مصابيح الأصول

علاء الدين بحر العلوم

مصابيح الأصول

المؤلف:

علاء الدين بحر العلوم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز نشر الكتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

الاتيان به خارجا ، ومن هذا النحو نفقة الزوجة ، وردّ السلام ، ووفاء الدين.

انما البحث فى مورد التردد فى الواجب المأمور به بينهما ، فلا يعلم انه من الاول ليفتقر الى قصد امتثال الامر ـ مثلا ـ او من الثانى فلا يفتقر اليه ومع هذا التردد والشك ، هل هناك اصل لفظى من اطلاق ، وغيره يرجع اليه فى تعيين احدهما؟ وعلى تقدير العدم فما هو الاصل العملى. وعلى هذا فالبحث يقع فى مقامين :

(المقام الاول) فى الاصل اللفظى.

(المقام الثانى) فى الاصل العملى.

(اما البحث عن المقام الاول) ـ فالمعروف بين القوم ، ان الاطلاق لا يثبت توصلية الواجب وان شئت فقل : انه ليس لنا فى المقام اطلاق يمكن التمسك به لنثبت به التوصلية وذلك لامرين :

الامر الاول ـ ان داعى الامر يستحيل اخذه قيدا فى الواجب.

الامر الثانى ـ انه اذا استحال التقييد استحال الاطلاق ، لكون التقابل بينهما تقابل العدم ، والملكة. والملكة هى التقييد والملكة وعدمها يشترط فيهما قابلية المحل فالمحل الذى لا يكون قابلا للملكة لا يكون قابلا لعدمها. ولاجل هذا لا بد ان يقع بحثنا فعلا فى مسألتين :

(المسألة الاولى) ـ ان تقييد الواجب بداعى الامر مستحيل او ممكن.

(المسألة الثانية) ـ انه بعد فرض استحالته وان تقييد الواجب به غير ممكن فهل الاطلاق مستحيل ايضا لما ذكر؟

٢٢١

(اما المسألة الاولى) ـ فقد استدل القائل بالاستحالة على المدعى بوجوه :

(الوجه الاول) ـ ما ذهب اليه شيخنا الاستاذ ـ قده ـ ان كل قيد خرج عن الاختيار ففى مقام الجعل لا بد وان يؤخذ مفروض الوجود ، بحيث يكون وجود ذلك الامر غير الاختيارى على تقدير تحققه بنفسه شرطا فى فعلية الوجوب. مثل ـ اذا زالت الشمس فصلّ ـ فان الصلاة امر اختيارى للمكلف باعتبار القدرة على فعلها وتركها ، كما وان تقيدها بالزوال ايضا اختيارى له فله القدرة على ايقاع الصلاة عند الزوال ، وله القدرة على العدم ولكن نفس القيد وهو الزوال غير اختيارى له ، لانتفاء قدرته على ايجاده خارجا فمثل هذه القيود لو اخذت فى مقام الطلب لا يراد منها الا فرض وجودها ، اى تفرض موجودة اولا ، ثم يتعلق الطلب بالفعل المقدور ثانيا ، ويصير معنى ذلك انه متى حصل وقت الزوال ، فالصلاة واجبة وليس معناه تجب الصلاة ويجب تحصيل الوقت ، فانه تكليف بغير المقدور فالقضايا الحقيقية هى التى اخذ موضوعها مفروض الوجود ، ولا يكون الحكم فيها فعليا الا بفعلية الموضوع ، ومقامنا من هذا القبيل فان المولى لو امر بالصلاة بداعى الامر فموضوع خطابه (الصلاة) (ونفس الداعى) وكل منهما اختيارى للمكلف ولكن متعلق الداعى وهو (الامر) غير اختيارى له كالزوال باعتبار ان امر المولى لا يقدر المكلف على ايجاده بل القادر عليه نفس المولى ، فلا بد وان يؤخذ فى الواجب على نحو فرض الوجود كسائر القيود غير الاختيارية. وهذا غير معقول لاستلزامه اتحاد الموضوع مع حكمه لان الموضوع المأخوذ مفروض الوجود هو الامر والحكم المرتب عليه هو نفس

٢٢٢

الامر وهذا مستحيل.

ومن هذا ينشأ امتناع آخر ، وهو الدور وذلك فان فعلية كل حكم انما هى بفعلية موضوعه فان القضايا الحقيقية ترجع الى القضايا الشرطية ولا شك ان فعلية الجزاء انما هى بفعلية الشرط وهذا واضح ، فاذا امر المولى بواجب مقيد بداعى الامر ، ففعلية خطابه وهو امره يتوقف على فعلية موضوعه وهو الامر نفسه على الفرض فيتوقف فعلية الامر على فعلية نفسه.

والحاصل : ان اعتبار داعى الامر فى الصلاة ينشأ منه اشكالان بنظر شيخنا الاستاذ (قده) احدهما ـ اتحاد الحكم مع موضوعه. ثانيهما ـ لزوم الدور.

