مصابيح الأصول

علاء الدين بحر العلوم

مصابيح الأصول

المؤلف:

علاء الدين بحر العلوم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز نشر الكتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

«الدليل الثانى»

تجويز العقل بتصريح الآمر بعدم ارادة غير المقدمة الموصلة ، وجواز هذا التصريح دليل على وجوب خصوص الموصلة ـ مثلا ـ للمولى ان يقول لعبده اريد الحج ، واريد المسير الذى يوصل الى بيت الله الحرام ، ولا اريد المسير الذى لا يوصل ، ومن الواضح ان المولى لا يتمكن من القول بعدم ارادة جميع المقدمات الموصلة وغيرها ، وكذا لا يسوغ له التصريح بعدم ارادة خصوص المقدمة الموصلة ؛ وهذا آية اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة.

«الدليل الثالث»

ان الغرض من ايجاب المقدمة انما هو ايصالها الى الواجب ووقوعها فى سبيل حصوله ، وإلّا فلا غرض للمولى فى وجود المقدمة ، فلا جرم يكون التوصل بالمقدمة الى الواجب النفسى معتبرا فى مطلوبيتها ، والوجدان شاهد بانه اذا اشتاق الى شىء فلا يشتاق الى المقدمات التى توصله الى ما تعلقت ارادته به ، فالاتيان بالطبيب الى المريض انما يكون محبوبا حيث يوصل الى تداويه ، واما زيارته الى داره ، وعدم مداواته له ، فهو خال عن المحبوبية ، وهكذا سائر الامثلة مما كان الوجدان حاكما فيها بعدم محبوبية غير الموصل من المقدمات.

هذا وقد ناقش صاحب الكفاية (ره) فى الادلة الثلاثة المتقدمة.

«اما مناقشته فى الاول» ـ فحاصله : ان العقل لا يفرق فى الحكم بالملازمة بين المقدمة الموصلة وغيرها ، وذلك لوجود الملاك فى جامع المقدمة وطبيعتها وهو التمكن من اتيان الواجب ، وتوقف القدرة على الاتيان بالواجب عليها فلا وجه لاختصاص الوجوب بالموصلة.

٣٨١

ولكن الجواب عن هذه المناقشة ظهر مما تقدم حيث بينا : ان القدرة على الواجب يتوقف على القدرة على مقدمته لا على وجودها والغاية المطلوبة من وجودها انما هى خصوص ايصالها الى الواجب وترتبه عليها ، فالعقل انما يحكم بالملازمة بين وجوب الشىء ووجوب خصوص مقدماته الموصلة اليه ، واما المقدمات غير الموصلة فالعقل لا يدرك الملازمة بين وجوبه ووجوبها.

«واما مناقشته فى الثانى» فحاصلها : ان تصريح الامر بعدم ارادة المقدمات غير الموصلة جزاف صرف ، كيف والملاك وهو التمكن من اتيان الواجب حاصل فى كلتا المقدمتين الموصلة وغير الموصلة.

ولكن الجواب عن ذلك واضح بعد ـ ما عرفت ـ من اختصاص ملاك الوجوب بالموصلة وعدم شموله لغيرها.

«واما مناقشته فى الثالث» فهى منحلة الى مناقشتين صغرى ، وكبرى.

«اما مناقشته فى الصغرى» فبان الغاية من ايجاب المقدمة ليس إلّا التمكن من اتيان الواجب النفسى لا ترتبه عليها وهذه موجودة فى الموصلة وغيرها.

«واما مناقشته فى الكبرى» : فبان الوجدان قاض بان ما اريد من الاتيان به لاجل غاية من الغايات وتجرد عن الغاية بحيث لم تحصل بعده فلا محالة يقع ذلك الماتى به على صفة الوجوب ، فايجاب المقدمة وان سلمنا ان الغاية له هو ترتب الواجب عليه لكن الغاية لا تكون قيدا للواجب بحيث لو تجرد عنها لم يقع على صفة الوجوب.

و (لا يخفى ما فيهما) اما المناقشة فى الصغرى فقد مرّ ما فيها من

٣٨٢

ان التمكن من الاتيان بذى المقدمة ليس موقوفا على الاتيان بالمقدمة بل هو متوقف على القدرة على المقدمة سواء وجدت المقدمة فى الخارج ام لم توجد.

و (اما المناقشة فى الكبرى) فيردها ان الشىء اذا وجب لغاية من الغايات وكانت الغاية هى التى اقتصت الوجوب فكيف يمكن تحقق الوجوب فى مورد مع فرض عدم تحقق الغاية فيه ، فاذا فرض ان الغاية من ايجاب المقدمة انما هى ايصالها الى الواجب وترتبه عليها ، فلو تجردت عن هذه الغاية ولم يترتب الواجب عليها فكيف تتصف بالوجوب.

