مصابيح الأصول

علاء الدين بحر العلوم

مصابيح الأصول

المؤلف:

علاء الدين بحر العلوم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز نشر الكتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

تعالى فى هيئة افعل ـ ان دلالة لفظ الامر على الوجوب كدلالة هيئة افعل عليه ليست دلالة لفظية ، بل هى من جهة حكم العقل ، وذلك من اجل ان مقتضى العبودية والمولوية ان يسعى العبد نحو تحقيق ما امره به مولاه ، فلو ترك السعى لا لعذر ذمه العقلاء اجمع نعم لو نصب المولى قرينة متصلة ، او منفصلة على جواز الترك ، والترخيص فيه جاز للعبد ان يترك ذلك.

اتحاد الطلب والارادة

الجهة الرابعة ـ فى اتحاد الطلب والارادة .. ويقع البحث عنه فى امور : الاول ـ هل الارادة ، والطلب بحسب المعنى متحدان ، او مختلفان؟ الثانى ـ هل مداليل الجمل الخبرية ، والانشائية من الامور النفسية؟ وعلى تقدير ذلك فهل من سنخ الكلام النفسى؟.

الثالث ـ هل الارادة المفسرة بالشوق المؤكد علة تامة فى ايجاد الفعل بعدها ، او هناك واسطة بينها ، وبين الفعل تسمى بالاختيار؟ وعلى هذه الامر يبتنى حديث الجبر والتفويض.

اما الامر الاول ـ فقد ذهب صاحب الكفاية ـ قده ـ الى القول بالاتحاد وان الطلب هو عين الارادة مفهوما ، ومصداقا. فان الطلب الحقيقى عين الارادة الحقيقية ، كما ان الطلب الانشائى ، عين الارادة الانشائية غاية الامر المنصرف من لفظ الطلب : عند الاطلاق هو الانشائى. ومن لفظ الارادة : هو الارادة الحقيقية ، ولا يضر هذا بوحدة المعنى.

وقد يقال : بتغاير الطلب ، والارادة مفهوما ، واتحادهما مصداقا كالانسان والناطق حيث اتحدا بتمام مصاديقهما ، وان اختلفا مفهوما.

وغير خفى ان المعنى المذكور وهو القول بالعينية على كلا المعنيين لا يساعد عليه الدليل ، بل الذى يساعد عليه هو ما ذهب اليه الاشاعرة من

١٨١

القول بالتغاير. فان الارادة : المعبر عنها بالشوق المؤكد من الصفات النفسية القائمة بالنفس ، كالحب ، والشجاعة ، والفراسة وغير ذلك. اما الطلب : فهو من مقولة الافعال الخارجية ، لان حقيقة التصدى الى ايجاد شىء فى الخارج بعد ان يشتاق اليه. فهو فى رتبة متأخرة عن الشوق المؤكد. فلا يقال : لمن كان مشتاقا الى تحصيل الدراسة والتعليم انه طالب علم ما لم يتصد الى تحقيق ذلك. غاية الامر ان الطلب قد يتعلق بفعل الغير ، وقد يتعلق بفعل نفس الشخص ، والجامع بينهما هو التصدى نحو الشىء واذا عرفت ان الطلب من مقولة الافعال ، وفى رتبة متأخرة عن الارادة التى هى من صفات النفس ، فلا بد من الحكم باعتبار التغاير بينهما ، وان احدهما ليس عين الآخر.

ومن هنا ظهر ما فى القول الثانى من دعوى التغاير بينهما مفهوما لا مصداقا. فانك بعد ان عرفت الفارق بينهما ، وان الارادة من الصفات النفسية ، والطلب من الافعال الخارجية المتأخر رتبة عن الارادة. فكيف يتم دعوى الاتحاد بينهما مصداقا والخلاصة : ان الطلب والارادة متغايران مفهوما ، ومصداقا.

الامر الثانى ـ المعروف بين العلماء القول بان الجمل الخبرية .. تدل على ثبوت النسبة ، او عدمها. وقد عبّر بعضهم عن ذلك بالنسبة الثبوتية ، او السلبية. واما الجمل الانشائية .. فانها تدل على ايجاد المعنى فى الخارج وقد سبق ان ذكرنا هذا القول ، والاشكالات عليه وانتهينا الى ان الجمل الخبرية انما تدل على قصد المتكلم الحكاية عن ثبوت النسبة ، او عدم ثبوتها. وليس الثبوت ، وعدمه من مداليل الجملة اصلا فان حالة السامع قبل الاخبار وبعده على حد سواء ، وغاية ما يحصل فى ذهن السامع نسبة القيام الى زيد اذا قيل ـ مثلا ـ زيد قائم ـ ولكنها نسبة تصورية ، وليست

١٨٢

بتصديقه. واما الجمل الانشائية. فحقيقتها ابراز ما هو كائن فى النفس من اعتبار خاص ، او امر حقيقى ، كالترجى ، والتمنّى. وهذا وسابقه من الامور النفسية لان قصد الحكاية او امر آخر ثابت فى افق النفس من الامور القائمة بالنفس فكان على هذا كل من مدلول الجملتين امرا نفسيا قائما بالنفس.

