مصابيح الأصول

علاء الدين بحر العلوم

مصابيح الأصول

المؤلف:

علاء الدين بحر العلوم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز نشر الكتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

شرائط الحكم

والمقصود من الحكم الاعم من التكليفى والوضعى.

وقد ادعى صاحب الكفاية (قده) ان شرائط الحكم هى كل ما كان له الدخل فى عالم اللحاظ ، فان كل حكم تكليفى او وضعى انما هو من الامور الاختيارية ، ولا بدّ من صدوره عن ارادة واختيار ، ومن المبادى تصور الفعل بجميع نواحيه المتقدمة ، والمقارنة ، والمتأخرة ، والتصديق بفائدته بعد الاشتياق اليه ، فشرائط الفعل الاختيارى فى الحقيقة انما هى امور نفسانية ولكنه قد يتسامح ، فيسمى كل واحد من هذه الاطراف التى لتصورها دخل فى حصول الرغبة وارادة الفاعل (شرطا) لاجل دخل لحاظه فى حصول رغبة الفاعل وارادته كان مقارنا له ، او لم يكن.

و (بعبارة اخرى) الشرط للحكم ولغيره من الافعال الاختيارية عبارة عن وجود الاطراف فى عالم اللحاظ المعبر عنه بالوجود العلمى ، واما الوجود الخارجى فهو لا يكون شرطا للفعل الاختيارى ابدا وانما يطلق عليه الشرط لانه طرف لا لحاظ ، واطلاقه عليه مسامحة ، وبذلك دفع الاشكال المتوهم فى المقام فانه على ما ذكره لا يكون الشرط متقدما ، او متأخرا ، بل مقارن دائما ، وانما التقدم والتأخر فى متعلق اللحاظ ، ولا ضير فيه فانه لا يكون بشرط ابدا ، وانما يطلق عليه الشرط مسامحة.

و ـ غير خفى ـ ان حديثه (قده) يتم فى الاحكام الشخصية ـ كالقضايا الخارجية ـ التى يكون انشاء الحكم وفعليته فى آن واحد فيمتنع التفكيك بينهما ، واما الاحكام الكلية ـ كالقضايا الحقيقية ـ فالحديث على اطلاقه غير تام فيها ، وذلك لتغاير مرتبة الجعل والمجعول فيها ، فالمولى اذا

٣٠١

انشأ الحكم فالحكم الانشائى وان وجد فى مرحلة الجعل وله بقاء واستمرار ما لم ينسخ إلّا ان فعلية الحكم تدور مدار حصول موضوعه فى الخارج بتمام قيوده ، ونتيجة ذلك ان انشاء الحكم المعبر عنه بالجعل بما انه فعل اختيارى فشرائطه لا بد وان توجد فى وعاء النفس ولا دخل للوجود الخارجى فيه اصلا ، واما المجعول الذى هو عبارة عن فعلية الحكم فيتوقف وجوده على وجود موضوعه بتمام قيوده خارجا فالاستطاعة ما لم تتحقق فى الخارج لا يكون وجوب الحج فعليا ، والشروط التى وقعت محلا للاشكال من جهة تاخرها عن الحكم زمانا انما هى عائدة الى الحكم الفعلى ، ففى كلامه (قده) خلط بين شرائط الجعل ، وشرائط المجعول.

ومن هنا ذهب شيخنا الاستاذ (قده) الى استحالة الشرط المتأخر بالاضافة الى الحكم نظرا الى ان نسبة الموضوع الى الحكم كنسبة العلة الى معلولها فالموضوع مع قيوده قد اخذ فى مرحلة الجعل مفروض الوجود ففرض فعلية الحكم قبل وجود موضوعه ، او قبل وجود قيد من قيوده كفرض وجود المعلول قبل وجود علته.

