مصابيح الأصول

علاء الدين بحر العلوم

مصابيح الأصول

المؤلف:

علاء الدين بحر العلوم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز نشر الكتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

وجه الله تعالى بل قصد به امرا دنيويا ترتب عليه ذلك الامر الدنيوى ، وقد اشير الى هذا المعنى فى باب الجهاد «ان المجاهد ان جاهد لله تعالى فالعمل له تعالى وان جاهد لطلب المال والدنيا فله ما نوى» (وبتعبير آخر) ان للفعل اثرين : (احدهما) استحقاق الثواب (ثانيهما) عدم حصول العقاب عليه ، والمقصود من هذه الرواية الاثر الاول ، وان الانسان ما لم يأت بالواجب لله تعالى لا يترتب عليه الثواب ، وليس لها نظر الى الاثر الثانى فلا تدل على انه اذا لم يأت به قريبا لا يكون مسقطا للعقاب حتى يكون الواجب باقيا على حاله فيدل على ما اراده المستدل ، مضافا الى ذلك لزوم تخصيص الاكثر لو التزمنا بتقريب المستدل وهو مستهجن باعتبار ان اكثر الواجبات توصلية.

(الوجه الثالث) قوله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) بتقريب ان الله تعالى حصر المأمور به فى العبادة التى تكون خالصة له وهى التقرب ، وهذا هو معنى ان الاصل فى الواجبات التعبدية ، ولا يعدل عنه الى التوصلية إلّا بدليل خاص.

(والجواب عنه) ان مقتضى سياق الآية الشريفة يوجب صرف ظهورها عن المدعى ، حيث انها وردت فى سياق قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) ويستفاد من هذا ان الله تعالى فى مقام حصر العبادة فى العبادة لله ، وليس بصدد حصر الواجبات فى العبادة حيث ان الكفار عبدوا الاوثان فردّ عليهم ، بما حاصله ان الله تعالى اذا امر بعبادة فهو يأمر بعبادة له ، لا لغيره ، وهذا المعنى اجنبى عن المدعى.

وعلى هذا فالمتحصل من هذه الوجوه ، ومناقشتها ان لا اصل لفظى

٢٤١

يعين اصالة التعبدية ليرجع اليه عند الشك.

الاصل العملى عند الشك فى التعبدية والتوصلية

انه لو فرض ان دليل الواجب لم يكن لفظيا ، بل كان لبيا كالاجماع ، ونحوه ، او كان الدليل عليه لفظيا ، ولكن المولى لم يكن فى مقام البيان او كان فى مقام البيان ولكن التزمنا باستحالة الاطلاق لعدم امكان التقييد فهل الاصل العملى يقتضى توصلية ذلك الواجب او تعبديته؟

واعلم ان الاصل يختلف باختلاف المسالك من حيث امكان اخذ داعى الامر فى المتعلق ، واستحالته ، فعلى ما سلكناه (من امكان اخذ داعى الامر فى العبادة) ، فحال هذا القيد كسائر الاجزاء والشرائط فمع الشك فى اعتبار ذلك فى المأمور به يكون المرجع عند الشك هو البراءة بكلا قسميها ، لانه شك فى تكليف زائد على المامور به ، وكذا على مسلك شيخنا الاستاذ ـ قده ـ من عدم امكان اخذ قصد الامر فى متعلق الامر الاول ، بل لا بد له من امر ثان يدل على اعتباره واشتراطه فى العبادة ، فالمرجع عند الشك فى اعتباره الى البراءة لانه شك فى تكليف زائد على الامر الاول الذى دعى الى اتيان الفعل مجردا عن كل قيد.

واما على مسلك صاحب الكفاية ـ قده ـ فالاصل هو الاشتغال ، والوجه فيه انه بعد ان ادعى استحالة اعتبار قصد الامر فى متعلق الامر الاول والثانى ، واعتبر ذلك دخيلا فى غرض المولى ؛ فمع الشك فى تحققه يكون المرجع هو الاشتغال ، دون البراءة العقلية والنقلية ، هذا وقد فرق (قده) بين ما نحن فيه ، ومسألة الاقل والاكثر الارتباطيين ، حيث جوّز هناك جريان البراءة الشرعية ، دون العقلية عند الشك فى الزائد

٢٤٢

بينما نفى جريانها هنا ، والسر فيه ان فى مسألة الاقل ، والاكثر ، كالشك فى اعتبار السورة فى الصلاة ـ مثلا ـ علما اجماليا بتكليف ووجود غرض متعلق اما بالاقل ، او بالاكثر ، ومقتضاه لزوم الاحتياط وهو الاتيان بالاكثر ، ومعه لا تجرى البراءة العقلية ، ولكن البراءة الشرعية بمقتضى اطلاقها كانت رافعة لذلك الشك ، فاذا ضم ذلك الى وجوب ما علمناه اجمالا ثبت لنا الاطلاق الظاهرى الذى هو وجوب الصلاة بدون السورة ، اما ما نحن فيه فالعلم الاجمالى بوجود غرض للمولى متعلق ، اما بالعبادة المجردة ، واما بالعبادة المقرونة بداعى الامر يوجب علينا الاتيان بالاكثر الذى معناه اتيان العمل بداعى ، الامر اما البراءة الشرعية فهى لا تجرى هنا لان المعتبر من جريانها فى مورد ان يكون ذلك الشىء قابلا للوضع والرفع الشرعين ، وحيث كان التقييد (بداعى الامر) مستحيلا فليس لقصد الامر وجوب ضمنى شك فيه لتجرى البراءة فيه وتثبت لنا الاطلاق الظاهرى.