«دليل آخر على ايجاب المقدمة الموصلة»

ومما يستدل به على ايجاب خصوص المقدمة الموصلة ، جواز تحريم المولى المقدمات غير الموصلة مع استحالة تحريم مطلق المقدمة ، او خصوص الموصلة منها ، والتفرقة بين الموصلة وغيرها بذلك دليل على عدم وجوب غير الموصلة منها ، وهذا الاستدلال منسوب الى السيد صاحب العروة (قده).

واجاب صاحب الكفاية (قده) عن ذلك بجوابين :

«الجواب الاول»

ان ما ذكر خارج عن مورد النزاع ، لان محل البحث هو ما كانت المقدمات فيه مباحة ، واما اذا كان بعضها محرما فعدم اتصافها بالوجوب الغيرى انما هو لوجود المانع وهو الاتصاف بالحرمة ، لا لعدم المقتضى ، فلا دلالة لجواز المنع عن المقدمة غير الموصلة على اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة.

٣٨٣

و (هذا الجواب صحيح) ويزيده وضوحا جواز المنع عن بعض المقدمات حتى اذا فرض ايصالها الى ذى المقدمة ايضا ، مع انه لا اشكال فى عدم اختصاص الوجوب الغيرى ببعض اقسام الموصلة دون بعضها الآخر.

«الجواب الثانى»

ان تصريح المولى بحرمة المقدمة غير الموصلة غير معقول ، لانه مستلزم اما لطلب الحاصل ، او لجواز تفويت الواجب النفسى مع الاختيار ، وكلاهما محال :

(بيان الاول) هو ان وجوب ذى المقدمة يتوقف على القدرة عليه وهى تتوقف على جواز مقدمته ، وهو يتوقف على الاتيان بالواجب النفسى اذ بدونه لا تتصف المقدمة بالجواز ، ونتيجة ذلك ان وجوب الواجب النفسى يتوقف على الاتيان به وهو طلب الحاصل.

و (اما بيان الثانى) فلان المكلف اذا لم يات بالواجب النفسى كانت مقدمته محرمة على الفرض فلا يكون الواجب مقدورا ، فيجوز له ترك الواجب اختيارا لان تحصيل القدرة غير لازم (وبعبارة اخرى) ان وجوب الواجب النفسى مشروط بالقدرة على نفس الواجب ، والقدرة عليه موقوفة على التمكن من المقدمة عقلا ، وشرعا ، بحيث لو لم يكن متمكنا منها لما تمكن من امتثال الواجب النفسى ، وبما ان جواز المقدمة لا يكون إلّا عند الاتيان بالواجب النفسى ، فمع عدمه تكون المقدمة محرمة ، فلا يكون الواجب النفسى مقدورا فمع مخالفته لا يستحق العقاب.

(والجواب عن ذلك) ان الايراد المذكور انما يتم لو اعتبر الايصال قيدا فى الوجوب فان جواز المقدمة ـ حينئذ ـ يكون مشروطا بالايصال

٣٨٤

الخارجى ، واما لو اعتبر قيدا فى الواجب فلا يلزم المحذور ، وذلك : لان جواز المقدمة لا يتوقف على الايصال الخارجى وانما هو ثابت قبل تحققه خارجا ، وإنما تعلق الجواز بالمقدمة الموصلة والمفروض تمكن المكلف منها ، فلا يجوز بناء على هذا ترك الواجب النفسى اصلا.

و (بعبارة اخرى) لما كان العبد قادرا على الاتيان بالمقدمة الموصلة للقدرة على قيدها كان امتثال التكليف بالواجب النفسى مقدورا فلا يستطيع العبد على مخالفته.

٣٨٥

المقدمة حال الايصال

ثم ان شيخنا الاستاذ (قده) بعد ان راى ان الوجدان لا يساعد على القول بوجوب المقدمة مطلقا ، ورأى ان الدليل لا يساعد على وجوب خصوص المقدمة الموصلة ، تابع صاحب حاشية المعالم (قده) فى اختيار مسلكه من ان المقدمة واجبة من حيث الايصال ، وان خالفه فى بعض صوره ، وبيان ذلك : انه بناء على ان العقل يحكم بالملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها شرعا ، بمعنى ان المولى اذا امر بشىء وكان موقوفا على مقدمة ، فلا بد وان يحكم بوجوب تلك المقدمة لتوقف الواجب عليها ، لا محالة يكون الغرض قائما بخصوص المقدمة الموصلة الى ذلك الواجب ، وإلّا فغير الموصلة لا ترتبط بمطلوبه ليتعلق طلبه بها ، وهذا امر وجدانى

إلّا ان البرهان لما لم يساعد على تقييدها بالموصلة ـ لما ذكرنا سابقا فى الاشكال على صاحب الفصول (ره) من استلزامه الدور ، او التسلسل تعين ـ حينئذ ـ ان نسلك مسلكا آخر فنقول : ان قيد الايصال لا يخلو امره ، اما ان يعود الى وجوب المقدمة ، او الى الواجب دون الوجوب.

