مصابيح الأصول

علاء الدين بحر العلوم

مصابيح الأصول

المؤلف:

علاء الدين بحر العلوم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز نشر الكتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

سافعل كذا غدا ، إلّا ان يشاء الله خلافه. وتكون جملة (إلّا ان يشاء الله) مقول القول ـ كما لو قلت اريد ان افعل كذا إلّا ان يمنع مانع ـ وهو المعبّر عنه بالفارسية (اگر خدا بگذارد) ولازم هذا ثبوت الاستقلال فى التصرف التام الذى ينشا منه التفويض.

تنبيه

سبق ان قلنا ان الفعل الخارجى الصادر من العبد بحسب اختياره منسوب الى الله تعالى ، والى العبد نفسه فباعتبار ان قدرة العبد نحو العمل انما هى من قبل الله تعالى ، فالعمل منسوب اليه تعالى ، وباعتبار ان العبد اعمل قدرته بحسب اختياره ، واوقع العمل بنفسه خارجا. فالعمل منسوب الى العبد فكان للعمل فاعلان : فاعل مباشر ، وفاعل موجد للمقتضى بلا فرق بين ان تكون الاعمال حسنة او قبيحة.

وقد ينسب العمل الى واحد منهما ، دون الآخر فى نظر العرف ، فالاعمال الحسنة ان صدرت من الشخص فهى منسوبة الى من هيأ مقدمات ذلك الشىء. اما الاعمال القبيحة ان صدرت فهى منسوبة الى فاعلها ـ مثلا لو بذل شخص زادا ، وراحلة لشخص آخر فى الذهاب الى الحج ، وسعى له فى انجاز مهماته وقد احضر له (طائرة خاصة) فذهب بها الى الحج ، وادى الفريضة فالعرف يرى صدور الفعل ممن هيأ له المقدمات دون فاعله. اما لو اتفق ان استغل الطائرة ، وذهب بها الى اماكن لا ترضى الله ورسوله وعمل ما عمل هناك فالفعل فى نظر العرف منسوب الى الفاعل دون من هيأ المقدمات. وهكذا الامر فى افعال العبيد ، فان كانت افعالهم حسنة استندت فى نظر العرف الى الله تعالى ، وان فعلها العبد بنفسه ، وان كانت قبيحة استندت الى العبد نفسه دون ربه ، وان كان العمل فى الحقيقة

٢٠١

منسوبا الى كليهما ـ كما عرفت ـ وعلى هذا يحمل ما ورد فى بعض الروايات بحسب المضمون ـ انى اولى بحسناتك من نفسك ، وانت اولى بسيئاتك منى ـ فان المنظور اليه هو النظر العرفى دون الدقى. وهذا المعنى لا يتنافى مع قلناه ، من صحة استناد العمل الى الله تعالى ، والى فاعله العبد.

* * *

(صيغة الامر)

المقام الثانى ـ فى هيئة افعل ، وما يضاهيها.

ويقع البحث عنها من جهات :

الجهة الاولى ـ فى معنى صيغة الامر وهل هو واحد ، او متعدد؟ وعلى الثانى فهل الصيغة فى الجميع حقيقة ، او فى البعض حقيقة ، وفى الآخر مجاز؟.

ذهب المشهور الى الالتزام بالتعدد ، وقد عدّ منها : الطلب ، والتهديد ، والانذار ، والاهانة ، والتعجيز ، وغيرها.

ولكن صاحب الكفاية ـ قده ـ التزم بوحدة المعنى ، وادعى انها مستعملة فى معنى واحد وهو انشاء الطلب ، ولكن دواعى الانشاء تختلف فقد يكون الداعى طلبا جديا حقيقيا ، وقد يكون تهديدا ، وقد يكون اهانة ، وغير ذلك واختلافه لا يضر بوحدة المستعمل فيه ـ مثلا ـ القيام وضع للكيفية الخاصة ، واختلاف الدواعى كالتعظيم ، اذا قصد به ، او الاهانة ، لا يوجب اختلافا فى مفهومه وما يستعمل فيه.

وقد التزم ـ قده ـ بهذا المعنى فى سائر الصيغ الانشائية من ادوات الاستفهام ، والتمنى ، والترجى ، وتوابعها. فاعتبر ان ادوات الاستفهام

٢٠٢

مستعملة فى معنى واحد ، وهو طلب الفهم انشاء مع اختلاف الدواعى كطلب حقيقة الفهم. (تارة) وداعى الانكار ، اخرى ، وهكذا الحال فى التمنى. والترجى.

وربما يقال ـ ان الصيغة مستعملة فى حصة خاصة من الطلب ، وتلك هى انشاء الطلب بداعى الطلب الحقيقي ، فلو اقترن بداع آخر صار الاستعمال مجازا ، فكان اختلاف الداعى مضرا بوحدة المستعمل فيه.

وغير خفى : ان ما ذكره صاحب الكفاية ـ قده ـ يتم على مسلك المشهور من تفسير الانشاء ، بايجاد المعنى باللفظ. فيكون الاستعمال فى جميع الموارد حقيقة لوحدة المستعمل فيه. وان اختلفت الدواعى.

