مصابيح الأصول

علاء الدين بحر العلوم

مصابيح الأصول

المؤلف:

علاء الدين بحر العلوم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز نشر الكتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

عرفت ـ انه لا يجرى الاستصحاب فيه. واما بالنسبة الى الوضع فلا اصل يرجع اليه فى تعيين السعة او الضيق ، فلا محالة يتعين اجراء اصل البراءة.

وقد اشار الشيخ الانصارى ـ قده ـ فى بحث البراءة الى هذا المعنى ، وهو عدم جريان الاستصحاب فى الشبهات المفهومية ، حيث افاد بما حاصله ان الكلب ، لو استحال الى ملح ، وتردد موضوع النجاسة بين الصورة النوعية ، والمادة المشتركة فاستصحاب الحكم ، وهو نجاسته ، لا يمكن لعدم احراز موضوع النجاسة. اذ الموضوع ان كان هو المادة المشتركة ، بين الكلبية والملحية ، فهو محرز البقاء. وان كان نفس الصورة الكلبية فهو مرتفع قطعا. وحيث تردد الموضوع امتنع جريان الاستصحاب.

واما استصحاب بقاء ذات الموضوع ، فهو ايضا لا يجرى ، لعدم الشك فيه. للقطع ببقاء المادة المشتركة ، والقطع بارتفاع الصورة النوعية ، ومعه لا يجرى الاستصحاب ، وموضوع بحثنا كذلك. اذ العالم بمعنى من له صفة العلم زائل قطعا ، وبمعنى الاعم من المتلبس والمنقضى عنه العلم باق قطعا ، فلا مورد لجريان الاستصحاب.

(تنبيهات)

التنبيه الاول ـ فى بساطة المشتق وتركبه :

اختلف القوم فى المفاهيم الاشتقاقية ، وهل جعلت بازاء المفاهيم البسيطة او المركبة؟

والمعروف بين المتاخرين القول بالبساطة. وخالف بعضهم ـ كصاحب شرح المطالع ـ فذهب الى التركيب حيث عرف النظر بانه : ترتيب امور حاصلة يتوصل بها الى تحصيل غير الحاصل.

١٦١

وأورد عليه : بان الشىء ربما يعرف بخاصة من خواصه المعبر عنه بالرسم ، فيوجب تصور تلك الخاصة الانتقال الى ذلك الشىء ، مع انه امر واحد اوصل الى امر واحد مجهول ، وليس بامور معلومة اوصلت الى امور مجهولة.

واجاب عن ذلك : بان الخاصة او الفصل ، وان كان امرا واحدا فى بداية الامر لكنه عند الدقة ينحل الى شىء له النطق ، او الضحك ـ مثلا ـ فيكون فى الحقيقة أمورا معلومة.

وأورد عليه السيد الشريف ـ فى حاشيته على الكتاب ـ بان الشىء لا يعقل اخذه فى المفاهيم الاشتقاقية. وذلك ان اريد بالشىء مفهومه لزم دخول العرض العام فى الفصل ، وهو محال. وان اريد به ما صدق عليه الشىء لزم انقلاب القضية الممكنة الى الضرورية. لان جملة ـ الانسان ضاحك ـ قضية ممكنة ، فاذا انحلت الى جملة الانسان انسان ثبت له الضحك. كانت قضية ضرورية ، لان ثبوت الشىء لنفسه ضرورى ، وهو خلف.

والذى يظهر من النزاع المتقدم ان مركز البحث هو التركيب بحسب التحليل ، لا التركيب بحسب الادراك فكلمة الانسان اذا اطلقت ينتقل السامع الى مفهوم واحد. ولدى التحليل ينتقل الى مفهومين هما : الحيوان الناطق فالنزاع من حيث البساطة والتركيب ، انما هو من حيث التحليل العقلى دون الادراك والتصور ، فانه بسيط وجدانا.

ويؤيد هذا احتياج السيد الشريف الى اقامة البرهان على البساطة. بما حاصله الالتزام بالتركيب يقتضى دخول العرض العام فى الفصل ، او انقلاب القضية الممكنة الى الضرورية ، وبديهى أن مرحلة الادراك لا تفتقر

١٦٢

الى استدلال ، بل يكفى فيها تبادر اهل العرف او اللغة ، وقد عرفت انهم يدركون من ذلك مفهوما واحدا.

ومن هنا يفهم ان صاحب الكفاية ـ قده ـ من القائلين بالتركيب ـ وان اصر على البساطة ـ حيث جعل النزاع واقعا فى المرحلة الاولى ، وهى مرحلة الادراك ، وادى بساطة مفهوم المشقة ، ثم جوزان يكون؟؟؟ المفهوم بحسب التحليل مركبا ، ونفى المنافاة فى ذلك ، ومنه يعلم انه قائل بالتركيب.

وكيف كان فالمعروف بين الفلاسفة ، والمتاخرين ، وبعض الاصوليين ـ منهم شيخنا الاستاذ قده ـ القول بالبساطة إلّا ان صاحب شرح المطالع ذهب الى التركيب مدعيا ان الموجود خارجا امور ثلاثة : ذات ، ومبدأ ، واتصاف تلك الذات بالمبدإ. ولا بد من تحقيق الامر اولا فى ان المفاهيم الاشتقاقية بسيطة او مركبة ، وعلى تقدير التركيب فهل الماخوذ فى المشتق مفهوم الشىء ، او واقعه.