واما دعوى ان ذلك هو الكلام النفسى ، كما يبدو من شبهة الاشاعرة فى قبال الكلام اللفظى فغير ثابت. اذ لا مانع من صيرورته امرا نفسيا وليس من الكلام النفسى ولبيان ذلك ، وايضاحه لا بدّ من عرض شبهة الاشاعرة فى الكلام النفسى ، والاجابة عليها ، ولهم فى ذلك ادلة اربعة :

(الكلام النفسى وادلته)

الدليل الاول ـ ان الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالتكلم فقال : (وكلم الله موسى تكليما) وقد اصبح التكلم صفة من اوصافه ، وبما انه تعالى قديم ، ويستحيل ان يتصف بالحادث لا مناص من الالتزام باحد امرين : اما حدوث الواجب. وهو مستحيل ، واما قدم الكلام ولا محذور فيه. وحيث ان الكلام اللفظى امر حادث تدريجى الحصول يوجد جزء منه ، وينعدم فلا بد من الالتزام بوجود كلام قديم ، وهو المعبر عنه بالكلام النفسى.

والجواب عنه ـ ان القدم معتبر فى صفاته الذاتية ، كالعلم ، والقدرة ، والحياة ، وذلك لعينية صفاته لذاته. واما فى صفاته الفعلية. فلا يعتبر ذلك اصلا ، بل هو امر مستحيل لان فعله حادث ، كالخلق ، والاماتة فلا معنى لاتصافه به من القديم ، والتكلم من هذا القبيل لانه بمعنى ايجاد

١٨٣

الكلام ، فاى محذور فى الالتزام بانه تعالى يوجد الكلام كما نحن نوجده.

الدليل الثانى ـ انه لا اشكال فى صحة توصيفه تعالى بالتكلم ، ولا يصح اتصاف شىء بشىء إلّا اذا كان مبدأ ذلك الشىء قائما بالموصوف قياما حلوليا ، ولا يكفى فيه قيامه به على نحو قيام الفعل بفاعله ، وإلا جاز توصيفه بالنوم ، والحركة ايضا. لقيام مبدئهما به على نحو الايجاد ، والاصدار مع انه تعالى لا يتصف بهما ، وعليه فلا بد من ان يكون المبدأ امرا قديما لاستحالة حلول الحادث بالقديم ، والكلام القديم ليس إلّا ما نعبّر عنه بالكلام النفسى.

والجواب عنه ـ ان المراد بالمبدإ فى المتكلم ان كان هو الكلام فلازم استدلالهم هذا استحالة توصيف الممكن بالتكلم ايضا ، فلا يصح ان يقال : زيد متكلم لان الكلام انما يقوم بالهواء اذ ليس هو إلّا عبارة عن تموّج الهواء على كيفية خاصة يقرع سمع مستمعه ، ولا يقوم بالمتكلم ، وايضا يلزمه صحة توصيف الهواء بالمتكلم وهما من الفساد بمكان. واما اذا كان المراد بمبدإ المتكلم هو التكلم. فقد عرفت ان التكلم عبارة عن ايجاد الكلام ، وهو بهذا المعنى قائم بالمتكلم سواء فيه الواجب ، والممكن ، وبالجملة فلا يعتبر فى صحة توصيف شىء بشىء قيام مبدأ الوصف بموصوفه على نحو الحلول دائما.

واما النقض باتصافه تعالى بالنوم ، والحركة. فيتوجه عليه ان هيئات المشتقات ، وان وضعت لاسناد الصفة الى موصوفها ، وما تقوم به نحو قيام إلّا ان ذلك لا يقتضى جواز اطلاق النائم على من اوجد النوم كما فى القاتل والضارب فان ذلك ليس امرا قياسيا ليقاس عليه ، وانما هو امر استعمالى ، ولا بد فيه من استعمال اهل اللسان ، والعرب ، ولم ير ، ولم

١٨٤

يسمع توصيف العرب لموجد النوم بالنوم بان يطلقوا عليه النائم فانهم يرونه وصفا لمن قام به النوم على نحو الحلول فعدم صحة توصيفه تعالى بهما من جهة عدم استعمالهما بهذا المعنى ، وغير مستند الى اعتبار الحلول فى صحة التوصيف على الاطلاق.

الدليل الثالث ـ ان كل متكلم بالاختيار اذا اراد اظهار كلامه خارجا الذى هو فعل اختيارى مسبوق ، بالارادة ، والاختيار يلتجئ الى تنظيم ذلك فى قرارة نفسه ، وترتيبه من تصور المعنى اولا ، من حيث فائدته وحسنه ، ثم الالفاظ ثانيا. بعد ان يبذل دقة كاملة فى ذلك ، ثم يشتاق الى ذلك شوقا مؤكدا فيعبّر عن مقصوده بالالفاظ الخاصة التى هى الكلام اللفظى ، وبهذا اصبح مدلول الكلام اللفظى كلاما نفسيا.

وغير خفى : انهم ان ارادوا بالكلام النفسى هذا المعنى. ففيه ان الكلام اللفظى لا يدل عليه بالدلالة الوضعية ، بل العقل يدل على ذلك لان كل فعل اختيارى صادر من الانسان لا بد من الاحاطة به بتمام شئونه من حيث منافعه ، ومضاره ، ولا يختص هذا بالكلام لوجوده فى الاكل والقيام النفسيين ، ونحوهما من الافعال الصادرة من العاقل المختار ، بل الامر فى الواجب تعالى ـ ايضا ـ كذلك ، لعلمه بكل ما كان وما يكون ففعله مسبوق بالوجود العلمى لا محالة ، وذلك لان المعنى المدعى عبارة اخرى عن الوجودات الذهنية للاشياء ، وهى لا تسمى بالوجود النفسى عندهم.

