مصابيح الأصول

علاء الدين بحر العلوم

مصابيح الأصول

المؤلف:

علاء الدين بحر العلوم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز نشر الكتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

والتحقيق أن يقال : إنه لا بد فى كل قضية حملية الاتحاد من جهة والتغاير من جهة بين المحمول والموضوع ـ اما جهة الاتحاد ـ فلانه لولاه لكان من حمل المباين على مباينه وهو لا يصح قطعا. واما جهة التغاير ـ فلانه لولاه لكان من حمل الشىء على نفسه ، وهو باطل. وهذا الحمل ينقسم إلى قسمين : ذاتى أوّلى ، وشايع صناعى.

اما الحمل الذاتى ـ فهو عبارة عن حمل أحد المفهومين على الآخر ـ كما يقال : (الانسان حيوان ناطق) فجهة الاتحاد بينهما وحدتهما مفهوما ، وجهة التغاير اختلافهما من حيث الاجمال والتفصيل. فان ذات الانسان قد تتصور ـ تارة ـ بمفهوم مجمل ، وهو مفهوم الانسان. ـ وأخرى ـ بمفهوم تفصيلى ، يشتمل على جهة اشتراك وامتياز. وهو مفهوم الحيوان الناطق.

فلو ألفنا قضية من ذلك فقد حملنا مفهوما متصورا تفصيلا على مفهوم متصور إجمالا. فالحمل الذاتى لا يفيد إلا حمل احد المفهومين على الآخر.

وأما الحمل الشائع الصناعى ـ فهو عبارة عن حمل شىء على شىء آخر متحد معه وجودا كحمل الكليات على افرادها ، أو الماهيات على أصنافها ، وانواعها ، كما يقال : (زيد انسان ، أو الانسان حيوان) فان الاتحاد بين الموضوع والمحمول : انما هو من حيث الوجود الخارجى بمعنى ان وجود أحدهما فى الخارج عين الآخر.

واما التغاير فهو بين المفهومين ، فان المفهوم من كلمة ـ زيد ـ غير المفهوم من كلمة الانسان.

اذا عرفت هذا فنقول : اما كون عدم صحة السلب علامة على الحقيقة فى الحمل الذاتى فهو موقوف على معرفة مفاد ذلك الحمل ، والذى يظهر منه ان ما تفيده جملة (الانسان حيوان ناطق) هو ان المحمول ـ بحسب

٨١

الذات ـ عين الموضوع واما ان اللفظ وهو الحيوان الناطق حقيقة فى معنى الانسان ، وانه موضوع له. فالقضية تقصر عن افادة هذا الامر ولا بد من الاستعانة بالتبادر فى تعيين هذا المعنى.

وبعبارة اخرى : صحة الحمل من صفات المدلول والمنكشف ، والحقيقة والمجاز من صفات الدال والكاشف. فلا يكون الاول دليلا على الثانى. وعليه ففى القضايا الحملية حملا أوليا ذاتيا لا يكون عدم صحة السلب دليلا على الحقيقة.

واما فى الحمل الشائع ـ فهو كذلك ـ والوجه فى تسميته بالشائع : هو تداوله بين الناس ، وشيوعه فى القضايا التى يستعملونها عادة. وتسميته بالصناعى باعتبار ان اكثر أقيسة الصناعات ، وبراهينها ـ ولا سيما الشكل الاول ـ من هذا القبيل وقد عرفت أن جهة الاتحاد فيها من حيث الوجود الخارجى ، والتغاير من ناحية المفهوم. فالجهة المصححة للحمل والجامعة بين كل من الموضوع والمحمول ليس إلا وحدة الوجود الخارجى.

وهذا القسم من الحمل يقع على انحاء ثلاثة : فان الوجود الجامع ـ تارة ـ يكون بالنسبة إلى كل من الموضوع والمحمول وجودا بالذات. ـ وأخرى ـ يكون بالاضافة الى احدهما بالذات ، والى الآخر بالعرض. ـ وثالثة ـ تكون نسبته الى كل واحد منهما بالعرض.

(أما النحو الاول) ـ فهو من قبيل حمل الكليات على افرادها ، والماهيات على انواعها واصنافها ، او الاجناس العالية على ما هو ادنى منها ـ كما يقال : زيد إنسان ـ فان الوجود الخارجى فى جميع الموارد المذكورة بالاضافة الى كل من الموضوع والمحمول ذاتى. فوجود زيد ـ كما انه وجود له حقيقة ـ وجود للانسان ايضا حقيقة ، فكان ما فى الخارج وجودا

٨٢

واحدا لهما.

(واما النحو الثانى) فهو ما لو كان المحمول فى القضية من المفاهيم المنتزعة ـ مثل زيد قائم ـ فقائم ليس له وجود خارجى ، بل الذى له الوجود نفس زيد ، ونفس الصفة وهى القيام التى يعبر عنها بالمبدإ. أما قائم فهو مفهوم منتزع من تلبس الذات بتلك الصفة. فالوجود ذاتى لاحدهما ، وعرضى للآخر. وقد عرفت ان كل ما بالعرض ينتهى إلى ما بالذات فقائم بحسب واقعه ينحل إلى قضية أخرى. هى ان تلك الصفة قيام. وهو من قبيل النحو الاول.