وقد اورد بعض الاساطين على مقالة شيخنا الاستاذ ـ قدس‌سرهما ـ بما محصله : ان الذى يؤخذ مفروض الوجود انما هو موضوعات التكليف دون قيود الواجب فان قيود الواجب يجب تحصيلها بمجرد تعلق التكليف بها ، كالطهارة المأخوذة قيدا فى الصلاة ، فان الامر المتعلق بالصلاة كما يوجب تحصيل سائر الاجزاء والشرائط يوجب تحصيل الشرائط ايضا التى من جملتها الطهارة ، نعم موضوعات التكليف ليست كذلك كالاستطاعة للحج وما شاكلها. وان قصد الامر فيما نحن فيه حيث كان من قيود الواجب وكان المكلف قادرا على تحصيله ، فحاله حال الطهارة يجب تحصيله اذا تعلق التكليف به ولا معنى لاخذه مفروض الوجود لئلا يجب تحصيله.

وغير خفى ـ ان ما جاء به (قده) من حيث الكبرى لا نقاش فيه. انما النقاش فى الصغرى حيث ان قصد الامر وان كان من قيود الواجب وقابلا لتعلق التكليف به اذ القصد من الامور الاختيارية ، لكن نفس الامر

٢٢٣

المتعلق للقصد ليس باختيارى للمكلف وانما هو من شئون المولى فله ان يأمر ، وله ان لا يأمر. واذا لم يكن اختياريا للمكلف فلا بد من اخذه مفروض الوجود ، وليس غرض شيخنا الاستاذ ـ قده ـ ان قصد الامر لا بد ان يؤخذ مفروض الوجود. كما هو مبنى الاشكال المزبور بل غرضه ـ قده ـ ان لازم اخذ قصد الامر فى متعلق الامر هو اخذ الامر نفسه مفروض الوجود وهذا يترتب عليه المحذوران المتقدمان.

فالصحيح فى الجواب ان يقال : ان ملاك اخذ الموضوع مفروض الوجود المستلزم لكونه شرطا لفعلية التكليف ، اما الظهور العرفى ، واما حكم العقل بذلك. ومرادنا بالظهور العرفى : هو ان العرف يفهم من القضية ان الموضوع اخذ على نحو فرض الوجود. وذلك مثل وجوب الانفاق على الزوجة ، وما شاكل هذه القضايا فان العرف يفهم من ذلك ان الزوجية موضوع لحكم رتبه الشارع المقدس على فرض وجودها ولم تؤخذ على نحو يجب تحصيلها على المكلف. وهكذا الامر فى وجوب الوفاء بالنذر ، والعهود ، والايمان. اما الحكم العقلى فهو انما يكون اذا كان القيد المأخوذ فى الواجب غير اختيارى. وحيث لا يعقل تعلق التكليف به لانه من التكليف بما لا يطاق وهو مستحيل ، فلا محالة من ان يؤخذ ذلك على نحو مفروض الوجود ويكون التكليف فعليا على تقدير وجوده. وفى هذين الموردين نلتزم باخذ ذلك الموضوع مفروض الوجود ، واما ما عداهما فلا دليل على ان التكليف لا يكون فعليا الا بعد فرض وجوده ، ويكون فعليا على تقدير وجوده.

وعلى هذا رتبنا الالتزام بفعلية الاحكام التحريمية قبل وجود موضوعاتها بمجرد تمكن العبد وقدرته على الايجاد ، كالتحريم الوارد

٢٢٤

على شرب الخمر ، فانه فعلى وان لم يوجد الخمر خارجا اذا كان المكلف قادرا على ايجاده بايجاد مقدماته ولذلك يتوجه التكليف عليه ، بخلاف الزوال فان المكلف لا يتمكن من ايجاد الزوال نفسه ، ولا بالشروع بمقدماته.

اذا عرفت هذا فنقول : ان ما نحن فيه من القسم الثالث الذى لا دليل على ان الموضوع لا بد من اخذه مفروض الوجود ، اذ لا علاقة للعرف بهذه الناحية ، كما انه لا ملزم لذلك من ناحية العقل ، فان الامر الذى كان متعلقا للداعى يحصل بمجرد انشاء المولى تكليفه واذا حصل امكن الامتثال بداعيه ، ولا حاجة بعد ذلك الى اخذه مفروض الوجود ، وعليه فالمكلف حين امتثاله يجد امرا موجودا قد حصل من انشاء التكليف فيأتى بالفعل بداعى ذلك الامر ولا داعى الى فرض وجود الامر حين الانشاء كما كان الامر كذلك فى سائر القيود غير الاختيارية ، وعلى ما ذكرناه ، فلا يلزم من اخذ قصد الامر فى متعلق الامر شىء من المحذورين المتقدمين.

(الوجه الثانى) : من وجوه الاستحالة ما ذكره شيخنا الاستاذ ـ قده ـ من ان اخذ قصد الامر فى متعلق الامر نفسه يستلزم تقدم الشىء على نفسه : وذلك فان قصد امتثال الامر متأخر رتبة عن نفس الاجزاء والشرائط لان معنى قصد الامتثال هو الاتيان بالاجزاء والشرائط التى تعلق التكليف بها بقصد امتثال امرها فلو اخذ قصد الامتثال متعلقا للتكليف صار كاحد الاجزاء والشرائط ولازمه تقدم الشىء على نفسه وهو محال.

(الوجه الثالث) : ما ذكره صاحب الكفاية ـ قده ـ من عدم قدرة المكلف على الامتثال اذا كان قصد الامر مأخوذا فى المأمور به ، وذلك فان المولى اذا امر بالصلاة بداعى الامر كان المأمور به حصة خاصة من

٢٢٥

الطبيعة دون نفس الطبيعة ، فالصلاة مثلا وحدها لم يكن مأمورا بها كى يتمكن المكلف من الاتيان بها بقصد امرها ، بل المأمور به على الفرض حصة خاصة منها وهى المقيدة بداعى الامر ، ومعه لا يتحقق الامتثال.