اما تركب المشتق من واقع الشىء فباطل. لانه يلزم التكثر ، والتكرر فى المعنى. اذ لا ريب فى اختلاف الذوات بعضها عن بعض خارجا. فذات زيد غير ذات عمرو ، وهكذا. فلو كان ضارب ـ مثلا ـ عبارة عن ذات ثبت لها الضرب كان متكثرا بحسب الوضع ، باعتبار الوضع لزيد ، ولعمرو ، ولبكر بنحو يكون الوضع عاما والموضوع له خاصا. وقد قلنا : ان المشتقات كالجوامد فحيث لم تكن معانيها متكثرة ، فالمشتقات مثلها.

واما تركبه من مفهوم الشىء فلا مانع منه. بيانه : ان الشىء الذى اخذ فى المشتقات مبهم ومعرى عن كل خصوصية من الخصوصيات ، وقد اريد منه الاشارة الى هذا المعنى. فهو كالموصولات التى لا تفيد تعينا

١٦٣

الامن جهة صلتها. فاذا قيل : الضارب فلا يراد منه الا الذى ثبت له الضرب ، او ما ثبت له الضرب ، او من ثبت له ذلك على اختلاف الموضوعات فمنها من يعقل ، ومنها من لا يعقل وجميع ذلك لا محذور فيه.

وبالجملة : المفاهيم الاشتقاقية مركبة من مفهوم الشىء ، ونفس المبدأ. وليست ببسيطة ، ولا نقصد من الشىء الا ما اوضحناه فعلا ، وهو المفهوم المبهم المعرى عن كل خصوصية.

وربما يورد على اعتبار اخذ مفهوم الشىء فى المبادى الاشتقاقية ، وتركبها منه ، ومن المبدأ بامور :

الاول ـ ما جاء به صاحب الكفاية ـ قده ـ من لزوم تكرر الموصوف فى قولنا : زيد الكاتب.

وغير خفى ـ ان المحذور المذكور يتاتى لو اخذنا واقع الشىء فى المبدأ الاشتقاقى. اما لو اخذنا مفهومه ، فلا يلزم ذلك. اذ لا فرق بين جملة زيد الكاتب ، وزيد الذى له الكتابة ، ومن الظاهر انه لا تكرار فى الجملة الثانية. فكذلك الاولى على التركيب.

الثانى ـ ما اورده السيد الشريف انه يلزم دخول العرض العام فى الفصل وهو محال.

وغير خفى ـ ان الجواب عنه هو ما ذكره صاحب الكفاية ، والفلاسفة المتاخرون ، ومنهم المحقق السبزوارى ـ فى حاشية له على منظومته ـ بان الناطق ليس بفصل حقيقى للانسان ، بل فصل مشهورى ، وحقيقته انه خاصة من خواصه ، وضع ليشير الى الفصل. فهو فى محل الفصل الحقيقى ، ولا يعرف الفصل الحقيقى إلّا الله. والوجه فى ذلك : ان الناطق : (تارة) يراد به التكلم والبيان فهو خاصة من خواص البشر ، وقد

١٦٤

منحهم الله تعالى اياه فاخذوا يعملون ذلك فى مقام التعبير (واخرى) يراد به ادراك الكليات بمعنى العلم فهو من عوارض الانسان دون سائر المخلوقات ، وكلاهما اجنبيان عن الفصل المقوّم للذات.

ويؤيد هذا انهم اخذوا الناهق فصلا للحيوان. مع انه ليس مقوما للحمار ، بل ربما يذكرون خاصتين لشىء واحد فيقولون : الحيوان جسم حساس متحرك بالارادة. فان الحساس والمتحرك بالارادة خاصتان للحيوان ، وليستا بفصلين له. اذ الشىء الواحد لا يتقوم بفصلين ومقومين. وعليه فلا يلزم من التركب دخول العرض العام فى الفصل ، بل دخوله فى الخاصة ، ولا محذور فيه لانها ليست من الذاتيات.

ومن الغريب ان شيخنا الاستاذ ـ قده ـ ادعى ان الشىء ليس عرضا عاما ، بل جنس للماهيات مشترك بين جميعها. سواء قلنا ان الناطق فصل ، ام عرض عام : او خاص فالمحذور موجود لان الجنس غير قابل للدخول فى الفصل ، ولا للدخول فى العرض الخاص.

والجواب عنه ـ ان الشىء ليس جنسا للاشياء. فانه يصدق على الجوهر ، والعرض ، والممكن ، والواجب ، والممتنع ، والمستحيل فيقال :

اجتماع الامر والنهى شىء مستحيل. كما وانه يصدق على الماهيات المتأصلة ، والاعتبارية. فيستحيل ان يكون جنسا تندرج تحته الاجناس العالية.

الثالث ـ ما ذكره صاحب الفصول ـ قده ـ من انقلاب القضية الممكنة الى الضرورية فقولنا : زيد كاتب او الانسان كاتب. من القضايا الممكنة باعتباران كلا من كتابة زيد وعدمها ممكن فلو قلنا : ان معنى الكاتب منحل الى شىء له الكتابة فالقضية ضرورية فان الشىء ، وان كان من

١٦٥

العوارض العامة. إلّا ان ثبوته للانسان ضرورى. فلو كان ماخوذا فى المفهوم الاشتقاقى لزم انقلاب القضية الممكنة ضرورية.