(وأما النحو الثالث) ـ فهو ما لو كان الموضوع والمحمول من المفاهيم المنتزعة ـ مثل الكاتب متحرك الاصابع ـ فالوجود الخارجى بالاضافة الى كل منهما عرضى. لان الكاتب عبارة عن الذات المتصفة بالكتابة ، ومتحرك الاصابع عبارة عن الذات المتصفة بحركة الاصابع. فالموجود حقيقة ثلاثة امور : ـ ذات وصفتان : الكتابة ، وحركة الاصابع. وقد انتزع من تلبس الذات بكل من الوصفين عنوان. ومن المعلوم ان ما بالعرض ينتهى الى ما بالذات فصدق الكاتب على زيد ينتهى إلى ان تلك الصفة القائمة به كتابة ، وكذا صدق متحرك الاصابع ينتهى الى ان تلك الصفة حركة ، وكله يعود الى النحو الاول.

وإذا انضح هذا المعنى : فالقضية فى الحمل الشائع لا تفيد اكثر من ان المحمول عين ذلك الموضوع بحسب الوجود ، وان هذا مع ذلك متحدان وجودا ، واما معرفة لفظ الانسان حقيقة فى زيد او مجاز فلا نفيد القضية. ولا بد فى الاستعانة فى هذا الامر بالتبادر.

فالمتحصل ان صحة الحمل ، وعدم صحة السلب لا يكونان علامة

٨٣

على الحقيقة ، كما ان عكسهما لا يكون علامة على المجاز.

* * *

الاطراد :

وقد ادعى ان من علائم الحقيقة الاطراد ، كما ان عدمه علامة المجاز.

(فان ارادوا) ـ بالاطراد ـ تكرر الاستعمال ، وتكثره فى المعنى فيستكشف منه الحقيقة فهو لا وجه له. لان كثرة الاستعمال تتبع الاستعمال الاولى ، فمتى صح الاستعمال فى المرة الاولى. فيصح فى الباقى بلا استثناء ، ومتى لم يصح فى الاولى لم يصح فى غيره. فان كان المدار هو صحة الاستعمال الاولى فالصحة كما تحصل بالوضع والجعل ، كذلك تتأتى بعلاقة مجازية ، وعليه فكثرة الاستعمال لا تكون امارة على الحقيقة ، بل تتبع صحة الاستعمال الاول ، وهى اعم.

(وإن ارادوا به) ـ معنى آخر. وهو صدق المعنى على تمام الافراد ، وعدم صدقه. وتوضيحه : كما ذهب اليه بعض مشايخنا المحققين ـ قده ـ من ان لفظة (اسد) مثلا ـ إذا كانت مستعملة فى جميع افراد الشجاع ومنطبقة على كل ما يكون شجاعا من زيد ، والفرس ، وغيرهما ، بلا خصوصية فى بعض دون بعض نستفيد منه ان لفظ الاسد موضوع للجامع بين الافراد ، وهو الشجاع لكونه مطردا فيه. وإن لم تكن كلمة الاسد بما لها من المعنى مستعملة فى جميع الافراد من ناحية الشجاع بل تستعمل فى البعض ، وهو الرجل الشجاع. فيقال : (زيد أسد) دون استعمالها فى البعض الآخر من الافراد ـ مثل النملة الشجاعة ـ فهو غير مطرد فى الاخير. الا بعلاقة تصحح

٨٤

ذلك ، فهى حقيقة فى الاول دون الثانى.

ففيه ما لا يخفى ، فان مرحلة التطبيق ليس لها مدخلية فى تعيين الحقيقة.

(بيان ذلك) ان اللفظ متى انطبق على جميع أفراد ذلك المعنى ـ بحيث كان كل ما يصدق عليه شجاع يستعمل فيه الاسد حتى النملة الشجاعة ـ فبالضرورة نستفيد ان لهذا المعنى سعة وعموما ، وليس فيه ناحية خاصة. وان لم ينطبق على الجميع وكان مستعملا فى بعض الافراد دون بعض. فنستكشف إنّا ضيق المعنى لا سعته ، وشموله واستفادة هذا المعنى لا تكون وسيلة لمعرفة انه حقيقة أو مجاز ، وإن كلمة الاسد وضعت لكل شجاع ، او لم توضع له بل المستفاد ـ كما عرفت ـ سعة المعنى وضيقه.

نعم ربما يكون (الاطراد) موجبا للاطمئنان بالحقيقة ، كما لو اشتملت الجملة على خصوصية ـ مثل رأيت أسدا يرمى ـ وتردد امرنا فيما استفدناه من كلمة الاسد ـ وهو الرجل الشجاع ـ بين كونه من حاق اللفظ ليكون موضوعا له ، أو من الخصوصية الموجودة؟ فلو أردنا معرفة هذا المعنى فلا بد من إلغاء هذه الخصوصية ، والاتيان بخصوصية أخرى ـ مثل رأيت اسدا يأكل او يمشى ـ فان وجدنا اللفظ مطردا فى المعنى بحيث يستفاد منه ذلك من دون عناية فى الجميع لا محالة يحصل لنا الاطمئنان باستناد الفهم الى حاق اللفظ لا إلى الخصوصية لاختلافها. وإن وجدناه غير مطرد فالاطمئنان يحصل باستناد الفهم الى الخصوصية التى هى القرينة على المراد.