الدليل الرابع ـ الاستشهاد بالآيات الشريفة كقوله تعالى : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) وقوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) وغيرهما. ومن الامثال العرفية كقولهم : ان فى نفسى كلاما لا اريد ان أبديه ، وما شاكل ذلك مما دل على وجود الكلام النفسى.

١٨٥

وغير خفى ـ ان المراد بالكلام فى الامثال العرفية انما هو الوجود الذهنى فحسب. وقد عرفت انه لا يتصف بالكلام النفسى عندهم ، واما الآيات الشريفة. فهى غير مرتبطة بما نحن بصدده لانها فى مقام بيان ما يرتبط بالنفس من الحسد ، والنوايا السيئة ، والمقاصد الفاسدة ، وغير ذلك مما هو مضمر فى النفس.

الامر الثالث ـ والبحث فيه يقع عن الارادة المعبّر عنها بالشوق المؤكد الذى يستتبع تحريك العضلات ، وهل هى علة تامة فى صدور الفعل خارجا ، او هناك واسطة بينهما تسمى بالاختيار ، او الطلب ، بان يشتاق الانسان اولا ، ثم يطلب فيقع الفعل خارجا؟.

والصحيح هو الثانى ، وان الارادة بمعنى الاشتياق الى الفعل ليست بعلة تامة فى ايجاد الفعل ، بل هناك واسطة بينهما تسمى بالاختيار ، او الطلب.

بيان ذلك : ان الشوق المؤكد امر نفسى يحصل من ملائمة الطبع لشىء ، وعدم ملائمته لآخر ، وهو امر غير اختيارى ، بالضرورة ، وهذا الشوق ليس بعلة تامة بالاضافة الى الافعال الخارجية لاننا نرى بالوجدان ان هناك ما يتخلل بين سائر افعالنا ، وحصول الشوق باعلى مراتبه ، وذلك الوسيط هو الطلب ، او الاختيار الذى معناه طلب الخير لان الاختيار ماخوذ من الافتعال ، وقد اخذ فيه الطلب. ومعناه اعمال القدرة فى تحصيل الفعل او الترك ، بمعنى ان المكلف يختار ايجاد الفعل ، او عدمه حسب ما يلائمه ، بعد ان رزقه الله تعالى قوة كافية لذلك. وبديهى ان الاختيار بهذا المعنى فعل من افعال النفس ، والشوق صفة من صفاتها كالعلم ، والشجاعة ، كما واننا بالوجدان نرى فرقا بين حركة المرتعش ، وحركة

١٨٦

الاصابع ، ولو كان الشوق علة تامة فى الفعل لما جاز تخلف المعلول عنها ، والوجدان حاكم بجواز تخلفه. فهذا يكشف عن وجود واسطة بينهما ، تدعى بالاختيار التى هى عبارة عن اعمال القدرة فى الفعل او الترك.

اما الفلاسفة ، وغيرهم من الاصوليين كصاحب الكفاية ـ قده ـ فقد ذهبوا الى الاول ، وادعوا ان الشوق المؤكد هو علة تامة فى تحقق الفعل خارجا بحيث لا يتخلف الفعل عنه اصلا ، واعتبروا ذلك غير مناف للاختيار ، لان معنى اختيارية الفعل سبقه بالارادة ، التى هى عبارة عن الشوق المؤكد.

اما نفس الارادة فليست باختيارية لعدم سبقها بالارادة ، وإلّا لدار او تسلسل فالانسان يفعل بالاختيار لسبق عمله بالارادة ، وان كانت الارادة غير اختيارية.

ومن اجل هذا وقعوا فى محذور العقاب ، وكيف يستطيع المولى الحكيم ان يعاقب المذنبين الذين صدرت اعمالهم قهرا عليهم ، لتحقق عللها بدون اختيار منهم ، وما هى إلّا كافعال الاضطرارية التى لا يستحق فاعلها العقاب عليها. كما ان عدم الاطاعة ليست بمعصية لعدم تحقق علة الفعل وهى الارادة ، واذا كان الامر كذلك فكيف جاز العقاب على ما ليس بالاختيار. انه ظلم ومؤاخذة بدون عذر تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ،

وقد اجيب عن ذلك بعدة اجوبة : ـ

الاول ـ ما ذكره رئيس الاشاعرة ، والمجبرة ابو الحسن البصرى. من ان الثواب ، والعقاب انما هما على كسب العبد واكتسابه ، دون الفعل الخارجى استنادا الى قوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ

١٨٧

الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).

وغير خفى : ـ انه ان اراد بالكسب ، والاكتساب اختيار العبد الفعل ، واعمال قدرته فيه فهو يناقض الالتزام بالجبر ، وان العبد لا اختيار له. وان اراد به انه شىء يغاير الفعل الخارجى ، واختياره. فهو مع انه على خلاف الوجدان ، يندفع بانه لا يخلو من ان يكون صدوره باختيار المكلف ، اولا باختياره. وعلى الاول فلا وجه للتفرقة بين الكسب ، والفعل ، والالتزام. بان الكسب اختيارى دون الثانى. وعلى الثانى فما هو المصحح للعقاب اذا كان الفعل ، والكسب يصدران بغير اختيار العبد؟.

الثانى ـ ما ذكره الباقلانى من ان العقاب والثواب انما هما لاجل الاطاعة والعصيان وان كان الفعل مخلوقا لله سبحانه وتعالى.

