مصابيح الأصول

علاء الدين بحر العلوم

مصابيح الأصول

المؤلف:

علاء الدين بحر العلوم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز نشر الكتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

اما البحث عن المسألة الاولى ـ فليعلم ان محل النزاع هو ما اذا كان الماتى به فى اول الوقت مامورا به بالامر الواقعى الاضطرارى ، اما اذا كان مامورا به بالامر الخيالى ، او الظاهرى فهو مشمول للمسالتين الآتيتين.

توضيح ذلك : ان الموضوع للامر الواقعى ، اما ان يكون وجود العذر حين الاتيان بالواجب ، او العذر المستوعب لجميع الوقت ، ومورد الكلام هو الصورة الاولى اما الصورة الثانية فليست من مصاديق الامر الاضطرارى اذ ان جواز البدار الى الاتيان بالعمل الاضطرارى ، اما ان يكون للقطع باستيعاب العذر ، او لقيام الحجة كالبينة على الاستيعاب ومع انكشاف الخلاف فى هاتين الصورتين ينكشف انه لا امر اضطرارى ابتداء ليقال انه مجز عن الواقع اولا ، فمحل البحث حقيقة فى الماتى به بالامر الاضطرارى واجزائه عن الامر الواقعى لو انكشف له العذر اثناء الوقت.

وقد ذهب صاحب الكفاية (قده) الى ان الامر لا يخلو من صور اربع.

الصورة الاولى ـ ان يكون المامور به بالامر الاضطرارى وافيا بتمام الغرض والمصلحة التى اشتمل عليها الامر الواقعى لكن جواز البدار ـ حينئذ ـ يدور مدار كون العمل بمجرد الاضطرار مطلقا ، او بشرط الانتظار ، او مع الياس عن طرو الاختيار ذا مصلحة ووافيا بالغرض.

الصورة الثانية ـ ان يكون وافيا ببعض المصلحة ولا يمكن استيفاء الباقى.

الصورة الثالثة ـ ان يكون وافيا بالبعض ويجب تدارك الباقى.

الصورة الرابعة ـ ان يكون وافيا بالبعض ويستحب تدارك الباقى.

٢٦١

اما الصورة الاولى ـ فلا اشكال فى اجزائها عن الامر الواقعى ، وذلك لعدم الفرق بين صورتى القدرة على القيد وعدمه فى وفاء الماتى به بالملاك.

واما الصورة الثانية ـ فلا بد من القول بالاجزاء فيها وذلك لعدم امكان تدارك الباقى من المصلحة ، نعم لا يجوز البدار ـ حينئذ ـ لان فيه تفويت مقدار من المصلحة ، إلّا ان يكون فى البدار مصلحة اهم من المقدار الفائت من مصلحة الواجب بل لو لا اهمية مصلحة الوقت لما جاز الامر بذلك الناقص لانه مفوت لبعض الغرض والمصلحة ولكن مصلحة الوقت اقتضت ان يأمر الشارع بالناقص وان استلزم امتثاله فوات مقدار من مصلحة الواجب.

واما الصورة الثالثة ـ فالمتيقن فيها القول بعدم الاجزاء لان الماتى به حال الاضطرار ناقص عن المصلحة الواقعية والمفروض ان المكلف يستطيع بعد ارتفاع العذر ان ياتى بالعمل تاما فهو مخير بين البدار باتيان الناقص واعادة عمله بعد ارتفاع العذر ، او الانتظار حتى ارتفاع العذر واتيان العمل الاختيارى تاما.

واما الصورة الرابعة ـ فلا بد من القول بالاجزاء فيها ايضا وذلك لعدم الزام الشارع بالباقى هذا بحسب مقام الثبوت ، واما بحسب مقام الاثبات فقد حكم بالاجزاء من جهة اطلاق الدليل ان كان وإلّا فباصالة البراءة من وجوب الاعادة والقضاء.

وقد ادعى شيخنا الاستاذ (قده) الاجزاء فى جميع الصور المتقدمة ثبوتا بلا حاجة الى معرفة مرحلة الاثبات وذلك لان تكليف العبد حين العذر بالامر الاضطرارى وتكليفه باعادة العمل بعد ارتفاعه يقتضى ان

٢٦٢

يكون المطلوب من المكلف ستة صلوات فى اليوم الواحد مع ان الروايات الشريفة ، والاجماع ، والضرورة من الدين ، تقتضى الخمس دون الست ، واما الجمع بين الظهر والجمعة ، او القصر والاتمام فى بعض الموارد فانما هو للاحتياط ، ومن هنا يعلم اجزاء الماتى به بالامر الاضطرارى عن الامر الواقعى اذا انكشف العذر اثناء الوقت.

وغير خفى : ان ما جاء به شيخنا الاستاذ (قده) متين جدا ، ولكنه اخص من المدعى حيث يتم فى الصلاة خاصة لقيام الاجماع والروايات دون غيرها من سائر الواجبات ، مع ان البحث اصولى لا يختص بباب دون باب.