والظاهر أن الوسيلة التى يستكشف بها المعنى من بين سائر اللغات هى هذه الطريقة المذكورة. فان الاجنبى عن اللغة يقف على محاورة أهل لغة خاصة ، فيراهم يفهمون الجسم السائل من كلمة (الماء) إذا قال أحدهم :

٨٥

جئنى بماء ، وهكذا يستفيد الآخر نفس المعنى إذا قيل : اشتريت ماء ، أو شربت ماء فيحصل للاجنبى عن اللغة اطمئنان تام بان المعنى المذكور معنى حقيقى للفظ باعتبار احتفاف الكلام بخصوصيات متعددة. من دون أن يحصل فى البين تكلف او تعمل او عناية ، ومن هذا القبيل تعلم الصبيان.

((تعارض احوال اللفظ))

ذكر صاحب الكفاية ـ قده ـ تبعا لغيره ـ أن للفظ احوالا خمسة : هى التجوز ، والتخصيص ، والنقل ، والاشتراك ، والاضمار. ونزيد على الجميع النسخ. وجميع هذه الاحوال لا يصار اليها فى مورد يتردد اللفظ بين حمله على المعنى الحقيقى وبين واحد منها باعتبار أنها على خلاف الاصل فيدفع احتمال إرادتها باصالة العدم لتحكيم اصالة الظهور.

اما الموارد التى يقطع فيها بعدم إرادة المعنى الحقيقى للمتكلم ، وتردد الامر بين هذه الامور الخاصة التى هى مخالفة للمعنى الحقيقى. فقد ذكر القوم ترجيحات لتقديم بعضها على بعض. ولكن صاحب الكفاية ـ قده ـ جعل الميزان فى التقديم هو الظهور ، وإن كان الترجيح فى غيره ، والسبب فى ذلك فقد الدليل المساعد على التعيين ، بل كلها وجوه استحسانية.

ولا يخفى ان ما ذكره صاحب الكفاية ـ قده ـ متين جدا.

(الحقيقة الشرعية)

والبحث يقع عنها من جهات :

(الجهة الاولى) هل البحث عن ثبوت الحقيقة الشرعية ذو ثمرة فقهية ،

٨٦

أو بحث علمى صرف؟ ذهب صاحب الكفاية الى الاول وادعى أن ثمرة البحث هى حمل الالفاظ المستعملة فى لسان الشارع المقدس بلا قرينة على المعانى الجديدة إن ثبتت الحقيقة الشرعية ، وعلى المعانى اللغوية إن لم تثبت الحقيقة.

وينقل عن بعضهم التوقف فى مقام الحمل. فلا يصار الى المعانى اللغوية ، ولا الى المعانى الجديدة. أما عدم الرجوع الى المعانى الجديدة فلفرض انها ليست بمعانى حقيقية بل الالفاظ تستعمل فيها مجازا. واما عدم الرجوع الى المعانى اللغوية فلان المعانى المستحدثة كثيرا ما تراد من هذه الالفاظ حتى اصبحت مجازا مشهورا ، ومع ذلك لا يرجع الى المعانى اللغوية الابناء على حجية اصالة الحقيقة من باب التعبد ـ كما ذهب اليه السيد الشريف المرتضى (قده). واما بناء على انها من باب الظهور الفعلى فمع الشهرة فى المجاز لا يبقى لها ظهور فى المعنى الحقيقى. فلا محالة يصبح اللفظ مجملا فيتوقف.

وقد انكر شيخنا الاستاذ (قده) وجود الثمرة فى هذا البحث بعد أن سلم بوجودها كبرويا ، وذلك بانكارها من حيث الصغرى ، إذ ليس لنا مورد يشك فى المراد الاستعمالى فيه ، لاحتفاف جميع الموارد بالقرينة العامة التى تدل على ارادة المعانى المستحدثة باعتبار ان فى زمان الصادقين (ع) قد أصبحت هذه الالفاظ تدل على المعانى الجديدة ، فمع التنزل عن ثبوت الحقيقة الشرعية فلا اقل من كونها حقائق متشرعية فى ازمانهم (ع). اما ما ورد عن لسان النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحكمه حكم ما يرد عنهم إذا ورد من طريقهم ، وما ورد من طريق غيرهم فهو خارج عن محل ابتلائنا ليصلح أن يحقق الثمرة لهذا البحث. وما أفاده (قده) متين جدا. وعليه

٨٧

فالثمرة منتفية لهذا البحث.

(الجهة الثانية) إن ثبوت الحقيقة الشرعية يتم إما بالوضع (التعيينى) ـ وهو عبارة عن جعل الواضع لفظا خاصا لمعنى خاص ـ ، واما بالوضع (التعيّنى) ـ وهو الذى يتأتى من كثرة الاستعمال كما سبق بيانه ـ. وثبوت الحقيقة الشرعية بالمعنى الاول غير تام ، إذ لو كان لنقله التاريخ الينا ، وحدثنا به ، والمفروض عدمه ، وليس لاخفائه داع من الدواعى المهمة ـ كما كان فى حديث الغدير وغيره مما كان يتنافى مع السياسة القائمة فى صدر الاسلام وما بعده ـ فكان الاحرى لو وجدت أن يتعرض له التاريخ وينقله ـ مثلا ـ متواترا ـ كما يقتضيه مثله عادة ، ولا اقل من اخبار الآحاد.