اما على مسلكنا. من ان الانشاء هو ابراز الاعتبار ، او غيره من الامور النفسانية بمبرز ما ـ كما عرفت ـ فيما تقدم ـ فالمعانى متعددة فقد يبرز المتكلم ما فى نفسه من اعتبار الفعل على ذمة الغير بصيغة خاصة ، فيكون ابرازه ذلك طلبا حقيقيا ، وقد يبرز ما فى نفسه من السخرية ، او التعجيز ، او ما شاكلهما. فيكون الابراز مصداقا للسخرية ، او التعجيز. فالصيغة فى كل مورد من هذه الموارد. تبرز معنى يختلف عن الثانى ويغايره ، ويلزمه ان يكون المعنى المستعمل فيه متعددا ـ كما ذهب اليه المشهور ـ دون ان يكون واحدا.

ثم بعد ان كانت الصيغة مستعملة فى معان متعددة ـ كما عرفت ـ فهى هى على نحو الاشتراك اللفظى ، او موضوعة لمعنى واحد ، وتستعمل فى الباقى مجارا؟

الظاهر هو الثانى ، وفاقا للمشهور. وذلك فان المفهوم من الصيغة عند اطلاقها هو الطلب الحقيقى الجدى ، وهو يحصل بدون قرينة ، اما

٢٠٣

بقية المعانى غير الطلب الجدى ففهمها من الصيغة يتوقف على قرينة خاصة تدل عليه. فهذا دليل على ان صيغة الامر حقيقة فى معنى واحد ومجاز فى الباقى من المعانى.

الجهة الثانية ـ ان الاوامر التى اشتمل عليها الكتاب العزيز ، والسنة النبوية ، وغيرهما. من الاوامر العرفية على قسمين (تارة). يراد منها الالزام ، والحتم. على نحو يمنع العبد من مخالفتها ، (واخرى) يراد منها البعث مقرونا ، بالترخيص بحيث لا يقف شيء امام العبد لو اراد مخالفتها ويسمى الاول بالوجوب ، والثانى بالندب. والقرينة الحالية ، او الكلامية ان قامت على تعيين احدهما لزم اتباعها لانها دليل على تعيين المراد ، وهذا لا اشكال فيه.

انما الاشكال فيما لو فقدت القرينة ، فهل للصيغة ظهور فى المعنى الاول ، ليكون المعنى الثانى مفتقرا الى القرينة؟ او بالعكس؟ بان يكون لها ظهور فى الثانى ، وهو الندب. فيكون المعنى الاول محتاجا الى القرينة او يتوقف فلا يصار الى احدهما إلّا بالقرينة ، نزاع بين القوم.

ذهب صاحب الكفاية ـ قده ـ الى الاول ، وادعى ان صيغة الامر حقيقة فى الوجوب. ومجاز فى غيره. ولازم ذلك حملها على الالزام عند تجردها عن القرينة. واستدل على ذلك. بحصول التبادر عرفا وأيّد مدعاه بقيام السيرة العقلائية على ذم الموالى عبيدهم عند مخالفتهم لامتثال ما امروا به. وعدم صحة الاعتذار عن ذلك. باحتمال ارادة الندب مع فقد الدليل عليه. وقيام السيرة على ذلك دليل الحقيقة.

ثم اشكل ـ قده ـ على نفسه بان استعمال الصيغة فى الندب ليس اكثر من استعماله فى الوجوب. فكان الندب مجازا مشهورا او ارجح

٢٠٤

من الوجوب ، ومعه كيف يمكن حمل الصيغة على الوجوب ، عند اطلاقها مجردة عن كل قرينة.

واجاب عن ذلك : اولا ـ بمنع الصغرى ، وان الاستعمال فى الندب لا يزيد على الاستعمال فى الوجوب.

وثانيا ـ لو سلمت الكثرة فى الندب ، فهى مع القرينة لا بدونها. ومعه لا يمنع من الحمل على الوجوب عند التجرد عن القرينة.

ثم أيّد ذلك بحديث العموم والخصوص ، حيث ادعى كثرة الاستعمال فى الخصوص حتى قيل ما من عام إلّا وقد خص ، ومع هذه الكثرة لا ينثلم ظهور العموم لو ورد فى الكتاب ، او السنة. ما لم تقم قرينة على الخصوص وعليه فصيغة الامر حقيقة فى الوجوب ، ومجاز فى الندب.

وغير خفى ـ ان التبادر لدى العرف الى الوجوب خاصة دون الندب لم يعلم استناده الى نفس حقيقة اللفظ ، بل لعله من اجل تمامية مقدمات الحكمة ، او لحكم العقل بذلك. ومتى ما احتمل استناد التبادر الى احد هذين الامرين لا يكون دليلا على الحقيقة ، لعدم احراز استناده الى حقيقة اللفظ.

واما دعوى قيام السيرة العقلائية على الذم عند المخالفة فمسلم بلا ريب. إلّا انه ليس لاجل ظهور الصيغة فى الوجوب بسبب التبادر بل لعله لحكم العقل بذلك ، ونحن لا نمنع من قيام سيرة على ذلك ولكن قيامها على ذلك لا يكشف عن ظهور الصيغة فى الوجوب.