ثم اعلم ان ما جاء به صاحب الكفاية (قده) من تقسيم الامر الاضطرارى الى ما يترتب عليه الاجزاء وهو الصورة الاولى ، والثانية ، والرابعة ، والى ما لا يترتب عليه الاجزاء وهو الصورة الثالثة فهو مما لا يمكن الالتزام به اذ الامر الاضطرارى فى الصورة الثالثة غير معقول لاستلزامه التخيير بين الاقل والاكثر كما اعترف هو (قده) بذلك وهو غير ممكن كما سيجىء البحث عنه ـ إن شاء الله تعالى ـ فان الشارع بعد ان الزم العبد باتيان العمل التام بعد ما يرتفع العذر سواء بادر الى اتيان الناقص ام لم يبادر ، فلا معنى لا يجابه الاتيان بالفعل الناقص فى بداية الوقت اذ لازمه ان يكون العمل الناقص واجبا على تقدير المسارعة وليس بواجب على تقدير عدم المسارعة وهو باطل.

و (بعبارة اخرى) الاقل هو اتيان العمل تاما بعد ارتفاع العذر والزائد عليه وهو الاتيان بالعمل ناقصا حال الاضطرار فالمكلف اذا كان مخيرا بين الاتيان بالناقص حال الاضطرار مع الاتيان بالتام بعد الارتفاع ،

٢٦٣

وبين الاتيان بالعمل تاما فقط بعد زوال العذر فلازمه تعين الاتيان بالتام وتخيير المكلف بين الاتيان بالناقص وعدمه ، ومعه كيف يمكن الالتزام بوجوب الناقص ايضا فان مرجعه الى انه واجب يجوز تركه لا الى بدل وهو غير معقول.

واما المسألة الثانية ـ وهى اجزاء الماتى به بالامر الاضطرارى لو ارتفع العذر خارج الوقت فقد ذهب شيخنا الاستاذ (قده) الى دعوى الاجزاء فيها وان القول بعدم الاجزاء غير معقول ، وذلك لان القيد الذى تعذر على المكلف اتيانه فى تمام الوقت لا يخلو ثبوتا ، اما ان يكون دخيلا فى ملاك الواجب على نحو الاطلاق ، او دخيلا فيه على بعض الاحوال كصورة التمكن ، وعلى الاول فان المولى لا يستطيع من الامر بالفعل الخالى عن القيد لعدم اشتماله على الملاك وعدم وفائه بالمصلحة التامة ، ولعل من هذا القبيل الطهور وبما ان المكلف لم يكن قادرا على الاتيان به مع قيده فى الوقت فلا بد من الامر بالاتيان به خارجه من طريق القضاء ، وعلى الثانى فان المولى يستطيع الامر بالباقى لوفائه بالغرض المقصود ولاشتماله على المصلحة التامة لمدخلية القيد فى الواجب فى صورة التمكن خاصة فلا مانع من الامر بالاداء عند عدمه ، ولعل من هذا القبيل الطهارة المائية ، واذا كان الامر كذلك ففرض وجود الامر بالاداء ، ولزوم القضاء لا يجتمعان لان الالتزام بلزوم الاتيان اداء دليل على وفاء الباقى بالمصلحة ولذا امر به ، والالتزام بالقضاء دليل على عدم وفاء الباقى بالمصلحة فلا امر فعلى به وهما لا يجتمعان والمفروض ان الامر الاضطرارى موجود فلا بد من القول بالاجزاء واستكشاف عدم لزوم القضاء.

وغير خفى : ان ما ذكره (قده) صحيح فى مقام الاثبات دون الثبوت

٢٦٤

لامكان وجود مصلحتين ملزمتين للواجب ، او مصلحة واحدة ذات مرتبتين شديدة وضعيفة فمع التعذر عن القيد المذكور فى ضمن الوقت يكون المكلف قد اتى باحدى المصلحتين ، او بالمصلحة الضعيفة فلو خرج الوقت وارتفع العذر امر باتيان الباقى تداركا للفائت.

نعم لو كان للواجب مصلحة شخصية ليست ذات مراتب فامرها دائر بين الوجود والعدم ، فاما ان يؤمر بها فى الوقت ويسقط الامر بالقضاء ، او يؤمر بها فى خارجه ويسقط الامر بالاداء ، إلّا ان المفروض عدم ثبوت مصلحة شخصية فالالتزام بالامر بالاداء والامر بالقضاء ممكن ثبوتا.

واما فى مرحلة الاثبات ، فانه لا يبعد ان يقال : ان مقتضى الاطلاق المقامى عدم وجوب القضاء حيث كان الشارع المقدس عند امره بالواجب فى الوقت فى مقام بيان تمام الوظيفة ولم يبين لزوم القضاء خارج الوقت علم انه لا يجب القضاء ، اما مع عدم الاطلاق فالمرجع هو الاصل العملى وهو يقتضى براءة ذمة المكلف من لزوم الاتيان به خارج الوقت ، هذا اذا قلنا : بان القضاء انما هو بامر جديد وملاكه فوت الواقع ، اما لو قلنا بان ملاكه فوت الفريضة الفعلية فلا بد من القطع بعدم القضاء لان المقدور للمكلف فى ضمن الوقت انما هو الفعل الاضطرارى دون الامر الواقعى وقد اتى به المكلف فعلا فلم يفت منه شيء ليجب عليه القضاء خارجه فالمتحصل من هذه المسألة ان الادلة تقتضى اجزاء المأمور به بالامر الاضطرارى عن الامر الواقعى لو ارتفع العذر خارج الوقت.