والصحيح : هو جواز الشرط المتاخر للحكم بيان ذلك : ان موضوعات الاحكام ليس لها تأثير بالاضافة الى نفس الحكم ، ولكن الفقهاء اصطلحوا على تسميتها فى الاحكام التكليفية ـ بالشروط ـ وفى الاحكام الوضعية ، ـ بالاسباب ـ فيقولون : ان الاستطاعة شرط لوجوب الحج ، ودخول الوقت شرط لوجوب الصلاة ، وبلوغ النصاب شرط لوجوب الزكاة ، والبيع سبب للملكية ، والموت سبب لانتقال المال الى الوارث ، وملاقاة النجس مع الرطوبة سبب لنجاسة الملاقى ، وهكذا ، ولم يظهر لنا وجه لهذه التسمية والتفرقة ، فان الحكم مطلقا امر مجعول للشارع ، والموجود فى البين

٣٠٢

تعليق الاحكام فى مرحلة الانشاء بامور مفروضة الوجود تسمى بالموضوعات وقيودها وترتبط فعلية الحكم بفعلية ما فرض وجوده ولا فرق فى ذلك بين الحكم التكليفى والوضعى.

ثم انه لا يلزم ان يكون ما فرض وجوده مقارنا لفعلية الحكم دائما ، فقد يفرض وجود شىء خارجا وتتأخر فعلية الحكم عن ذلك ، او يعكس الامر فيصير الحكم فعليا وهو مشروط بفرض وجود شىء متاخر ـ مثلا ـ و (بعبارة اخرى) المجعول فى القضايا الحقيقية حصة خاصة من الحكم مقيدة بامر مفروض الوجود وهذا القيد (تارة) يكون كذلك بوجوده متأخرا ـ مثل ـ يجب اكرام زيد فعلا بشرط مجىء عمر وغدا و ـ اخرى ـ متقدما كما لو قيل يجب اكرام زيد غدا بشرط مجىء عمرو هذا اليوم وثالثة ـ مقارنا كقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ،) وكما يمكن تعليق الحكم بامر مقارن ، كذلك يمكن تعليقه بامر سابق عليه ، او متاخر عنه ، فاذا فرض تعليقه بامر متاخر عن وجود الحكم فلا محالة تكون الفعلية قبل وجوده فى الخارج وإلّا لكانت الفعلية على خلاف الانشاء وهو غير معقول ، والمثال الواضح للشرط المتاخر فى العرفيات ، الحمامات المتعارفة فى زماننا فعلا ، فان صاحب الحمام بعد ان كان مالكا لشئون تصرفات حمامه يرضى فى قرارة نفسه فعلا بالاستحمام لكل فرد على شرط ان يدفع المستحم مبلغ الاجرة عند الخروج ، فالرضا من المالك فعلى ، والشرط متاخر ، وان منع شيخنا الاستاذ (قده) عن تاخر الشرط مبنى على ان اخذ شىء مفروض الوجود فى مرحلة الجعل والانشاء يستلزم تحققه فى الخارج حين فعلية الحكم لتفرع الفعلية على تحققه على الفرض ، ولكنك قد عرفت ان المفروض فى مقام الجعل كما

٣٠٣

يمكن ان يكون هو الوجود المقارن ، او الوجود المتقدم ، يمكن ان يكون هو الوجود المتاخر فيجعل حكم على موضوع مقيدا بفرض امر متاخر عنه وجودا وهذا لا استحالة فيه بوجه.

فاتضح ان شرائط الحكم عبارة عن قيود الموضوع المأخوذة على نحو فرض الوجود متقدما على فعلية الحكم ، او متأخرا عنه ، او مقارنا له ، وليس لها اى تاثير فى نفس الحكم اصلا وتسميتها بالشروط ، وبالاسباب ، مجرد اصطلاح لا يترتب عليه اثر فى محل الكلام ، هذا كله فى مقام الثبوت.

واما بحسب مقام الاثبات ، فظواهر الادلة تقتضى مقارنة الحكم للقيود المأخوذة فى موضوعه ، ولا بد فى الالتزام بتاخر الشرط من قيام دليل يدل عليه ، ومجرد امكان تأخره لا يكفى فى وقوعه ما لم يدل عليه دليل ، وقد دل الدليل على وقوعه فى موارد خاصة.