وغير خفى ـ ان الجواب عنه هو ما ذكره صاحب الكفاية ، وشيخنا الاستاذ ـ قدس‌سرهما ـ وهو ان الشىء فى مقام الحمل : (تارة) يؤخذ لا بشرط من كل قيد فيقال : الانسان شىء ، وهو ضرورى. (واخرى) يؤخذ بشرط شىء ، ومقيدا بقيد ، وهو وصف ثبوت الضحك له ، وحمل هذا على الذات ليس بضرورى ، بل ممكن ، والشىء المبحوث عنه هنا ما كان بالنحو الثانى ، فلا محذور فى ذلك.

ثم ان المراد من كون الشىء عرضا عاما بحيث يصدق عليه تعالى ليس بمعنى العرض قبال الجوهر ليقال انه يستحيل ان يكون الواجب تعالى محلا لعروض العوارض ، فكيف يصدق عليه تعالى الشىء ، بل المراد انه عرضى ـ اى خارج عن مقام الذات ـ وليس من ذاتيات الموضوع ، ولكنه محمول عليه فالشىء عرضى ، لا عرض. والفرق بينهما ظاهر.

الرابع ـ ما ذكره شيخنا الاستاذ قده من لزوم اللغو ، وعدم الاثر فى اعتبار مفهوم الشىء. فى المفاهيم الاشتقاقية

. وغير خفى ـ انه لا لغوية فى اعتبار ذلك لاحتياج توسط مفهوم الشىء بين حمل العرض على الذات ، او فقل الحاجة تدعو الى اتخاذ الشىء بمفهومه لتوقف حمل المشتقات على موضوعاتها. لان المشتق مركب من شىء له المادة فلو جرد عن الشيئية امتنع حمل المادة على الموضوع فلا يقال زيد علم.

الخامس ـ ما اورده شيخنا الاستاذ قده من ان اخذ مفهوم الشىء فى المفهوم الاشتقاقى ، يستلزم بناء المشتق لاشتمال كل مشتق على نسبة ،

١٦٦

وربط بين الشىء والمادة. وشأن الحروف المبنية افادة النسب ، فيلزمه ان يكون كل ما شابهها من افادة هذا المعنى (كالمشتقات) مبنيا.

وغير خفى : ان هذه القاعدة ليست عامة لكل مشابه للحروف ، وانما هى خاصة فيما شابهها من الاسماء المشتملة على النسب بمادتها ، وهيئتها كاسماء الموصول ـ مثلا ـ اما المشتملة على النسبة بهيئتها فقط كالضارب ـ مثلا ـ فهى ليست كذلك ، وليس لنا دليل على ان مطلق المشابهة موجب للبناء. فتحصل من كل ذلك انه لا مانع من تكرب المشتق من مفهوم الشىء المبهم ، ومن المادة ، بل البرهان قام على ذلك ـ كما عرفته فى الجواب عن الامر الرابع.

ثم ان بعض القائلين ببساطة المشتق منهم شيخنا الاستاذ قدس‌سره ذكر ان العرض قد يلحظ بما انه وجود فى نفسه فى مقابل الجوهر ، فيكون ملحوظا بشرط لا ، وحينئذ لا يقبل الحمل على سائر الموضوعات ، ويعبر عنه بالمبدإ ، وقد يلحظ بما انه عارض على الموضوع ، وان وجوده فى نفسه عين وجوده لموضوعه ، ويأخذ معه قيد لا بشرط.

فيصح الحمل على سائر الموارد ، ويعبر عنه بالمشتق. فالمشتق ، والمبدأ مختلفان لحاظا ، ومتحدان معنى. فاذا كان المبدأ بسيطا فلا بد وان يكون المشتق مثله.

والجواب عنه ـ اولا : ان الفرق المذكور ، وان كان فرقا صحيحا ، ولكنه ليس فرقا فى الحقيقة بين المشتق ومبدئه ، بل هو بين المصدر واسم المصدر ، ذلك فان العرض كالضرب ، قد يلحظ باعتبار كونه موجودا فى نفسه قبال الجوهر ، ويسمى الدال عليه باسم المصدر ، وقد يلحظ باعتباره من شئون الموضوع ، وعوارضه ، واطواره وان وجوده فى نفسه

١٦٧

عين وجوده لموضوعه ، وقد اعتبر فيه نسبته الى فاعل ما ، ويسمى الدال عليه بالمصدر ولاجل هذا اختلاف يعبّر عن وجوده بالاعتبار الاول بالوجود المحمولى ، وبالاعتبار الثانى بالوجود النعتى ، وقلما يحصل تغاير بين الصيغتين فى اللغة العربية ، بل الاكثر جمعها بصيغة واحدة ، ولكنه يحصل التغاير بين الصيغتين فى اللغة الفارسية كثيرا فيقال : كتك ، وزدن ، پاكيزگى ، وپاكيزه بودن ، نمايش ، ونمايش دادن.