ثم ان الاضطرار قد يكون اختياريا ، وقد يكون غير اختيارى ، اما غير الاختيارى فقد سبق الحديث فيه مفصلا ، واما الاختيارى فالظاهر من اطلاقات ادلة التقية هو جوازه واجزاء العمل الماتى به حالها لثبوت

٢٦٥

الحكم فيها بنحو الاعم لصورتى الاختيار وغير الاختيار ، ولذا افتى المشهور بانه اذا تمكن الشخص من اتيان الصلاة فى موضع خال عن التقية لا يجب عليه ذلك بل تجوز الصلاة مع العامة تقية ، واما غير موارد التقية مثل من كان متمكنا من الصلاة عن قيام فعجز نفسه واضطر الى الجلوس او كان عنده ماء فاراقه واضطر الى استعمال التراب وغير ذلك فالمنصرف من اطلاقات ادلتها مثل قوله عليه‌السلام (اذا قوى فليقم) وكقوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً *) خصوص صورة الاضطرار غير الاختيارى دون الاختيارى وعليه فلا يحكم بثبوت الامر الاضطرارى فى مورده اصلا ، نعم فى خصوص الصلاة قد علمنا من الخارج عدم سقوطها من المكلف على كل حال فلو عجز نفسه عن الصلاة قائما ، او مع الطهارة المائية فى مجموع الوقت وجب عليه الصلاة قاعدا ، او مع الطهارة الترابية.

ثم انه لا اشكال فى جواز البدار فى موارد التقية التى استفدنا من اطلاقات ادلتها ثبوت الحكم لكلتى صورتى الاضطرار الاختيارى وغير الاختيارى ، واما فى غير موارد التقية فحيث كانت الاطلاقات منصرفة عن مورد الاضطرار الاختيارى كان القول بجواز البدار من دون دليل خاص غير ممكن ، ولازم ذلك وجوب التأخير وعليه فلا يبقى للبحث عن الاجزاء فى ما اذا ارتفع العذر اثناء الوقت فى هذه الموارد موضوع اصلا ، نعم لو دام العذر مع المكلف الى آخر الوقت نقول بوجوب الفعل الاضطرارى عليه فيقع الكلام فى اجزائه عن القضاء وعدمه ، والصحيح فيه القول بالاجزاء فان وجوب القضاء حسب دليله يختص بما اذا فاتت الفريضة فى الوقت فاذا فرض ان المكلف قد اتى بالوظيفة فى الوقت كيف يمكن الحكم موجوب القضاء عليه.

٢٦٦

هذا كله فى مقام الثبوت ومعه لا تصل النوبة الى مقام الاثبات ومع غض النظر والقول ـ بمقالة الكفاية ـ لا بد من البحث عما تقتضيه الادلة

مقتضى الاصل عند الشك

اعلم انه مع الالتزام بوجود ملازمة بين الامر الواقعى المتعلق بالفعل الاضطرارى ، والقول بالاجزاء ، كما هو المختار خلافا لصاحب الكفاية (قده) لا حاجة فى الرجوع الى ادلة اخرى لاثبات ذلك ، اما مع عدم الالتزام بذلك فلا بد من التماس دليل لفظى ، او اصل عملى.

اما الدليل اللفظى فصوره اربع.

الصورة الاولى ـ ان يكون كل من دليل الامر الاضطرارى ودليل اعتبار الجزئية او الشرطية فى المأمور به مطلقا ، ولا بد من تقديم دليل الامر الاضطرارى على الدليل الثانى لحكومته عليه ومعنى ذلك هو الاجزاء فان اطلاق الخطاب المتعلق بالفعل الاضطرارى يدل على انه تمام الوظيفة فيدل على عدم اعادة العمل لو انكشف العذر فى الاثناء ، وهذا هو معنى اجزاء الماتى به حتى لو ارتفع العذر وعادت للمكلف القدرة على اتيان الفعل الاختيارى

الصورة الثانية ـ ان يكون دليل الامر الاضطرارى مطلقا فقط دون دليل اعتبار الجزئية ، ولا بد فى هذه الصورة من الاخذ بدليل الامر الاضطرارى بالضرورة ومعناه هو الاجزاء.

الصورة الثالثة ـ ان يكون دليل اعتبار الجزئية ، او الشرطية مطلقا دون الامر الاضطرارى على العكس من الثانية ، وفى هذه الصورة لا بد من الاخذ بدليل اعتبار الجزئية ، او الشرطية بالضرورة دون الدليل الثاني ،

٢٦٧

ولازمه عدم الاجزاء لدلالة تلك الادلة على عدم سقوط الجزئية ، او الشرطية بالاتيان بالعمل الاضطرارى.

الصورة الرابعة ـ ان ينتفى الاطلاق من كلا الدليلين ولا بد من الرجوع الى الاصل العملى لا محالة.

واما الاصل العملى ـ فقد ذهب صاحب الكفاية (قده) الى القول بالبراءة باعتبار ان المكلف حين ما كان متلبسا بالعذر فى نفس الوقت كان مخاطبا بالفعل الاضطرارى قطعا وقد أتى به وبعد ارتفاع عذره فى الوقت نفسه يشك فى توجه خطاب بالفعل الاختيارى اليه زائدا على ما جاء به من الفعل الاضطرارى وهو شك فى التكليف فيكون موردا للبراءة بالنسبة الى الاعادة فى الوقت.