(وغير خفى) ان ما افاده ـ قده ـ هنا من الحكم بالاشتغال يبتنى على مقدمتين :

(احداهما) عدم جريان البراءة العقلية فى المقام كالاقل والاكثر الارتباطيين.

(ثانيهما) عدم جريان البراءة الشرعية هنا من جهة استحالة التقييد ، وكلتا المقدمتين ممنوعة.

اما الاولى : فسوف يجىء ـ إن شاء الله تعالى ـ فى بحث الاشتغال جريان البراءة العقلية ، وانحلال العلم الاجمالى بها.

واما الثانية : فلما عرفت من امكان تقييد متعلق الامر بداعى

٢٤٣

القربة ، مضافا الى ذلك انه على تقدير الالتزام هناك بوجوب تحصيل الغرض ، وان العلم الاجمالى منجز فلا بد من الالتزام بالاشتغال فى المقامين ، ولا تنفع البراءة الشرعية هناك فى نفى الاكثر ، لانها لا تكون دليلا على ان الغرض متعلق بالاقل لئلا يجب الاحتياط ، اللهم إلّا ان تقوم امارة على عدم وجوب الاكثر فتكون مثبتة لوفاء الاقل بالغرض باعتبار ان لوازمها حجة.

والتحقيق ان يقال : ان البراءة تجرى فى كلا المقامين لما ذكرناه فى مسألة الاقل والاكثر : من ان الغرض لا يزيد على اصل التكليف فكما ان التكليف غير الواصل لا يحكم العقل بوجوب اطاعته كذلك الغرض مثله فانه ما لم يصل الى المكلف لا يجب تحصيله ، وانما يجب تحصيله بمقدار ما ثبت فى لسان الدليل ، اما الزائد عليه فليس بواجب لان تركه غير مستند الى العبد ليؤاخذ عليه ، بل مستند الى عدم بيان المولى ، كما اوضحناه فى معنى البيان ـ فى بحث البراءة ـ وقد ذكرنا هناك ان الحكم الواحد قابل للتفكيك فى مرحلة التنجز دون السقوط بان تكون بعض اجزائه ساقطة ، وبعضها الآخر غير ساقطة ، لان التكليف بما انه واحد ارتباطى فالجزء او الشرط المشكوك فيه ان كان دخيلا فى الواجب واقعا فهو لا يسقط عن الذمة بدونه بل لا بد من اتيانه ثانيا ، وان لم يكن دخيلا فى الواجب فى نفس الامر فلا دخل له فى حصول الامتثال وسقوط الواجب عن الذمة ، وعلى كل حال فامر الواجب دائر بين ان يسقط بتمامه ، وان يبقى فى الذمة بتمامه ، وهذا بخلاف مرحلة التنجز فان التفكيك جائز فيها ـ مثلا ـ لو علم المكلف باشتمال الصلاة على الركوع ، والسجود ، وغيرهما ، فلا يجوز له تركهما ، ولكن السورة لو تركها لم يكن معاقبا

٢٤٤

عليه لعدم ثبوتها ، فبناء على ما قلناه من ان المراد من الغرض الواجب تحصيله هو الغرض الواصل ، فالبراءة العقلية تجرى فى المقامين.

اقتضاء اطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيا تعينيا عينيا

اذا علم وجوب شىء وتردد امره بين النفسى ، والغيرى ، وبين التعيينى ، والتخييرى ، وبين العينى ، والكفائى ، فما هو مقتضى القاعدة؟

ولبيان الحقيقة ينبغى البحث عن جهتين : الاولى : فى الاصل العملى ، الثانية : فى الاصل اللفظى.

الجهة الاولى : قد أرجئ البحث عنها الى محله ، فان الترديد الاول مذكور فى بحث مقدمة الواجب ، والترديد ان الآخران مذكوران فى بحث البراءة.

الجهة الثانية : ان مقتضى الاصل اللفظى ان كان فى البين اطلاق ، وتمت مقدمات الحكمة هو ان الوجوب نفسى ، تعيينى ، عينى.

