ إنما يكون مع تمامية الموضوع ووجود جميع ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا.

(٢) تعليل لقوله : «لا فرق» ، وغرضه : إقامة الدليل على حجية استصحاب عدم النسخ في أحكام الشرائع السابقة ؛ كحجيته في أحكام هذه الشريعة ، فقد استدل المصنف بقوله : «لعموم أدلة الاستصحاب» على حجية الاستصحاب في أحكام الشرائع السابقة.

ومحصله : أن أركان الاستصحاب ـ وهي اليقين السابق والشك اللاحق ووحدة القضية المتيقنة والمشكوكة وكون المستصحب حكما شرعيا ـ موجودة في استصحاب الشرائع السابقة ، فتشمله أدلته ، لكونه من أفراد عموم مثل : «لا تنقض اليقين بالشك».

وقد استدل الشيخ «أعلى الله مقامه» بوجود المقتضي وفقد المانع وهو حق.

وكيف كان ؛ فالمصنف «قدس‌سره» يدعي عموم أدلة الاستصحاب وعدم المانع عن شمولها لاستصحاب الشرائع السابقة ، وينكر صحة الوجوه التي تمسك بها المنكرون لحجيته.

(٣) عطف على «عموم» أي : «لفساد توهم ...» الخ. هذا إشارة إلى أول الوجوه التي احتج بها المنكرون لحجية استصحاب عدم النسخ في أحكام الشرائع السابقة.

وحاصل هذا الوجه هو : أن المقتضي لجريان استصحاب عدم النسخ فيها مفقود ؛ لاختلال أحد ركنيه من اليقين السابق أو الشك اللاحق. أما الأول : فإن من ثبت في حقه الحكم يقينا قد انعدم ، والمكلف الموجود الشاك في النسخ لم يعلم ثبوت الحكم في حقه من الأول ؛ لاحتمال نسخه ، فالشك بالنسبة إليه شك في ثبوت التكليف لا في بقائه بعد العلم بثبوته ، ليكون موردا للاستصحاب ، فيكون إثبات الحكم له إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر ، وهذا ينفي اليقين بثبوت أحكام تلك الشرائع بالنسبة إلينا ، فإن احتمال اختصاصها بأهل تلك الشرائع كاف في عدم حصول اليقين بثبوتها في حقنا ، والإخلال بأول ركني الاستصحاب.

وأما الثاني ـ أعني : اختلال الركن الثاني وهو الشك في البقاء ـ فلأن الشك في البقاء

٣٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الذي هو مورد الاستصحاب مفقود في أحكام الشرائع السابقة ؛ للقطع بارتفاعها بعد ورود هذه الشريعة حيث إنها ناسخة لتلك الشرائع ، ومع القطع بارتفاعها يختل ما هو قوام الاستصحاب أعني : الشك في البقاء.

وبالجملة : فلا مقتضي لاستصحاب عدم نسخ أحكام تلك الشرائع ، إما لعدم اليقين بالحدوث بناء على تعدد الموضوع ، وإما لعدم الشك في البقاء بناء على النسخ.

فالمتحصل : أن كلا ركني الاستصحاب من اليقين والشك مفقود ، وقد أشار إلى انتفاء الركن الأول بقوله : «إما لعدم اليقين بثبوتها في حقهم» وإلى انتفاء الركن الثاني بقوله : «فلا شك في بقائها أيضا» ، يعني : كاليقين بثبوتها. وقد أشار إلى جواب التوهم وفساده بقوله «وذلك ...» الخ.

ومحصل ما أجاب به عن هذا التوهم هو : أن اختلال اليقين مبني على تشريعها لأهل تلك الشريعة بنحو القضية الخارجية كقوله : «أكرم هؤلاء العشرة» حيث إن الموضوع حينئذ أشخاص معينون ، فتختص تلك الأحكام بالأفراد الموجودة حال تشريعها ، ولا تسري إلى غيرهم ؛ لأنه حينئذ من تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر ، وهو أجنبي عن الاستصحاب المتقوم بوحدة الموضوع ، فالإشكال على الاستصحاب من ناحية اختلال اليقين في محله.