وغير خفى : ان الاطاعة ، والعصيان. اما ان يكونا امرين انتزاعيين من مطابقة الماتى به للمامور به ومخالفته له كما هو الصحيح ، او يكونا امرين متأصلين. فعلى الاول ، لا مناص من الالتزام بعدم كونهما اختياريين بعد فرض عدم اختيارية منشأهما لانهما وصفان انتزاعيان وتابعان لمنشئهما فى الاختيارية وعدمها ، وعلى الثانى فننقل الكلام اليهما ونقول : هل اوجدهما الله تعالى والعبد معرض لها ، او انهما مخلوقان للمكلف فان قالوا : بالاول فيعود المحذور المتقدم لا محالة ، وان قالوا بالثانى فقد اعترفوا بالصواب. وعليهم ان يلتزموا بذلك فى غيرهما من الافعال الخارجية.

الثالث ـ انكار الحسن والقبح العقليين ، بدعوى ان كلما يصدر انما هو من الله سبحانه ، فلا يكون ظلما وذلك لاستحالة تحقق الظلم منه تعالى اذا الظلم عبارة عن التصرف فى سلطان غيره وملكه. وهذا لا يتحقق

١٨٨

بالاضافة اليه تعالى لان ما سواه ملك له. واما غيره فهو تحت سلطنته ولا سلطان لغيره ولا شريك له فى ملكه فكلما تصرف فى شىء فقد تصرف فى سلطانه فلو اسكن نبيا من انبيائه فى النار ، او شقيا فى الجنان لما صدق عليه ارتكاب القبيح لانه تصرف فى عبده وملك نفسه فله ان يفعل فيه ما يشاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

واما الآيات النافية للظلم عن ساحته تعالى كقوله (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فانما هى بصدد سلب الظلم عنه ، لعدم امكان تحققه منه لا لاجل عدم صدوره منه لقبحه. مضافا الى ذلك ان الله تعالى كيف يكون محكوما لعباده ، وما معنى عدم تجويز الظلم عليه عقلا.

وغير خفى ـ ان الظلم هو بمعنى الاعوجاج وعدم الاستقامة فى العمل ، وهو المعبّر عنه بجعل الشىء فى غير موضعه. كما ان العدل بمعنى الاستواء فى العمل وهو المعبّر عنه بجعل كل شىء فى محله وصدق هذين المعنيين لا يتوقف على كون التصرف تصرفا فى ملك غيره ، بل لو جعل احد ملك نفسه فى غير موضعه عدّ ذلك ظلما منه ، ومن هنا يقال : ان فلانا ظلم نفسه اذا تجاوز او قصّر فى حفظها. مع ان نفسه غير مملوكة لغيره ، فعلى هذا اذا عاقب المولى عبده المطيع ، او اثاب العاصى كان ذلك ظلما منه ووضعا لهما فى غير محله وان كان الملك ملك نفسه والتصرف تصرفا فى سلطانه. لان العقل السليم ـ يدرك ان اثابة المطيع ومؤاخذة العاصى امران واقعان فى محلهما فلا ينحصر الظلم بالتصرف فى ملك غيره نعم الغصب لا يتحقق فى حقه تعالى ، لانه عبارة عن التصرف فى ملك الغير من غير رضاه وقد عرفت ان ما سواه ملك له وهو مالك الرقاب.

ثم ان معنى كون الظلم قبيحا عليه سبحانه ليس هو حكم عبيده عليه

١٨٩

بشىء ، بل معناه ان العقل يدرك عدم مناسبته له وانه مما لا ينبغى صدوره منه ، فلا يرد ان الله سبحانه يستحيل ان يكون محكوما لعباده ، مضافا الى ذلك ان الظلم لو كان جائزا بالاضافة اليه سبحانه فما وجه ارسال الرسل ، وانزال الكتب لدعوة الناس الى اطاعة الله تعالى. وتبعيدهم عن مخالفته لانهما على هذا من اللغو الظاهر. فان كلا من المطيع والعاصى يحتمل العقاب على فعله ، كما يحتمل الثواب عليه فلا حاجة الى الطاعة لجواز اثابة العاصى ، ومؤاخذة المطيع.

فان قلت ـ ان اطاعة المطيع مستندة الى ما وعده الله سبحانه على عمله من الحسنات ، والحور ، والقصور. او ما اوعده من السيئات ، واحراقه بالنار والويل ، والعذاب.

قلت ـ كيف يوثق بوعده تعالى ، ويطمئن بصدقه مع الالتزام بعدم قبح الكذب ، وخلف الوعد عليه تعالى الله علوا كبيرا. وبالجملة ان تجويز ارتكابه تعالى الظلم مما يهدم اساس الشرائع والاديان.

الرابع ـ ما جاء به صاحب الكفاية. كما ورد فى بحث التجرى ان العقاب ليس من معاقب خارجى ليلزم المحذور المتقدم وانما هو من لوازم الاعمال ، فنسبة العمل الى العقاب كنسبة البذر الى الثمر فما كان بذره صحيحا كان نتاجه صحيحا ، وما كان بذره فاسدا كان نتاجه فاسدا. فالعمل الصحيح يضمن السعادة ، والخير لفاعله. اما العمل السيئ فمصيره الخيبة ، والخسران ولا يلزم الظلم حينئذ فى معاقبة العبد من حيث علمه.

وغير خفى : ـ ان المعصية لا تلازم العقاب ، وانما توجب استحقاقه فالامر لله وله ان يعاقب ، وله ان يعفو ولو كان العذاب منحصرا بما ذكر لم يبق مجال للعفو ، ولم يكن معنى لخلق الجنان ، والنيران. فان هذا

١٩٠

لا يلائم فرض العقاب من لوازم الاعمال.