نعم ذكر صاحب الكفاية (قده) قسما ثانيا من الوضع التعيينى ، وهو عبارة عن تحقق استعمال من الشخص يقصد به وضع اللفظ للمعنى ، ويقيم قرينة على هذه الطريقة التى تحقق أمرين : قصد للوضع ، واستعمال ـ كما يقول مثلا : صلوا كما رأيتمونى اصلى ـ. وقد ذكر (قده) انه لا يبعد الالتزام بالحقيقة الشرعية بهذا النحو من الوضع فى الفاظ العبادات :

ولا بد من البحث عن إمكان هذا القسم من الوضع اولا ، وعن وقوعه ثانيا :

اما الاول ـ ادعى شيخنا الاستاذ (قده) استحالة هذا القسم ، باعتبار استلزامه الجمع بين اللحاظين : الاستقلالى ، والآلي فى آن واحد.

بيان ذلك ـ هو ان حقيقة الاستعمال افناء اللفظ فى المعنى ، وايجاده امام السامع. وهذا يستلزم الغفلة عن اللفظ ، ويوجب أن يكون نظر المتكلم اليه نظرا آليا.

اما حقيقة الوضع فهو عبارة عن لحاظ كل من اللفظ والمعنى استقلالا ،

٨٨

ثم جعل اللفظ المتصور للمعنى كذلك. وهذا يقتضى الالتفات الى اللفظ لا الغفلة عنه فالغرض ان هناك عملية واحدة يتحقق فيها الوضع والاستعمال فى آن واحد يستلزم ان يكون الشخص ملتفتا الى اللفظ وغير ملتفت اليه ، او فقل ناظرا اليه استقلالا وآلة فى آن واحد ، وهو مستحيل.

ولا يخفى ما فيه ، فان الوضع ـ باى معنى اعتبرناه ـ لا يخلو عن كونه أمرا قائما بالنفس يحتاج فى مقام إظهاره الى مبرز ، وكاشف ، وهذا المبرز (تارة) يبرز الوضع ابرازا مطابقيا مثل التزمت أو جعلت كذا لكذا. و (اخرى) يبرز ما هو لازم الوضع ، فينتقل الى الملزوم بطريقة الملازمة ، فان اللفظ لو أبرز الاستعمال فقد أبرز الوضع التزاما ، اذ كل استعمال مسبوق بالوضع. فبابرازه للاستعمال يكون فى نفس ذاك الوقت مبرزا للوضع لا محالة. غايته أن أحدهما كان بالمطابقة ـ وهو الاستعمال ـ والآخر بالالتزام ـ وهو الوضع.

ومثله الهبة (فتارة) تبرز بمدلولها المطابقى فيقول : وهبتك كذا. (واخرى) بمدلولها الالتزامى فيقول : خذ هذا الثوب ـ مثلا ـ. ولا ريب أن الملكية فرع الهبة. وقد أبرزها بنحو الالتزام.

وأما دعوى لزوم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالى لاقتضاء الاستعمال الغفلة عن اللفظ حينه فهى غير تامة ، إذ ربما يكون اللفظ غير مغفول عنه عند الاستعمال ، ويكون منظورا اليه استقلالا. وذلك كما لو كان قصد الرجل الاجنبى عن لغة إظهار معرفته بتلك اللغة ، فيقول : جئنى بالماء ـ مثلا ـ فهو بحسب الحقيقة مريد للماء ، ولكن غرضه متعلق بنفس اظهار اللفظ امام غيره ، وليس اللفظ منظورا اليه بالنظر الآلي ، كما وليس بمغفول عنه ، بل منظور بنحو الاستقلال بنفسه ، وملتفت اليه.

٨٩

هذا كله من حيث إمكان ثبوتها عقلا ، اما وقوعها بهذا النحو فغير بعيد ، ومدعى القطع به غير مجازف ـ كما قال صاحب الكفاية ـ قده ـ

(الجهة الثالثة) فى معرفة هذا القسم من الوضع ، وهل هو حقيقة او مجاز؟ فقد ادعى صاحب الكفاية ـ قده ـ انه ليس بحقيقة ولا مجاز ، اما عدم كونه حقيقة فلان الوضع انما حصل بالاستعمال ، فليس الاستعمال استعمالا فيما وضع له ، وأما انه ليس بمجاز فلان المجاز يتبع الحقيقة ، والمفروض عدم الحقيقة ، ثم قال ـ قده ـ : ولا مانع أن يكون هناك ـ استعمال ليس بحقيقة ولا مجاز ، ما دام حسن الطبع يرتضيه.

وغير خفى أن الاستعمال المذكور حقيقى لا مجازى. وذلك فان الوضع إن أخذناه بمعنى الالتزام والتعهد من دون توقف على المبرز والكاشف فهذا المعنى متحقق فى النفس من بداية الامر ، وقد جاء الاستعمال بعد ذلك تبعا للملتزم به. وإن أخذناه مركبا من أمرين : التعهد ، والابراز فلا محالة أن الجزء الاول وهو التعهد كان حاصلا قبل الاستعمال والجزء الثانى ـ وهو الابراز قد تحقق عند الاستعمال ، وبانضمام الجزء الثانى الى الاول ينتج الوضع ، فيكون الاستعمال متابعا لما وضع له اللفظ ، ويصح الاستعمال مقارنا للوضع ، وان تأخر رتبة عنه. وهذا الوجه يثبت الحقيقة دون المجاز.