ومن هنا يظهر ان المادة المشتركة فى كلمة ضرب التى هى عبارة عن الضاد ، والراء ، والباء. هى مبدأ لجميع المشتقات. فالمصدر ، او اسم المصدر ليس مبدءا للمشتق لاشتمال كل منهما على خصوصية زائدة على ما يستفاد من نفس المادة ، ومن هنا يظهر ان هذا الفارق لا يكون فارقا بين المبادى والمشتقات لمباينة العرض للجوهر ، ومعه كيف يقال : العرض ان لوحظ لا بشرط ، وان وجوده فى نفسه وجوده لغيره يكون متحدا مع الجوهر ، وقد اشرنا فى بحث صحة السلب الى ان حمل شىء على شىء يتوقف على مغايرة من جهة ، واتحاد من اخرى ، ومن الواضح عدم الاتحاد بين العرض والجوهر مفهوما. اما فى الوجود فهما متغايران حسب الفرض ، فاين الاتحاد بينهما.

ثانيا : لو قلنا ان وجود العرض فى نفسه عين وجوده لموضوعه فليس المشتقات مختصة بالعوارض دواما ، فقد تكون من الامور الاعتبارية كالامكان ، والممكن ، ومن الامور العدمية كالعدم ، والمعدوم ، والامتناع ، والممتنع ، وكيف يتحد الامكان مع الانسان الذى هو ممكن اذا لوحظ لا بشرط. اذ الامكان ليس من اعراض الانسان ليقال : عرض الشىء طور من اطواره ، ووجوده فى نفسه عين وجوده لموضوعه ، بل هو من الاعتباريات

١٦٨

التى لا وجود لها اصلا. وهكذا العدم كيف يتحد مع الذات اذا لوحظ لا بشرط ، اذ لا وجود له ليقال ان وجوده فى نفسه عين وجوده لموضوعه ، وهكذا الممتنع والواجب ، وسائر الاحكام الشرعية من الاستحباب ، والكراهة فانها امور اعتبارية لا وجود لها فى الخارج.

ومع غض النظر عن ذلك كله فنقول : انه لو تم فانما يتم فيما اذا كان المبدأ من عوارض الذات فيقال : ان وجود العرض فى نفسه عين وجوده لموضوعه ، واما فى سائر المشتقات التى لا يكون المبدأ فيها من عوارض الذات فالحديث المذكور لا يتم فيها ، وذلك كاسم الآلة ، واسم المكان ، والزمان فان الفتح فى المفتاح. اذا لوحق لا بشرط كيف يكون عين الحديد ـ اعنى الذات ـ اذ ليس من اعراض الحديد ليقال وجود العرض فى نفسه عين وجود لموضوعه. وكذا (مضرب) فان الضرب ان لوحظ لا بشرط لا يتحد مع الزمان ، والمكان حيث قالوا : ان وجوده فى نفسه عين وجوده لموضوعه ولم يقولوا : وجوده فى نفسه عين وجوده لزمانه ، او مكانه. وكذا (مضروب) فان الضرب لا يتحد مع ذات المضروب ، ولو لوحظ لا بشرط لانه ليس من عوارض من وقع عليه الفعل ليقال وجوده فى نفسه عين وجوده لموضوعه ، بل هو من عوارض الفاعل. والتفكيك فى المشتقات بين تلك الموارد ، والموارد التى يكون المبدأ فيها من اعراض الذات بتركب الاول ، وبساطة الثانى ـ كما ترى ـ لان وضع المشتقات واحد فان كان بسيطا ففى الجميع ، او مركبا فكذلك.

فالمتحصل من هذا ان المفاهيم الاشتقاقية مركبة من مفهوم الشىء ، وثبوت المبدأ له ، ولو لا مفهوم الشىء لما امكن الحمل.

ويؤيد ما ذكرناه فهم العرف لذلك فقد يحمل مشتق على مشتق

١٦٩

فيقال : كل كاتب متحرك الاصابع ، او كل كاتب ضاحك فالمحمول على المبدأ ليس نفس المبدأ ليقال الكتابة حركة أو ضحك ، كما وانه ليس المبدأ مع النسبة ليقال الكتابة المنسوبة الى زيد حركة ، بل الغرض اثبات كل واحد من الكتابة ، والضحك على معروض واحد ، وهو انما يتحقق بدخول مفهوم الشىء فى المفاهيم الاشتقاقية فيقال : كل ما ثبت له الكتابة فهو متحرك الاصابع ، او انه ضاحك. فيصبح الشىء بمفهومه المبهم المندمج ماخوذا فى جميع المشتقات ـ

التنبيه الثانى ـ فى الفرق بين المبدأ ، والمشتق

المعروف بين الفلاسفة ـ على ما نسب اليهم ـ ان الفرق بين المبدأ والمشتق هو لحاظ الاول بشرط لا ، ولحاظ الثانى لا بشرط ـ وقد فسر صاحب الفصول ـ قده ـ كلامهم بما يراد من هذين اللفظين فى بحث المطلق والمقيد ، فقد ذكروا ان الماهية اذا لوحظت بالاضافة الى الخارج ، فقد تلاحظ مقترنة بوجوده او بعدمه ، او مطلقة غير مقيدة بشىء منهما ، ويعبر عن الاول بالماهية بشرط شىء ، وعن الثانى بالماهية بشرط لا ، وعن الثالث بالماهية لا بشرط ، فلو ان لفظا ورد فى مقام الاثبات غير مقيد بشىء ، وحصل الشك فى اطلاقه ثبوتا امكن استكشاف ذلك من الاطلاق فى مقام الاثبات بعد تمامية مقدمات الحكمة ـ كالبيع ـ فانه لو شك فى شموله اللفظى والفعلى لامكن التمسك باطلاقه من دليل الاثبات وهو قوله تعالى ـ (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ـ