واما دعوى الكثرة فى جانب الندب فهى غير بعيدة ، لوجود ذلك فى سائر كتب الادعية المعتبرة. واما دعوى ان الاستعمال المجازى وان كثر مصحوبا مع القرينة لا يمنع الحمل على الحقيقة اذا تجرد الكلام عن

٢٠٥

القرينة فهو مسلم كبرويا ، إلّا ان الاستشهاد عليه بمثل العموم والخصوص فى غير محله ، وذلك لاختلاف ادوات العموم بعضها عن بعض بحسب الوضع الشخصى ـ مثلا ـ لو كثر استعمال كلمة ، (جميع) فى البعض مجازا ، على وجه قل ان يكون هناك مورد استعملت فى تمام معناها ، فهو لا يوجب التوقف فى بقية الادوات ككل ، والمحلى بالالف واللام ، وغيرهما. من حيث حملها على تمام المعنى. ولا يقاس على ذلك مثل هيئة اضرب التى هى موضوعة بوضع واحد ، والمفروض انها استعملت فى غير معناها الموضوع له كثيرا.

مضافا الى ذلك انه ياتى منه ـ قده ـ فى بحث العموم والخصوص من التزامه بكون استعمال العام فى الخاص ليس بمجاز ، بل هو من قبيل التوسعة والضيق.

وقد يقرب دلالة صيغة الامر على الوجوب ، بمقدمات الحكمة. ببيان : ان الوجوب ، والاستحباب. قسمان من الارادة يختلفان بحسب الشدة ، والضعف. فان الارادة الصادرة من المتكلم المتعلقة بفعل غيره (تارة) تكون شديدة ، واكيدة بنحو لا يريد المولى تخلف المراد عن ارادته ، ولا يريد تخلف العبد عن الامتثال ، فيطلب ذلك طلبا شديدا على سبيل الحتم ، والالزام. وهذا هو الوجوب. و (اخرى) تكون ضعيفة بنحو لا يمنع العبد من تخلف ذلك فله ان يشاء الفعل ، وله ان يشاء الترك فهو مرخص من هذه الجهة ، فيطلب ذلك طلبا ضعيفا على سبيل الندب. وهذا الاختلاف فى الارادة امر وجدانى حقيقى ، ولكن شدة الارادة ليست بامر زائد على الارادة ، بل نفسها فما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز بخلاف صفة الضعف فانها زائدة على الارادة وتحتاج فى بيانها الى مئونة

٢٠٦

اخرى فى مقام الاثبات.

فلو امر المولى بشىء ، وكان فى مقام البيان وعلمنا عدم ارادته لجامع الارادة بين الشدة والضعف ، لان الارادة الشخصية لا بد وان تتصف اما بالشدة ، او الضعف فمع انتفاء القرينة على الارادة الضعيفة نستطيع ان نحمل كلامه على ارادة المرتبة الشديدة ونثبت بذلك ارادة الوجوب. هذا كله اذا كان فى مقام البيان ، واما اذا لم يكن فى مقام البيان وارسل خطابه نحو المكلفين فالمستفاد منه مجرد المحبوبية للفعل دون استفادة احد الامرين.

وقد اتضح من هذا ان صيغة الامر ليست موضوعة للوجوب ، بل موضوعة للطلب وقد استفيد الوجوب من مقدمات الحكمة.

والجواب عنه ـ اولا ـ ان الدليل المذكور ليس تاما على اطلاقه فان ملاك الشدة ، والضعف تزايد المصلحة فى الفعل وعدم تزايدها وهو فى الاوامر العرفية يعود نفعه الى نفس المولى ، واما فى الاوامر التشريعية ، او اوامر الطبيب فمصلحتها تعود الى البشر نفسه دون المولى وليس فى البين احتياج بالاضافة الى المولى ليكون الطلب متفاوتا تبعا لحاجته واذا انتفى شدة الطلب ، او ضعفه تعذّر الاخذ بالاطلاق ، والحمل على الوجوب. اذا فالدعوى ثابتة بنحو الموجبة الجزئية وهى لا تكفى فى اثبات المدعى.

ثانيا ـ لو فرض الاختلاف بين المرتبتين بالشدة ، والضعف لكن دعوى ان الارادة الشديدة لا تزيد على الارادة بشيء فهى ارادة صرفة بخلاف الارادة الضعيفة فانها زائدة على الارادة بصفة الضعف غير صحيحة ، وذلك لان كلا من الشدة ، والضعف ، او فقل كلا من الوجوب ، والندب محدد بحد خاص فالارادة الشديدة محدودة بحد ، وكذلك الارادة الضعيفة

٢٠٧

نظرا الى ان الارادة من الامور الممكنة ، وسائر الممكنات محدودة بحد. غاية الامر يزيد الوجوب على الندب بشدة الارادة ، ومع فرض التحديد لكل منهما لا يمكن التمسك بالاطلاق ، والحمل على الوجوب عند عدم بيان على الارادة الضعيفة ، بل لا بد من التوقف لاحتياج كل منهما الى بيان كما عرفت.

ثالثا ـ لو تم الاختلاف بين المرتبتين وان الارادة الشديدة هى صرف الارادة ، بخلاف الارادة الضعيفة فمع ذلك لا يمكن التمسك بالاطلاق والحمل على الوجوب ، لان بساطة الارادة الشديدة ، وتركب الارادة الضعيفة ليستا بامر عرفى يلتفت اليها كل احد ومعه لا يستطيع المتكلم ان يطلق كلامه ويترك بيانها اعتمادا على فهم العرف ـ مثلا ـ لو اطلق المتكلم كلمة ـ الوجود او الموجود ـ ولم يبين ما يدل على ارادة سائر الموجودات. أفهل يحمل كلامه على ارادة واجب الوجود نظرا الى عدم تحديده بحد ، كلا فان المعنى المذكور ليس بامر عرفى.