منها ـ الاجازة والرضا فى العقد الفضولى فى البيع والاجارة وغيرهما من العقود فانهما من قبيل القيود المتاخرة بيان ذلك : ان العقد الفضولى حينما يتحقق لا تكون ادلة حلية البيع ، ولا ادلة الوفاء بالعقد شاملة له ، لان العقد لم يكن منتسبا الى المالك على الفرض ولا معنى لحليته ونفوذه لغير المالك ، لكنه بعد ما تعلق به الاجازة يصح انتسابه الى المالك من حين وقوعه ، اذ المفروض ان الرضا قد تعلق به من حين صدوره فانه من الامور التعليقية فيمكن ان يتعلق الرضا الفعلى بامر سابق كما يمكن ان يتعلق بامر مقارن وحيث فرض ان المنشأ بالعقد الملكية حين صدوره وقد رضى به المالك والشارع قد امضى ما رضيه بمقتضى ادلة حلية البيع ووجوب الوفاء بالعقد ، فيحكم بالملكية من حين صدور

٣٠٤

العقد للمشترى ، فالقول بالكشف ، والالتزام بتاخر الشرط (وهو رضا المالك) عن المشروط وهو (الملكية) تقتضيه ادلة نفوذ البيع وحليته وكذلك الحال فى سائر القيود.

ومنها ـ الامر بالمركب الذى لا تحصل اجزائه بالدفعة الواحدة بل بالتدريج فان فعلية الوجوب فيها مشروطة بكون المكلف واجدا لشرائط التكليف الى آخر العمل فلو انكشف عدم القدرة على الجزء الاخير مثلا ظهر عدم التكليف من البداية وهذا من الشرط المتاخر.

فظهر من جميع ما تقدم امكان الشرط المتاخر فى الحكم ، وفى المامور به من دون ان يستلزم ذلك اى محذور عقلى ، نعم فى مقام الاثبات لا بدّ من اقامة الدليل عليه وإلّا فمجرد الامكان لا يكفى فى الحكم بالوقوع.

٣٠٥

الواجب المطلق والمشروط

ليس للاصوليين فى تعريف المطلق والمشروط اصطلاح خاص بل المراد منهما هو نفس المعنى اللغوى كما ذكره صاحب الكفاية (قده) فمعنى الاطلاق هو الارسال ، ومعنى التقييد جعل شىء ذا قيد قبال ارساله ، ومنه طلاق المرأة فانه بمعنى ارسالها عن قيد الزوجية.

وهذان الامران قد يتصف الوجوب بهما ، كما فى اتصاف وجوب الحج ـ مثلا ـ بكونه مقيدا بالاستطاعة وغير مقيد بالزوال ، وقد يتصف بهما الواجب كاتصاف الصلاة بتقييدها بالطهارة وعدم تقييدها بالاحرام ـ مثلا ـ ومورد النزاع هو الاول دون الثانى وهو الذى حرر هذا البحث له فنسبة الاتصاف فى عنوان المسألة هنا الى الواجب لا تخلو من مسامحة.

والاطلاق والتقييد امران اضافيان ، فقد يكون شىء بالاضافة الى شىء آخر مقيدا به ، وبالاضافة الى آخر غير مقيد به ، فوجوب الحج ـ مثلا ـ مقيد بالاستطاعة ، ولكنه غير مقيد بالزوال ، بخلاف الصلاة فانها على العكس وهذا دليل على ان الاطلاق والتقييد امران اضافيان

ثم ان نزاعا وقع بين الشيخ (قده) وغيره وهو ان القيود المأخوذة فى لسان الادلة هل تعود الى مدلول الهيئة ، او الى نفس المادة ، وقد نسب المقرر الى الشيخ (ره) دعوى استحالة رجوع القيد الى الهيئة ، ولزوم رجوعه الى المادة ، ثم افاد (ره) انه لو لم يستحل ذلك فالقرينة الخاصة

٣٠٦

تلزم بالرجوع الى المادة وبذلك لا بد من رفع اليد عما تقتضيه القواعد العربية من رجوع القيد الى مفاد الهيئة ، والذى يظهر من مكاسب الشيخ (ره) فى باب التعليق خلاف ما نسب اليه حيث ادعى (ره) جواز التعليق فى البيع ، إلّا ان الاجماع قام على بطلان العقد مع التعليق فى المنشأ ، وهذا امر مخالف لما نقل المقرر عنه ، وكيف كان ففى المقام جهتان ينبغى البحث عنهما.