اما الاول ـ فلان الواجب الغيرى عبارة كما كان قيدا فى المأمور به على نحو يكون القيد خارجا ، والتقييد داخلا ، او فقل : ان الوجوب الغيرى عبارة عن تقييد الواجب النفسى بامر خارج عن حقيقته من طرف الشارع المقدس ، ولو لا التقييد المذكور لما حصلت العلاقة بين القيد والمقيد ، وهذا المعنى يفتقر فى بيانه الى مئونة زائدة ـ ولا بد والحالة هذه ـ من توقف فعلية وجوب القيد على فعلية وجوب المقيد ، وهذا بخلاف الواجب النفسى فانه غير محتاج الى ذلك ، واذا ظهر هذا المعنى فلاثبات نفسية الوجوب طريقان :

الطريق الاول : الاخذ باطلاق دليل الواجب النفسى ، وطرد كل

٢٤٥

ما يحتمل اعتباره قيدا فيه ، ولازم هذا ان الواجب المحتمل دخله فى المامور به نفسى ، واللوازم حجة فى باب الاصول اللفظية.

الطريق الثانى : التمسك باطلاق دليل الواجب المحتمل كونه نفسيا ، وذلك لان الوجوب ان كان غيريا فهو مشروط بوجوب آخر نفسى لا محالة ، وان كان نفسيا فهو مطلق ، وغير مقيد به ، فاذا شك فى انه نفسى ، او غيرى ، فمقتضى اطلاقه ، وعدم تقييده بما اذا وجب شىء آخر هو الحكم بانه نفسى.

والفرق بين الاطلاقين : ان (الاول) اطلاق بالنسبة الى مادة الواجب المعلوم كونه نفسيا او غيريا و (الثانى) اطلاق بالنسبة الى هيئة الوجوب المشكوك فيه بين النفسى ، والغيرى ، فاذا ثبت كلا الاطلاقين ، او احدهما كفى فى الحكم بالنفسية.

اما الثانى ـ وهو التمسك بالاطلاق لاثبات الوجوب التعيينى ، دون التخييرى ، فبيانه محتاج الى توضيح حقيقة الواجب التخييرى :

الوجه الاول : ان يدعى ان الوجوب التخييرى عبارة عن وجوب كل من الفردين ، او الافراد ، تعيينا ولكنه مشروط بعدم الاتيان بالآخر (مثلا) العتق ، والصيام ، والاطعام ، فى كفارة شهر رمضان كل واحد منها واجب تعيينى ولكن وجوبه كذلك مشروط بعدم الاتيان بالآخر.

و (فيه) (اولا) انه مستلزم لتعدد العقاب عند المخالفة.

و (ثانيا) ان تعدد الواجب انما هو بتعدد الغرض ، فان كل واجب لا يصدر إلّا عن غرض واحد ، وبما انه ليس فى البين هنا الا غرض واحد فقد انكشف انه ليس عندنا فى البين الا وجوب واحد.

الوجه الثانى : ان نقول : ان الوجوب متعلق بالجامع الانتزاعى ،

٢٤٦

وهو مفهوم احد الفردين ، او الافراد ، وبقاؤه مشروط بعدم تحقق شىء منهما او منها خارجا ، وذلك لاستكشافه من وحدة الغرض المقتضية لوحدة التكليف ، ومن الممكن تعلق التكليف بامر انتزاعى بعد ما كان منشأ الانتزاع مقدورا للمكلف ، فكل فرد لو لاحظناه كان وافيا بالغرض المترتب على الجامع ، وعلى كلا القولين فالاطلاق يقتضى التعيين ، دون التخيير.

اما على ـ الوجه الاول ـ فالتمسك بالاطلاق لاثبات التعيين واضح لانه لو شك فى وجوب الماتى به مشروطا بعدم اتيان الآخر امكن الاخذ بالاطلاق وطرد الاحتمال المذكور ، وبه يثبت الوجوب التعيينى.

واما على ـ الوجه الثانى ـ فدوران الامر بين التعيين ، والتخييرى وان كان مرجعه الى دوران الامر فى متعلق التكليف بين التوسعة ، والضيق إلّا انه لا مانع من الاخذ بالاطلاق ؛ فان الاطلاق فى مقام الاثبات وعدم التقييد بذكر العدل لما تعلق به الامر كاشف عن اختصاص الوجوب بما تعلق به الامر وانه لا يسقط بالاتيان بما يحتمل ان يكون عدلا له فيثبت بذلك ان الوجوب تعيينى ، لا تخييرى.

واما ـ الثالث ـ وهو التمسك بالاطلاق لاثبات الوجوب العينى ، دون الكفائى ، فالامر فيه كالامر فى الواجب التخييرى ، اذ (تارة) يقال : بان الوجوب متعلق بكل فرد من افراد المكلفين مشروطا بعدم قيام فرد آخر منهم بالمامور به ، و (اخرى) يقال : بتعلقه بالجامع ، وهو الطبيعة الصالحة للانطباق على كل واحد ، وبقاء الوجوب على فرد مشروط بعدم اتيان فرد آخر ، فالفرق بين التخييرى ، والكفائى ، ليس إلّا ان الاول متعلق بالمامور به ، والثانى بالمكلفين ، اما وجه التمسك بالاطلاق

٢٤٧

فيعلم مما مر.

فالمتحصل مما ذكرناه : ان مقتضى الاصل اللفظى فى الموارد الثلاثة كون الوجوب نفسيا ، تعينيا ، عينيا.