ثم اورد عليهم بان الفرق المذكور غير مستقيم. فان قابلية الحمل وعدمها لا تختلف من حيث لحاظ الشىء لا بشرط ، او بشرط لا فان العلم والحركة يمتنع حملهما على الذات. فلا يقال زيد علم. وهذا لا يرتفع بلحاظه لا

١٧٠

بشرط. فالمطلق والمقيد كلاهما غير قابلين للحمل.

و (غير خفى) ان الفلاسفة لم يريدوا من كلامهم هذا المعنى ، فما اورده عليهم فى غير محله.

وقد ذكر صاحب الكفاية ـ قده ـ فى بيان مرادهم ان الفارق بينهما ذاتى ، ليس باعتبارى فان بعض المفاهيم فى مقام ذاته لا بشرط بمعنى انه غير آب عن الحمل ، كالمشتق وبعضها فى مقام ذاته بشرط لا ، وطبعه الإباء عن الحمل على الذات ، كالمبدإ

و (غير خفى) ان هذا بعيد عن كلام الفلاسفة فانه ليس لخصوص المبدأ ، والمشتق بل هو فارق بين كل مفهوم قابل للحمل على الذات ، وما لا يكون قابلا له كالعلم ، والجدار ، بل ان هذا الامر الواضح البديهى لا يناسبه تصدى الفلاسفة لبيانه. فلا وجه لحمل كلامهم عليه.

فالصحيح ان يقال : ان مرادهم هو ان المفهوم الواحد يختلف حاله باللحاظ ، فقد يلحظ لا بشرط فيكون مشتقا ، وقابلا للحمل على الذات ، وقد يلحظ بشرط لا فيكون مبدأ فلا يقبل الحمل. ويظهر ذلك من كلماتهم فى مقام الفرق بين الجنس ، والمادة ، والفصل ، والصورة.

بيان ذلك : ان النوع له وجود فى حد نفسه (فالانسان) موجود بوجود واحد حقيقة ، وليس له وجودان : احدهما ـ للحيوان ، ثانيهما ـ للناطق. وانما العقل يحلل ذلك الى جنس ، وفصل. اما الجنس : فهو الجهة المشتركة بين هذا النوع والانواع الباقية ، واما الفصل فهو الجهة المميزة لهذا النوع عن البقية. ولا يعقل تحقق جهة الامتياز بدون جهة

١٧١

الاشتراك ، كما لا يعقل تحقق جهة الاشتراك ، مع عدم انضمام ما به الفعلية اليها ، واذا ثبت هذا فنحن نجد جهة الاشتراك. تارة يعبّر عنها بالجنس ، واخرى بالمادة. كما ان جهة الامتياز ، قد يعبر عنها بالفصل ، وقد يعبر عنها بالصورة ، وما ذلك إلّا لان اللحاظ مختلف بينهما. فانه قد تلاحظ جهة الاشتراك ، بما له من الحد الوجودى ، وهو كونه قوة ، ومادة ، وقد تلاحظ جهة الامتياز ، بماله من الحد الوجودى الخاص ، وهو كونه فعلية ، وصورة وهما متغايران ـ حينئذ ـ لا يحمل احدهما على الآخر فان المادة لا تكون صورة كما ان الصورة لا تكون مادة ابدا.

كما قد يلاحظان لا بشرط. باعتبار شمول الوجود الواحد لهما خارجا من حيث سريان الوجود ، من الصورة ، وما به الفعلية الى ما به القوة ـ اعنى المادة ـ لانهما موجودان بوجود واحد ، فان التركيب بينهما ليس انضماميا ، بل اتحادى بمعنى ان الوجود سار مما به الفعلية الى ما به القوة ، وبهذا اللحاظ صح الحمل. وفى هذا الاعتبار ، يعبّر عن جهة الاشتراك بالجنس ، وعن جهة الامتياز بالفصل. فيقال : الحيوان ناطق وهاتان الحيثيتان ، واقعيتان ، اختلفتا لحاظا مع وحدة المفهوم والمشتق ومبدؤه من هذا القبيل ، مثلا ـ الضرب له مفهوم واحد. فقد يلحظ بما انه موجود من الموجودات الخارجية ، وهذا معنى اخذه بشرط لا ، فيكون قبال الذات. فلا يصح حمله عليها ، وقد يلحظ لا بشرط بمعنى انه يعتبر بما انه عرض ووصف من اوصاف الذات ، فيكون من طوارئها ومتحدا معها ، فان طور الشىء لا يباينه ، فيصح حمله على الذات ، فاذا ظهر لك مرادهم من قولهم ان المشتق ماخوذ لا بشرط والمبدأ ماخوذ بشرط شىء ، فاعلم ان هذا القول غير صحيح من وجوه :

١٧٢

اولا ـ لما اوضحناه سابقا من بيان الفارق ، وهو ان المشتق مركب من شىء ثبت له المبدأ ، على ان يكون المراد من الشىء هو مفهومه المبهم المندمج المعرى عن كل خصوصية ، الا من حيث الاتصاف بالمبدإ فالمشتق يدل على الذات المقيدة بثبوت المبدأ لها والمبدأ نفس القيد الذى ثبت للذات.