فتلخص مما تقدم. ان الالتزام بان الارادة بمعنى الشوق المؤكد علة تامة لصدور الفعل خارجا يقتضى الالتزام بقبح العقاب على فعل الحرام ، او ترك الواجب.

ادلة القائلين بالجبر

استدل القائل بالجبر على المدعى ـ اولا ـ هو ان كل فعل ما لم يجب لم يوجد استنادا الى القاعدة المسلمة ان الشيء ما لم يجب لم يوجد ، والفعل الخارجى حيث كان ممكنا ، احتاج الى علة فى مقام الوجود. وعلته الارادة وهى اما : ان تنتهى الى الذات والذاتى لا يعلل ، او الى الارادة الازلية ، وكلاهما غير اختياريين.

والجواب عنه ـ ان القاعدة المذكورة تتم فى الممكنات التى هى خارجة عن اختيار الانسان. كاحراق النار فيحتاج وجودها الى المؤثر والشيء ما لم يجب لم يوجد ، اما بالنسبة الى الافعال الاختيارية التى تقع تحت قدرة الانسان فهى لا تحتاج فى وجودها الى ان تصل الى حد الوجوب بل هى تتوقف على فاعل لان الفعل الاختيارى بلا فاعل محال ، وقد اشار تعالى الى ذلك بقوله : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ ،) فاثبت سبحانه وتعالى احتياج العمل الى فاعل وخالق اما الفاعل فى المقام لهذه الافعال فهى النفس فانها تعمل قدرتها وتسعى نحو الشىء فلها ان تشاء ، ولها ان لا تشاء فلا تعمل القدرة فيه ، واعمال القدرة لا يتوقف على ارادة وشوق لتكون الارادة علة لذلك لانك عرفت ان النفس هى الفاعل بالاختيار فالشخص بنفسه فاعل للاختيار : نعم اختيار النفس لهذا الفعل الخارجى يفتقر الى مرجحات غالبا تقتضى ذلك ، والغالب فى مرجح الفعل نفس الشوق وقد يكون غيره.

١٩١

وانما قلنا باحتياجه الى المرجحات غالبا اخراجا له عن اللغوية لا اخذا بدعوى من يقول : بقبح الترجيح بلا مرجح ، لما عرفت فى مبحث الوضع من عدم قبح الترجيح بلا مرجح بل قد يكون متعينا احيانا ، كما لو تعلق غرض شخص بايجاد فرد من افراد الطبيعى وكانت الافراد متساوية كما اذا كان ظمآن وكانت لديه كئوس ماء متعددة متساوية من جميع الجهات افتراه يترك الجميع ويموت ظمأ خوفا من لزوم الترجيح بلا مرجح.

وبما ذكرناه ـ يجاب عن شبهة الفخر الرازى. بناء على الهيئة القديمة من ان الاجرام السماوية ، والكرة الارضية لما كانت محاطة بافلاك متعددة كالقمر ، وعطارد ، والزهرة. وكان وراء الجميع فلك الافلاك المسمى بالفلك الاطلس الذى ليس وراءه خلاء ، ولا ملاء وكان الترجيح بلا مرجح محالا. فلنا ان نقول : لما ذا كان الجدى فى جهة الشمال دون الجنوب ، ولما ذا كانت الشمس تطلع من المشرق ، وتغيب من المغرب فليكن الامر بالعكس وما شاكل هذه من الاشكالات.

والصحيح ان يقال : ان الترجيح بلا مرجح غير قبيح ، فان الاحتياج حيث تعلق بخلق اصل الكرة الارضية فخصوصياتها المعلومة لا تحتاج الى مرجح بعد ان كان الاحتياج متمحضا فى اصل الطبيعة. فاختيار الفرد بهذه الكيفية وان لم يشتمل على الخصوصية لا يلزم منه المحذور.

والخلاصة. ان الانسان اذا حصّل له شوق مؤكد فى نفسه نحو فعل من جهة ملائمة الطبع لذلك يعمل قدرته فى سبيل تحصيلة فيوجد الفعل بلا قهر عليه وهذا امر وجدانى ـ مثلا ـ لو تردد الشخص بين طريقين احدهما على يمينه وفيه ما تشهيه نفسه ، وثانيهما على يساره وفيه ما ينفر عنه طبعه لعدم ملائمته له فلا ريب اننا نجده يتخذ طريق اليمين مسلكا له

١٩٢

ولكن ليس قهرا عليه بحسب اختياره وارادته.

ولو توسعنا فى الامر. لا مكننا ان ننكر وجود شوق للانسان فى بعض الاحيان عند ما يعمل قدرته نحو شىء ، وذلك كما لو اجبر على قتل او ضرب احد ولديه اما الاكبر الذى لا يرتضى سلوكه ، او الاصغر الذى يرتضيه فلا محالة انه يختار الاول محافظة على الاصغر. مع انه غير مشتاق الى عمله بالاضافة الى كلا الولدين حبا لهما وحنوا عليهما ، نعم الغالب فى افعال الانسان ان تكون مع الشوق والارادة كما عرفت. وقد يكون المرجح غيرها.