ثم ان صاحب الكفاية ـ قده ـ ذكر ان هذا الوجه انما يتم ويثبت به الحقيقة الشرعية بناء على ان تكون هذه المعانى مستحدثة ، ومخترعة جديدا من قبل الشارع المقدس ، واما بناء على أنها معان لغوية قد ثبتت فى الشرائع السابقة بنفسها فلا يتم : لان النبى (ص) لم يصدر أى وضع وانما تابع الانبياء

٩٠

السابقين فى استعمالاتهم وقد وردت جملة من الآيات الشريفة تثبت هذا المعنى؟ منها قوله تعالى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) وقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وقوله تعالى ـ حكاية عن ابراهيم الخليل (ع) : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) وهذه الآيات الشريفة افادت وجود هذه المعانى فى الزمن السابق ولا يضر الاختلاف ما بين الصلاتين ـ مثلا ـ فانه اختلاف فى حقيقة واحدة ، وهذا موجود فى صلاتنا ايضا ، فصلاة المختار غير صلاة المضطر ، وصلاة المسافر غير صلاة الحاضر ، وعلى هذا لا اثر للبحث لعدم وجود اختراع وتشريع منه (ص) ، بل فى البين متابعة واستعمال ، وهى تثبت الحقيقة اللغوية.

وهذا الذى ذكره صاحب الكفاية ـ قده ـ يمكن دفعه بأمرين :

(الاول) ان كون المعانى لغوية ، وغير مستحدثة لا ينافى ان تكون هذه الالفاظ المستعملة لدى الشارع حقيقة شرعية. حيث أن هذه الماهيات التى حصلت عند الامم السابقة كانت الالفاظ التى تفيدها اما باللغة العبرانية ـ كما فى لغة موسى عليه‌السلام أو بالسريانية ـ كما فى لغة عيسى عليه‌السلام واما إبراهيم الخليل عليه‌السلام فلا نعرف لغته. وليست نفس هذه الالفاظ هى التى استعملت على لسانهم عند إرادة المعانى لاختلاف اللغة فيما بيننا وبينهم ، والحقيقة الشرعية ليست اختراعا للمعنى ، وجعل اللفظ له بل اختراعا للفظ ، وجعله لماهية من الماهيات ، وإن كانت تلك الماهية مجعولة عند السابقين ، فلفظ (الصلاة) وان كان موجودا فى انجيل برنابا بهذه الحروف إلّا ان الموجود ترجمة تلك اللفظة السريانية الى لفظة عربية ، وليس ذكرها هناك دليلا على انها بنفسها كانت مستعملة لدى القوم عند ارادتهم لتلك المعانى ، فان تلك اللفظة عربية ، ولغتهم سريانية؟ او غيرها من سائر

٩١

اللغات القديمة.

(وبعبارة أخرى) ما يتداولون به من اللغة ليس لغة عربية ، فان القرآن الكريم قرب ذلك المعنى الذى له لفظ خاص من تلك اللغة بالفاظ نفهمها فى خصوص لغتنا ، واما اشتمال الانجيل على تلك الالفاظ فانما هو بعد الترجمة الى اللغة العربية ، وكيف كان فالكلام فى هذه الالفاظ خاصة اما معانيها فلا يضر سبقها.

وربما قيل ـ إن الالفاظ المذكورة ليست بحقيقة شرعية فى المعانى المستحدثة لثبوتها قبل شريعة الاسلام باعتبار أن العرب قد انتقلوا الى معانى تلك الالفاظ بمجرد نزول هذه الآيات الشريفة مثل قوله تعالى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) ولم يتوقفوا فى معانيا عند سماعها ، وهذا يكشف عن تسميتها لهذه المعانى عند العرب قبل زمن النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهى ليست بحقيقة شرعية.

والجواب عنه ـ إن نزول هذه الآيات الشريفة التى اشتملت على هذه الالفاظ لو كانت فى بداية التشريع الالهى ، أو قبله بزمن بحيث لم يصدر من النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشريع نحو هذه الالفاظ ، ثم نزلت هذه فحينئذ نستكشف منها الموافقة لما يفهمه العرب من المعنى. اما لو فرضنا نزولها بعد التشريع بزمن ـ اى بعد ان استعمل النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الالفاظ فى المعانى الجديدة ، وأفهم القوم بها ـ ثم جاءت بعد ذلك الآية الكريمة فلا تكون إلا حاكية ، ومعبرة عما جاء به النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد استند فهم العرب منها الى ما انسبقوا بها قبل ذلك من المشرع الاعظم ، فحينئذ يندفع الاشكال.

الثانى ـ إن الامر لو كان من المسائل التاريخية لاحتاج الى هذه الاطالة فى البحث لكنه ليس كذلك ، بل البحث هنا يكون بلحاظ ترتب

٩٢

الثمرة عليه. وقد قلنا انها تظهر فى حمل الالفاظ المتداولة فى لسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المعانى الجديدة بناء على ثبوتها ، وعلى المعانى اللغوية بناء على عدم الثبوت ، وهذه الثمرة تظهر وان قلنا بان المعانى غير مستحدثة ، اذ بعد ان عرفنا ان لهذه الالفاظ معانى لغوية ومعانى شرعية حديثة ، او قديمة فالتزام النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهذه المعانى المستحدثة فى استعمالاته اذا تم ، وهو معنى الحقيقة الشرعية التى نريدها يقتضى حملها عليها ، واما اذا لم يتم فلا بد من حملها مع عدم القرينة على المعانى اللغوية التى كانت شائعة فى الاستعمالات إذ ذاك فلا يضر اذن فى جريان النزاع فى كونها مستحدثة او قديمة ، وتابعهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فى استعمالها.