فالصحيح ان يقال : ان الفرق بينهما فى مقام الثبوت من حيث المبدأ ، وذلك بشدة المصلحة ، وضعفها بناء على تبعية الاحكام للمصالح ، والمفاسد ، واما فى مقام الاثبات. فالفرق بينهما من حيث مقارنة احدهما للترخيص دون الآخر. وذلك فان الطلب ـ كما عرفت ـ عبارة عن ابراز ما فى نفس المتكلم من اعتبار كون المادة على رقبة المخاطب فالعقل يرى بمقتضى قانون العبودية ، والمولوية لزوم المبادرة على العبد نحو ما امره به مولاه ، وان تخلفه عن ذلك ، وعدم قيامه بالامتثال غير صحيح. فلو عصى فقد استحق العقاب.

اللهم إلّا ان يرد ترخيص من المولى نفسه بان ينصب قرينة على

٢٠٨

ان العبد له الإشاءة فى الفعل او الترك ، وحينئذ لا مانع من تركه للمطلوب فكان الوجوب على هذا مستفادا من دليل العقل ، دون مقدمات الحكمة ، او كون الصيغة موضوعة له. فارادة الندب تحتاج الى مئونة زائدة.

(استعمال الجمل الخبرية فى الطلب)

ان الجمل الخبرية ككلمة ـ يعيد ـ او ـ اعاد ـ اذا استعملت فى الطلب والانشاء ولم تستعمل فى الاخبار. فهل لها ظهور فى الوجوب؟

ذهب صاحب الكفاية ـ قده ـ الى ذلك وقال : «بل يكون اظهر من الصيغة» ثم قرّ به ، بعد ان اكد على مبناه السابق من ان المستعمل فيه فى امثال هذه الجمل واحد ، وانما يأتى الاختلاف بينها من ناحية الدواعى ، فاذا كان الداعى هو الاعلام والاخبار كانت الجملة خبرية ، وان كان هو البعث والطلب كانت الجملة انشائية. ان هذه الجمل اذا جىء بها للانشاء دلت على ان داعى البعث فيها كان بنحو آكد باعتباران الامر حين اظهر طلبه بهذا النحو فقد دل على عدم رضائه بترك الفعل من العبد وكانه اصبح مشتاقا اليه بشدة حتى نزله منزلة الواقع. واعتبره متحققا لشدة ارادته بتعلق وقوعه لذا عبّر عن ذلك بالجملة الخبرية.

وهذا بخلاف صيغة الامر فانها لا تدل الا على ارادة الفعل دون الخصوصية المتقدمة ، ولا يلزم الكذب من الاستعمال المذكور لعدم قصده ثبوت النسبة حقيقة ليلزم ذلك ، بل قصده الاخبار بداعى البعث ، وهذا نظير الكناية حين يقال ـ زيد كثير الرماد ـ فان المتكلم ربما لم يقصد من ذلك الاخبار واقعا عن كثرة رماده ، وربما لا يتأتى الطبخ منه بل قصده الانتقال الى معنى آخر وهو الكرم والسخاء ، فانه لازم لكثرة الرماد.

٢٠٩

فكانت شدة الطلب فى الجملة الخبرية هى التى اوجبت الظهور فى الوجوب دون الندب.

ثم ذكر ـ قده ـ بعد ذلك ان الجملة المذكورة لو لم تكن ظاهرة فى الوجوب فلا اقل من تعينها فيه من بين سائر المحتملات بواسطة مقدمات الحكمة اذا كان المتكلم فى مقام البيان فان المناسبة المتقدمة التى هى شدة الطلب توجب التعيين فى الوجوب عند عدم البيان ، بخلاف غير الوجوب فانه محتاج الى مئونة زائدة. فاذا كان المتكلم فى مقام البيان ولم يبين شيئا فى خطا به لزم الحمل على الوجوب دون غيره.

وغير خفى ـ ان الوجوب يستفاد من الجملة المذكورة بالطريقة التى استفيد بها من صيغة الامر وذلك بحكم العقل فان المتكلم عند ما يتصدى لطلب الفعل بهذه الجملة ويبرز ما فى نفسه من الطلب ويلقيه على عاتق العبد فان العقل يرى بمقتضى قانون العبودية والمولوية ان يسعى العبد نحو ما امره به مولاه ، ولا يتخلف عن الامتثال ، إلّا ان يقوم دليل مرخص على ذلك من المولى فيجوز للعبد مخالفته ، وبهذا علم ان المستعمل فيه متعدد لانه عبارة عن ابراز الطلب بصورة الاخبار ، بخلافه هناك فانه ابراز لقصد الحكاية عن ثبوت النسبة او عدم ثبوتها.

نعم على مسلك صاحب الكفاية ـ قده ـ لا بد من التوقف دون الحمل على الوجوب لان الجملة الخبرية بعد ان علمنا عدم استعمالها فى معناها الحقيقى بداعى الحكاية عن ثبوت النسبة اصبحت جميع الدواعى الأخر محتملة فى نفسها ومع انتفاء القرينة على التعيين لا بد من التوقف ومن هنا انكر جماعة منهم صاحب المستند ـ قدس‌سره ـ دلالة الجملة الخبرية على الوجوب.