وثانيا ـ ان الارادة الازلية اذا تعلقت بوجود فعل من العبد ، او يعدمه. فاما ان يكون ما فى الخارج على طبقها وهو المطلوب فلا اثر لاختيار العبد وعدمه ، واما ان يكون ما فى الخارج على خلاف الارادة الازلية بان تغلب ارادة العبد على ارادته تعالى ، فيلزم نسبة العجز اليه تعالى ، وعدم القدرة على التصرف فيما هو واقع فى سلطانه. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

والجواب عنه ـ ان الارادة الازلية بالاضافة الى الافعال الاختيارية الصادرة من العبد ليس لها مساس بوجودها ، او عدمها بل الله سبحانه وتعالى منح الانسان قدرة ، وقوة على الفعل ، وعدمه واوضح له الطرق الصحيحة من الفاسدة واخذ العبد يفعل الشىء ، ويتركه بحسب اختياره وارادته من دون دخل للارادة الازلية فى ذلك اصلا. نعم ربما يريد الله سبحانه وتعالى عدم بعض الافعال فيبدى الموانع عن تحققه كانزال المطر ، وغيره. وهذا اجنبى عن التصرف فى ارادة العبد. على ان وصف الارادة بالازلية لا يخلو من تسامح. لما حققناه من ان الارادة من صفات الافعال. لا من

١٩٣

صفات الذات لتكون ازلية وتقريب ذلك : ان الضابط فى صفات الافعال. امكان اتصاف الذات بمقابلها مع اختلاف المتعلق. وهذا الضابط منطبق على ارادته تعالى فيقال انه مريد لحياة زيد وليس بمريد لحياة عمرو.

ولو رجعنا الى الروايات التى وردت فى باب الارادة لوجدناها صريحة فى الدلالة على ان الارادة من صفات الفعل ، لا الذات لتكون ازلية حيث ورد (ان الله كان عالما وقادرا ولم يكن مريدا فاراد ولا يمكن ان يقال لم يكن قادرا فقدر) وفى بعضها الحكم بكفر من يدعى ازلية الارادة. ولو كانت الارادة من الصفات الذاتية لكانت ازلية كالعلم ، والقدرة. إلّا ان بعض الفلاسفة المحدثين كصدر المتألهين ، وصاحب الوافى مع نقلهم لهذه الروايات ذهبوا الى ازلية الارادة فاضطروا الى حمل الروايات على الارادة الفعلية بمعنى انه لم يكن مريدا فعلا لا ازلا.

وقد عرفت ان الارادة ليس لها معنيان او اكثر بل لها معنى واحد. وهو اعمال القدرة. وهذا جعلت من صفات الافعال حيث قيل : لم يكن مريدا فاراد. معنى ذلك انها حادثة وليست بازلية ، لذا ورد فى بعض الروايات (ان الله خلق الاشياء بالمشيئة وخلق المشيئة بنفسها) بمعنى انه خلق الاشياء حسب اعمال قدرته ، اما اعمال قدرته فلم تكن باعمال قدرة اخرى. وإلّا لتسلسل.

واما عن بعض الفلاسفة : من رواية الحديث (ان الله تعالى خلق الاشياء بالمشيئة والمشيئة بنفسها) وتفسيره بان المشيئة موجودة بنفسها فهو باطل فان الحديث كما نقلناه. وكيف كان فالارادة غير ازلية ليقال بانتهاء الافعال اليها بل الارادة من صفات الفعل وهى بمعنى اعمال القدرة.

وثالثا ـ ان تعلق العلم الازلى لله عزوجل بافعال عبيده يقتضى

١٩٤

استحالة صدور ما هو على خلاف ما يعلمه الله تعالى ، اذ لو صدر غير ما هو المعلوم ازلا لزم ان يكون الصادر مجهولا لله تعالى ازلا وهو محال.

والجواب عنه ـ ان علم الله تعالى لا يرتبط بالارادة التكوينية له وليس هو علة للفعل. فلا يمنع ان يتعلق بالفعل الذى يختاره العبد. ـ اى ان الفعل بواقعه ينكشف له وليس العلم الا انكشاف الواقع من دون ان تكون له اية مدخلية فيه ، وهو بهذا المعنى لا ينافى الاختيار اذ لا يتعلق إلّا بما يختاره العبد فيفعله.

والحاصل : ان الاشاعرة نفوا وجود سلطنة لدى العبد يستطيع ان يعملها فى افعاله الصادرة منه ، واثبتوها لله سبحانه وتعالى. واعتبروا العبد آلة بيده نظرا الى انتهاء ارادة العبد الى الارادة الازلية. وكيف يختار ما هو خلاف الارادة ، وبهذا وقعوا فى الالتزام بلوازم واضحة البطلان كنفى العدالة عنه تعالى لمعاقبته العبيد على ما ليس باختيارهم وهو ظلم ، وكادعائهم بان العقل لا يستطيع ان يدرك حسن بعض الاشياء ، وقبحها. بل الحسن ما امر به المولى ، والقبح ما نهى عنه.

التفويض

وهناك شبهة اخرى ، وهى شبهة تفويض الله العبد فى افعاله الى قدرته الاستقلالية يفعل ما يشاء ، ويعمل ما يريد. دون ان تكون هناك سلطنة ، وارادة اخرى على افعاله. فالعبيد مفوضون فيما يعملونه فان عوقبوا فالعقاب على اختيارهم ، وسوء ارادتهم فهؤلاء وان التزموا بالمحافظة على ثبوت العدالة لله سبحانه وتعالى. إلّا ان المحذور فى حديثهم نفى سلطنة الله تعالى ، والالتزام بوجود شريك له. ولهذا وردت الاخبار بلعن المفوضة ، وذمهم. وانهم مجوس هذه الامة حيث التزموا اعنى المجوس بوجود إلهين

١٩٥

احدهما للخير ، وثانيهما للشر. واطلقوا على الاول اسم (يزدان) وعلى الثانى اسم (اهريمن) وهؤلاء المفوضة بالتزامهم ان كل واحد يقتضى ان يكون خالقا مستقلا فقد عددوا الآلهة مثلهم ولكن بتعدد البشر. والتزموا بان يكون الناس ، والله. خالقين غاية الامر. الفرق بينهما فى المخلوق ، فالله سبحانه وتعالى يخلق الانسان ، والانسان يخلق الافعال المتعددة.