(الوجه الرابع) : ما ذكره بعض مشايخنا المحققين ـ قده ـ من ان اخذ قصد الامر فى المأمور به يستلزم الخلف ، وذلك فان فرض تعلق الامر بالصلاة بداعى الامر ـ مثلا ـ ان الصلاة وحدها ليست مأمورا بها ، بل المأمور به حصة خاصة وهى المقيدة بداعى الامر ، وفرض ان الاتيان بالصلاة لا بد ان يكون بداعى امتثال امرها ، ان ذات الصلاة مأمور بها ، وهذا خلف.

(الوجه الخامس) : ما ذكره ايضا بعض مشايخنا المحققين ـ قده ـ من ان اخذ قصد الامر فى المأمور به يستلزم داعوية الشىء الى داعوية نفسه وهى على حذو علية الشىء لعلية نفسه ، وذلك : فان الامر من شأنه تحريك العضلات نحو المأمور به فلو تعلق الامر بالصلاة بداعى الامر ـ مثلا ـ فقد دعا الى اتيان الصلاة ، والى داعوية الامر ، ومعنى هذا ان يكون الشىء علة لعلية نفسه وهذا امر مستحيل ، فان العلية منتزعة من ذات العلة ، وليست بمعلولة له وإلّا لتسلسل.

والصحيح ان شيئا من هذه الوجوه لا يستقيم ، بيان ذلك هو ان الامر المتعلق بالمركب لا محالة بحسب التحليل ينحل الى الامر باجزائه وينبسط على المجموع ، فكل جزء اذا لاحظناه نجده قد اتخذ حصة من ذلك الامر المتعلق بالمجموع ، واصبح مأمورا به بأمر ضمنى ، فوجب بوجوب ذلك المركب وجوبا نفسيا ، وهذا الامر المتعلق بالمركب

٢٢٦

لا يسقط إلّا بالاتيان بجميع اجزائه وشرائطه ، وعليه فاذا كان المركب مركبا من جزءين او اكثر وكان كل جزء اجنبيا عن غيره فلا يمكن الاتيان بجزء بداعى امتثال امره إلّا بقصد الاتيان بالاجزاء جميعها ، لان لان الامر كما يدعو الى ايجاد هذا الجزء ، كذلك يدعو الى ايجاد الجزء الآخر ، واما اذا كان المركب مركبا من الفعل الخارجى ، وقصده امره الضمنى فلو اتى بذلك الفعل بداعى امتثال امره الضمنى ، فلا محالة يتحقق المركب فى الخارج ويسقط امره بلا حاجة الى اتيان الجزء الآخر وهو قصد الامر بقصد امره فان سقوط امره لا يحتاج الى قصد امتثاله لانه توصلى ، ولا محذور فى الواجب ان يكون بعض اجزائه عباديا ، وبعضه توصليا.

وبهذا التقريب امكن رد جميع الوجوه التى استدل بها على الاستحالة.

(اما عن الوجه الثانى) فلان قصد الامتثال انما يكون متأخرا عن الاجزاء والشرائط اذا اريد منه قصد امتثال المجموع ، اما لو اريد منه قصد امتثال الامر الضمنى ـ كما هو الصحيح ـ فذلك لا يقتضى تأخره عن جميع الاجزاء والشرائط ، لان قصد امتثال كل جزء بخصوصه انما هو متأخر عن نفس ذلك الجزء دون بقية الاجزاء ولا مانع من لحاظ امرين ، احدهما متقدم على الآخر شيئا واحدا ، وجعلهما متعلقا للامر النفسى ، كما تقدم فى بحث الصحيح والاعم.

(واما عن الوجه الثالث) : فلان التشريع وعدم القدرة انما يتأتيان من العبد لو اراد امتثال امر الصلاة بداعى امرها النفسى الاستقلالى ، واما لو اراد امتثالها بداعى امرها الضمنى فهو مقدور له بعد الامر ، والقدرة التى اعتبرت فى متعلقات الاحكام انما هى حين الامتثال لا حين الامر.

٢٢٧

(واما عن الوجه الرابع) فان اريد من الامر المتعلق بذات الصلاة هو الامر النفسى الاستقلالى فهو مستلزم للخلف ، اذ الامر الاستقلالى لم يتعلق بذات الصلاة ، وان اريد من ذلك هو الامر الضمنى فذات الصلاة مامور بها ضمنا ولا يلزم المحذور من ذلك.

(واما عن الوجه الخامس) فملخصه : ان الامر الاستقلالى الذى تعلق بالصلاة ودعوة الامر انما يدعو الى ايجاد كل من الصلاة التى هى فعل خارجى ، والى جعل امرها داعيا الذى هو من الامور النفسية ، ولكن دعوة الامر التى اخذت فى متعلق الامر النفسى ليست هى داعوية الامر النفسى نفسه بل الماخوذ فى المتعلق هو داعوية الامر الضمنى ، فكان الامر النفسى يدعو الى ايجاد متعلقه وهو ذات الصلاة ، وداعوية امرها الضمنى ، فاين دعوة الامر الى داعوية نفسه.