الامر عقيب الحظر او توهمه

وقع نزاع بين القوم فى دلالة صيغة ـ افعل ـ الواقعة عقيب الحظر ، او توهمه ، على الاباحة ـ كما هو المعروف ـ او على الوجوب ـ كما ذهب اليه الكثير من العامة ، او تبعيته لما قبل النهى ـ ان علق الامر بزوال علة النهى ، وان لم يعلق فاحد الامرين.

والظاهر انه لا دلالة لها على واحد من الوجوه المذكورة ، وذلك لان الحمل على الوجوب يتوقف على القول بوضع الصيغة للوجوب ، وان تكون اصالة الحقيقة حجة تعبدية ، لا من جهة بناء العقلاء على العمل بالظهورات ـ كما نسب ذلك الى السيد المرتضى (قده) وقد عرفت فى بحث دلالة الامر على الوجوب ان الصيغة لم توضع للدلالة عليه ، وعلى تقدير تسليمه فحجية اصالة الحقيقة تعبدا غير مقبولة ، والصيغة غير ظاهرة فى الوجوب ، اذ من المعلوم ان العرف لا يستطيع استظهار المعنى الحقيقى من اللفظ اذا احتف الكلام بما يحتمل القرينية ، فبناء على ظهور الامر فى الوجوب وضعا ، او استفادة الوجوب بحكم العقل ما لم يرد ترخيص فى الترك من المولى ، لا يمكن استفادة الوجوب من الصيغة الواقعة عقيب الحظر ، وذلك لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، اذ من الممكن ان يراد من الصيغة معنى غير الوجوب لو وقعت عقيب الحظر ، او توهمه ، ومعه لا مجال للظهور الفعلى فى الوجوب.

٢٤٨

واما (دعوى) الحمل على الاباحة ، او تبعيتها لما قبل النهى ان علق الامر بزوال علة النهى فهى ايضا (ممنوعة) لان وقوعها عقيب الحظر ، او توهمه ، ليس قرينة عامة فى الحمل على احدهما ، وحيث اختلفت الموارد استعمالا اصبح اللفظ مجملا لا يمكن حمله على الوجوب لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ولا على الاباحة ، او ما قبل النهى لعدم القرينة على ذلك ـ فلا بد اذا من الرجوع الى اصل آخر لفظى ، او عملى.

المرة والتكرار

لا اشكال فى انحلال الحكم فى النواهى الشرعية بانحلال الموضوع خارجا ، مثل قضية لا تشرب الخمر حيث يستفاد منها ـ كما فى سائر القضايا الحقيقية ـ انه متى ما وجد خمر خارجا كان محكوما بالحرمة ، ومعنى هذا تعدد الحكم بتعدد الموضوع.

واما فى الاوامر الشرعية ـ فقد يستفاد ذلك منها ـ ايضا ـ بسبب الدليل الخارجى ـ كما فى الصلاة والصوم ـ كقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ـ) الخ وقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فان المستفاد منهما بوسيلة الدليل الخارجى تكرار العمل بتكرر الوقت ، وتحققه خارجا.

وقد يستفاد منها العكس ، وهو المرة بسبب الدليل الخارجى ـ ايضا ـ كالحج ـ مثل قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) حيث يستفاد منها ان مجرد تحقق الاستطاعة التامة لدى المكلف تقتضى وجوب الحج عليه فلو امتثل مرة واحدة كفى ، ولا يلزمه

٢٤٩

التكرار بعد ذلك ، ومن المعلوم ان الصيغة فى كلا الموردين مستعملة فى معناها الموضوعة له ، واستفادة الانحلال وعدمه انما كان بسبب الدليل الخارجى ، لا انه بسبب ان الوضع يقتضى الانحلال ، لتكون فى موارد عدمه مجازا ، او بالعكس ، والوجه فى ذلك ان الهيئة وضعت لانشاء الوجوب ، او ابراز شىء على اعتبار المكلف ، والمادة تدل على نفس الطبيعة والماهية ، ومن المعلوم خروج الانحلال ، وعدمه عن مفاد كل منهما.

والحاصل ان المرة والتكرار فى الافراد الطولية ، والوجود الواحد ، والمتعدد ، فى الافراد العرضية كله خارج عن حقيقة معنى الصيغة ، ودلالتها على الموضوع له ، الذى هو انشاء الوجوب المتعلق بصرف الطبيعة الصادق على المرة الواحدة فى ضمن وجود واحد ، اللهم إلّا ان يقوم دليل بالخصوص على تقيد الطلب باحدى الخصوصيات المذكورة ، فلا بد من اتباعه ومع الشك فى ذلك فما هو مقتضى الاصل اللفظى ، والعملى؟

اما الاصل اللفظى ـ الذى يستفاد من الاطلاق بعد تمامية مقدمات الحكمة ففى الافراد الطولية من المرة ، والتكرار ، هو الاكتفاء بالمرة الواحدة ، لا من جهة مدخلية ذلك فى هيئة الطلب ، او مادته اذ ـ كما عرفت ـ عدم دلالتها على شىء من ذلك ـ بل الوجه فيه ان الطلب متعلق بصرف الطبيعة ، وهى كما تصدق بالمرة الواحدة تصدق بالتكرار ، إلّا ان الاكتفاء بها فى ضمن المرة الواحدة قهرى ، لصدق الطبيعة خارجا الموجب لسقوط الامر.