وقد اورد عليه بعض الاعاظم (قده) بان الاصل هنا الاشتغال لا البراءة لانه من موارد دوران الامر بين التعيين والتخيير ، باعتبار انا نعلم بان الجامع بين الفعل الاضطرارى والاختيارى مشتمل على مقدار من المصلحة ، ولذا جاز الاتيان بالفعل الاضطرارى على الفرض ونشك فى ان الباقى من المصلحة الملزمة قائم بالجامع ايضا لينتج الاجزاء ويكون الوجوب تخييريا وقد امتثل الوجوب باحد فرديه وهو الاضطرارى فيكون مجزيا ، او انه قائم بخصوص الفرد الاختيارى ليكون الوجوب تعيينيا فينتج عدم اجزاء ما اتى به ولا بد من الاتيان بالفعل الاختيارى ، فهذا المقدار من المصلحة يكون مرددا فيه بين كونه متقوما بالجامع ، او بالخصوصية ، وهذا معنى دوران الامر بين التعيين والتخيير.

وغير خفى ـ ان ما قاله (قده) من ان الامر فى المقام دائر بين التعيين والتخيير صحيح ، إلّا ان ما ذكره من ان الاصل هو الاشتغال غير تام ،

٢٦٨

وإلّا لزم القول به فى موارد دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين ، مع انه لا يقول به.

وتوضيح المقام : اننا لا نلتزم فى جميع موارد التعيين والتخيير بجريان اصل الاشتغال ، بل نلتزم بذلك فى موردين فقط (احدهما) دوران الامر بينهما فى الحجية كما اذا دل دليل على وجوب شىء ، والآخر على حرمته ، واحتمل الرجحان فى حجية احدهما وكان احد الدليلين مقطوع الحجية بالاضافة الى الآخر ، اما لانه هو الحجة بخصوصه ، او لانه احد فردى التخيير ، فلا ريب من تقديم ما هو محتمل الرجحان فان هذا مقطوع الحجية والآخر محتملها والشك فى الحجية مساوق للقطع بعدمها (ثانيهما) دوران الامر بينهما فى موارد التزاحم فى مرحلة الامتثال بالاضافة الى حكمين اذا احتمل اهمية احدهما فيكون الاخذ به متعينا ومؤمنا من العقوبة ، بخلاف الثانى ، واما فى غير هذين الموردين فنحكم بالبراءة ، لان تعلق الامر بالجامع مقطوع به وتعلقه بالخصوصية الزائدة مشكوك فيه ومقتضى ذلك هو اجراء البراءة بالنسبة الى الخصوصية الزائدة ، وهذا كما فى موارد دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين وفى المقام نقول : الجامع بين الفعل الاختيارى والاضطرارى قد تعلق الامر به ، وتعلق الامر بخصوص الفعل الاختيارى مشكوك فيه للشك فى ان فيه ملاكا ملزما يخصه وما دام الشك متعلقا باصل التكليف فمقتضى القاعدة هو البراءة.

تنبيه

ان تعلق الامر الاضطرارى بالفعل الناقص وجواز البدار الى ذلك

٢٦٩

مع تمكن المكلف من اتيان الفعل الاختيارى بعد ارتفاع عذره اثناء الوقت محتاج الى دليل ، وقد قام الدليل بخصوصه على ذلك فى موارد التقية ، وان البدار جائز فيها ـ كما قام الدليل بخصوصه فى الطهارة الترابية ـ فى نظر جماعة منهم صاحب العروة (قده) حيث افاد ذلك فى المسألة الثالثة من احكام التيمم وجوّز البدار فيها فقال «الاقوى جواز التيمم فى سعة الوقت وان احتمل ارتفاع العذر فى آخره بل او ظن به» ، الى ان يقول (قده) فى المسألة نفسها «فيجوز المبادرة مع العلم بالبقاء ويجب التأخير مع العلم بالارتفاع».

ولكن المختار فى مسألة التيمم عدم جواز البدار مع فرض ارتفاع العذر فى آخر الوقت ، لان المطلوب من المكلف اتيان الصلاة مع طهارة مائية فى ضمن الوقت المحدد بين المبدا والمنتهى ، واذا كان متمكنا من الاتيان بالطبيعة كاملة مع طهارة مائية اثناء الوقت ولو فى وقت متأخر لا يصدق فى حقه انه غير واجد للماء ، ولا دليل بالخصوص فى باب التيمم كما ادعاه السيد (قده) فى العروة وقد اوضحناه فى محله.

واما الادلة العامة ، فلا يمكن استفادة ذلك منها بالنسبة الى كل نقيصة تحصل فى العمل ، بحيث يكون فيها امر اضطرارى متعلقا بالباقى مع فرض تمكن المكلف من الاتيان بالعمل اختيارا فى اثناء الوقت.

اما حديث رفع الاضطرار ، والاكراه ، فالمستفاد منه رفع الحكم دون الاثبات ، بمعنى ان وجوب المركب من الجزء الذى اضطر الى تركه مرتفع ، اما الاجزاء الأخر التى تمكن المكلف منها فالحديث لا يثبت التكليف فيها ـ مثلا ـ وجوب الصلاة مع الطهارة المائية فى صورة الاضطرار مرفوع واما لزوم الاتيان بالصلاة مع الطهارة الترابية فهو

٢٧٠

محتاج الى الدليل ، وكذا حديث النسيان ، على ان الاضطرار او النسيان انما تعلق بحصة من المأمور به وتلك الحصة لا امر بها بخصوصها ، واما الطبيعى الجامع بين الافراد فلم يتعلق به النسيان او الاضطرار فلا وجه لسقوط وجوبه.