هذا كله فى الوضع التعيينى ، وقد قلنا إن مدعى القطع بالقسم الثانى منه غير مجازف.

واما ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعيّنى الذى يستند الى كثرة الاستعمال لا التصريح والجعل ، فمعلوم فى زمن الصادقين (ع) دون زمن النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك فان فى زمن الصادقين (ع) بل وحتى فى عصر امير المؤمنين عليه‌السلام أصبحت الالفاظ تحمل على المعانى الجديدة بلا قرينة لكثرة الاسئلة التى ترد من السائلين ، خصوصا فى مثل الصلاة التى هى اكثر استعمالا من غيرها من الفاظ العبادات ، فصارت حقيقة متشرعية فى زمنهم (ع) وانتفت ثمرة البحث التى كنا نتوخاها من هذا النزاع باعتبار ان الروايات التى صدرت عنهم (ع) ، واشتملت على هذه الالفاظ أصبحت معلومة المراد من حيث المعنى الجديد ، فلا داعى للنزاع بعد ذلك.

واما فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاثبات هذا المعنى مشكل ، إذ ليس لنا علم بأن كثرة استعمالاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة هى التى عينت هذا المعنى ، ولعله

٩٣

لم تكن بتلك الكثرة فلا يحصل الاطمئنان ، نعم ليس ببعيد ان يقال ان التعين حصل بسبب استعمالاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستعمال متابعيه ، أى استند الى المجموع

ولا يضر ما اشكل على هذا بأن ثبوت التعين إذا كان مستندا الى المجموع فهذا لا يصيره حقيقة شرعية لانه لم يتم على لسانه خاصة ، فالاولى تسميته بحقيقة متشرعية ، وذلك فاننا بعد أن عرفنا إرادة المعانى الجديدة من الالفاظ لا يهمنا هذا الاشكال.

فالانصاف انه لو تعذر علينا اثبات الحقيقة بطريق الوضع التعيينى بقسمه الثانى فلا مناص من الالتزام بالوضع التعيّنى وصيرورة ذلك حقيقة متشرعية فى زمنه. لكن قد عرفت انه لا ثمرة لهذا البحث للمنع عن الصغرى ، وان كانت الثمرة من حيث الكبرى مسلمة.

* * *

(الصحيح والاعم)

هل الفاظ العبادات أسام للصحيح منها بالخصوص أو للاعم منه ومن الفاسد؟

والتحقيق يقع من جهات :

(الاولى) ان تصوير النزاع ـ على القول بثبوت الحقيقة الشرعية ـ واضح فان الشارع المقدس بعد ان وضع الالفاظ للمعانى المستحدثة ـ اما بالوضع التعيينى ، واما بالوضع التعينى ـ يقع النزاع فى وضعها لخصوص المنطبق منها على الافراد الصحيحة ، أو المنطبق على الاعم منها ، ومن

٩٤

الفاسدة. بحيث يحتاج إرادة كل واحد منها الى القرينة. وعلى القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية ، وان الشارع استعمل الالفاظ فى المعانى : اما بطريق المجاز ، واما بالمعنى اللغوى. وقد دل على إرادة الاجزاء ، والشرائط دال آخر ـ كما ذهب إليه الباقلانى ـ فالنزاع أيضا يمكن جريانه وذلك بأن يقال : إن هذه الالفاظ المعلومة قد أصبحت فى وقت من الزمن حقيقة فى هذه المعانى ـ ولو على سبيل الحقيقة المتشرعية كما فى زماننا هذا ـ ولكن الاستعمالات التى عند المتشرعة انما هى بتبع استعمال الشارع المقدس لتلك الالفاظ فى المعانى. فيقال : انه بنا على استعماله لها بنحو المجاز فهل استعملها فى الجامع بين خصوص الافراد الصحيحة ، أو فى الاعم منها ومن الفاسدة؟

وهكذا يمكن تصوير النزاع ـ على مذهب الباقلانى ـ فيقال : إن الالفاظ المذكورة وإن استعملت على لسانه ـ فى المعنى اللغوى ـ إلا ان تلك القرينة التى دلت على ارادة الاجزاء والشرائط. هل دلت على خصوص الصحيح من الافراد ، أو من الاعم منها ، ومن الفاسدة؟.

(الثانية) المراد من الصحة التى هى مقابل الفساد : معناها اللغوى : وهو تمامية الشىء من حيث الاجزاء والشرائط. والفساد : معناه عدم التمامية. وأما تفسيرها بما اسقط الاعادة ، والقضاء ـ كما عن بعض الفقهاء ـ وبموافقة الامر فى الشريعة ـ كما عن المتكلمين ـ فهو تفسير باللازم. لان لازم كون المأتى به تام الاجزاء والشرائط عدم الاعادة عليه فى الوقت ، وعدم القضاء خارجه ، ولازمه ايضا موافقته للامر الوارد فى الشريعة المقدسة. وهكذا معنى الفساد.

ثم ان الصحة والفساد من الامور الاضافية فالحقيقة الواحدة (كالصلاة

٩٥

عن جلوس) ـ مثلا ـ هى بالاضافة الى المضطر صحيحة ، وإلى القادر المختار غير صحيحة .. وهكذا (صلاة ركعتين فى السفر) هى للمسافر صحيحة ، وللحاضر غير صحيحة. وكذا (الطهارة الترابية) صحيحة لفاقد الماء ، وغير صحيحة لواجده وو .. الخ. فالصحة والفساد اذن من الامور الاضافية التى تختلف باختلاف الاشخاص ، والاحوال ، والازمان ، الى غير ذلك.