وأما إذا كان تشريعها بنحو القضية الحقيقية بحيث لوحظ في مقام الجعل كلي المكلف الصادق على جميع أفراده المحققة والمقدرة كقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) فلا تختص أحكام شريعة بأهلها ؛ بل تعم غيرهم أيضا ، فإذا شك غير أهلها في نسخ حكم من تلك الأحكام جرى فيه الاستصحاب ؛ لكونه من أفراد طبيعي المكلف الذين شملتهم الخطابات الصادرة في تلك الشرائع ، فاليقين بثبوتها لأهل هذه الشريعة حاصل ، فلا يختل الركن الأول وهو اليقين بالثبوت ، فلا مانع من هذه الجهة من جريان استصحاب عدم نسخ حكم من أحكام الشرائع السابقة. وقد أشار الشيخ إلى هذا الجواب الذي جعله جوابا ثانيا بقوله : «وحله : أن المستصحب هو الحكم الكلي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه ، فإن الشريعة اللاحقة لا تحدث عند انقراض أهل الشريعة الأولى ؛ إذ لو فرض وجود اللاحقين في السابق عمهم الحكم ، ومثل هذا لو أثر في الاستصحاب لقدح في أكثر

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

٣٣٦

محالة ، إما لعدم اليقين بثبوتها في حقهم وإن علم بثبوتها سابقا في حق آخرين ، فلا شك في بقائها أيضا بل (١) في ثبوت مثلها كما لا يخفى.

وإما (٢) لليقين بارتفاعها (٣) بنسخ الشريعة السابقة بهذه الشريعة ، فلا شك (٤) في بقائها حينئذ (٥).

ولو (٦) سلم اليقين بثبوتها في حقهم ؛ وذلك (٧) لأن الحكم الثابت في الشريعة السابقة حيث كان ثابتا لأفراد المكلف كانت (٨) محققة وجودا أو مقدرة كما ...

______________________________________________________

الاستصحابات ، بل في جميع موارد الشك من غير جهة الرافع».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) يعني : بل الشك يكون في ثبوت مثل تلك الأحكام في حقنا لا في بقائها ؛ إذ لازم عدم اليقين بثبوتها في حق أهل هذه الشريعة هو عدم كون الشك فيها شكا في بقائها بالنسبة إليهم ، ومن المعلوم : أنه مجرى الاستصحاب دون الشك في الحدوث ، وضميرا «بقائها ، ثبوتها» راجعان إلى «أحكام».

(٢) عطف على قوله : «إما لعدم اليقين» ، وهذا إشارة إلى ثاني وجهي التوهم أعني : اختلال الركن الثاني وهو الشك في البقاء ، وقد تقدم توضيح ذلك في قولنا : «وأما الثاني ...» الخ ، فراجع.

(٣) أي : بارتفاع أحكام الشريعة السابقة. و «بنسخ» متعلق ب «بارتفاعها» و «بهذه» متعلق ب «بنسخ».

(٤) هذا متفرع على نسخ الشرائع السابقة بهذه الشريعة ، حيث إن نتيجة النسخ القطع بعدم بقاء تلك الأحكام ، ومع هذا القطع لا مقتضي لجريان الاستصحاب فيها ، لانتفاء الشك في البقاء ، وضمير «بقائها» راجع على «أحكام».

(٥) أي : حين اليقين بارتفاع الأحكام بسبب النسخ بهذه الشريعة.

(٦) وصلية ، يعني : ولو سلم وجود أوّل ركني الاستصحاب وهو اليقين السابق بثبوت تلك الأحكام لأهل هذه الشريعة كثبوتها لنفس أهل الشريعة السابقة ؛ لكن الركن الثاني وهو الشك في البقاء مفقود ؛ للقطع بارتفاعها بسبب النسخ ، ومع علم أهل هذه الشريعة بارتفاعها بالنسخ يرتفع الشك في البقاء الذي هو أحد ركني الاستصحاب.

(٧) أي : فساد التوهم. وقد تقدم توضيح الفساد والجواب بقولنا : «ومحصل ما أجاب به عن هذا التوهم» فراجع.

(٨) يعني : سواء كانت أفراد كلي المكلف محققة فعلا وموجودة خارجا ، أم مقدرة

٣٣٧

هو (١) قضية القضايا المتعارفة المتداولة ، وهي قضايا حقيقية ، لا خصوص (٢) الأفراد الخارجية كما هو قضية القضايا الخارجية ، وإلّا (٣) لما صح الاستصحاب في الأحكام

______________________________________________________

أي : مفروضة الوجود ، كالمستطيع الكلي الذي هو موضوع لوجوب الحج ، فإنه شامل للمستطيع الموجود فعلا أي : حين الخطاب ، ولمن يوجد بعد ذلك ، فكل فرد فعلي واستقبالي من أفراد كلي المستطيع يجب عليه الحج.

(١) أي : ثبوت الحكم للأفراد الموجودة والمقدّرة مقتضى القضايا المتعارفة.