اما ادعاء الفرق بينهما بلحاظ لا بشرط ، وبشرط لا ، فهو غير صحيح لان وجود العرض ، مغاير لوجود الجوهر ، وليس هما وجودا واحدا خارجا ، ومعه كيف يكون العرض بلحاظ لا بشرط متحدا مع الذات ، فلا وجه لقياس ما نحن فيه على الفصل والجنس ، لانهما موجودان بوجود واحد ، وما نحن فيه موجودان بوجودين.

ثانيا ـ لعدم تمامية المعنى المتقدم فى المشتقات الاعتبارية كالامكان ، والوجوب والملكية ، فانها مما لا وجود لها اصلا ليقال : ان وجوده فى نفسه عين وجوده لمعروضه فهو طور من اطوار معروضه وطور الشىء لا يباينه لاختصاص هذا المعنى بالعرض ، دون الامور الاعتبارية.

ثالثا ـ لو تم المعنى المتقدم فى العرض لما جرى فى المشتقات التى ليست بمعروضات كاسماء الآلة ، والمكان ، والزمان ، والمفعول. فانه لو كان وجود العرض فى نفسه عين وجوده لمعروضه ، لما كان عين وجوده لمكانه او زمانه. فالصحيح ما ذكرناه ان الفارق بينهما ، هو ان المشتق يدل على الذات المقيدة بثبوت المبدأ لها. والمبدأ نفس القيد الذى ثبت للذات.

١٧٣

ـ التنبيه الثالث ـ

قد يكون الموضوع الذى يحمل عليه المشتق مغايرا لمبدئه ـ كما فى زيد قائم ـ وقد يكون متحدا معه ـ كما فى صفاته تعالى مثل الله عالم وقادر ـ ولا ريب فى صحة الاول ، انما الاشكال فى الثانى من جهتين :

(الاولى) انه يعتبر فى المشتق ـ كما عرفت ـ تغاير المبدأ مع الذات وكيف يتم هذا المعنى فى صفاته تعالى المحمولة عليه التى اتحد المبدأ فيها مع الذات.

الثانية ـ ان المشتق عبارة عن قيام المبدأ بالذات ، وهو يقتضى الاثنينية بينهما ، وفرض اتحاده مع الذات ـ كما فى صفاته تعالى ـ يستلزم تلبس الشىء بذاته ، او قيام الشىء بنفسه ، وهو محال. مضافا الى انتفاء الاثنينية على هذا التقدير.

((الصفات الجارية عليه تعالى))

وقبل التحقيق فى ذلك نقول : ان بعض الصفات ، التى تصدق عليه تعالى قد تكون عين الذات ، وانها من الاوصاف الذاتية له كالقدرة والعلم وما عاد الى ذلك. وبعضها الآخر تنتزع من افعاله ، وهى مغايرة للذات كالخالق ، والرحيم ، والكريم ، فان ذاته مغايرة لافعاله اذا لخلق غير الله ، وكذا الرحمة ، والكرم. فحال هذا البعض كسائر المشتقات الجارية على الذات.

وصاحب الفصول ـ قده ـ التزم بالتجوز والنقل فى الصفات الذاتية ، فرارا من المحذورين المتقدمين. اما صاحب الكفاية فقد اجاب عن المحذورين السابقين :

١٧٤

اما عن الاول ـ فبكفاية المغايرة المفهومية بين المبدأ والذات ، وهى التى تصحح الحمل فى سائر صفاته. اما الخارج فلا اعتبار له ، وان اتحدا.

واما عن الثانى ـ فبان كيفية التلبس ، والقيام بالمبدإ تختلف باختلاف الصفات فقد يكون بنحو الحلول ، والصدور ، او القيام ، والانتزاع. فان من جملتها الانتزاع عنه مفهوما ، والاتحاد معه خارجا ، فان ذاته تعالى متلبسة بالعلم تلبسا اتحاديا ، ولكن ينتزع من ذلك العالمية ، وهذا النحو من التلبس وان بعد عن اذهان العرف إلّا ان مسئولية العرف انما هى فى معرفة المفاهيم ، دون التطبيق على المصاديق ، وهو يرجع الى العقل ، والعقل لا يفرق فى تطبيقه على زيد ، او عليه تعالى وان اختلفت جهة التلبس بينهما ـ

ثم ذكر ـ قده ـ انه لو لم يكن المراد منها معانيها المتعارفة لزم تعطيل العقول عن فهم الاوراد والاذكار لان المراد بقولنا ـ يا عالم ـ ان يكون من ثبت له العلم ، وهو المطلوب. او من ثبت له ضد العلم وهو الجهل. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، او معنى ثالث لا نفهم ويكون ـ حينئذ ـ من لقلقة اللسان. وعليه فالصفات الجارية عليه تعالى غير منقولة عن معانيها اللغوية التى تفهمها العامة الى معنى اصطلاحى ـ كما ادعاه صاحب الفصول ـ. ولتحقيق هذه المسألة لا بد لنا من البحث فى مقامات ثلاثة :

الاول ـ فى لزوم التغاير بين المبدأ والذات فى المشتقات مفهوما ، او مصداقا.