واذا اتضح بما بيناه امكان اخذ قصد الامر فى متعلق الخطاب ، فلو شككنا فى غرض المولى ثبوتا وانه اراد العبادة المجردة عن كل قيد ، او المقيدة بداعى الامر فلا بد من ملاحظة عالم الاثبات فان تمت مقدمات الحكمة وقد اطلق كلامه ولم يبين ما يدل على ارادة التقييد لزم التمسك باطلاق خطابه ، وبذلك يثبت عدم ارادة التقييد.

(المسألة الثانية) : انه لو فرض استحالة تقييد الواجب بداعى الامر فهل الاطلاق مستحيل ايضا؟ ادعى شيخنا الاستاذ ـ قده ـ استحالة ذلك بدعوى ان التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، فاذا استحال التقييد استحال الاطلاق ايضا ، والبحث عن هذه المسألة يقع من جهتين :

(الاولى) : فى معرفة التقابل بين الاطلاق والتقييد.

٢٢٨

(الثانية) : انه لو كان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، فهل استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق؟

(اما الجهة الاولى) : فاعلم ان التقابل بين الاطلاق والتقييد يختلف باختلاف مقامى الاثبات والثبوت.

اما فى مقام الاثبات : فالتقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، لان الاطلاق فى هذه المرحلة عبارة عن عدم التقييد مع كون المتكلم فى مقام البيان ، وهو متمكن من بيان القيد وهو ـ اى الاطلاق بهذا المعنى ـ امر عدمى ، بخلاف التقييد فانه عبارة عن بيان خصوصية زائدة فى الموضوع ، او فى متعلق الحكم ، وهو معنى وجودى فلو اطلق المولى كلامه ، وكان فى مقام البيان ، ولم يبين خصوصية من الخصوصيات ، مع التمكن من التقييد ، بان لم يمنعه مانع من الاتيان بالقيد لزم التمسك بالاطلاق لا محالة ، ومنه يستكشف الاطلاق الثبوتى.

واما فى مقام الثبوت : فالمقابلة بين الاطلاق والتقييد مقابلة الضدين ، باعتبار ان الاطلاق فى هذه المرحلة عبارة عن لحاظ عدم دخل خصوصية من الخصوصيات فى الموضوع ، او متعلق الحكم ، او فقل عبارة عن رفض القيود ، والخصوصيات ، وهو معنى وجودى ، كما ان التقييد عبارة عن لحاظ المولى دخل خصوصية من الخصوصيات فى الموضوع ، او المتعلق ، وهو ايضا امر وجودى ، وليس بعدمى فكان كلا الامرين فى هذه المرحلة من ملاحظة التقييد او الاطلاق امرا وجوديا.

(وبعبارة اوضح) المولى اذا توجه نحو طبيعة ذات انقسامات عديدة ، فاما ان يتصورها مع لحاظ عدم دخل خصوصية من الخصوصيات ، اى يتصورها مع رفض القيود فهذا هو معنى الاطلاق ، واما ان يتصورها مع لحاظ

٢٢٩

خصوصية من الخصوصيات ، وهذا هو حقيقة التقييد ، وليس هنا قسم ثالث ، وهو ان يتصورها بلا لحاظ عدم دخل الخصوصية ، وبلا لحاظ خصوصية ما ، فتكون مهملة ، فان الاهمال فى الواقعيات غير ممكن.

فالذى تحصل من هذا ان مقابلة الاطلاق والتقييد فى مرحلة الاثبات مقابلة العدم والملكة ، بخلاف مرحلة الثبوت فانها مقابلة الضدين.

(واما الجهة الثانية) فالحق ان استحالة التقييد لا تستوجب استحالة الاطلاق ، وان كان تقابلهما تقابل العدم والملكة ، وذلك لامور ثلاثة :

(الامر الاول) : ما نجده فى بعض الموارد من استحالة اتصاف الشىء بالملكة مع اتصافه بعدمها ، بل قد يكون اتصافه بالعدم من الضروريات ، ولو كان كل من العدم والملكة ، متلازمين فى الامكان والاستحالة ، بوجه مطلق لما حصل التفكيك بينهما على هذا النحو ـ مثلا ـ ان كل فرد من سائر افراد البشر رسولا كان ، ام غير رسول ، لا يتمكن من الاحاطة بكنه ذاته تعالى ، وذلك لاستحالة احاطة الممكن بالواجب ، واذا كان كل فرد من البشر يستحيل ان يعلم بذاته تعالى كان بالضرورة جاهلا بحقيقته ، وغير عارف بها ولو كان التلازم فى الامكان والاستحالة ثابتا بين الاعدام والملكات ، لكان اللازم استحالة الجهل بذاته تعالى على الانسان بعد ان استحال عليه العلم بذاته ، وهكذا يستحيل على البشر ان يكون قادرا على الطيران الى السماء ، ولكن عجزه عن ذلك ضرورى وليس بمستحيل ؛ مع ان العجز يقابل القدرة تقابل العدم والملكة.

(الامر الثانى) : معرفة معنى قابلية المحل التى اعتبروها فى الملكة والعدم ، وبها ينحل الاشكال من اساسه ، فالذى يظهر من شيخنا الاستاذ ـ قده ـ انه اعتبر القابلية الشخصية فى جزئيات مواردها ، فالمورد الذى

٢٣٠

يستحيل فيه التقييد اعتبر استحالة الاطلاق فيه ، وهو الذى اوقعه فيما التزم به ، بينما ذكر الفلاسفة ان القابلية المعتبرة فى الاعدام والملكات ليست القابلية الشخصية ، بل القابلية بالمعنى الاعم من الشخصية ، والصنفية ، والنوعية ، والجنسية.