و (على الاول) وهو رجوع القيد الى الوجوب فيلزم التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها فى الاطلاق ، والاشتراط ، لان معناه ان وجوب المقدمة مقيد بالايصال ، واما الواجب النفسى فغير مقيد به ـ وقد عرفت سابقا ـ ان مقتضى الملازمة تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها فى الاطلاق ، والاشتراط.

و (على الثانى) وهو رجوع القيد الى الواجب دون الوجوب ، فلازمه

٣٨٦

هو القول بالدور ، او التسلسل ، وهما محالان ؛ كما مر بيان ذلك مفصلا واذا ثبت امتناع التقييد بالايصال سواء كان بالاضافة الى الوجوب ام الواجب ، امتنع الاطلاق بالضرورة ، فلا مجال للقول بوجوب المقدمة مطلقا سواء كانت موصلة ام لا ، ـ لما مرّ فى بحث التعبدى ، والتوصلى ، من ان التقابل بين الاطلاق ، والتقييد تقابل الملكة ، والعدم لا تقابل الضدين ، ونتيجة ذلك ان معروض الوجوب الغيرى لم يؤخذ مقيدا ، ولا مطلقا ، بل هو مهمل من هذه الجهة.

لكن الغرض من ايجابه لما كان هو التوصل به الى الواجب ، فلا بدّ من القول بان المقدمة واجبة من حيث الايصال ، بمعنى ان الداعى الى ايجابها هو كونها موصلة الى الواجب النفسى ، لا انها مقيدة بالايصال ، وذلك لان المفروض ان المقدمة من حيث هى لا غرض فيها ، ولا مصلحة تقتضيها ، وانما اوجبها المولى لهذا الداعى وهو التوصل بها الى الواجب ، وحيث تعذر تقييدها بذلك لم يقيدها به ، فالمقدمة التى لا تكون واقعة فى السلسلة المذكورة لا تكون واجبة فلو جاء المكلف بالمقدمة ولم توصل الى الواجب النفسى بقيت على حكمها قبل كونها مقدمة ، وهذا هو المقدار المتفق عليه بين شيخنا الاستاذ ، وصاحب الحاشية ـ قدس‌سرهما ـ

واما مورد الاختلاف بينهما : فذلك فى المقدمة المحرمة التى تقع لواجب اهم ـ كسلوك الارض المغصوبة لانقاذ الغريق ـ فقد ادعى صاحب الحاشية (قده) ان المقدمة المذكورة انما تتصف بالوجوب من حيث ايصالها الى انقاذ الغريق ، وتتصف بالحرمة فى نفس الوقت على تقدير عصيان الامر الوارد عليها ، وهو وجوب السلوك من حيث الانقاذ فهى متصفة بحكمين متضادين الوجوب ، والحرمة على نحو الترتب واما

٣٨٧

على مسلك شيخنا الاستاذ (قده) فى باب الترتب ، فالمقدمة المذكورة متصفة بالوجوب من حيث الايصال الى الواجب النفسى ، ومتصفة بالحرمة على تقدير عصيان خطاب ذلك الواجب النفسى ، لا الخطاب المتوجه اليها.

وكيف كان فكلاهما متفقان على بقاء حرمة المقدمة المحرمة اذا لم يترتب عليها الايصال وان اختلفا فى الطريق.

و (الجواب على ذلك) ـ اما اولا ـ فبان محذور الدور ، والتسلسل غير وارد هنا كما اوضحناه فى رد الاشكال على صاحب الفصول.

و (ثانيا) ـ ان ما ذكره (قده) من وجود الملازمة بين استحالة التقييد والاطلاق غير مسلم ، فان التقييد ان استحال فى مورد فلا بدّ وان يثبت الاطلاق ، او التقييد بشىء آخر ، ـ كما سبق بيانه غير مرة ـ لان كل شىء بحسب واقعه بعد ملاحظته بالاضافة الى شىء آخر اما ان يقيد به ، او يقيد بعدمه ، او يطلق ، ولا يكون مهملا لان الاهمال فى الواقعيات غير صحيح ، فلو تعذر التقييد بكل من الوجود والعدم ، ثبت الاطلاق لا محالة ، وهنا لما كان التقييد بالايصال مستحيلا ، وكان التقييد بعدمه مستحيلا ايضا ، تعين الاطلاق بالضرورة ، فكان وجوب المقدمة مطلقا ، ويثبت ـ حينئذ ـ ما ذهب اليه صاحب الكفاية (قده).