واما قاعدة الميسور ، فمع قطع النظر عن الخدشة فى سند ما دل على هذه القاعدة ودلالته كما اوضحناها فى محلها فهى اجنبية عن المورد ، لان الشخص الذى يكون متمكنا من اتيان الطبيعة كاملة اثناء الوقت بعد ارتفاع عذره لا يصدق فى حقه انه معسور عليه اتيان الطبيعة بفرد كامل و (بعبارة اخرى) المأمور به اتيان الطبيعة ضمن الوقت المحدد وتمكن المكلف من الاتيان بفرد كامل يوجب عدم صدق المعسور فى حق ذلك الشخص ليكون هذا الناقص ميسوره.

والحاصل ان الادلة العامة لا تثبت تعلق الامر الاضطرارى بالعمل الناقص مع التمكن من اتيانه كاملا اثناء الوقت بعد ارتفاع عذره.

واما الادلة الخاصة فهى لم تقم الا فى موارد التقية.

اجزاء الامر الظاهرى عن الامر الواقعى

ويقع البحث عن المسألتين الثالثة ، والرابعة ، ولقد اختلف القوم فى اجزاء الماتى به بالامر الظاهرى عن الامر الواقعى اذا انكشف الخلاف بعلم وجدانى ، او تعبدى فمن قائل بالاجزاء مطلقا او فيما اذا كان انكشاف الخلاف بغير العلم الوجدانى ، و (آخر) بالتفصيل بين القول بالسببية ، والقول بالطريقية فى جعل الاحكام الظاهرية ، فالتزم بالاجزاء على الاول دون الثانى ، و (ثالث) ذهب الى عدم الاجزاء على الطريقية

٢٧١

وعلى القول بالسببية ببعض اقسامها ، والى الاجزاء على السببية ببعض معانيها الآخر ، وقبل ان نبدأ بتحقيق الحق فى المسألة نقول : لقد تسالم على خروج الامارات الشرعية الجارية فى الشبهات الموضوعية عن البحث ـ كالبينة ـ وقاعدة اليد ، وغيرهما ، مما يجرى فى تنقيح الموضوع وذلك لان قيامها على شىء لا يوجب قلب الواقع عما هو عليه ، باعتبار ان القائلين بالتصويب فى الاحكام الشرعية لم يقولوا به فى الموضوعات الخارجية وسيجىء ـ إن شاء الله تعالى ـ عدم معقولية الاجزاء ، الا مع الالتزام بذلك ـ مثلا ـ لو قامت البينة الشرعية على ان الدار لزيد فنقلت بناقل شرعى الى غيره ثم بعد ذلك انكشف الخلاف لم يكن مجزيا لان البينة لا تغير الواقع عما هو عليه ولا توجب قلب ملكية زيد الى عمر ، وكذا لو قامت البينة على ان المائع الخارجى ماء فتوضأ به ثم انكشف خلافه لم يكن مجزيا ، لما قلناه ، كما انهم تسالموا على خروج موارد كشف الخلاف لو كان ما تصوره المكلف من قيام الدليل خيالا واوهاما ـ مثل ـ ما لو استظهر معنى من لفظ وعمل على مقتضاه استنادا الى حجية الظهورات ثم بعده انكشف الخلاف وعدم ظهور له فى المعنى المعين ، فلا ريب فى عدم حجية المعنى الاول لعدم اندراجه تحت حجية الظهورات ، وكذا لو وجد فى سلسلة الرواة (ابن سنان) فاعتقد انه ـ عبد الله ـ الثقة ، فعمل على طبق خبره ثم بان له انه ـ محمّد بن سنان ـ المطعون فيه فان الاعتقاد الاول باطل ، لانه صرف خيال وتوهم لا واقعية له.

وانما اختلفوا فى الموارد التى قامت الحجة المعتبرة فيها على ثبوت حكم شرعى كلى ثم انكشف خلاف الواقع فيها بعلم وجدانى ، او بحجة معتبرة ؛ بلا فرق فى ذلك بين موارد الاصول اللفظية والعملية ،

٢٧٢

ومن هذا القبيل تبدل رأى المجتهد الى رأى آخر لانكشاف خلاف ما استند اليه فى فتواه السابقة.

ولقد ذهب المشهور الى عدم الاجزاء اذا انكشف الخلاف فيها بالعلم الوجدانى وذلك فان الامارات حجة من باب الطريقية ، ولا بد من الالتزام فيها بعدم الاجزاء من جهة انكشاف عدم امتثال ما هو المأمور به واقعا ، واما لو انكشف الخلاف بامارة شرعية ، وحجة معتبرة ، فربما ذهب بعضهم الى الاجزاء ؛ باعتبار ان الاجتهاد الثانى والاستقرار عليه لا يصير المجتهد عالما بالواقع فعلا اذ كما يحتمل مطابقة الثانى للواقع ، يحتمل مطابقة الاول له ، وبما ان الاجتهاد الاول كان فى وقته مستندا الى حجة معتبرة كان صحيحا لا محالة وهو لا ينافى ان تكون الحجة المعتبرة فعلا هى الاجتهاد الثانى.

و (بعبارة اخرى) قيام الامارة الثانية على الخلاف لا يعيّن الواقع الحقيقى بمؤداها ويخطأ الاولى باعتبار عدم مطابقتها للواقع ، بل وظيفتها الزام المكلف بالعمل على طبقها فعلا ، فكما يحتمل خطأ الاولى يحتمل خطأ الثانية وحيث استند العمل السابق فى حينه الى حجة معتبرة حكم عليه بالصحة ، ولازمه ان تكون الاعمال السابقة التى جىء بها على طبق الاجتهاد الاول مجزية بلا حاجة الى اعادة ، او قضاء.