(وبتعبير آخر) لا يعتبر فى صدق العدم المقابل للملكة على مورد ان يكون ذلك المورد قابلا بخصوصه للاتصاف بالوجود ـ اى الملكة ـ بل يكفى فى صدقه عليه ان يكون شخص ذلك الفرد او صنفه ، او نوعه ، او جنسه ، قابلا للاتصاف بالوجود ويتضح هذا المعنى من المثال المتقدم فان الانسان قابل للاتصاف بالعلم والمعرفة ، ولكنه فى خصوص بعض الموارد كالمعرفة بذات الله تعالى التى استحال الاتصاف بها فيكون العدم صادقا بالضرورة ، كما ان خصوصية المورد فى المثال الثانى ، وهو الطيران الى السماء اوجبت ثبوت العجز على الانسان ، واتصافه به بلحاظ امكان اتصافه بالقدرة فى نفسه ، وهكذا كل احد يستطيع ـ مثلا ـ حفظ صحيفة ، او اكثر ولكنه لا يستطيع حفظ مجلدات البحار اجمع ، وهذا لا يوجب خروجه عن القابلية الجنسية لان صدق العدم المقابل للملكة على مورد لا يشترط فيه قابلية ذلك المورد للاتصاف بتلك الملكة بشخصها ، اذا فالتفكيك بين الاعدام والملكات فى الامكان والاستحالة امر قابل.

(الامر الثالث) : ان لازم ما يدعيه (قده) من استحالة التقييد والاطلاق هو الاهمال فى الواقع وهو مستحيل ايضا ، ضرورة انه لا يعقل ان يكون الحاكم غير عالم بما يصدر منه بحدوده ، فان ما يشتاق اليه كالصلاة ـ مثلا ـ اما ان يكون مقيدا بقصد الامر ، او مقيدا بعدم قصد

٢٣١

الامر ، او لا يكون مقيدا بهذا ولا بذاك ، بل يراد منه نفس الطبيعى بلا دخل لقصد الامر وجودا وعدما ، ولا يخرج الامر الواقعى عن هذه الامور الثلاثة اصلا ، وحيث استحال التقييد بقصد الامر على مختاره للزوم المحاذير المتقدمة ، كما وقد استحال التقييد بعدم الاتيان بداعى الامر لكونه خلاف الغرض اذ الغرض من الامر جعل الداعى فى نفس المخاطب ، وبعثه نحو المامور به ، فلا بد من الاطلاق لا محالة لاستحالة الاهمال فى الواقعيات لما ذكرناه ، واليه اشار الشيخ (قده) بقوله من انه اذا استحال التقييد يجب الاطلاق ، نعم فى مرحلة الاثبات صورة ثالثة غير الاطلاق والتقييد ، وهى الاهمال كما اذا لم يكن المولى فى مقام البيان ، او كان ولم يتمكن من بيان قيده ، فانه لو اطلق كلامه ، ولم يبين شيئا لم يمكننا التمسك بالاطلاق ، ولعل من هذا القبيل قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ،) الخ فان الآية الشريفة تشير الى لزوم القصر عند تحقق الضرب فى الارض ، وقد اهملت التعرض لمقدار الضرب ، وتحديده بحد خاص ، فكانت مهملة من هذه الناحية ، ومع ثبوت الاهمال فيها لا يمكن التمسك بالاطلاق.

وقد ظهر من مجموع ما ذكرناه ، ان المقدمة الاولى التى ذكرها شيخنا الاستاذ ـ قده ـ وهى استحالة تقييد العبادة ـ بداعى الامر ـ ليست بتامة ، كما ان المقدمة الثانية وهى ان استحالة التقييد تستوجب استحالة الاطلاق ـ ايضا ـ غير تامة ، وذلك فانه على فرض ان التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، فذلك لا يقتضى ما ذكره لاعمية القابلية المعتبرة بين العدم والملكة ، من الشخصية ، والصنفية ، والنوعية ، نعم فى مرحلة الاثبات استحالة التقييد تستوجب استحالة

٢٣٢

الاطلاق ، وذلك لما عرفت من ان مجرد عدم التقييد ، وارسال الكلام من دون جريان مقدمات الحكمة لا يكون دليلا على الاطلاق ، فلو علم بان المولى ليس فى مقام الاجمال ، وكان قادرا على التقييد ، ولم يكن محذور من بيان القيد ، ومع ذلك ارسل كلامه خاليا عن كل قيد فلا محالة ينعقد الظهور فى الاطلاق ، وبه يستكشف الاطلاق ثبوتا ، واما فيما اذا لم يمكنه التقييد لا يكون عدم التقييد فى مقام الاثبات كاشفا عن الاطلاق فى مقام الثبوت.

(اعتبار بقية الدواعى)

وقع النزاع بين الاعلام فى امكان اعتبار جملة من الدواعى للعمل فى العبادة جزءا وشرطا ، كقصد المحبوبية ، او قصد المصلحة ، او اتيان العبادة بداعى ان الله تعالى اهل للعبادة ، وغير ذلك ، وعلى تقدير امكان الاعتبار ، فهل يمكن التمسك بالاطلاق لو تجرد خطاب المولى عن كل قرينة؟.