و (ثالثا) ان الترتب الذى اختاره (قده) هنا ليس بتام ، وان قلنا : بصحة الترتب فى محله لان اجتماع الحكمين المتضادين على الشىء الواحد بعنوان الترتب غير صحيح ، وانما الصحيح ـ كما سيجىء إن شاء الله تعالى فى بحث الترتب ـ ورود حكمين على موضوعين فى آن واحد لمكلف واحد ـ كالازالة ، والصلاة ـ فيقال : بوجوب الازالة ، ووجوب الصلاة على تقدير عصيان الازالة فى آن واحد ، بيان ذلك : ان الترتب وان قلنا به :

٣٨٨

فيما لو كان ترك احد الضدين مقدمة لوجود الضد الآخر ، إلّا ان القول به هنا غير صحيح ، فان لازمه ان وجوب المقدمة يكون مشروطا باطاعة الواجب النفسى ، كما ان حرمتها مشروطة بعصيانه و ـ حينئذ ـ لا بد من النظر الى ذلك الواجب النفسى لنرى الحال فيه فهل هو ايضا مقيد بالاتيان بنفسه اولا؟ فان لم يكن مقيدا بل كان مطلقا من هذه الجهة لزم محذور التفكيك بين المقدمة وذيها ، حيث كانت مقيدة وكان الواجب مطلقا ـ وقد عرفت انهما غير منفكين من حيث الاطلاق ، والاشتراط ـ اما لو كان مقيدا بالاتيان بنفسه ، فيتوجه اشكال طلب الحاصل ، لان معنى تقييد الوجوب فى الواجب النفسى بالاتيان به ، هو انه على تقدير وجوده يتصف بالوجوب وهذا هو معنى طلب الحاصل.

فالمتحصل مما قلناه : ان الواجب من المقدمة ما وقعت فى سلسلة علل وجود الشىء ، وان المراد من الايصال هو الاشارة الى الذات التى وقعت فى السلسلة.

٣٨٩

ثمرة النزاع فى وجوب المقدمة

ذكر القوم ثمرات للنزاع فى المقدمة.

«الثمرة الاولى»

فساد العبادة اذا كان تركها مقدمة لوجود واجب اهم منها ، بناء على القول بوجوب مطلق المقدمة ـ وصحتها ـ بناء على القول بالمقدمة الموصلة ـ بيان ذلك : ان ترك الصلاة (مثلا) اذا كان مقدمة لوجود الازالة ـ التى هى الواجب الاهم ـ لا محالة كان ذلك الترك واجبا ـ بناء على الملازمة ـ واذا صار الترك واجبا كان الفعل منهيا عنه ـ بناء على ان الامر بالشىء يقتضى النهى عن ضده ـ ولا بد من فساده ـ ان كان عبادة ـ (بناء على ان النهى فى العبادة يوجب الفساد) هذا بناء على وجوب مطلق المقدمة.

واما على القول بوجوب المقدمة الموصلة خاصة ، فالعبادة ليست بفاسدة لان الواجب من المقدمة لواجب اهم انما هو الترك الموصل اى ـ الترك الخاص ـ وايجاب ذلك الفعل وان استلزم النهى عن نقيضه ، إلّا ان نقيضه ليس هو الفعل بل عدم الترك الخاص وهذا ـ اى عدم الترك الخاص ـ ليس عين الصلاة بل مقارن له لتحققه فى فعل الصلاة (تارة) وفى غيرها (اخرى) وبديهى ان الحرمة لا تسرى من احد المتلازمين الى الآخر فضلا عن المقارن له ، وعليه ففعل الصلاة لا يكون منهيا عنه ، فلا تقع الصلاة فاسدة.

واشكل على ذلك شيخنا الانصارى (قده) على ما نسب اليه فى

٣٩٠

التقريرات من ان هذه الثمرة ليست بتامة ، وذلك (فان نقيض كل شىء رفعه) ومن المعلوم ان نقيض الترك الخاص ، اعم من نقيض الترك المطلق ، لان نقيض الاخص ، اعم من نقيض الاعم ، وهذا النقيض وهو ـ ترك الترك الخاص ـ كما ينطبق على فعل الصلاة ، كذلك ينطبق على الترك المجرد ، فاذا بنينا على حرمة النقيض كانت الحرمة بنفسها سارية الى جميع افراد ما ينطبق عليها ذلك النقيض التى من جملتها فعل الصلاة ، ففعل الصلاة وان لم يكن بنفسه نقيضا إلّا انه من افراد النقيض ، وحرمة النقيض تسرى الى الافراد قطعا ، وعليه فالعبادة فاسدة.