واما فى الافراد العرضية ، من الوجود الواحد ، او المتعدد ، فكذلك بعد ان عرفت تعلق الطلب بالطبيعة الجامعة ، بين الوجود

٢٥٠

الواحد ، والمتعدد. فمتى ما تحقق الفرد الواحد فى ضمن الوجود الواحد كان ذلك مصداقا للطبيعة ، ومعه يسقط الطلب لا محالة.

واما الاصل العملى ففى الافراد الطولية ، من المرة ، او التكرار. فكذلك فانا لو شككنا ان المعتبر هو المرة الواحدة ، او المرتان ، ليكون غير ممتثل فى المرة الاولى ، فمقتضى الاصل هو البراءة فى نفى اعتبار كلا القيدين. بشرط شىء ، او بشرط لا ، فيثبت الاطلاق فى مرحلة الظاهر ، ويكتفى بالمرة لا محالة.

واما فى الافراد العرضية ـ من الوجود الواحد ، او المتعدد فكذلك ايضا ، فانا لو شككنا فى انه يعتبر فى الاتيان بفرد ان يكون مشروطا بشرط لا ، او بشرط شىء بالنسبة اليه فالبراءة قاضية بنفى كلا التقديرين ، ومعه يثبت الاطلاق فى مرحلة الظاهر ، ويكتفى بالوجود الواحد.

الامتثال بعد الامتثال

انما النزاع فيما لو اراد العبد ان يمتثل المأمور به ثانيا ، بعد ان امتثله اولا وصدقت الطبيعة على ما اتى به خارجا فهل يمكن ذلك؟ ويسمى بالامتثال بعد الامتثال.

اختار صاحب الكفاية (قده) التفصيل فى المقام بين بقاء الغرض الاقصى ، وعدمه ، حيث افاد ـ قده ـ ان الامتثال لو كان علة تامة لتحقق الغرض الاقصى ، فلا معنى للامتثال بعده ، بخلاف ما اذا لم يكن كذلك فانه لا يبعد صحة تبديل الامتثال باتيان فرد آخر احسن منه ، بل مطلقا كما كان له ذلك من قبل (مثلا) لو امر المولى عبده باتيان الماء لرفع عطشه ، واتى العبد بذلك للمولى ، ولكن المولى بعد تسلمه الاناء

٢٥١

لم يشرب ما فيه. فللعبد فى هذه الصورة ان يبادر مرة آخرى ، ويأتى بماء آخر لبقاء الغرض الاقصى ، وعدم سقوطه بعد الامتثال الاول.

والصحيح ان يقال : بعدم تجويز الامتثال ثانيا بعد الامتثال الاول ، وذلك للزوم التناقض بين تعلق الامر بالطبيعة ، والحكم بجواز الامتثال ثانيا ـ فان معنى القضية الاولى التى هى تعلق الامر بالطبيعة هو حصول الامتثال للمأمور به بالمرة الاولى ، وانطباق الطبيعة على الموجود الخارجى انطباقا قهريا ، ولازمه سقوط الغرض فى المأمور به ، فلا امر ليمتثل مرة ثانية ، وان معنى القضية الثانية التى هى جواز الامتثال ثانيا ، هو عدم حصول الامتثال اولا ، وعدم سقوط الغرض بما اتى به فالامتثال الثانى لازم ، وهذان المعنيان لا يجتمعان.

(وبتعبير آخر) ان متعلق التكليف بالنسبة الى الخصوصية التى اتى بالطبيعة معها اولا ، اما ان يكون مطلقا ، او مقيدا بعدمها ، فعلى الاول فالاتيان بالمامور به خارجا موجب لصدق الطبيعة عليه فيسقط لا محالة. فلو اراد ان يأتى به ثانيا فبأي داع ياتى به. وعلى الثانى فلا يكون من الامتثال عقيب الامتثال لعدم تحقق الامتثال اولا اذا ففرض كون المطلوب هو الطبيعة ان الامتثال الاول يجزى ـ كما يأتى بيانه فى بحث الاجزاء إن شاء الله تعالى ـ فلا وجه للامتثال ثانيا.

واما ما جاء فى الكفاية فغير تام ، لان الغرض المبحوث عنه هنا انما هو الغرض المترتب على نفس المأمور به لا غيره مما لا يترتب عليه فقط ، فان غرض الامر كرفع العطش ـ مثلا ـ انما يترتب على فعل الامر نفسه ، وليس بقابل لان يمتثله العبد ، نعم المقدور للعبد تمكين المولى من الشرب وتهيئة المقدمات له ، وهذا حاصل بمجرد الامتثال الاول ،

٢٥٢

فليس بعد ذلك غرض يمكن امتثاله ثانيا.