(الثالثة) إن الصحة التى فسرت بتمامية العمل لا اختصاص لها بالاجزاء خاصة بل تشمل حتى الشرائط فيقال : هل الصلاة اسم لخصوص الافراد الصحيحة بمعنى تامة الاجزاء والشرائط ، أو للاعم من ذلك ، اذن فالنزاع يشملهما.

وقد وقع النزاع فى شمول معنى الصحة للمعانى الآتية : كالصحة بالاضافة الى عدم المزاحم المقابل لما كان فيه مزاحم ـ كما إذا صلى عند ابتلائه بنجاسة المسجد ـ وقلنا بفسادها لاجل المزاحمة. وكالصحة من جهة عدم النهى ـ كما لو صادف وقوع صلاة شخص مقابل آخر على نحو تستلزم الهتك ـ فلو أوقعها كانت فاسدة لكنها صحيحة لو لا النهى. وكالصحة من جهة قصد التقرب فى مقابل من فقد قصد القربة وان جاء بجميع الاجزاء والشرائط ، فانها تقع فاسدة.

فقد ذهب شيخنا الاستاذ ـ قده ـ الى استحالة تعميم النزاع لهذه الجهات الثلاث باعتبار أن الصحة من جهة عدم المزاحم ، أو عدم النهى ، أو لاجل التقرب فرع وجود الامر ، أو النهى ، وهما متأخران رتبة عن المسمى ، وكل ما هو متأخر بحسب الرتبة لا يمكن أخذه فى المتقدم.

وهذا الوجه غير صحيح ـ إذ لا مانع من ملاحظة المجموع المؤلف

٩٦

من ذات المعنى وتوابعه. ثم جعل اللفظ له وان كان بحسب الرتبة متأخرا احدهما عن الآخر ـ كما يصح تسمية المعلول والعلة معا باسم واحد ، مع اختلافهما فى الرتبة. وعليه فلا مانع من اخذ الصحة بهذا المعنى الجامع للجهات الثلاث. نعم هذا النحو من التصوير فى الصحة غير واقع فى الخارج. إذ لم توضع الصلاة ـ مثلا ـ على الصلاة الصحيحة من جميع الجهات ، حتى من جهة عدم تعلق النهى بها ، وعدم ابتلائها بالمزاحم الاهم. ومن جهة قصد التقرب بها ، وغير ذلك. مما له مدخلية فى صحة الصلاة ، بل الصلاة وغيرها من اسامى العبادات انما وضعت لمعان قد يقصد بها التقرب ، وقد لا يقصد ، وقد تبتلى بالمزاحم الاهم ، وقد لا تبتلى ، ويتعلق بها النهى ، ولا يتعلق وهكذا فالمسمى بتلك الاسامى والالفاظ هو المعنى السابق فى الرتبة على هذه الامور. وعليه فالنزاع يختص بالاجزاء والشرائط فقط.

(الجهة الرابعة) لا بد على كلا القولين ـ الصحيح والاعم ـ من تصوير جامع كلى يكون قدرا مشتركا بين الافراد الصحيحة من الصلاة ـ مثلا ـ او بين الافراد الاعم من ذلك ، ويكون هو المسمى بالصلاة سواء قلنا : بأن الوضع ، والموضوع له عام. او قلنا : بالوضع العام ، والموضوع له الخاص.

اذ على الاول ـ كما هو الحق ـ لا بد من تصور مفهوم كلى منطبق على افراده الصحيحة بناء على الصحيح ، او الاعم بناء عليه يوضع اللفظ بازائه.

وعلى الوجه الثانى ـ ايضا كذلك ـ إذ الافراد التى يكون اللفظ موضوعها لها لا بد من تصور عنوان كلى يشير إليها ، وهذا العنوان الكلى هل هو حاك عن خصوص الافراد الصحيحة ، او الاعم منها ، ومن الفاسدة؟ وقد اتضح من هذا الاحتياج الى الجامع على كلا التقديرين.

٩٧

وقد ذهب شيخنا الاستاذ ـ قده ـ الى عدم الاحتياج الى الجامع على كل تقدير مدعيا أن لفظ الصلاة وضع لخصوص المرتبة العالية من الافراد ، وهى المشتملة على تمام الاجزاء والشرائط ، وتستعمل فى المراتب الدانية من تلك الافراد على سبيل الادعاء. اما من حيث المشاركة فى تحصيل الاثر ـ كما فى الافراد الصحيحة مسامحة واما من جهة المشابهة فى الصورة ، او تنزيل فاقد الشىء منزلة واجده ـ كما فى الافراد الفاسدة ـ فلفظ الصلاة ـ مثلا ـ مستعمل فى المعنى حقيقة : اما واقعا ، واما ادعاء على مذهب السكاكى.

ثم ادعى (قده) ان وضع الاسماء للمركبات ، كأسماء المعاجين من هذا القبيل. فان اللفظ وضع للمرتبة العالية الكاملة. ويستعمل فى الفاقد لبعض الاجزاء المؤثر بعين ذلك الاثر من جهة الاشتراك فى الاثر ، واما فى الفاقد للتأثير من باب تنزيل الفاقد منزلة الواجد ، او المشابهة فى الصورة.