واشكل صاحب الكفاية (قده) على ذلك بما حاصله ان المراد من ـ ان نقيض كل شىء رفعه ـ ليس هو ان نقيض الترك ، عدم الترك ، ونقيض عدم الترك ، عدم عدم الترك ؛ وهكذا الى ما لا نهاية له ، بل المراد منه ان نقيض العدم هو الوجود ، ونقيض الوجود هو العدم ، ولاجل هذا التقابل ثبت ـ ان النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان ـ فلو قلنا : بان مطلق المقدمة واجب وقلنا : ان ترك الصلاة مطلقا واجب كان نقيض ترك الصلاة هو وجود الصلاة فيكون فعل الصلاة منهيا عنه فتبطل على فرض الاتيان بها ، وهذا بخلاف ما لو قلنا : بان الواجب هو الترك الخاص ، فان نقيض الترك الخاص هو عدمه ، وهذا قد يقارن الفعل ، وقد يفارقه ، وحرمة الشىء لا تسرى الى ملازمه فضلا عن مقارنه ، فلا يكون فعل الصلاة محرما ، فالعبادة صحيحة لو اراد العبد ان يتقرب بها.

وهذا الاشكال على الشيخ (ره) متين جدا و ـ بناء عليه ـ فالثمرة التى ذكرها صاحب الفصول (ره) تامة ، ـ بناء على وجوب المقدمة ، وكون ترك احد الضدين مقدمة للضد الآخر ، وان مثل هذا النهى موجب للفساد ـ

٣٩١

ـ وسيأتى إن شاء الله تعالى ـ بطلان ذلك ، نعم من مطاوى حديثنا ظهر ان هناك ثمرة للنزاع ، وهى ما لو كانت المقدمة محرمة ـ فبناء على ما ذكره صاحب الكفاية من وجوب المقدمة مطلقا ـ ترتفع الحرمة وتتصف بالوجوب حتى لو لم بقصد بها التوصل الى الواجب ، فلو امر المولى بانقاذ غريق وتوقف انقاذه على سلوك الارض المغصوبة ، فان حرمة التصرف فيها تزول لمعارضتها بالاهم وتتصف بالوجوب ، واما بناء على عدم وجوب المقدمة مطلقا ، او وجوب خصوص الموصلة منها ، فان الحرمة تبقى بحالها إلّا اذا توصل بها الى الواجب ، اما فى صورة عدم وجوب المقدمة فلان الحرمة لا يمكن بقاؤها من جهة الضرورة المبيحة للتصرف فيها ، إلّا ان الضرورة لا تبيح إلّا بمقدار ما ترتفع به وهو خصوص السلوك الموصل الى الواجب النفسى دون غيره ، واما فى صورة وجوب المقدمة الموصلة فالامر واضح لان الذى وجب هو خصوص السلوك الموصل وما عداه يبقى على حرمته ، واما بناء على مسلك الشيخ الانصارى (قده) من وجوب خصوص ما قصد به التوصل ، فلو لم يقصد الداخل التوصل به الى الواجب كانت الحرمة باقية ، وهذه الثمرة لا بأس بها بل ثمرة الاصولى فى النزاع فى وجوب المقدمة وعدمه هى هذه لانها ثمرة فقهية مترتبة على هذا النزاع.

«الثمرة الثانية»

امكان الاتيان بالمقدمة عبادة على تقدير ثبوت الوجوب لها فانه ـ حينئذ ـ يمكن التقرب بها من المولى ، واما على تقدير عدم اتصاف ثبوت الوجوب لها فلا يمكن التقرب بها من المولى ـ فيما عدا الطهارات الثلاث ـ

٣٩٢

و (غير خفى) : ان التقرب لا يتوقف على القول بالوجوب بل يكفى فيه قصد الامر النفسى المترتب عليها لانه يكون فى مقام الانقياد ، والطاعة ، حيث ذكرنا فيما سبق ـ ان العبادية تتحقق باحد امرين :

اما قصد الامر المتوجه الى الشىء بنفسه ، او قصد الامر المتوجه الى الواجب النفسى المتوقف على هذه المقدمة ـ واما فى الطهارات الثلاث ـ فان العبادية فيها تتحقق باتيانها بداعى امرها النفسى الاستحبابى.

«الثمرة الثالثة»

برء النذر بالاتيان بالمقدمة على القول بوجوبها اذا تعلق النذر بفعل واجب ، فعلى القول : بوجوب المقدمة مطلقا يجزيه لو اتى بها ولو لم يأت بالواجب النفسى بعدها ، وعلى القول بعدم الوجوب لا تجزى.

و (غير خفى) ـ (اولا) ان البحث عن برء النذر ليس بحثا اصوليا ، لان المسألة الاصولية ما وقعت نتيجتها فى طريق استنباط الحكم الكلى ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل لان المترتب عليها انما هو انطباق المعلوم وجوبه بدليله على الاتيان بالمقدمة.