الثانى ـ فى صحة تلبس الذات بالمبدإ مع اتحادهما خارجا

١٧٥

الثالث ـ اذا تم النقل ـ كما يدعى صاحب الفصول ـ فهل العقول لا تفهم معنى الاذكار والاوراد.

اما البحث عن الاول ـ فنقول : ان التغاير معتبر بين الموضوع ، والمحمول ـ لما عرفت سابقا من ان كل قضية حملية. لا بد فيها من جهة اتحاد ، وتغاير. اما اعتبار التغاير المفهومى ـ فضلا عن التغاير الخارجى بين المبدأ والذات فلا دليل على اعتباره لعدم قيام اى برهان عليه ، بل قد يتحد المبدأ مع العرض فى بعض الموارد مفهوما ومصداقا ، مثل ـ الضوء مضىء ، والنور منير ، والوجود موجود فان الوجود من جهة كونه موجودا بنفسه ، ومن جهة ان الماهية توجد به فهو اولى بان يكون موجودا ، وهكذا النور فانه ظاهر بنفسه ومظهر لغيره ، فاطلاق المشتق عليه بلا عناية ، فالمبادى فى هذه الامثلة عين موضوعاتها ، ولا تغاير بينهما مفهوما فضلا ، عن التغاير خارجا. وعليه فلا مانع من صحة اطلاق صفاته عليه تعالى حقيقة ، وان لم تكن مغايرة فى الخارج بين ذلك.

واما البحث عن الثانى ـ فالمراد بالتلبس ، والقيام فى قولنا الذات متلبسة ليس إلّا واجدية الذات لذلك المبدأ فى مقابل فقدان الذات للمبدا ، ومن المعلوم ان واجدية كل شىء لذاته ضرورية ـ فيكون النور واجدا لنفسه الذى هو ذاته ، وكذلك الوجود ، والضوء فالله تعالى واجد للعلم الذى هو ذاته ، وكذا واجد للقدرة ومتلبس بها. وعلى هذا لا يرد ما اشكل سابقا من استحالة تلبس الشىء بنفسه.

واما البحث عن الثالث ـ وهو ما ذكر من لزوم تعطيل العقول عن فهم الاذكار والاوراد ـ بناء على النقل ـ ففيه : ان هذا الحديث وان تم فى اثبات ان مفهوم الوجود مشترك فيه بين الواجب والممكن ـ على

١٧٦

ما ذكره الحكيم السبزوارى وغيره ـ فان اطلاق الموجود عليه فى قولنا : (يا موجود) اما ان يراد منه شىء له الوجود كما فى اطلاقه على غيره فهو المطلوب. او يراد به مقابله ، وهو يا معدوم فيلزم منه تعطيل العالم عن الصانع ، او يراد منه معنى لا نفهمه ، فيكون مجرد لقلقة لسان ، ويلزم تعطيل العقول ـ حينئذ ـ عن فهم الاوراد والاذكار.

إلّا انه لا يتم فى المقام. لان المبدأ لما كان متحدا مع الذات فى صفاته تعالى لم يكن استعمال المشتق فيه حقيقة لفرض اشتراط المغايرة فى المعنى الموضوع له فلا بد من ارادة معنى آخر منه مجازا فى قولنا : يا عالم مثلا وهو يا من علمه عين ذاته ، وكذا يراد من يا قادر ، يا من قدرته عين ذاته. وكيف كان ، فلا يلزم من عدم ارادة المعنى المتعارف لقلقة اللسان. فلا يلزم التعطيل.

التنبيه الرابع ـ

ان الغرض من بحث المشتق معرفة ما هو الموضوع له ، وهل هو مفهوم منطبق على خصوص المتلبس الفعلى ، او عام ينطبق على ذلك ، وعلى من انقضى عنه المبدأ. اما تطبيق ذلك المفهوم على موارده بنحو الحقيقة ، او الادعاء فهو خارج عن البحث. اذ لا يلزم المجاز فى موارد الادعاء. فان الادعاء ـ كما هو مذهب السكاكى ـ تصرّف فى التطبيق. واما اللفظ فقد استعمل فى معناه الموضوع له فلو قال : زيد اسد فكلمة اسد استعملت فى الحيوان المفترس غايته قد طبق الحيوان المفترس على زيد بنحو من التوسعة لا على سبيل الحقيقة ، بل على نحو الادعاء. ويتضح الحال فى موارد الخطأ ، كما لو ظهر شبح من بعيد ، وتخيّل اسد فقيل : هذا اسد. فالاستعمال هنا ليس بمجاز. لانه استعمال فيما وضع له لا فى غير ما وضع

١٧٧

له مع القرينة وقد توسع فى مرحلة التطبيق جهلا.

وهكذا المشتقات كما لو قيل : النهر جار. فان الجارى قد استعمل بمعنى المتلبس بالجريان وهو حقيقة فيه. اما تطبيقه على النهر بتخيّل انه هو الجارى ادعاء فليس باستعمال مجازى. بلا فرق بين القول ببساطة المشتق وتركبه.