٢١٠

اما المناسبة وهى شدة الطلب التى ذكرت وجها لحمل الجمل الخبرية على ارادة الوجوب فهى لا تعين الوجوب. اذ لو كانت معينة له لجرى الامر فى الجمل الاسمية حين يقال ـ زيد قائم ـ ويقصد بها الطلب ، وكذا الجمل الخبرية الماضوية فى غير الجمل الشرطية مع انه لم نر احدا ادعى ذلك سواء فى اللغة العربية ام الفارسية ، فعلم من هذا ان للجمل الفعلية من المضارع ، والماضى فى الجمل الشرطية خصوصية. بها يصح استعمالهما فى الطلب ولم يجز استعمال غيرهما فى الطلب ولو مجازا فضلا عن ان يكون الاستعمال حقيقيا كما يدعيه صاحب الكفاية ـ قده ـ

تنبيه

ان ثمرة الاختلاف المتقدم فى استفادة الوجوب من الصيغة بالوضع ، او العقل تظهر عند استعمالهما فى مثل ـ اغتسل للجنابة والجمعة ـ مع العلم بان غسل الجمعة ليس بواجب ، فبناء على مسلكنا من استفادة الوجوب بحكم العقل فالامر واضح. لان المولى قد ابرز ما فى نفسه من الاعتبار بكلمة ـ اغتسل ـ والقاه على ذمة المكلف فى كل منهما وهو معنى حقيقى لها غاية الامر ان دليل الترخيص قام على جواز ترك بعض ما ذكر فى الكلام وهو غسل الجمعة فى المثال ولم يقم على البعض الآخر ، فالعقل لا يلزم العبد بالامتثال بالاضافة الى ما قام عليه دليل الترخيص ، ويلزمه بالاضافة الى ما لم يقم عليه الدليل المذكور رسما للعبودية ، نعم على مسلك غيرنا كصاحب الكفاية ـ قده ـ ففيه تأمل ، لان الصيغة لم تستعمل فى الوجوب قطعا وقد خرجت عن معناها الحقيقى فحينئذ لا مناص من ان يكون المستعمل فيه مطلق الطلب الجامع بين الوجوب والندب ، وتكون ارادة كل واحد منهما محتاجة الى القرينة ومع عدمها لا تتعين ارادة الوجوب.

٢١١

(التعبدى والتوصلى)

ان للتوصلى وما يقابله معانى اربعة :

المعنى الاول ـ ان يراد بالتوصلى. هو الواجب الذى لا يشترط فى سقوطه قصد القربة ، ولذا سمى توصليا. لان المقصود منه التوصل به الى الواجب باىّ داع كان ، وان كان قصد القربة دخيلا فى ترتب استحقاق الثواب عليه. ويقابله التعبدى وهو الذى يشترط فى سقوطه عن ذمة المكلف قصد القربة.

المعنى الثانى ـ ان يراد بالتوصلى : هو الواجب الذى يسقط بالاتيان به خارجا ، سواء جاء به نفس المكلف ، ام شخص آخر. فلو قام به غير المكلف تبرعا ، او استنابة سقط عن المكلف ، لان المقصود منه ايجاد الواجب خارجا من غير لحاظ اشتراط القيام به نفس المكلف ولا يقابله اصطلاح خاص ـ كما فى القسم الاول ـ بل يقال التوصلى ، وغير التوصلى ، والثانى هو الواجب الذى لا يسقط باتيان غير المكلف به ، بل لا بد من اتيان العمل من نفس المكلف. وذلك كوجوب رد السلام على من سلم على واحد معين دون جماعة. فانه لا يسقط برد غير المسلم عليه.

المعنى الثالث ـ ان يراد بالتوصلى. هو الواجب الذى لا يشترط فى فاعله الالتفات ، والاختيار الى ما يعمله ، بل لو صدر عنه غفلة ، او نسيانا ؛ وبلا قصد كان ساقطا عنه ايضا ، ويقابله الواجب الذى يشترط فى فاعله الالتفات والاختيار الى ما يعمله فلو صدر عنه غفلة ، او نسيانا لما سقط عنه.

٢١٢

المعنى الرابع ـ ان يراد بالتوصلى. هو الواجب الذى لا يشترط فى سقوطه اتيانه فى ضمن فرد سائغ ، فلو جىء به فى ضمن فرد محرم ايضا سقط التكليف عن المكلف. ويقابله الواجب الذى يشترط اتيانه فى ضمن فرد سائغ. فهذه معان اربعة لكل من التوصلى ، وما يقابله. اما النسبة بين التوصلى بالمعنى الاول ، وبينه بالمعنى الثانى فهى العموم من وجه. حيث ينفرد الاول عن الثانى ، بمثل ردّ السلام اذ لا يشترط فيه قصد القربة بل يعتبر فيه ان يكون الردّ من نفس المسلم عليه دون غيره ، فلا يسقط لو ردّ شخص آخر عنه. وينفرد الثانى عن الاول ، بمثل ما وجب على الولى عن الميت. فان قيام غير المكلف بذلك تبرعا ، او استنابة. موجب لسقوط التكليف عن المكلف ، وفراغ ذمته. فهو توصلى بالمعنى الثانى دون الاول. ويجتمعان فى موارد كثيرة ، كالصلوات اليومية ، وغيرها.

وكيف كان فالبحث اوّلا يقع عن الشك فى التوصلى ، والتعبدى ، وهو فى مقامين :

المقام الاول ـ الشك فى الواجب بين كونه توصليا ، او تعبديا بالمعنى الاول.

المقام الثانى ـ الشك فى الواجب بين كونه توصليا ، او ما يقابله من المعانى الباقية.