و (ثانيا) ـ ان الوفاء بالنذر تابع لقصد الناذر فان قصد من لفظ الواجب حين نذره خصوص الواجب النفسى لم يجز الاتيان بالمقدمة حتى لو قلنا بوجوبها ـ وان قصد من نذره ما يلزم الاتيان به شرعا ، او عقلا فيحصل الوفاء بالمقدمة ولو لم نقل بالوجوب شرعا. نعم لو كان قصد الناذر من لفظ الواجب مطلق الواجب ولم يكن فى البين انصراف الى خصوص الواجب النفسى فهو وان برئت ذمته بالمقدمة على تقدير وجوبها ، إلّا أنّك عرفت انه من تطبيق الحكم الكلى على مصداقه وهو ليس بمسألة اصولية.

٣٩٣

و (ثالثا) ـ ان هذا يتم على القول بوجوب مطلق المقدمة ، فان الاتيان بها مما يوجب براءة ذمته ، واما على القول : بان الواجب منها حصة خاصة وهى التى كانت توأما مع الايصال الخارجى فلا محالة تكون غير منفكة عن الواجب النفسى ، اذ قبل الاتيان بالواجب النفسى لا تكون الافعال متصفة بالوجوب ، وبعده يحصل الوفاء بالاتيان بالواجب النفسى ، فاى اثر يترتب على هذا التقدير.

«الثمرة الرابعة»

عدم جواز اخذ الاجرة على المقدمة ـ بناء على وجوبها ـ لانه من اخذ الاجرة على الواجبات ، وجواز ذلك ـ بناء على عدم الوجوب ـ و (غير خفى) ـ اولا ـ ان هذا الامر يختص بالمقدمات غير العبادية ، واما العبادية منها فلا يجوز اخذ الاجرة عليها ، وان لم نقل بوجوبها ـ بناء على عدم جواز اخذ الاجرة على العبادات ـ.

و (ثانيا) ـ انه لا منافاة بين وجوب شىء واخذ الاجرة عليه كما ـ فى الصناعات الواجبة ـ وغيرها. التى يكون وجوبها كفائيا ، فان الغرض من ايجابها لزوم ايجادها خارجا نظرا لتوقف النظام عليها وهذا لا يقتضى كونها على نحو المجانية ، نعم اذا قامت القرينة على لزوم الاتيان بالعمل مجانا لم يجز اخذ الاجرة عليه ـ كتغسيل الميت ـ و ـ دفنه ـ وعلى ذلك فلا بأس باخذ الاجرة على مقدمة الواجب قلنا : بوجوبه ام لا.

«الثمرة الخامسة»

تحقق الفسق بترك الواجب الذى له مقدمات متعددة ، فعلى القول بوجوب المقدمة يصدق عليه انه تارك لواجبات كثيرة فيثبت فسقه.

٣٩٤

و (غير خفى) ـ اولا ـ ان الثمرة متوقفة على القول بان تارك المقدمة مستحق العقاب و ـ قد عرفت مما تقدم ـ ان ترك الواجب الغيرى لا يستوجب العقاب فلا يكون معصية.

و (ثانيا) ـ انه لا بد وان يفرض الكلام فيما اذا كان ترك الواجب النفسى من الصغائر ، وإلّا فلو كان من الكبائر لكان تركه بنفسه موجبا للفسق بلا حاجة الى المقدمة.

و (ثالثا) ـ انه لو كان من الصغائر فلا بد من تحقق مفهوم الاصرار بترك الواجبات المتعددة دفعة واحدة ، والظاهر عدم تحقق الاصرار بذلك بل لا بد من ان يكون الترك دفعات. فلو ارتكب الصغائر دفعة واحدة فالاصرار لا يصدق معها. وذلك ـ كمن نظر الى نساء متعددات بنظر واحد ـ فانه يصدق عليه ارتكاب ذنوب متعددة ولا يصدق معها الاصرار.

و (رابعا) ـ مع تسليم جميع هذه الامور فهى لا تصلح ان تكون نتيجة للمسألة الاصولية ، فان المسألة الاصولية عبارة عما وقعت نتيجتها فى طريق استنباط الحكم الكلى ـ كما سبق ـ وما نحن فيه ليس كذلك ، بل هو من تطبيق الحكم المستنبط على موارده.

«الثمرة السادسة»

انه على القول بوجوب المقدمة يلزم اجتماع الامر والنهى فيما لو كانت محرمة ، وعلى القول بعدم الوجوب فلا تنصف الا بالحرمة.

واشكل عليها صاحب الكفاية (ره) بامور ثلاثة.