ولا يخفى (اولا) اننا لا نجد بالوجدان مسامحة عند استعمال اللفظ فيما عدا المرتبة العالية ، ولا نجد تنزيلا حينما يستعمل لفظ الصلاة فى بقية الافراد.

(وثانيا) ان تلك المرتبة العالية التى فرض جعل اللفظ لها لا بد وان تكون معينة وهذا المعنى يمكن تصويره فى المركبات الخارجية ، واما فى مثل الصلاة التى هى محل البحث ، فالمرتبة العالية غير معلومة. فالوحدة المعينة فى صلاة الصبح تختلف عن الوحدة فى صلاة المغرب. وهى تختلف عن الصلاة ذات الاربع. وهى مختلفة عن صلاة الآيات. فان الصلاة ذات الركعتين صحيحة فى وقت ، وفاسدة فى وقت آخر ، او انها صحيحة من المسافر ، وفاسدة من غيره ، وهكذا. واذ اختلفت الوحدة

٩٨

فى المقام فكيف يمكن تصوير مرتبة واحدة من المراتب العالية ليكون اللفظ موضوعا لها؟ إذن لا بد من تصوير جامع فى المقام على كلا القولين.

هذا كله فى مرحلة الثبوت وأما مرحلة الاثبات فالواجب مراجعة الادلة والنظر إلى ما هو الموضوع له اللفظ.

اما من لا يعترف بأن تصوير الجامع ـ على كلا القولين ـ ممكن ثبوتا ، بل ممكن على تقدير أحدهما دون الآخر ، فلا بد من تبعية عالم الاثبات لعالم الثبوت فى خصوص ذلك القدير.

تصوير الجامع على القول بالصحيح

ومن هنا ذهب صاحب الكفاية ـ قده ـ إلى انها موضوعة للجامع الصحيح دون الاعم ، إذ لا جامع بين افراد الاعم من الصحيح والفاسد. ولاجل هذا صار فى صدد تصوير الجامع على القول بالصحيح.

وتقريبه : ان المستفاد من الادلة اثر واحد للصلاة. وهو النهى عن عن الفحشاء والمنكر ، وهو انما يتأتى من الافراد الصحيحة دون الفاسدة. وبناء على ان الواحد لا يصدر إلّا من الواحد نستكشف من وحدة الاثر وحدة المؤثر فندعى ان جميع افراد تلك الصحيحة ترجع الى قدر مشترك جامع بين الافراد كلها يكون هو المؤثر والمحصل لذلك الاثر ، وهو النهى عن الفحشاء. فاذا ثبت بمقتضى هذه القاعدة ، وحدة المؤثر كان ذلك هو المسمى بالصلاة ، ولا يهمنا معرفة ذلك الجامع بشخصه ، بل تكفى الاشارة اليه ولو بأثره ، ولا حاجة للوقوف على حقيقته بعد ان استكشفنا وجوده من وحدة الاثر.

والجواب عن ذلك يقع بوجوده :

(الاول) انه بعد تسليم القاعدة فى نفسها فانما يتم ذلك فى الواحد

٩٩

الشخصى البسيط ، أو الواحد النوعى ، لا الواحد فى العنوان. والنهى عن الفحشاء من القسم الاخير.

بيان ذلك : ان الفحشاء من المفاهيم الانتزاعية التى كان منشأ انتزاعها مختلفا جدا ، فهى تحصل من الغيبة تارة ، ومن الكذب أخرى ، ومن الزنا ثالثة ، ومن شرب الخمر رابعة. والجامع لهذه الامور المختلفة عنوان واحد ، وهو الفحشاء. فاذا كان الامر كذلك فمن الممكن أن تكون صلاة الصبح ناهية عن فحشاء خاص ، وصلاة الظهر ناهية عن فحشاء آخر ، بل يمكن ان يكون بعض أجزاء صلاة واحدة ناهيا عن فحشاء وبعضها الآخر ناهيا عن فحشاء اخرى وهكذا. واذا تعدد الاثر فلا محالة يتعدد المؤثر تبعا له ويبطل الاحتياج الى الجامع.

(الثانى) ان الاثر المذكور إذا فرض اثرا للجامع والطبيعة فلا بد من إلغاء تاثير الخصوصيات. مع اننا نجد للخصوصيات دخلا فى تحصيل الاثر. فان صلاة الصبح بقيد أنها ركعتان تنتهيان بالتسليم تكون مؤثرة للنهى عن الفحشاء. فلو انضم الى ذلك ركعة أخرى لما حصل المطلوب. وهكذا صلاة المغرب ، وصلاة الآيات ، واذا ثبت التأثير للخصوصيات فى تحصيل الاثر ، وهو النهى عن الفحشاء ، فلا بد وأن لا يكون الاثر أثرا للجامع.

(الثالث) ان الجامع الذى استكشف من أثره إما مركب وإما بسيط. والاول باطل لان لازم الامر بالمركب مجموعا عدم حصول الاثر لو نقص العمل عن المجموع. مع اننا نجد وجدانا تحقق الاثر نفسه فى الناقص عن المركب ، كصلاة المضطر.

والثانى ـ غير معقول. إذ كيف يكون اللفظ موضوعا لجامع بسيط منتزع من عدة مقولات مختلفة متباينة. فالنية من الحالات النفسية ، والقراءة

١٠٠