ذهب صاحب الكفاية ـ قده ـ الى ان هذه الدواعى ، وان امكن تعلق الامر بها ، وجعلها جزءا من المامور به الا اننا نعلم قطعا بعدم اعتبارها فى العبادة ، وذلك فان المكلف لو صلى بداعى الامر دون ان يلتفت الى احد هذه الدواعى المذكورة ، فلا اشكال فى سقوط التكليف عنه ، والحكم بفراغ ذمته ، ولو كان شىء من هذه الدواعى دخيلا فى المأمور به لما سقط التكليف عنه.

(وغير خفى) : ان غاية ما جاء به ـ قده ـ هو القطع بعدم اعتبار قصد المحبوبية ، او المصلحة فى العبادة بشخصه ، وهو لا يلازم القطع بعدم اعتبار

٢٣٣

الجامع القربى بين هذه الدواعى فى العبادة ، فلعل صحة الصلاة الماتى بها بداعى امرها انما هى من جهة تحقق الجامع القربى المعتبر فى العبادة ، فغاية ما يترتب على الحكم بصحة الصلاة الماتى بها بداعى الامر هو الجزم ، بعدم اعتبار خصوص قصد المحبوبية ونحوه من الدواعى القربية فى المامور به ، واما الجزم بعدم اعتبار الجامع القربى فلا.

ان قلت : اذا صح الاتيان بالصلاة بداعى امرها ، كشف ذلك عن تعلق الامر بذاتها ليصح التقرب بها بايجادها بداعى امرها ومع ذلك كيف يمكن احتمال اخذ الجامع القربى ـ اعم من قصد الامر وغيره ـ فى متعلق الامر.

قلت : جواز الاتيان بالصلاة بداعى امرها لا يقتضى تعلق الامر النفسى بذات الصلاة من دون تقيدها بقصد القربة ، بل من الممكن تعلقه بالمركب منها ومنه ، ومع ذلك يصح الاتيان بذات الصلاة بداعى امرها ، وذلك لما عرفت من ان الامر المتعلق بالمركب ينحل الى اجزائه لا محالة ، فلو اتى بالصلاة ـ مثلا ـ بداعى امرها الضمنى فقد تحقق المركب خارجا وصح العمل.

هذا وقد ذهب شيخنا الاستاذ ـ قده ـ الى عدم امكان التقييد بهذه الدواعى فى العبادة بتقريب ان الارادة التشريعية نظير الارادة التكوينية ، وحيث يستحيل تعلق الارادة التكوينية بهذه الدواعى ، فكذلك الارادة التشريعية ، والوجه فى ذلك ان حقيقة الداعى هو ما تنبعث الارادة منه فى نفس المكلف للقيام بالعمل ، وبهذا تكون الارادة متأخرة عن الداعى لانها معلولة له ، وهو بمنزلة العلة لها ، ومن شأن كل علة ان تتقدم على معلولها ، ومع التسليم بهذا الامر لا يمكن تعلق الارادة بالداعى

٢٣٤

فانه من تقدم الشىء على نفسه ، وهو باطل ، واذا فرض عدم امكان تعلق الارادة التكوينية بالداعى فكذلك لا يمكن تعلق الارادة التشريعية به لانها مثلها ، والنتيجة ان الامر لا يتعلق بالعبادة مع داعى المحبوبية وغيرها.

(والجواب عن ذلك) : اولا انه لو كان ما ذكره ـ من عدم صحة التحريك نحو داع من الدواعى ـ صحيحا ، وكونه امرا غير معقول تكوينا ، وتشريعا ، فكيف تصححون ذلك بالامر الثانى اى متمم الجعل؟

(وبعبارة اخرى) ان ما ذكره ـ قده ـ لا يتلائم مع تصحيحه الآتي فى اعتبار الدواعى فى المتعلق فى الاحتياج الى امرين : (احدهما) متعلق بذات العمل ، (ثانيهما) متعلق باتيان العمل بداعى امره ، لان الوجه المذكور فى تقريب الاستحالة لا يفرق فيه بين اخذ الدواعى المذكورة فى متعلق الطلب الاول ، او الثانى.

(وثانيا) ان ما افاده ـ قده ـ انما يستدعى استحالة تعلق خصوص الارادة الناشئة من احد الدواعى القربية بذلك الداعى ، فان الارادة الناشئة عن داع يستحيل تعلقها بذلك الداعى لتأخرها عنه ، فكيف تتقدم عليه ، واما تعلق ارادة اخرى بذلك الداعى غير الارادة الناشئة منه فلا استحالة فيه ، وحيث ان الواجب مركب من العمل الخارجى ، واحد الدواعى القربية فالارادة المتعلقة بالعمل الخارجى ناشئة عن احد الدواعى ، ولكن ذلك الداعى الذى هو فعل ينبعث عن ارادة اخرى ، وعليه فلا مانع من تعلق الامر بالمركب من الفعل الخارجى ، والداعى النفسانى.

وقد ظهر مما ذكرناه ان اخذ بقية الدواعى القربية فى متعلق

٢٣٥

الامر لا مانع منه ، وكذا اخذ الجامع بينها ، وبين قصد الامر ، ولو قلنا باستحالة اخذ قصد الامر بخصوصه فى متعلق الامر.