(الامر الاول) ـ ان بحث اجتماع الامر والنهى انما هو فيما اذا كان هناك عنوانان تعلق باحدهما الوجوب وبالآخر الحرمة ، وقد اجتمعا

٣٩٥

فى مورد واحد اتفاقا واما اذا كان هناك عنوان واحد تعلق به كلا الحكمين فلا ريب انه داخل فى ـ مسألة النهى عن العبادة ـ وما نحن فيه من قبيل الثانى ، فان ذات المقدمة هى مركب للامر لا عنوان ما يتوقف عليه الواجب ، وانما العنوان جهة تعليلية للحكم بوجوب الذات لا جهة تقييدية.

و (غير خفى) ـ ان عنوان المقدمة وان لم يكن موردا للامر إلّا ان المأمور به هو الكلى الذى يتوقف عليه الواجب ، وهذه المقدمة الخاصة مصداق من مصاديقه فتتصف بالوجوب ـ بناء على وجوب المقدمة ـ وهى محرمة كما هو المفروض فتكون من موارد اجتماع الامر والنهى.

(الامر الثانى) ـ ان المقدمة ان كانت منحصرة فاما ان يكون ملاك الامر اقوى فلا حرمة ـ حينئذ ـ ، واما ان يكون اضعف فيسقط الواجب عن الوجوب فلا اجتماع على التقديرين ؛ وان كانت غير منحصرة فالعقل يحكم بالتلازم بين وجوب خصوص المقدمة المباحة ، ووجوب الواجب النفسى. ولا يحكم بالتلازم بين وجوب مطلق المقدمة لتكون المحرمة احد افراد الواجب فتجتمع الحرمة والوجوب ويكون المجمع من موارد اجتماع الامر والنهى.

و (غير خفى) : انه فى صورة عدم انحصار المقدمة بالمحرمة لا ينحصر الوجوب بخصوص المباحة ـ على ما ذكره ـ اذ بعد واجدية كل من المقدمتين المحرمة ، وغيرها. للملاك المقتضى للوجوب وهو توقف الواجب عليها ، لا وجه لاختصاص الوجوب بالمباحة ، اما كون احدى المقدمتين محرمة ، فذلك لا يخرجها عن واجدية الملاك. وكما ان الواجب النفسى اذا انضم اليه عنوان محرم لا يخرجه عن واجديته لملاك الوجوب

٣٩٦

ـ بناء على جواز اجتماع الامر والنهى ـ كذلك الواجب الغيرى لا يخرج عن واجديته للملاك. وعليه فالثمرة تحصل من هذه الجهة ـ بناء على جواز الاجتماع ـ ما لم يمنع منها امر آخر.

(الامر الثالث) ـ ان القول بوجوب المقدمة وعدمه لا اثر له فى المقام فان الغرض من المقدمة هو التوصل بها الى الواجب النفسى فان كانت توصلية امكن التوصل بالمقدمة المحرمة الى الواجب النفسى قلنا : بوجوب المقدمة ام لم نقل به. واذا كانت المقدمة عبادية ـ كالطهارات الثلاث ـ فان قلنا : بامتناع الاجتماع حكم ببطلانها اذا كانت محرمة سواء قلنا : بوجوب المقدمة ام لم نقل ، وان قلنا : بجوازه صحت على القول بعدم الوجوب ايضا ، وذلك من جهة ان عباديتها لم تنشأ من الامر الغيرى المتعلق بها وانما نشأت من اوامرها النفسية. فلا ثمرة للقول بوجوب المقدمة من هذه الناحية.

والاشكال المذكور من صاحب الكفاية (ره) على الثمرة السادسة متين جدا.

٣٩٧

الواجب الاصلى والتبعى

ذكر صاحب الكفاية (قده) فى بحث المقدمة الواجب امورا اربعة.

وقد تضمن ـ الامر الاول ـ البحث عن وجوب المقدمة وانها من المسائل الاصولية العقلية. ـ وتضمن الامر الثانى ـ تقسيم المقدمة الى داخلية ، وخارجية ، ومتقدمة ، ومقارنة ، ولا حقة ، وغير ذلك من التقسيمات ـ والامر الثالث ـ تعرض لتقسيم الواجب الى مطلق ، ومشروط ، ومنجز ، ومعلق ، وغير ذلك ـ اما الامر الرابع ـ فقد تطرق للبحث عما هو الواجب من المقدمة بعد ثبوت وجوبها وتبعيتها فى الاطلاق ، والاشتراط لذيها وبعد الانتهاء من الامور الاربعة ذكر انقسام الواجب الى الاصلى ، والتبعى. وكان لزاما عليه ان يدرجه فى الامر الثالث. لانه من شئون تقسيم الواجب. والذى اخاله انه كان من قبيل الغلط ، والاشتباه ولعله كان من الناسخ. وكيف كان ـ فالتعرض لهذا التقسيم هنا انما هو تبعا لصاحب الكفاية ، وإلّا فهو عديم الاثر والفائدة.