(٢) يعني : لا لخصوص الأفراد الخارجية ، فقوله : «خصوص» معطوف على مقدر وهو «مطلقا» يعني : أن الحكم الثابت في الشريعة السابقة حيث كان ثابتا لأفراد المكلف مطلقا لا لخصوص الأفراد الخارجية ... الخ.

(٣) أي : وإن لم تكن الأحكام الشرعية من القضايا الحقيقية ؛ بل كانت من القضايا الخارجية ترتب عليه لازمان لا يمكن الالتزام بهما :

أحدهما : امتناع استصحاب عدم النسخ في أحكام هذه الشريعة أيضا بالنسبة إلى من لم يدرك صدر الإسلام ؛ لتغاير الموضوع ، فإن الموجود في الأعصار المتأخرة عن عصر صدوره مغاير موضوعا للموجود في صدر الإسلام بناء على القضية الخارجية ، مع إن من الواضح صحة جريان الاستصحاب في أحكام هذه الشريعة في جميع القرون والأعصار.

ثانيهما : امتناع النسخ بالنسبة إلى غير الموجود في وقت التشريع ، ولو لم يكن موضوعا للحكم لم يصح النسخ في حقه ، وموضوعيته للحكم منوطة بكون الأحكام الشرعية من القضايا الحقيقية ؛ إذ لو كانت من القضايا الخارجية لم يكن غير الموجود في صدر الإسلام موضوعا للحكم ، وكان الموضوع خصوص المدرك لأوّل الشريعة ، ولازم ذلك : امتناع النسخ وامتناع الاستصحاب بالنسبة إلى من لم يدرك صدر الإسلام ؛ لعدم كونه موضوعا للحكم بناء على القضية الخارجية.

وأما بناء على القضية الحقيقية : فلا مانع من النسخ والاستصحاب في حقه ؛ لكونه موضوعا كموضوعية من أدرك صدر الإسلام.

وهذان اللازمان أي : امتناع النسخ والاستصحاب باطلان ، وبطلانهما يكشف عن بطلان الملزوم ، وهو كون الأحكام من القضايا الخارجية ، فقول المصنف «وإلّا لما صح الاستصحاب» كما أنه إشارة إلى برهان إنّي على كون الأحكام الشرعية من القضايا الحقيقية لا الخارجية ، كذلك إشارة إلى ما أجاب به الشيخ نقضا عن إشكال اختلال

٣٣٨

الثابتة في هذه الشريعة. ولا النسخ (١) بالنسبة (٢) إلى غير الموجود في زمان ثبوتها كان (٣) الحكم في الشريعة السابقة ثابتا لعامة أفراد المكلف ممن وجد أو يوجد ، وكان (٤) الشك فيه كالشك في بقاء الحكم الثابت في هذه الشريعة لغير من وجد في زمان ثبوته. والشريعة السابقة (٥) وإن كانت منسوخة بهذه الشريعة يقينا ، إلّا

______________________________________________________

اليقين بثبوت أحكام الشرع السابق بالنسبة إلى أهل هذه الشريعة بقوله : «وفيه أوّلا : أنّا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين ، فإذا حرم في حقه شيء سابقا وشك في بقاء الحرمة في الشريعة اللاحقة ، فلا مانع عن الاستصحاب أصلا. وفرض انقراض جميع أهل الشريعة السابقة عند تجدد اللاحقة نادر بل غير واقع».

(١) معطوف على «الاستصحاب» ، وهذا هو اللازم الباطل الثاني الذي أوضحناه بقولنا : «ثانيهما : امتناع النسخ ...» الخ ، كما أن قوله : «لما صح الاستصحاب» هو اللازم الباطل الأول الذي مر توضيحه بقولنا : «أحدهما : امتناع استصحاب عدم النسخ ...» الخ.

(٢) قيد لكل من الاستصحاب والنسخ ، يعني : «لما صح كل منهما بالنسبة إلى غير الموجود في زمان ...» الخ.

(٣) جواب قوله : «حيث كان» ، وضمير «ثبوتها» راجع إلى «الشريعة» أو «الأحكام».

(٤) معطوف على «كان الحكم» ، وحاصله : أنه بناء على كون الأحكام الإلهية مطلقا ، سواء كانت من أحكام هذه الشريعة أم من الشرائع السابقة من القضايا الحقيقية ؛ لا فرق في اعتبار استصحاب عدم النسخ في حق غير الموجود في زمان التشريع بين أحكام هذه الشريعة وغيرها من الشرائع ؛ وذلك لاجتماع ركني الاستصحاب من اليقين والشك في كلا الموردين ، وعليه : فوزان استصحاب الشاك غير الموجود في زمان ثبوت الدين من الأمم السابقة في حكم من أحكام ، وزان استصحاب الشاك غير الموجود من هذه الأمة في صدر الإسلام في بقاء حكم من أحكام هذه الشريعة في صحة جريانه في كلا الموردين ؛ لاجتماع أركانه من اليقين والشك.