وهل هناك دليل لفظى من اطلاق وغيره يعين لنا احدهما؟ ومع فقد ذلك فهل الاصل العملى يقتضى الاشتغال ، او البراءة؟ ولا بد من تقديم البحث فى المقام الثانى لاختصاره ، وعدم الحاجة الى تطويل الكلام فيه.

فنقول : البحث يقع عنه فى مسائل ثلاث :

(المسألة الاولى) ـ ما لو شك فى سقوط واجب بفعل الغير ، فقد

٢١٣

نسب الى المشهور التمسك بالاطلاق لا ثبات كون الواجب توصليا يسقط بفعل الغير بلا فرق بين ان يكون فعل الغير بالتسبيب ، او بالتبرع ، او غيرهما ، وقد اطال شيخنا الاستاذ ـ قده ـ فى المقام بلا حاجة لذلك.

وغير خفى ـ ان اطلاق الدليل لا يثبت كون الواجب توصليا ، وذلك لان معنى الاطلاق هنا هو تعلق التكليف بالجامع بين فعل المكلف نفسه ، وفعل غيره ، وهو امر مستحيل لعدم امكان تكليفه بعمل الغير ، فان فعل الغير خارج عن اختيار الشخص فكيف يمكن ان يعمه التكليف؟ نعم يمكن شمول الاطلاق لصورة استنابة الغير بان يقال : اما ان تفعل انت ايها المخاطب ، او تستنيب غيرك.

ولكن الاستنابة لا توجب سقوط التكليف ، ولو كانت كذلك لكفى مجرد اجازة الغير فى ذلك ، وان تماهل ذلك الغير فى الامتثال وهو خلاف المفروض فان المسقط هو الاتيان الخارجى ، وهو ـ كما عرفت ـ لا يقع طرفا للتكليف ، بل ان اطلاق الخطاب المتوجه نحو الشخص نفسه اذا كان المتكلم فى مقام البيان ، ولم ينصب قرينة على شىء يقتضى اتيان العمل من نفس المكلف سواء جاء به آخر ، ام لا ، فلو قام به الغير لم يكن ذلك مسقطا له عن الذمة ، اذا فاطلاق الدليل لا يثبت توصلية الواجب بل يقتضى عدمه ، والى هذا اشرنا فى حاشيتنا على العروة ان افعال الصبى وان كانت مشروعة. إلّا ان مقتضى الاطلاق عدم سقوط فعل البالغين بافعال الصبى. اللهم إلّا ان يقوم عليه دليل وهو مفقود ، والسرّ فيما ذكرناه : ان الشك فى المقام يرجع الى الشك فى الاطلاق ، والاشتراط فى مقام الثبوت لوضوح انه لا وجه لسقوط تكليف احد بفعل غيره ، إلّا ان يكون مشروطا بعدم اتيان غيره ، ولا اشكال فى ان الاطلاق يقتضى عدم الاشتراط ـ كما يأتى ـ

٢١٤

فانتظره.

ثم لو تعذّر التمسك علينا بالاطلاق فالاصل العملى فى المقام يقتضى الاشتغال ، وتوضيح ذلك : ان الشك فى محل الكلام وان كان يرجع الى الشك فى الاطلاق والاشتراط ـ كما عرفت ـ إلّا ان الاصل العملى الجارى معه يختلف باختلاف الموارد ، لان الشك فى اطلاق التكليف واشتراطه قد لا يحرز معه فعلية التكليف اصلا كما اذا كان ما يحتمل شرطيته غير متحقق من الابتداء ومرجع ذلك الى الشك فى اصل توجه التكليف وهو مورد للبراءة ، كما اذا تردد العبد فى ان وجوب ازالة النجاسة عن المسجد مشروط بالحرية ، او انه مطلق يعم الاحرار والعبيد فانه من الشك فى اصل توجه التكليف وهو مورد للبراءة بالاضافة الى العبيد. (واخرى) يشك فى ذلك بعد فعلية التكليف ، كما اذا كان ما يحتمل شرطيته متحققا من الابتداء ثم ارتفع وزال ولأجله شككنا فى بقاء التكليف وارتفاعه ، وهو كما اذا توجه التكليف بشىء الى احد وعلمنا بفعليته فى حقه ، ثم احتملنا سقوطه لامر آخر غير الامتثال ولا ريب فى ان مقتضى الاستصحاب على القول بجريانه فى الشبهات الحكمية عدم سقوط التكليف حينئذ بارتفاع ما يحتمل شرطيته بعد العلم بفعلية التكليف فى حقه ، ومع عدم القول بجريانه فالمرجع هو قاعدة الاشتغال للعلم بشغل الذمة بالتكليف ، والشك فى سقوطه لارتفاع ما يحتمل شرطيته ، مثلا لو سلم شخص على احد فردّ السلام شخص ثالث ، فلا ريب ان المسلم عليه يتردد فى بقاء التكليف عليه بعد ان شغلت ذمته به من اجل قيام الغير به ، ومنشأ هذا الشك ، هو ان المسلم عليه يتردد فى بقاء الواجب لاحتمال اشتراطه ، بعد قيام الغير به ، اولا ، فان كان مشروطا به فالواجب غير باق لعدم بقاء شرطه ، وان

٢١٥

لم يكن مشروطا به فهو باق عليه ، ومرجع ذلك الى الشك فى السقوط ، والاصل هو الاشتغال. وموردنا من قبيل الثانى. لان الشك مفروض فيه بعد تيقن التكليف فالولد الاكبر ـ مثلا ـ يعلم بعد وفاة ابيه ، بانه مأمور بالقضاء عما فى ذمة ابيه ، وقد شك فى سقوط ذلك عنه بعد ان تبرع به شخص آخر ، ومنشأ شكه انه يحتمل ان يكون خطاب الشارع بالقضاء مقيدا بان لا يقوم به الغير ، ويحتمل ان يكون مطلقا غير مقيد بشىء ، ومعه لا بد من الرجوع الى الاشتغال.