فان قلت : لو سلمنا استحالة اخذ قصد الامر فى المتعلق فلا معنى لاخذ الجامع بينه ، وبين غيره من الدواعى القربية فيه بل لا بد وان يؤخذ الجامع بين غيرها بخصوصه ، وقد عرفت انه غير ماخوذ فى المتعلق قطعا وذلك لصحة الاتيان بالعمل العبادى بقصد امره دون ان يقصد غيره من الدواعى القربية.

قلت : ان الاطلاق ليس بمعنى الجمع بين القيود ، بل معناه رفض القيود ، ولحاظ عدم مدخلية شىء منها فى المامور به بحيث لو امكن على فرض محال اتيان الطبيعى متميزا عن جميع الخصوصيات الوجودية كان كافيا فى مقام الامتثال ، وعليه فلا مانع من اخذ الجامع القربى فى العبادات ، لانه انما يستحيل فيما اذا كان معناه لحاظ قصد امر فى المتعلق ، والامر به بهذه الخصوصية ، ولحاظ قصد المحبوبية ، والامر به بخصوصه لانه يستلزم تقدم الشىء على نفسه ، وغيره من المحاذير المتقدمة ، وهذا بخلاف ما اذا كان اخذ الجامع بمعنى لحاظ عدم دخل شىء من خصوصية قصد الامر ، وغيره فى المتعلق ، وعدم الامر بخصوصه ، فانه لا محذور فيه فان المحذور انما كان فى اخذ قصد الامر فى متعلقه ، لا فى عدم اخذه فيه.

ثم انه على تقدير التنزل والالتزام بانه لا يمكن التقييد لا بخصوص قصد الامر ؛ ولا بالجامع بينه ، وبين بقية الدواعى يمكن للمولى التوصل الى غرضه فى الواجبات العبادية بتقييد المامور به بلازم قصد الامر ، بيان ذلك ان كل فعل اختيارى لا بد وان يكون صادرا عن داع من الدواعى التى تبعث المكلف نحو العمل ، والدواعى : اما نفسانية ، واما الهية ،

٢٣٦

ولا ثالث لهما ، فلو منع المولى من اتيان الفعل بداع نفسانى فلا محالة انه يتحقق الفعل بالداعى الالهى ـ مثلا ـ لو امر المولى بوجوب الدفن مقيدا بعدم اتيانه بداع من الدواعى النفسانية ، فقد اخذ فى متعلق حكمه امرا عدميا ملازما لاتيان الفعل مضافا به الى المولى ، وبهذه الوسيلة يتوصل الى غرضه.

إلّا انه يستفاد من بعض كلمات شيخنا الاستاذ ـ قده ـ الاشكال على ذلك ايضا ؛ وحاصله : انه لو فرض محالا انفكاك العمل العبادى عن الدواعى النفسية والالهية ، وقد اتى العبد بالفعل بلا داع نفسانى ولكنه لم يات به بداع الهى ـ ايضا ـ لفرض انفكاكهما بفرض مستحيل ، فهل العمل متصف بالصحة ، ومسقط للوجوب؟ فان قيل : بالصحة ، وسقوط الغرض لزم انكار البديهى ، والالتزام بخلاف ما تقتضيه الضرورة فان المسقط للغرض فى المقام هو العمل الماتى به بداع قربى ، والمفروض عدم اتيانه بذلك ، وان قيل : بالفساد قلنا : لا وجه للحكم بفساده بعد مطابقته للمامور به ، فان الواجب هو العمل بلا داع نفسانى ، والمفروض انه اتى به كذلك ، فما وجه عدم صحته؟

(وغير خفى) ان غرض المولى من اعتبار العنوان الملازم فى العبادة ، انما هو للتوصل الى مقصوده خارجا ، فلو فرضنا ان عدم اتيان العبادة بالداعى النفسانى يلازم الاتيان بالداعى الالهى خارجا لعدم الانفكاك بينهما ، فلا مانع من اعتباره فى متعلق الامر توصلا الى غرضه ، اما الانفكاك محالا فليس له الاثر اصلا ، انما الاثر على الخارج ـ كما عرفت ـ

ثم على تقدير التنزل ، والقول ، بانه لا يمكن التقييد بخصوص داعى الامر ، ولا بالجامع بينه وبين بقية الدواعى ، ولا بما يكون ملازما

٢٣٧

للداعى القربى يمكن للمولى التوصل الى غرضه بالاخبار عن ذلك بجملة خبرية بعد طلبه.

الاول بان يقول : مثلا ـ ان غرضى لا يحصل من ذلك الامر المتعلق بالصلاة ـ مثلا ـ إلّا اذا اتى بها بداعى الامر ، وقد حالت الموانع دون اخذ هذا المعنى فى المتعلق ، فلو اطلق كلامه ولم يات بالجملة الخبرية امكن الاخذ بالامر الاول ، والاتيان بالعمل بلا داعى الامر فيه.