نعم فى بعض الروايات الشريفة جاء ما يوهم ذلك فقد ورد ـ فى باب الصلاة ـ ان من صلى فرادى واقيمت الجماعة فله ان يعيد صلاته مرة آخرى ، وورد ايضا ـ فى صلاة الآيات ـ ان من صلى صلاة الآيات فله ان يعيد صلاته مرة اخرى ما دامت الآية باقية ، وهذا يدل على جواز الامتثال ثانيا بعد الامتثال الاول.

إلّا ان المستفاد منها هو استحباب الاعادة مرة اخرى توصلا الى الثواب

و (بعبارة اخرى) ان للمولى غرضين :

(احدهما) متعلق بالمصلحة الملزمة ، وهو ما حصل بالامتثال الاول.

(ثانيهما) متعلق بالمصلحة غير الملزمة ، وهو ما يحصل بالامتثال الثانى ، والروايات الشريفة لم تفد جواز الامتثال الثانى للزوم التناقض مع تعلق الامر بالطبيعة ـ كما عرفت ـ بل تفيد استحقاق الثواب على الامتثال ثانيا لتدارك المصلحة غير الملزمة.

نعم بعض الروايات ورد فيها (يجعلها الفريضة ان شاء) وهى تدل على امكان لزوم الامتثال ثانيا بعد الامتثال اولا ولكن القرينة وهى لزوم التناقض ـ كما عرفت ـ موجب لصرف الرواية عن ظهورها وحملها على إشاءة جعل الصلاة قضاء عما فات منه من الصلوات الواجبة ، وهذا اجنبى عن جعلها امتثالا للامر الوجوبى الساقط على الفرض.

* * *

٢٥٣

الفور والتراخى

تنقسم الواجبات الى اقسام ثلاثة :

القسم الاول ـ ما لا يكون الواجب مقيدا بالتقديم ، او التأخير من حيث الزمان ، بل هو مطلق من ناحية كل منهما ، فالمكلف مخيّر فى امتثاله ان شاء سارع ، وان شاء أخر ، ويسمى ب (الواجب الموسع).

القسم الثانى ـ ما يكون الواجب مقيدا بالتأخير فلا يحكم بصحته لو قدمه العبد فى اول ازمنة الامكان ويسمى ب (الواجب المضيق).

القسم الثالث ـ ما يكون الواجب مقيدا بالتقديم ، وهو على نحوين : (تارة) يراد على نحو وحدة المطلوب ، ومعنى ذلك امتثال الواجب اول ازمنة الامكان فورا ، وعلى فرض التأخير فالواجب يسقط لا محالة ، ولعل من هذا القبيل ردّ السلام ، و (اخرى) يراد على نحو تعدد المطلوب وهو على قسمين :

القسم الاول ـ يكون المطلوب فيه هو الواجب المقيد بالفورية اول ازمنة الامكان بحيث لو آخر العبد امتثال ذلك الواجب لما سقط الواجب ولا الفورية ، بل كانت باقية حتى الامتثال ففى كل آن يراد الواجب فورا ففورا.

القسم الثانى ـ يكون المطلوب فيه هو الواجب المقيد بالفورية ، ولكن تأخير الامتثال عن اول الوقت ، انما يسقط الفورية دون اصل الطبيعة فللمكلف بعد ذلك ان يمتثل الطبيعة اىّ وقت شاء ، ومن هذا القبيل صلاة الزلزلة اذ الواجب على المكلف الاتيان بها فورا ، ومع التأخير يجب الاتيان بها ما دام العمر موسعا.

٢٥٤

هذا كله بحسب الثبوت والواقع. واما بحسب الاثبات فهيئة الامر لا تدل الا على اعتبار شىء فى ذمة المكلف ، والمادة لا تدل الا على نفس الطبيعة ، ولازم ذلك الاتيان بالطبيعى مخيرا عقلا بين الفور والتراخى.

فلو شككنا فى اعتبار شىء زائد على ذلك فمقتضى الاصل اللفظى ـ وهو الاطلاق ـ عدم تقيد الواجب به ، كما وان مقتضى الاصل العملى ذلك ـ ايضا ـ حيث ان البراءة ترفع كل ما يحتمل تقيده فى الواجب من القيود الزائدة ، كالفورية ، والتراخى.

فظهر من هذا ان المكلف مخير عقلا فى التقديم والتأخير ، نعم حيث ان من الاحكام العقلية لزوم احراز الامتثال ، فاذا احتمل المكلف انه لو آخر العمل عن الزمن الاول فات الواجب منه ، كما اذا دخل وقت الظهرين واراد المكلف ان ينام ، واحتمل ان نومه يستمر حتى يفوت الواجب منه فلا ريب انه يجب عليه الاتيان بالعمل فعلا بحكم العقل ، نعم لو قام دليل خارجى بالخصوص على ان الواجب مقيد باحدهما فالمتبع ذلك الدليل ، وان لم يقم دليل بالخصوص على احدهما فهل الدليل العام يقتضى الفورية ، او التراخى؟

استدل القائل بالفورية بالآيتين الشريفتين : (سارعوا الى مغفرة من ربكم) ـ وقوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ). ببيان انّ المولى امر بالاستباق نحو الخير ، والمسارعة نحو المغفرة ، وذلك يقتضى الفورية فى كل وقت فلو أخر ذلك عن اول ازمنة الامكان ، ففى الآن الثانى لا بدّ من المسارعة ايضا ، ولا تسقط بمجرد التأخير عن الزمن الاول ، فثبت بهذا ان جميع الواجبات الشرعية تقتضى الفورية على نحو تعدد المطلوب.