وقد استدلوا على التفويض بعد ردّ شبهة المجبرة : بان الممكنات وان احتاجت فى حدوثها الى علة موجدة ، إلّا انها ليست محتاجة اليها فى بقائها لاستغناء البقاء عن المؤثر. فالعبد بعد افاضة الوجود عليه من خالقه لا يحتاج فى بقائه وصدور الافعال عنه الى شىء واليه يستند التأثير التام فى ايجادها ، لا الى علته المحدثة له واذا تم هذا لزم نفى السلطنة عن الله عزوجل على عبيده نفيا تاما.

ويرد عليه ـ ان الممكنات كما تحتاج فى حدوثها الى المؤثر تحتاج فى بقائها اليه ، اذ هى فى مرحلة بقائها لا تخرج عن حيّز الامكان الى الوجوب ، ومن لوازم الامكان الذاتية افتقاره واحتياجه الى المؤثر فى جميع آناته بل هو عين الحاجة اليه ليفيض عليه الوجود وإلّا لانعدم. وعلى هذا فالعبد محتاج فى جميع الآنات الى خالقه ليفيض عليه ، وعلى افعاله الوجود ، والقدرة ، وساير المبادى. وإلّا لما تمكن من ايجاد افعاله.

وكيف كان فالالتزام باحد القولين. اعنى الجبر ، والتفويض. غير صحيح اذا لجبر يستلزم نفى العدالة عنه ، واثبات السلطنة للعبد. والتفويض يستلزم نفى السلطنة عنه ، واثبات العدالة له. فلا بد من اتخاذ طريق يكون وسطا بينهما ، وامرا بين الامرين.

١٩٦

(الامر بين الامرين)

وقد صرحت الروايات الشريفة بانه لا جبر ، ولا تفويض ، بل امر بين الامرين ، او منزلة بين المنزلتين. فكان لزاما علينا ان نتخذ طريقا وسطا بين القولين نأمن به من مشكلة الاستقلال فى العمل التى تستلزم الجبر ، او التفويض. ونثبت بذلك العدالة ، والسلطنة لله سبحانه وتعالى. فندعى ان كل فعل صادر من العبد انما هو مستند اليه ، والى الله تعالى ولنقرب ذلك بفروض ثلاثة : ـ توضح ما يراد من هذا التعبير (الامر بين الامرين) مع ضرب بعض الامثلة على ذلك ـ :

اولاها ـ نفرض شخصا مرتعش اليد ، وقد فقد ارادته ، واختياره فى تحريك يده ـ مثلا ـ وقد جاءه آخر فربط يده المرتعشة بسيف قاطع ، وكان الى جنبه شخص راقد وهو يعلم بان اليد ستقع على ذلك النائم فتهلكه حتما. ففى هذه الصورة ـ عند ما يقع الفعل ـ لا يرى العقلاء صاحب اليد المرتعشة مجرما ، بل المجرم من ربط بيده السيف ، والى هذا يرجع حقيقة الجبر الذى يستلزم نفى العدالة عنه تعالى.

وثانيهما ـ ان نفرض شخصا اعطى سكينا بشخص آخر ، فصادف ان قتل بها نفسا محترمة باختياره. فالقتل يستند الى المباشر ، دون المعطى وان كان قد علم المعطى ان اعطاءه السيف ينجر به الى القتل. وهو مع ذلك يستطيع اخذ السيف من المعطى له متى شاء. والى هذا يرجع حقيقة التفويض الذى يستلزم نفى السلطنة عنه تعالى ، وايكال الامور الى العبد المستلزم ذلك للشرك.

ثالثها ـ ان نفرض حدا وسطا بين المثالين : فنفرض ان تيارا كهربائيا

١٩٧

لو اتصل بجسم شخص لبعث فى عضلاته قوة ونشاطا نحو العمل ، ولو لا تلك القوة الكهربائية لاصبح الشخص غير قادر على تحريكها ، ولنفرض ان رأس السلك الكهربائى بيد طبيب حاذق كان هو الساعى لا يصال تلك القوة فى كل آن الى جسم ذلك الشخص ، فلو اوصل الطبيب تلك القوة بالجسم ، وذهب الشخص فقتل نفسا محترمة بغير حق ، والطبيب يعلم بذلك. فالعمل مستند الى كليهما : اما الطبيب ، فلانه هو المعطى للقوة ، والقدرة حال العمل. واما العبد ، فقد كان متمكنا من الايجاد ، وعدمه بعد ان وجدت القدرة فيه ، وقد فعل العمل باختياره ، وهذا هو الامر بين الامرين.