توضيح ذلك : ان الحجة القائمة على الخلاف التى أدّت الى الاجتهاد الثانى لو بنينا على حجيتها من الاول وان لم تكن الحجية محرزة الى زمان الاجتهاد الثانى ، فلازمه عدم الاجزاء ، لان الثابت بالاجتهاد الثانى حجيته حتى فى ظرف الاجتهاد الاول ، وان الحكم الواقعى هو ما ادى اليه هذا الاجتهاد دون ما ادى اليه الاجتهاد الاول ، غاية الامر

٢٧٣

ان الحكم الواقعى لم يكن منجزا باعتبار عدم العلم به ولو تعبدا وبه لا يسقط الواقع عن واقعيته فاذا انكشف الخلاف وظهر خطأ الاجتهاد الاول اصبح الحكم الواقعى منجزا على طبق الاجتهاد الثانى ، اللهم إلّا ان يستمر الاشتباه للاخير فيكون ما حصل بيده حجة مجزيا عن الواقع ، فالقول بان العمل السابق فى وقته كان على طبق الحجة غير تام ، لان الامارة التى قامت اخيرا قد انكشفت حجيتها حتى فى الزمن السابق وان الماتى به على طبق الحجة الاولى ليس بحكم واقعى ، لكن هذا القول بمراحل عن الواقع فان قيام الحجة على خلاف الاجتهاد الاول لا يكشف عن عدم حجية سند الاجتهاد الاول وانما يرتفع به حجيته من حينه ، فاذا افتى المجتهد على طبق عام بعد الفحص عن مخصصه وعدم الظفر به فقد كان افتاؤه على طبق حجة معتبرة ولا يكون الظفر بالمخصص بعد ذلك كاشفا عن عدم حجية الخاص قبل وصوله وعن عدم حجية العام قبل ذلك وانما يرتفع به حجيته من حين وصوله ، او ان المجتهد اذا افتى بطهارة شىء بقاعدة الطهارة ثم وجد ما يدل على عدم نجاسته فلا يكشف ذلك عن عدم حجية القاعدة فى ظرف الشك وعدم دليل على نجاسة ذلك الشىء وانما يوجب سقوط القاعدة من حين قيام الدليل على النجاسة ، هذا.

وغير خفى : انه مع ذلك لا بدّ من القول بعدم الاجزاء فان سند الاجتهاد الاول اذا ارتفعت حجيته فقد قامت الحجة بلا معارض على مخالفة العمل الماتى به للواقع ولم يدل دليل على اجزائه عن الواقع فيحكم العقل بلزوم تداركه فى الوقت ان امكنه ذلك ، وإلّا ففى خارجه ، نعم ما دام الامر غير منكشف لدى المكلف كان العذر معه ، اما بعد انكشافه فالمطلوب هو موافقة عمله للواقع فلو انكشف الخلاف فى الوقت وجب

٢٧٤

عليه الاعادة ، وان كان خارجه وجب عليه القضاء باعتبار صدق فوت الواقع ، هذا كله بناء على الطريقية.

اما بناء على السببية ، فيختلف الامر فى ذلك باختلاف الاقوال فعلى السببية ـ بالمعنى الاول ـ التى نسبت الى الاشاعرة على تقدير صحة النسبة فالمتعين فيها هو الاجزاء لان حقيقة السببية على هذه الطريقة تعود الى نفى وجود حكم واقعى فى الشريعة المقدسة وفى اللوح المحفوظ قبل تأدية نظر المجتهد الى شىء ، وانما يدور الحكم مدار نظر المجتهد ورأيه ، فمتى ادى نظره الى شىء بسبب امارة ، او اصل كان ذلك هو الواقع ، فلو تبدل الراى الى رأى آخر كان من تبدل الموضوع ، فليس فى البين حكمان ظاهرى وواقعى ليبحث عن اجزاء الاول عن الثانى ، بل هو حكم واحد مجز عن الواقع قطعا.

اما على السببية بالمعنى الثانى ـ التى نسبت الى المعتزلة ـ فالمتعين فيها ايضا الاجزاء ، لان حقيقتها على هذا المعنى هو الاعتراف بوجود حكم واقعى فى اللوح المحفوظ قبل تأدية نظر المجتهد الى شىء ، والمجتهد يمكن ان يصيبه فيكون منجزا عليه ، ويمكن ان يخطئه و ـ حينئذ ـ ينقلب الواقع عما هو عليه ويكون مطابقا لما ادى اليه نظر المجتهد ، وعلى هذا ففى مورد المخالفة لا يبقى واقع ليبحث عن اجزاء الامر الظاهرى عنه بل هو كالامر الاضطرارى لان محصله ـ مثلا ـ وجوب الصلاة مع الطهارة الترابية فيكون من قبيل الحكم الواقعى الثانوى.

واما السببية ـ بالمعنى الثالث ـ وهى السلوكية التى ذهب اليها بعض الامامية فيختلف الحال فيها بمقدار سلوك الامارة فان حقيقتها هو بقاء الواقع على واقعيته فى صورتى الاصابة والخطأ ، غاية الامر انه فى

٢٧٥

مورد الخطأ يفوت بعض من المصلحة ولكن يتدارك الفائت بسبب سلوك تلك الامارة والاخذ بها فيكون بذلك قد ادرك تمام المصلحة وهذا لا يغير الواقع عما هو عليه.