و (غير خفى) ان الامر بالمسارعة والاستباق ليس مولويا ؛ بل

٢٥٥

ارشاد الى ما يحكم به العقل من حسن المسارعة الى تفريغ الذمة ، والخلاص من الامر الملزم الملقى على عاتق المكلف ، ولهذا كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله يخاطب بلال المؤذن (ارحنا يا بلال) وهذا لا دليل فيه على الفورية.

ولو سلمنا انه مولوى فلا بد من دعوى افادته الاستحباب لتحصيل الثواب اذ لو حملناه على الوجوب لزم تخصيص الاكثر ، وهو مستهجن وذلك لخروج المستحبات لانها من الخيرات الموجبة للمغفرة فان من الواقع ان من المستحبات كزيارة الحسين عليه‌السلام اكثر دخلا فى المغفرة من جملة الواجبات ، مع ان المسارعة ليس بواجب فيها واما الواجبات فقسم منها موسع لا يجب فيه المسارعة ، وقسم آخر لا يراد منه الا التأخير ولم يبق تحت العموم الا قسم واحد ، وهو الواجبات الفورية التى هى على نحو تعدد المطلوب والتى يكون المطلوب فيها فورا ففورا ، ولا ريب انه اقل قليل ، فلا بدّ وان يكون المراد من الامر هو الاستحباب نحو المسارعة والاستباق نحو الخير.

فالمتحصل ـ مما ذكره ـ ان الثابت بحسب ظهور الامر فى نفسه هو ثبوت السعة فى الواجب فهو لا يقتضى التاخير ولا التقديم ، واما الادلة العامة فقد عرفت عدم دلالتها على الفورية.

* * *

٢٥٦

بحث الاجزاء

اتيان المأمور به على وجهه يقتضى الاجزاء فى الجملة ، وقبل الخوض فى المطلب ، يجدر بنا ان نبحث عن امور

(الامر الاول) فى بيان المراد من كلمة ـ على وجهه ـ فى العنوان.

فقد ذكر صاحب الكفاية (قده) انها راجعة الى المأمور به ، وفسرها «بالنهج الذى ينبغى ان يؤتى به على ذلك النهج شرعا وعقلا» ، وانما اعتبرها كذلك لاعتقاده ان بعض القيود لا يمكن ان تؤخذ فى المأمور به ، كقصد القربة فى العباديات ، لانها من كيفيات الاطاعة عقلا ومع الاقتصار على المأمور به لا يتحقق الاجزاء فيما لو اتى بالفعل العبادى خاليا من قصد القربة لاعتباره فيه وان لم يمكن الامر به ، لذلك احتاج الى كلمة ـ على وجهه ـ ليدخل مختلف القيود شرعية ، وعقلية ، وهذا انما يتم على مبناه ، من استحالة اخذ قصد القربة فى المأمور به ، اما على مبنانا السابق من امكان اخذه ابتداء فى المأمور به ، او على مبنى شيخنا الاستاذ (قده) من امكانه بمتمم الجعل ولو بالامر الثانى فان القيد يكون توضيحيا لا تاسيسيا.

وما قيل : من ان القيد انما ذكر لا دخال قصد الوجه (مندفع) بان قصد الوجه غير معتبر لدى الكثير ، فلا حاجة لا دخالة بمثل هذا القيد ، بالاضافة الى ان اعتباره لو تم فهو مختص بالعبادات فلا وجه لجعله فى العنوان العام الشامل للتعبديات والتوصليات.

٢٥٧

(الامر الثانى) فى المراد من كلمة الاقتضاء.

والظاهر ان المراد منه هنا : العلية ، والتأثير. وذلك لنسبته الى الاتيان بالمأمور به لا الى الامر ، باعتبار ان الامر الصادر من المولى لا بدّ وان يكون ناشئا عن غرض ، فلو امتثل العبد المأمور به ، وجاء بما هو المطلوب منه حصل الغرض خارجا ، ومتى حصل ذلك خارجا سقط الامر ، فالمراد بالاقتضاء هنا ، العلية والتأثير.

(الامر الثالث) فى المراد من كلمة الاجزاء ،

والظاهر ان المراد منها هو نفس مدلولها اللغوى ، دون ان يكون لهم فيها اصطلاح خاص ـ وهو الكفاية ـ فمعنى اجزاء الماتى به عن المأمور به هو كفايته عما امر به ، من دون حاجة الى الاعادة ، او القضاء.