الجهة الاولى ـ فى دعوى استحالة رجوع القيد الى مفاد الهيئة.

الجهة الثانية ـ فى لزوم رجوع القيد الى المادة.

استحالة رجوع القيد الى مفاد الهيئة

اما البحث عن الجهة الاولى ـ فيعود الى دعاوى ثلاث.

الدعوى الاولى ـ ما ذكره صاحب الكفاية (قده) من ان مفاد الهيئة معنى حرفى ، والمعانى الحرفية جزئية ، ولا يعقل الاطلاق والتقييد فى المعانى الجزئية لاستحالة فرض صدقها على كثيرين.

وغير خفى ـ اولا ـ انه لا دليل على كون المعانى الحرفية جزئية فانا قد ذكرنا ـ فى مبحث المعنى الحرفى ـ ان الحروف وضعت لتضييق المعانى الاسمية ، ولا مانع من ان يكون المعنى بعد تضيقه قابلا للصدق على كثيرين ، وذلك كما لو كان احد الطرفين كليا ـ مثل ـ (سر من البصرة الى الكوفة) فان السير كما كان قبل التضييق كليا صالحا للانطباق على كثيرين ؛ كذلك بعد تضييقه ولا ريب ان المعنى الحرفى يكون كليا بتبعه.

ثانيا ـ ان للتقييد معنيين (احدهما) التضييق ويقابله الاطلاق بمعنى التوسعة (ثانيهما) التعليق ويقابله الاطلاق بمعنى التنجيز ، والذى

٣٠٧

يستحيل اتصاف الجزئى بالتقييد انما هو بالمعنى الاول دون الثانى فان اتصاف الجزئى بالمعنى الثانى لا محذور فيه اذ كما يمكن تعليق وجود الكلى بشىء يمكن تعليق الجزئى به.

الدعوى الثانية ـ ما ذكره شيخنا الاستاذ (قده) من ان الهيئات التى هى معانى حرفية وان كانت كلية إلّا انها ملحوظة باللحاظ الآلي ولا ريب ان الاطلاق والتقييد من شئون المعانى الملحوظة باللحاظ الاستقلالى ولهذا امتنع رجوع القيد الى مفاد الهيئة.

وغير خفى ـ اولا ـ انه ليس من المسلّم دائما ان يكون الحرف ملحوظا آليا وطريقا للغير ، فهناك بعض الموارد يلحظ الحرف فيها بلحاظ استقلالى ويكون منظورا اليه بنفسه ، وذلك كما لو علمنا ان زيدا حلّ فى بلد ، ونعلم انه سكن فى مكان ، ولكنه لا نعلم المكان بخصوصه ، فنسأل عن تلك الخصوصية التى هى مدلول الحرف فنقول : (سكن زيد فى اى مكان) ولا ريب ان المنظور اليه حينئذ نفس الخصوصية مع العلم ببقية جهات القضية.

ثانيا ـ ان كون المعنى الحرفى لا بد وان يلحظ باللحاظ الآلي انما يوجب المنع عن تقييده حين لحاظه ، واما اذا قيد المعنى ـ اولا ـ ثم لوحظ المقيد آليا فى مقام الاستعمال فلا محذور فيه.

الدعوى الثالثة ـ ان رجوع القيد الى الهيئة غير معقول لانه مستلزم للتفكيك بين الايجاب والوجوب باعتبار ان الايجاب فعلى والوجوب مشروط بامر متاخر ، ومرجع هذا الى التفكيك بين الايجاد والوجود ، وهو بديهى البطلان ، بيان ذلك : ان ايجاب المولى انما يتحقق بانشائه ، فاذا تحقق الايجاب وتحقق معه الوجوب بنفس الانشاء فقد رجع القيد

٣٠٨

الى المادة وصار الوجوب فعليا كالايجاب وان كان الواجب امرا استقباليا ، واما اذا لم نقل بذلك ، والتزمنا برجوع القيد الى الهيئة لزم تحقق الايجاب فعلا دون الوجوب حيث انه يتحقق عند تحقق قيده وشرطه ، ولازم هذا انفكاك الايجاب عن الوجوب لعدم انشاء آخر كما هو الفرض ، ومرجعه الى تخلف الوجود عن الايجاد وهو محال فان كل موجود اذا وجد فى الخارج فبملاحظة فاعله ايجاد وبملاحظة قابله وجود.