اعلم ان تقسيم الواجب الى الاصلى ، والتبعى. (تارة) ـ يلاحظ فى مرحلة الثبوت و (اخرى) ـ فى مرحلة الاثبات.

(اما المرحلة الاولى) ـ فالواجب الاصلى هو ما تعلق الطلب به استقلالا وكان المولى ملتفتا اليه ، ومريدا له اصالة ـ الواجب التبعى ـ ما تعلق الطلب به بلا التفات وانما بتبع غيره ، ومن البديهى اتصاف الواجب الغيرى بكل منهما ، واما الواجب النفسى فلا يتصف الا بالاصالة دون

٣٩٨

التبعية. وذلك للزوم الالتفات فى الواجب النفسى.

(واما المرحلة الثانية) ـ فالواجب الاصلى هو ما قصد بالافادة من الكلام بحيث كانت دلالة الكلام عليه بالمطابقة و ـ الواجب التبعى ـ ما لم يكن كذلك بل كانت دلالة الكلام عليه بالالتزام ، ومن المعلوم اتصاف الواجب الغيرى بكل منها فى هذه المرحلة وهى ـ الاثبات ـ كما ان الواجب النفسى يتصف بكل منهما ايضا.

ثم ان علم ان الواجب اصلى او تبعى عمل على طبقه. وان شك فيه فحيث لا اثر لذلك فانه لا معنى لبيان ما يقتضيه الاصل ، او القاعدة فى هذه المرحلة لان الاثر مرتب على الواجب وهو يترتب على كل من الاصلى ، والتبعى. بلا فرق بينهما. وان قيل : بان الاصل عند الشك هو كونه تبعيا وذلك لاحتياج الاصلى الى التفات اليه وطلبه بارادة مستقلة ، والاصل عدم تحقق الارادة المستقلة.

تأسيس الاصل

والبحث يقع عما يقتضيه الاصل عند الشك فى وجوب المقدمة وعدمها. وهو فى مقامين :

(المقام الاول) ـ فى الاصل العملى.

(المقام الثانى) ـ فى الاصل اللفظى.

اما البحث عن (المقام الاول) ـ فقد ادعى صاحب الكفاية (ره) انه لا اصل لنا فى المسألة الاصولية يعين الملازمة عند الشك فى وجوب المقدمة لان الملازمة على تقدير ثبوتها ازلية لا تقبل المناقشة ، كما انها على تقدير عدمها ازلية ايضا. اذن فلا مجرى للاصل فيها ليقال : ان

٣٩٩

الاصل هو عدم الملازمة.

واما فى المسألة الفرعية : وهى وجوب المقدمة الخاصة كما اذا علم وجوب الصلاة وشك فى وجوب مقدمتها. فانه لا مانع من جريان اصالة عدم الوجوب فيقال : انه قبل حكم الشارع بوجوب الصلاة لم تكن المقدمة واجبة لعدم وجوب ذيها ، وبعد الحكم بوجوب الصلاة شك فى وجوب المقدمة. ومقتضى الاصل استصحاب عدم الوجوب ، او اجراء اصل البراءة من التكليف.

و (غير خفى) ـ ان ما جاء به (قده) فى المسألة الاصولية من عدم وجود اصل عملى يعين لنا الوظيفة الشرعية مسلم ، انما الاشكال فيما جاء به فى المسألة الفرعية ، والاصل لا يخلو : اما البراءة ، او الاستصحاب.

و (الاولى) ـ لا تجرى بكلا قسيمها : اما العقلية منها ، فلانها وارادة لنفى العقاب ، والمفروض ان المقدمة لا يستلزم تركها عقابا ، وان قلنا : بوجوبها وانما العقاب على ترك الواجب النفسى. ـ واما الشرعية منها ، فلان حديث الرفع وارد مورد الامتنان ففى مورد يكون فى عمل التكليف كلفة على العبد فانه يرفع امتنانا بهذا الحديث ، اما اذا كان التكليف غير مستلزم عقابا فليس فى رفعه منة ، ـ على ان العقل يلزم بالاتيان بها قلنا بالوجوب ام لم نقل : لانه لا بد من الاتيان بها لتوقف الواجب النفسى عليها فاى منة فى رفع الوجوب بعد لزوم الاتيان بها بنظر العقل.

و (الثانى) وهو الاستصحاب لا يجرى ايضا ، فان اركانه وان تمت من يقين سابق وشك لا حق إلّا انه عديم الاثر نظرا الى حكم العقل باتيان نفس المقدمة بعد وجوب ذيها ، ومعه لا فائدة للحكم الشرعى.

٤٠٠