اما شيخنا الاستاذ ـ قده ـ فقد اختار طريقة توصل الى اعتبار داعى الامر فى العبادة سليمة من المحاذير المتقدمة ، وتلك الطريقة هى الامر ثانيا باتيان العبادة بداعى امرها الاول ، ويسمى الامر الثانى بمتمم الجعل ، ونتيجته نتيجة التقييد ، وببيان اوضح ان اعتبار ـ داعى الامر ـ قيدا فى متعلق الامر الاول غير ممكن على مسلكه ـ قده ـ ولا يسقط غرض المولى ، بمجرد اتيان متعلق الامر الاول ، بدون ـ داعى الامر ـ فلا بد وان يأمر ثانيا باتيان العبادة ، بداعى امر الاول ، فيكون فى المقام امران : (احدهما) متعلق بذات العبادة (وثانيهما) متعلق باتيان العبادة بداعى الامر الاول ، ولا محذور فى ذلك اصلا ، فلو اقتصر المولى على بيان الامر الاول ، من دون تعرضه للامر الثانى فى ظرف يستطيع من بيانه امكن اثبات التوصلية بذلك.

وقد اشكل صاحب الكفاية ـ قده ـ على هذه الطريقة بما حاصله ان التكليف ان سقط بالاتيان بالمامور به بالامر الاول فلا يبقى مجال للامر الثانى لانتفاء موضوعه ، وان لم يسقط بالاتيان ـ حينئذ ـ فالامر الاول بنفسه يستدعى الاتيان بداعى الامر لحكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى ، فلا حاجة الى الامر الثانى.

٢٣٨

والجواب عما اشكله فى الكفاية : انا نلتزم بعدم سقوط الامر الاول اذا اتى به من دون قصد القربة مع وجود الامر الثانى ، وبسقوطه مع عدمه فلا يكون الامر الثانى لغوا ، بيان ذلك انه ان اتى به المولى كشف عن اخصية الغرض ، وانه لا يحصل الغرض إلّا باتيانه بداعى القربة ، ويعبر عنه بنتيجة التقييد ، وان لم يأت به يستكشف من ذلك وفاء المامور به بالامر الاول بالغرض ، فيسقط ولو كان غير مقرون بقصد القربة ويعبر عنه بنتيجة الاطلاق.

ومما ذكرنا ظهر انه لو قلنا بمقالة شيخنا الاستاذ ـ قده ـ من استحالة تقييد المامور به بقصد الامر ، وانه اذا استحال التقييد استحال الاطلاق ، فلا بأس بما افاده من امكان التوصل الى الغرض بالامر الثانى وقد ذكرنا ايضا انه يمكن التوصل الى الغرض بجملة خبرية.

وعليه فالتمسك بالاطلاق ممكن فى ناحية المامور به على عدم التعبدية باحد الوجوه المتقدمة.

تنبيه

ذهب بعضهم الى ان الاصل اللفظى عند الشك فى تعبدية واجب وتوصليته يقتضى ان يكون تعبديا مستدلا على ذلك بوجوه :

(الوجه الاول) ان الامر فعل اختيارى للمولى ، وشأن كل فعل اختيارى ان يقع عن داع من الدواعى ، ولا ريب ان الداعى والغرض من الامر انما هو تحريك العبد نحو المامور به ، وبعثه اليه ، بجعل الداعى فى نفسه لان يصدر منه الفعل خارجا واذا كان كذلك فالعبد لا بد وان ياتى بالمامور به بداعى الامر تحصيلا للغرض ، وهذا هو معنى ان الاصل فى

٢٣٩

كل واجب ان يكون عباديا إلّا ان يقوم دليل على توصليته.

ويرد عليه : اولا ـ ان غرض المولى من امره ، وان كان ذلك إلّا انه لا يجب على العبد تحصيل غرض المولى من امره ، وانما الواجب عليه بحكم العقل اطاعة ما امره مولاه ، والاتيان بما تعلق به التكليف ، وتحصيل الغرض فى نفس المامور به ، والمفروض ان المامور به اعنى ما اشتغلت به ذمته مطلق ، وغير مقيد بداع من الدواعى ـ كما مرّ بيانه سابقا ـ

وثانيا ـ ان الغرض من الامر يستحيل ان يكون جعل الداعى ، لانه من المعلوم تخلف الداعوية عن الامر كثيرا فى الكفار ، والعصاة ، وانما الغرض من الامر هو جعل ما يمكن ان يكون داعيا ، وهذا لا يتخلف عن نفس الامر ، فلا معنى لوجوب تحصيله على المكلف.

والحاصل ان الجواب عن هذا الوجه ، اما بمنع الصغرى ، اعنى كون الغرض من الامر جعل الداعى ، او بمنع الكبرى ، اعنى لزوم تحصيل الغرض من الامر.

(الوجه الثانى) : الاستدلال على ذلك بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (انما الاعمال بالنيات) وبقوله عليه‌السلام : (لكل امرئ ما نوى) بتقريب ان كل عمل خلا عن نية التقرب ، فليس بعمل إلّا ان يقوم الدليل عليه ، وهذا هو معنى ان الاصل فى الواجبات التعبدية.

(والجواب عنه) ان هاتين الروايتين لا تدلان على ان الاعمال التى فقدت نية التقرب كانت بحكم العدم ، ولا تكون عملا الا مع النية ، فتفيد تعبدية كل فعل من الافعال الواجبة الا ما قام الدليل عليه ، بل تدلان على ان نتيجة الاعمال وهى الغايات مرتبة على النيات ، فلو جاء الانسان بعمل قصد به وجه الله تعالى ترتب عليه الثواب ، اما لو جاء بعمل لم يقصد به

٢٤٠