وضمير «فيه» راجع على الحكم في الشريعة السابقة ، وضمير «ثبوته» راجع إلى الحكم الثابت ، و «لغير» قيد ل «بقاء» و «في زمان» متعلق ب «وجد».

(٥) هذا إشارة إلى بطلان ثاني وجهي التوهم ، وهو اختلال الركن الثاني أعني : به الشك في البقاء للقطع بالارتفاع بسبب النسخ.

توضيح وجه البطلان : أن انهدام الركن الثاني ـ وهو الشك في البقاء بسبب النسخ ـ منوط بنسخ جميع أحكام تلك الشرائع بهذه الشريعة ؛ إذ يقطع حينئذ بارتفاعها ، ولا يبقى

٣٣٩

إنه (١) لا يوجب اليقين بارتفاع أحكامها بتمامها ، ضرورة (٢) : أن قضية نسخ الشريعة ليس ارتفاعها كذلك (٣) ؛ بل عدم بقائها بتمامها ، ...

______________________________________________________

شك في بقائها حتى تستصحب. ولكنه ممنوع ؛ إذ ليس معنى نسخ شريعة رفع تمام أحكامها بنحو السلب الكلي ؛ بل معنى نسخها رفعها بنحو رفع الإيجاب الكلي ، فيصدق نسخ شريعة بنسخ جملة من أحكامها ، ففي الحكم الذي لم يعلم نسخه يجري الاستصحاب.

ثم إن الشيخ «قدس‌سره» أجاب أيضا عن الإشكال بهذا الوجه ، حيث قال : «وفيه أنه إن أريد نسخ كل حكم إلهي من أحكام الشريعة السابقة ، فهو ممنوع. وإن أريد نسخ البعض ، فالمتيقن من المنسوخ ما علم بالدليل ، فيبقى غيره على ما كان عليه ولو بحكم الاستصحاب».

(١) يعني : إلّا إن اليقين بالنسخ لا يوجب اليقين بارتفاع أحكام الشريعة السابقة بتمامها بحيث لا يبقى شك في بقاء حكم منها حتى لا يجري فيه الاستصحاب. وضمير «أحكامها» راجع إلى «الشريعة» ، وضمير «بتمامها» إلى «أحكامها».

(٢) تعليل لعدم كون نسخ شريعة رفع جميع أحكامها بحيث لا يبقى شيء منها.

توضيحه : أن نسخ الشريعة وإن كان بمعنى رفعها ، ورفع الشيء عن صفحة الوجود ظاهر في إعدامه بتمامه ، فإذا كان الشيء مرآة لعدة أمور كالشريعة ، فرفعه عبارة عن رفع تمام تلك الأمور ، وليس هذا كالمركب الذي ينتفي بانتفاء بعض أجزائه ؛ لأن المنفي وهو المركب كما يصدق على انتفاء كله كذلك يصدق على انتفاء بعضه ، بداهة : تقوّم عنوان المركب بتمام أجزائه ، فإذا انتفى جزء منه صدق انتفاء المركب. وعليه : فنسخ الشريعة ـ التي هي عنوان مشير إلى عدة أحكام إلهية ـ عبارة عن رفع تمام أحكامها بنحو السلب الكلي كما أراده المستشكل.

لكنه يرفع اليد عن هذا الظاهر بلحاظ ما ورد في اتحاد بعض ما في هذه الشريعة مع ما في الشرائع السابقة من الأحكام ، فإنه يدل على أن المراد مما دل على نسخ هذه الشريعة لما قبلها من الشرائع هو عدم بقاء تمام أحكام الشريعة المنسوخة بنحو رفع الإيجاب الكلي الذي لا ينافي الإيجاب الجزئي ، لا أن المراد : رفع جميع أحكامها بنحو السلب الكلي بحيث علم بارتفاع جميعها حتى يختل ثاني ركني الاستصحاب ، وهو الشك في البقاء كما يدعيه صاحب الفصول «قدس‌سره».

(٣) أي : بتمامها ، بل مقتضى نسخ الشريعة هو عدم بقاء الشريعة المنسوخة بتمامها ، ومن المعلوم : صدق نسخها برفع جملة من أحكامها وبقاء بعضها ، فقوله : «بل» في

٣٤٠