بيان ذلك : ان المجتهد اذا افتى بوجوب القصر فى موضع يجب فيه الاتمام واقعا من جهة قيام امارة على ذلك وجاء بالعمل على طبق ذلك فالمصلحة انما تكون بالمقدار الذى استمر سلوكه بها وهو الزمان الذى لم ينكشف الخلاف ، فلو انكشف الخلاف اثناء الوقت ، او خارجه وظهر الخطأ فمصلحة الواقع لم يذهب جميعها لامكان الاتيان بالواقع فعلا ، بل الفائت بعض من المصلحة الواقعية وهى الفضيلة اول الوقت فى الاولى ، ومصلحة نفس الوقت فى الثانى ، وباىّ مقدار فات منه يكون سلوك الامارة معوضا عنه ، وعليه لا مانع من الالتزام بالسببية بهذا المعنى وتنجز الواقع فى صورة انكشاف الخلاف فقيام الامارة على شىء بهذا المعنى لا يقتضى الاجزاء عن الواقع وانما يتدارك بقيامها وسلوكها مقدار الفائت ، اما الواقع فهو على واقعيته ، ومن هنا اتضح عدم الفرق بين السببية بهذا المعنى والطريقية التى يدعيها القوم ، فان النتيجة واحدة ، هذا ما ذكره شيخنا الاستاذ (قده).

ولكن التحقيق : هو التفصيل فى المقام ، والالتزام بالاجزاء من جهة القضاء ، وعدم الاجزاء من جهة الاعادة ، اما عدم الاجزاء من جهة الاعادة ، فلما ذكر ، واما الاجزاء من جهة القضاء فلأجل ان مصلحة اصل الصلاة لا تغاير مصلحة الوقت ، ولذا التزمنا بان وجوب القضاء انما هو لامر جديد ، لا من جهة الامر الاول ، وعليه فاذا فرضنا ان سلوك الامارة فى مجموع الوقت واف بمصلحة الصلاة فى الوقت ـ كما هو مقتضى القول

٢٧٦

بالسببية ـ فكيف يمكن الالتزام بعدم الاجزاء.

ثم ان القول بالسببية بهذا المعنى ايضا لا يمكن الالتزام به ، فانه ايضا يستلزم التصويب وتبدل الحكم الواقعى ، وذلك فاننا لو فرضنا ان سلوك الامارة اوجب تدارك مصلحة الواقع فالايجاب الواقعى تعيينا غير معقول ، (مثلا) اذا فرضنا ان مصلحة ايقاع صلاة الظهر فى وقتها يقوم بها امران (احدهما) نفس فعلها فى الوقت و (ثانيهما) سلوك الامارة الدالة على وجوب صلاة الجمعة فى مجموع الوقت لمن لم ينكشف له الخلاف فيه ، امتنع للشارع الحكيم تخصيص الوجوب الواقعى بخصوص الاول لقبح الترجيح بلا مرجح ، فانحصر الامر فى كون الواجب الواقعى فى حق من قامت الامارة عنده على وجوب صلاة الجمعة احد الامرين على التخيير ، اما الاتيان بصلاة الظهر ، او سلوك الامارة المزبورة ، فلم يكن الحكم الواقعى مشتركا بين العالم والجاهل ، فانه فى حق العالم تعيينى ، وفى حق الجاهل تخييرى ، وهو خلاف الاجماع والادلة الدالة على الاشتراك فى التكليف.

فالذى تحصل مما قلناه : عدم اجزاء الماتى به بالامر الظاهرى عن الامر الواقعى سواء انكشف الخلاف بيقين وجدانى ، او بامارة شرعية ـ بناء على الطريقية ـ وكذلك على السببية بالمعنى الثالث بالاضافة الى الاعادة ، دون القضاء ، واما السببية بالمعنيين الاوليين فالالتزام بها يستلزم بالاجزاء مطلقا.

وقد فصل صاحب الكفاية (قده) تفصيلا آخر بين الامارات والاصول ، وملخص كلامه : ان الدليل الذى افاد الحكم الظاهرى (تارة) يثبت حكما يكون النظر فيه الى الواقع كمفاد الامارات الشرعية التى يكون مفاد دليل حجيتها هو الوصول الى الواقع ولازم هذا قابلية الدليل للاتصاف

٢٧٧

بالصدق والكذب من حيث مطابقة الدليل المواقع ومخالفته له فلو انكشف الخلاف فيها حكم بعدم الاجزاء و (اخرى) يثبت حكما فى مورد الشك لا نظر له الى الواقع كقاعدتى الطهارة والحلية ، بل واستصحابها فى وجه قوى ، باعتبار ان مبناه (قده) فى الاستصحاب جعل حكم فى مورد الشك مماثل للحكم الواقعى ، والفرق بين الحكمين ان المجعول فى الصورة الاولى قابل لان يتصف بالصدق والكذب لانه ناظر الى الواقع وكاشف عنه ، وهذا بخلاف المجعول فى الصورة الثانية فانه لا يقبل الاتصاف بهما لعدم كونه كاشفا عنه ، نعم يمكن ان يتصف بالمطابقة وعدمها للواقع ، وهذا غير الاتصاف بالصدق والكذب ، وعليه فلا معنى لكشف الخلاف فيها اصلا ، لما عرفت من انها ليست بناظرة الى الواقع فلو علم بعدم المطابقة بعد ذلك كان من قبيل تبدل الموضوع ويرتفع الحكم الظاهرى من حينه ، ومن هنا يعلم ان هذا الدليل الظاهرى حاكم على دليل الواقع وموجب لتوسعة الشرط بنحو الاعم من الواقعى والظاهرى ، وإلّا لكان الدليل لغوا ، ولا بد من الحكم بالاجزاء فيه حينئذ ، لان العمل واجد للشرط حين وقوعه والشىء لا ينقلب عما وقع عليه ، بخلاف الامارات فان مفادها ثبوت الحكم فى الواقع فلو انكشف الخلاف بعد ذلك حكم بعدم الاجزاء فيها لعدم واجدية العمل للشرط.