او الى القضاء فقط ، فيما دل الدليل على لزوم الاعادة فيه كالمسافر الذى يتم صلاته نسيانا ثم يتذكر فى الوقت حيث امر باعادة صلاته ويكون معنى الاجزاء بالنسبة له سقوط القضاء عنه فيما لو تذكرها خارج الوقت وكمن صلى فى النجس نسيانا فانه اذا تذكر فى الوقت وجبت عليه الاعادة واذا تذكر خارج الوقت لم يجب عليه القضاء على قول نسب الى المشهور بين المتاخرين.

(الامر الرابع) :

انه ربما يتوهم عدم الفرق بين هذه المسألة ، ومسألة المرة والتكرار ، وكذلك بين هذه المسألة ومسألة تبعية القضاء للاداء ، باعتبار ان القائل بعدم الاجزاء يلتزم باعادة العمل تفريغا للذمة عن الواقع ولا يكتفى بالامتثال الاول ، وهذا المعنى موافق لما يدعيه القائل بالتكرار وكذا القائل بالاجزاء لا يلتزم بالاعادة ، فهو امر موافق للقول بالمرة.

٢٥٨

كما ان الامر كذلك بالنسبة لتبعية القضاء للاداء ، فان القائل بالتبعية يلتزم ببقاء الطلب خارج الوقت اذا لم يأت به المكلف فى الوقت ، وهو متحد نتيجة مع القائل بعدم الاجزاء ، واذا لا فرق بين ما نحن فيه وما ذكر.

و (غير خفى) : ان الاتحاد بحسب النتيجة لا يوجب الاتفاق بين المسألتين.

اما فى الاولى ـ فلان القائل بالمرة ، او التكرار ، انما يتردد فى المأمور به سعة وضيقا بحيث لا يعلم انه واحد ، او متعدد ، بخلاف ما نحن فيه فانه بعد معرفته يقع البحث فى اجزائه وعدم اجزائه و (بعبارة اخرى) القائل بالمرة ، او التكرار ، يبحث عن تعيين المأمور به شرعا من حيث السعة والضيق ، وانه الطبيعة المقيدة بالمرة او التكرار ، بخلاف المقام فان المأمور به معلوم ، وانما النزاع فى اجزائه عقلا عن الواقع لو اتى به المكلف خارجا ، فهما مسألتان مختلفتان.

واما فى الثانية ـ فلان موضوع البحث هنا هو اتيان المأمور به بالامر الاضطرارى ، او الظاهرى ؛ والشك فى اجزائه وعدمه عن الواقع ، بخلاف مسالة تبعية القضاء للاداء فان الموضوع فيها هو عدم الاتيان بالمامور به ، ومن الضرورى انه لا جامع بين الوجود والعدم ولا ربط بين المسألتين اصلا ، اذا فما توهم فى غير محله.

ثم ان صاحب الكفاية (قده) ذكر ان اتيان المامور به بكل امر يقتضى اجزائه عن امره سواء كان واقعيا ، ام اضطراريا ، ام ظاهريا ، وعلل ذلك باستقلال العقل بعدم بقاء مجال للتعبد به ثانيا مع موافقته الامر باتيان المامور به على وجهه ، وهذا الكلام متين جدا ، ولا نزاع

٢٥٩

فيه بين الاعلام ، لان فرض التعبد به ثانيا انما يمكن ان يصح اذا امكن فرض بقاء الامر بعد الاتيان بالمامور به ، وهو غير ممكن هنا ، لان بقاء الامر اما ان يستند لعدم تحقق ملاكه اولا ، وكلاهما غير ممكنين ، ـ اما الاول ـ فلما عرفت من ان الملاك معلول بوجوده الخارجى للمامور به ومع وجود علته فقد وجد الملاك فلا معنى لبقاء الامر و ـ اما الثانى ـ اعنى بقائه مع عدم وجود ملاك يدعو الى تحققه فمستحيل ، لان الامر وليد ملاكه ، ولا يمكن ان يبقى بدونه ، نعم يمكن ان يفرض وجود امر لملاك آخر ، وهذا اجنبى عن مسألتنا لان مسألتنا تتعلق باجزاء الماتى به عن امره لا عن الامر الآخر.

* * *

وقد وقع النزاع بين الاعلام فى اجزاء كل من الامر الاضطرارى ، او الظاهرى ، عن الواقعى ، وقد حرر الكلام فى هاتين المسألتين بمسائل اربع نعرضها كما يلى :

«المسألة الاولى» فى اجزاء الماتى به بالامر الاضطرارى عن الامر الواقعى لو ارتفع العذر اثناء الوقت.

«المسألة الثانية» فى اجزائه عن الامر الواقعى لو ارتفع العذر خارج الوقت.

«المسألة الثالثة» فى اجزاء الماتى به بالامر الظاهرى عن الواقعى اذا انكشف الخلاف بالعلم الوجدانى.

«المسألة الرابعة» فى اجزائه عن الامر الواقعى اذا انكشف الخلاف بالامارة الشرعية المعتبرة.

٢٦٠