(المسألة الثانية) ـ ما لو شك فى سقوط واجب اذا حصل الفعل بدون ارادة واختيار.

وقد ادعى شيخنا الاستاذ ـ قده ـ بان مقتضى الاطلاق فيه عدم السقوط وليس الوجه فيه دعوى انصراف الخطاب الى الاختيار ، اذ الاختيار ليس له دخل فى المادة ولا الهيئة ، اما المواد فلانها تدل على ذات الحدث كالضرب ـ مثلا ـ بلا فرق فى صدوره عن اختيار ، ولا عن اختيار نعم بعض المواد وضعت لصدور الفعل عن اختيار كالتعظيم ، والتجليل ، والهتك ، والسخرية ونحو ذلك. واما الهيئات : فهى مشتركة بين المواد الاختيارية وغيرها. لان بعض المواد كما فى هيئة علم ، وكرم ، وابيض ، واحمر من قبيل الاوصاف ، دون الافعال ، وفى بعضها من الافعال. وهى قد تكون اختيارية كما لو قلنا قام زيد او اكرم زيد عمرا وقد تكون غير اختيارية مثل اسرع النبض ، وتحقق الموت ومع هذا كيف يعقل اخذ الاختيار والارادة فى المادة ، او الهيئة ، بل الوجه فيما ذهب اليه شيخنا الاستاذ ـ قده ـ هو احد وجهين :

(الوجه الاول) ـ ان الغرض من الامر هو بعث العبد نحو الفعل ،

٢١٦

وايجاد داع فى نفسه لتحريك عضلاته نحو المأمور به ، وهذا يستلزم القدرة على المتعلق ، اما غير المقدور من الفعل فمن المستحيل تعلق الطلب به لعدم وجود الغرض المذكور فيه. فالمطلوب فى باب الاوامر انّما هو حصة خاصة تلك هى الفعل المقدور ، وهذه الحصة هى التى تسقط الواجب دون غيرها ، فالاختيار ليس جزءا من مدلول المادة ، او الهيئة ، بل هو من شئون الطلب ، فلو شككنا فى فعل بعد ان امر المولى به ، انه يسقط بمجرد حصوله ، ولو كان بدون اختيار ، ام لا بد من اتيانه اختيارا فمقتضى ما قلناه فى المسألة الاولى عدم السقوط لو صدر بدون اختيار.

(الوجه الثانى) ـ ان الواجب ـ كما يعتبر فيه الاتصاف بالحسن الفعلى الذى هو المصلحة ـ كذلك يعتبر فيه الاتصاف ، بالحسن الفاعلى اعنى به صدوره من الفاعل على وجه حسن يستحق ان يمدح عليه ولا ريب ان الفعل الصادر بلا ارادة واختيار لا يتصف بالحسن الفاعلى ، فلا يكون من افراد الواجب ، كما وان الواجب لا يسقط به. فقضاء لهذين الامرين لو شككنا فى سقوط واجب عند اتيانه بدون ارادة واختيار هو الحكم بعدم السقوط.

وفى كلا هذين الوجهين مناقشة : اما فى الاول ـ فلان الطلب وان سلم امتناع تعلقه بغير المقدور لاستحالة التكليف بذلك إلّا انه ليس بمحال ان يتعلق بالجامع بين المقدور وغيره ، لان الجامع بين الاختيارى ، وغير الاختيارى اختيارى لا محالة ، ولا مانع من اعتباره على ذمة المكلف لان استحالة طلب الامور الخارجة عن الاختيار انما هى من جهة اللغوية ، وعدم الاثر ولا يتاتى هذا فى اعتبار الجامع بين الحصة الاختيارية ، وغيرها ، فان طبيعى الفعل يجمع المقدور وغيره. فان الدليل الذى قضى