والحاصل ان المجعول فى باب الاصول هو الحكم فى مورد الشك بلا نظر فيه الى الواقع وهو حاكم على دليل الواقع نفسه ومبين لتوسعة الشرط فليس فيه انكشاف الخلاف اصلا ، مثال ذلك : ان الطهارة من الخبث التى اخذت قيدا فى الصلاة اذا تردد المكلف فى واجديته لها فاستصحب بقائها بعد علمه السابق بها ثم دخل فى الصلاة وانكشف له الخلاف ،

٢٧٨

فلا ريب ان ما اتى به كان مجزيا لكونه محرزا لشرطها نظرا الى انه حين الشك كان محكوما عليه بالطهارة فلا يجب عليه الاعادة بعد ذلك.

ولا يخفى : ما فى كلامه (قده) نقضا وحلا.

اما النقض ـ فبأنه لا يمكن الالتزام بما افاده (قده) فى غير باب الصلاة من ابواب العبادات والمعاملات ، فلو توضأ بماء مشكوك الطهارة وقد حكم بطهارته ، اما لقاعدة الطهارة ، او للاستصحاب ، ثم انكشف نجاسته لم يلتزم احد من الفقهاء بالاجزاء فيه ولم يحكم بصحة هذا الوضوء وكذا لو غسل ثوبه بهذا الماء ثم انكشف نجاسته لا يحكم احد بطهارة الثوب فعلا ، مع ان لازم ما افاده (قده) هو الحكم بالطهارة لانه غسل بماء طاهر حقيقة والمفروض ان موضوع الحكم اعم من الطهارة الظاهرية والواقعية ، وكذا لو كان زيد يملك دارا معينة ثم حصل لنا الشك فى بقاء ملكيته فاخذنا بالاستصحاب ونقلناها الى شخص آخر ثم انكشف لنا خلاف ذلك ، وظهر ان زيدا لم يكن يملكها فمقتضى ما افاده (قده) هو الحكم بصحة البيع لان الاستصحاب افاد التوسعة فى الشرط واثبت الملكية لزيد وهى اعم من الملكية الواقعية والظاهرية مع انه لا يلتزم به هذا كله فى النقض.

واما الحل ـ فهو ان كلا من قاعدتى الطهارة والحلية تفيد جعل الحكم فى مورد الشك مع المحافظة على الواقع من دون تبديل وانقلاب ولا مانع من الالتزام بجعل حكمين على المكلف (احدهما) ظاهرى وموضوعه الجهل بالواقع (ثانيهما) واقعى غير مقيد بشىء وسيأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ تفصيل هذا القول فى بيان الجمع بين الاحكام الظاهرية والواقعية وفى المقام كما ان الطهارة الظاهرية موجودة ، كذلك النجاسة الواقعية

٢٧٩

موجودة ، ونتيجته انه اذا انكشف الخلاف وظهر انه متوضئ بالماء المتنجس الواقعى ـ مثلا ـ وجب عليه الاعادة ، واما حديث الحكومة والتوسعة التى تقدم ذكرها فلا يفيد لانها حكومة ظاهرية مقيدة بالجهل بالواقع وليست بحكومة واقعية ونتيجة هذه الحكومة ترتيب الآثار عليها ما دام لم ينكشف الخلاف ، نعم فى خصوص باب الصلاة قام الدليل على الاكتفاء بالطهارة او الحلية الظاهرية اما غيرها فمقتضى ما قلناه عدم الاكتفاء فى مورد انكشاف الخلاف.

فظهر مما ذكرنا ان التفصيل المذكور غير تام.

ثم انه لو شككنا فى ان اعتبار الامارة القائمة على شىء على نحو يفيد الاجزاء عن الواقع ، او انه على نحو آخر لا يفيد الاجزاء فهل الاصل العملى يقتضى الاجزاء؟

فصّل صاحب الكفاية (قده) بين الاعادة والقضاء فاوجب الاول دون الثانى ، اما لزوم الاعادة لو انكشف الخلاف اثناء الوقت فلاجل ان الواقع المامور به لو كان ـ مثلا ـ الصلاة مع طهارة مائية فالمكلف الذى جاء بصلاة مع طهارة ترابية لامر ظاهرى لم يدرك الواقع قطعا ، كما ان ادراكه لمصلحة الواقع غير معلوم لاحتمال ان لا يكون اعتبار الامارة على نحو السببية بالمعنيين الاولين ، وحيث انشغلت الذمة بتكليف الزامى فاصالة الاشتغال تقتضى الخروج عن العهدة ولا يحصل ذلك الا بالاعادة.

ثم اشكل على نفسه (قده) بجريان استصحاب عدم فعلية التكليف فى حق المكلف بعد انكشاف الخلاف واجاب عنه بان ذلك لا يثبت تدارك مصلحة الواقع بما اتى به فى الخارج فلا يترتب عليه الحكم بعدم الاعادة.

٢٨٠