فما عن الفصول من اعتبار التلبس الحقيقى ، فى استعمال المشتق حقيقة فهو من باب الخلط بين الاسناد المجازى ، والحقيقى. فان قولنا : النهر جار ، والميزاب سائل. كل منهما لم يستعمل إلّا في معناه الحقيقى. ولكن المجاز فى اسناد الجريان الى النهر ، اما كلمة المشتق فهى مستعملة فى معناها حقيقة.

ـ وبعبارة اخرى ـ ان فى كلامه خلطا بين المجاز فى الكلمة ، والمجاز فى الاسناد. والمقام من قبيل الثانى دون الاول.

(بحث الاوامر)

الكلام فى الاوامر ويقع فى مقامين :

الاول ـ فى مادة الامر.

الثانى ـ فى هيئة افعل وما يضاهيها.

اما المقام الاول ـ فالبحث يقع عنه من جهات :

الجهة الاولى ـ فى معنى الامر بحسب وضعه لغة ، واصطلاحا.

قد يقال : بوضع مادة الامر لغة لمعان متعددة على سبيل الاشتراك اللفظى.

وقد يقال : بوضعها كذلك لمعنيين : هما الطلب ، ومفهوم الشىء.

١٧٨

وربما قيل : بوضعها للقدر الجامع بينهما على سبيل الاشتراك المعنوى.

اما شيخنا الاستاذ قده فقد ذهب الى القول الاخير مدعيا ان المادة وضعت بازاء معنى خاص ، وهو الواقعة التى لها اهمية ، وجميع المعانى ترجع اليها.

وغير خفى ـ ان الامر ـ كما يستعمل فيما له الاهمية كذلك ـ يستعمل فيما ليس له الاهمية ويتصف بها فيقال : امر لا اهمية له ، واذا كان معنى الاهمية دخيلا فى الموضوع له لزم حين الاتصاف بالواقعة التى ليست لها اهمية ان يتصف الشىء بضده ، او بنقيضه وهو محال. كما وانه لا يكون مشتركا معنويا لان اللازم من وضعه للمعنى الجامع حصول الاشتقاقات منه باى معنى فرضناه مع انه بمعنى الطلب قابل للاشتقاق منه. اما بمعنى الشىء فليس بقابل لذلك ، والاختلاف بينهما دليل على عدم وجود القدر المشترك بين المعانى المتعددة.

والصحيح ان يقال : بالوجه الثانى وهو وضع المادة لمعنيين : الطلب بالمعنى الخاص ، ومفهوم الشىء على سبيل الاشتراك اللفظى. وبيانه ان مادة الامر وضعت بحسب اللغة بازاء الطلب المتعلق بالغير. فيقال : امره بكذا ـ اى طلب ذلك منه ـ. اما الطلب المتعلق بفعل نفسه كقولنا : طلب العلم ، او طلب الضالة فلا يصدق عليه الامر. وعلى هذا فالنسبة بينهما هى العموم المطلق.

كما انها وضعت بازاء معنى ثان : هو مفهوم الشىء ، ولكن لا على اطلاقه ، بل اذا كان من الصفات ، او الافعال غير المنتسبة ـ اى التى لا يؤخذ فيها جهة الانتساب ـ فتكون من قبيل اسماء المصادر. والامر بالمعنى

١٧٩

الاول. قابل لان تحصل منه جميع الاشتقاقات ، ويجمع على اوامر. اما بالمعنى الثانى. فليس بقابل للاشتقاقات وجمعه على امور ، والاختلاف بالجمع ، وبصحة الاشتقاق فى احدهما دون الآخر دليل على الاشتراك اللفظى ، وان كلمة (الامر) موضوعة بوضعين.

واما المعنى الاصطلاحى : فالذى حكاه صاحب الكفاية ـ قده ـ هو النقل عن المعنى اللغوى الى معنى آخر ، وهو القول المخصوص.

واشكل عليه : بان الاشتقاقات لا تتأتى من هذا المعنى فانه على ذلك يكون من الجوامد نظير لفظ الجملة ، والاسم ، والفعل ، والحرف ، وغير ذلك. وعليه فالمعنى الاصطلاحى هو نفس المعنى اللغوى.

تنبيه

ليس لهذا البحث اية ثمرة تترتب عليه فى مقامنا. لان كل ما ورد على لسان الشارع المقدس مما يشتمل على مادة الامر فهو معلوم المراد ، وليس فيه ما يشك فى مدلوله الاستعمالى ليرجع فى تحقيقه الى معرفة الموضوع له.

الجهة الثانية ـ فى اعتبار العلو وعدمه فى صدق الامر.

الظاهر من ارتكاز العرف ان الطلب لا يسمى امرا ، إلّا اذا صدر من العالى ، ولا يعتبر لديهم فيه الاستعلاء. فلو صدر الطلب من العالى بلهجة متواضعة سمى امرا كما ان طلب غير العالى ، وان كان مستعليا لا يسمى امرا واطلاق الامر عليه بلحاظ الاستعلاء لا يخلو من تجوّز ومسامحة.

الجهة الثالثة ـ فى افادة الامر الوجوب.

ادعى صاحب الكفاية ـ قده ـ دلالة مادة الامر على الوجوب بنحو الحقيقة ، وان استعماله فى الندب مجاز. والصحيح ـ حسبما ياتى إن شاء الله

١٨٠