٢١٧

بامتناع تعلق الطلب بغير المقدور انما هو العقل ، وهو لا يمنع من تعلقه بالطبيعى ، الذى هو وجود الشىء المتحقق (تارة) فى ضمن فرد مقدور (واخرى) فى ضمن فرد غير مقدور ، وذلك كما لو جىء به بدون ارادة ، واختيار ، فان طبيعى الفعل يتحقق خارجا ، كما لو جىء به عن اختيار وبذلك يحصل الغرض ويسقط الواجب ، واذا كان تعلق التكليف بالجامع بين الاختيارى وغيره امرا ممكنا فى مقام الثبوت فلاجل استكشاف انه متعلق بالجامع المذكور ، او بخصوص الحصة الاختيارية منه لا بد من ملاحظة مقام الاثبات فان كان مطلقا ، وكان المولى فى مقام البيان ، ولم يقم قرينة على التقييد لزم التمسك بالاطلاق واثبات صحة الفعل لو جيء به فى ضمن فرد غير مقدور ، ولا يقاس الحكم هنا على المسألة المتقدمة ، فان الاطلاق هنا متعذر لاستحالة اعتبار الجامع بين فعل المكلف نفسه ، وفعل غيره فى ذمة شخص المكلف. نعم يمكن اعتبار الجامع بين فعل نفسه والاستنابة إلّا أنّك قد عرفت ان مجرد الاستنابة ما لم يتحقق صدور الفعل من الغائب لا يحتمل سقوط التكليف بها ، واما فى محل الكلام فيمكن تصوير جامع بين المقدور وغير المقدور ، يتعلق الطلب به نعم ان الذى يرى التلازم بين امكان الاطلاق ، وامكان التقييد كما هو مذهب شيخنا الاستاذ ـ قده ـ لا يرى امكان تحقق الاطلاق هنا ، لان تقييد الواجب بغير المقدور متعذر فالاطلاق ايضا يكون متعذرا. هذا مع وجود اطلاق لفظى نستكشف به غرض المولى ، اما مع عدمه فالاصل العملى هو البراءة وذلك فان تعلق الوجوب بالجامع معلوم ، وانما الشك فى التكليف بالخصوصية الزائدة ، وهى الفعل المقدور ، ومعه يرجع الى البراءة وعليه فلو جىء بالفعل فى ضمن فرد غير مقدور ، بمعنى

٢١٨

انه صادر عن لا ارادة واختيار ، فهو مسقط للواجب.

واما فى الثانى : فالمناقشة فيه من ناحيتين :

(الناحية الاولى) ـ ان اعتبار الحسن الفاعلى فى الواجب لا دليل عليه ، انما الدليل قام على اعتبار الحسن الفعلى وهو المصلحة فى الفعل ، وهذه هى التى تدعو المولى الى الايجاب سواء كانت عامة ام خاصة.

(الناحية الثانية) ـ اننا لو اعتبرنا الحسن الفاعلى فى الواجب اضافة الى الحسن الفعلى لما كان اتيان الفعل عن ارادة واختيار كافيا فى سقوط الواجب ، بل لا بد من الاتيان به متقربا الى الله سبحانه وتعالى ، والالتزام بهذا المعنى يستلزم انكار الواجبات التوصلية ، لان كل واجب يفتقر الى الحسن الفاعلى ، وهو يحتاج الى قصد القربة ، والالتزام بهذا يتنافى مع تقسيم الواجب الى تعبدى ، وتوصلى ، فى بداية البحث ، وعليه فالمعتبر فى الواجب انما هو الحسن الفعلى دون الفاعلى ، نعم هنا شىء آخر وهو ان مصداق الواجب الذى يوجب سقوط التكليف يقتضى ان يكون غير قبيح ، كما لو كان محرما فان المحرم لا يكون من افراد الواجب ، وهذا غير اشتراط الواجب بالحسن الفاعلى.

فالمتحصل ـ مما تقدم ـ ان الفعل الصادر عن غير ارادة ، واختيار يوجب سقوط الواجب خلافا للمسألة المتقدمة فان الحكم فيها عدم السقوط لو قام به غير المكلف.

(المسألة الثالثة) ـ ما لو شك فى سقوط واجب جىء به فى ضمن فرد محرم ، وهو على قسمين : ـ قسم ـ يكون الماتى به من الواجب مصداقا حقيقيا للمحرم ، كغسل الثوب بالماء المغصوب ـ وقسم ـ لا يكون كذلك ، بل هو ملازم للحرام ، كالصلاة فى الدار المغصوبة بناء على جواز الاجتماع ،

٢١٩

لتعدد المتعلق فى كل من الامر والنهى.

(اما القسم الاول) ـ فالحكم فيه عدم السقوط ، لانه ليس بفرد للواجب ، بل اجنبى عنه لكونه فردا للحرام فلو جاء به المكلف لم تسقط ذمته. وهذا المعنى يتم حتى على قول من لا يعتبر الحسن الفاعلى ، فى الواجب ـ كما هو الصحيح ـ فان الحسن الفعلى منتف هنا والحرام ـ كما عرفت ـ لا يكون مصداقا للواجب.

(واما القسم الثانى) ـ فالحكم فيه هو السقوط ، لانه ليس بمصداق للحرام وان لازمه. نعم لو قلنا باعتبار الحسن الفاعلى فى الواجب كان ما اتى به غير مسقط عن الواجب لعدم صدوره منه حسنا.

(امكان اخذ داعى الامر فى المتعلق)

قد يعلم من الخارج ان الواجب الذى امر المولى به لا يسقط إلّا مع قصد امتثال الامر ، او داعى المحبوبية ، او داعى كون البارى اهلا للعبادة ، وما شاكل ذلك من انحاء الاطاعة ، بحيث لو خلا الفعل عن واحد من هذه الدواعى المذكورة لما اوجب فراغ الذمة. ومن هذا القبيل الصلاة ، والصيام ، والزكاة ، والخمس ، والحج ، ولا اختصاص لهذا بالواجبات التى اشتملت عليها الشريعة الاسلامية ، بل هو موجود فى سائر الشرائع والاديان الأخر ؛ حيث ان لهم افعالا لا بد من اضافتها الى مواليهم.

وقد يعلم من الخارج ـ ايضا ـ ان الواجب المامور به لا يفتقر فى مرحلة سقوطه الى واحد من الدواعى المذكورة ، بل يكفى فى ذلك مجرد

٢٢٠