وافعال العباد كلها من هذا القبيل. فان الله ـ سبحانه وتعالى ـ افاض عليهم الوجود ، واعطاهم قدرة كاملة فى انفسهم فى كل آن لاحتياج الممكن الى علة حدوثا وبقاء. فكان تعالى هو الموجد للمقتضى فى الشخص نفسه فاستند الفعل اليه تعالى لهذه الجهة ، كما استند الى العبد نفسه : باعتبار انه صدر الفعل منه بارادته ، واختياره ، واوجده بعد ان كان متمكنا من عدم ايجاده. واعمل القدرة فى ذلك فاختار العمل السيئ بالرغم من تمكنه من اعمال قدرته فى الموارد الحسنة لان الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يمنحه قدرة محددة خاصة ، وانما هى عامة يستطيع ان يعملها فى سائر الموارد الحسنة والقبيحة ، ولكن سوء اختياره دفعه الى ارتكاب العمل السيئ فكان جزاءه العقاب.

والله ـ سبحانه وتعالى ـ وان تمكن من ان يصد العبد عن ارتكاب هذا العمل ، وذلك بايجاد المانع ، او بعدم افاضته القدرة حال العمل. إلّا ان مقدرته على ذلك لا توجب ان لا يسأل العبد عن فعله ، ولا يعاقب بما ارتكبه. وبهذه الطريقة امكن الاحتفاظ بحدود السلطنة والعدالة لله

١٩٨

سبحانه وتعالى ، وانه معاقب على ما هو بالاختيار. والحاصل ان هنا فرقا ثلاث :

(المجبرة) وهى التى تدعى ان الافعال الصادرة من العبيد ليست صادرة عن اختيارهم ، وارادتهم. بل هى بارادة الله تعالى ، وقد اضطر العبد الى العمل ، واصبح مجبورا فى حركاته وسكناته. فهو كالآلة بيد غيره ، ومعنى هذا نفى العدالة عنه تعالى. لان لازمه العقاب على ما ليس بالاختيار. وقد عرفت ـ مما تقدم ـ بطلان هذا القول. وجدانا للفرق بين حركة نبضنا ، وحركة اصبعنا وان الثانية غير الاولى ، وللعبد اختيار الفعل ، والترك. وبرهانا كما تقدم تفصيله.

(المفوضة) وهى التى تدعى ان الفعل يصدر من العبد استقلالا ففى مرحلة الحدوث يفتقر الى قدرة من قبل الله ـ سبحانه وتعالى ـ ولكن فى مرحلة البقاء ، والآنات المتاخرة لا يحتاج العبد فى عمله الى علة جديدة ، بل العلة الاولية كافية فى بقاء الاختيار له حتى النهاية. فصار يعمل ما يشاء باختياره ، ويفعل ما يريد بقدرته ، وقد جعل الله تعالى فى معزل من الامر. وهذا يبتنى ـ كما عرفت ـ على الاكتفاء بحدوث العلة بقاء ، واستغناء الممكن فى الآنات المتاخرة عن المؤثر. نعم لا يضايق المفوضى من الالتزام بقدرة الله على إماتة العبد ، او على سلب قوة من قواه حتى لا يتمكن العبد من ايجاد الفعل خارجا ، وهذا ـ وان صحح استحقاق العبد العقاب ، من قبل الله سبحانه وتعالى ـ لانه عقاب على ما هو بالاختيار ، إلّا انه يستلزم استقلال العبد فى عمله ، ونفى السلطنة عنه تعالى. وقد عرفت ـ مما تقدم ـ بطلان هذا القول ايضا.

(الشيعة) ـ وهى التى تقول بالامر بين الامرين ، وتدعى ان العمل

١٩٩

الخارجى قد صدر من العبد حسب اختياره ، وارادته وقدرته ، واما نفس قدرة العبد فقد جاءت من قبل الله تعالى. فكان ايجاد القدرة للعمل وافاضتها آناً فآنا منه تعالى ، واعمالها فى الخارج من العبد ، وهذه الفرقة المحقة تلتزم بان كل ممكن ـ كما يحتاج فى حدوثه الى علة تقتضيه كذلك ـ يحتاج فى بقائه الى علة ، فالممكن فى كل آنات البقاء يفتقر الى علة وسبب.

(وبعبارة اخرى) بقاء كل ممكن بعد حدوثه لما كان متساوى الطرفين من حيث الوجود والعدم كان ترجيح احدهما على الآخر مفتقرا الى سبب خارجى فلو وجدت علة الحدوث كانت مرحلة البقاء مفتقرة الى العلة ايضا ، فكل فعل يصدر من الشخص اختيارا ، انما هو ممكن محتاج الى العلة. وقد اوجد الله تعالى قدرة كاملة فى العبد ، بعد ان افاض الوجود عليه وحدوثها ، لا يكفى فى بقائها ، بل لا بد فيه من افاضة القدرة آناً فانا فمتى انقطعت انعدمت القدرة بنفسها. وعلى هذا فالفعل الخارجى يستند الى العبد لانه فاعله باختياره وارادته ، ويستند الى الله تعالى نظرا الى افاضة القدرة على الفعل للعبد آناً فانا. ولولاهما لما تمكن العبد من الاختيار فصح اسناد الفعل الى كليهما. وعلى هذا تحمل الآية الشريفة. (وما تشاءون إلّا ان يشاء الله) ـ اى لا يمكن ان يصدر الفعل من العبد استقلالا ، الا وان يخلق الله تعالى القدرة فى العبد ، ويمكنه من القوة والاختيار. فيشاء العبد بواسطة تلك القوة ـ.

وهكذا تحمل الآية الاخرى على المعنى المذكور ـ (ولا تقولن لشىء انى فاعل ذلك غدا إلّا ان يشاء الله) وليس معنى الآية ان كل احد لا يقول افعل كذا ، إلّا ان يقول بعده إن شاء الله ـ بل المعنى انك لا تقول لشيء

٢٠٠