و (بعبارة اخرى) لا مناص من الالتزام باحد امرين : اما كون القيد راجعا الى المادة فالوجوب فعلى ، او كونه راجعا الى الهيئة فيتأخر الوجوب عن الايجاب ، وحيث لا سبيل الى الثانى تعين الاول بالضرورة.

واجاب عن هذا صاحب الكفاية (قده) بما لفظه : المنشأ اذا كان هو الطلب على تقدير حصوله فلا بد ان لا يكون قبل حصوله طلب وبعث وإلّا لتخلف عن انشائه.

و (فيه) انه لو امكن انشاء امر معلق على تقدير فما افاده (ره) من لزوم كون المنشا تقديريا وغير موجود حين الانشاء تام ، إلّا ان الحديث فى امكانه وعدمه ، وهذا نظير ما تقدم فى الشرط المتأخر من ان القول بان الشرط لم يتاخر بل المتاخر بوصف تاخره صار شرطا فلو كان متقدما كان خلفا وقد مرّ انه لا يصحح المطلب.

والصحيح ان يقال : ان منشأ الاشكال هو توهم ان الانشاء ايجاد المعنى باللفظ فى نفس الامر ، فالجملة الانشائية انما هى آلة لايجاد معانيها فى نفس الامر و ـ حينئذ ـ يتوجه الاشكال المزبور ـ كيف يتاخر الوجود عن الايجاد ـ ولكنك : قد عرفت فى محله ـ فى باب الخبر والانشاء ـ بان هذا المبنى فاسد ولا يمكن المساعدة عليه اذ ليس للفظ الا الحكاية والابراز

٣٠٩

ولا يكون اللفظ آلة لايجاد اىّ معنى اصلا ، غاية الامر ان المبرز قد يكون قصد الحكاية فيطلق عليه الاخبار ، وقد يكون اعتبار شىء فيطلق عليه الانشاء.

ثم ان اعتبر على ذمة المكلف امرا فعليا فالمعتبر فعلى ، وان اعتبر امرا مقيدا بشىء متاخر فالمعتبر استقبالى او تقديرى ، فعلى هذا ان اريد من الايجاب ابراز ما اعتبر فى عالم الاعتبار النفسانى فلا اشكال فى فعلية الابراز ، والمبرز ، والبروز ، ولا يكون شىء منها معلقا على امر متاخر ، وان اريد به نفس ذلك الاعتبار النفسانى فيما انه من الامور النفسانية ذات الاضافة مثل العلم ، والشوق ، ونحوهما ، فلا محذور فى تعلقه بامر متاخر اذ كما يمكن تعلق العلم بامر متاخر ، كذلك يمكن تعلق الاعتبار بامر متاخر ، فلا فرق بين ان يكون المعلوم متاخرا عن العلم ـ مثل ـ قيام زيد غدا ، وبين ان يكون المعتبر متأخرا عن الاعتبار ـ كوجوب قيام زيد غدا ـ فالوجوب ـ حينئذ ـ استقبالى والتفكيك انما هو بين الاعتبار والمعتبر ولا محذور فيه قطعا.

ويشهد لما ذكرنا باب الوصية التمليكية ، فلو قال الموصى ـ هذه الدار لزيد بعد وفاتى ـ فلا اشكال فى تحقق الملكية للموصى له بعد الوفاة مع ان الانشاء فعلى ، وليس هذا إلّا انه قد اعتبر الموصى فعلا الملكية للموصى له بعد الوفاة ، واما احتمال كون الملكية فعلية ولكن المملوك وهو الدار مقيدة بما بعد الوفاة فهو بعيد غايته ، بل لا يمكن القول به لان الجوهر غير قابل للتقييد بالزمان ، نعم يمكن هذا فى الاعراض فيصح انشاء الملكية الفعلية للمنفعة المتاخرة كما فى الاجارة ، وعلى الجملة ان لازم ما ذكر من استحالة رجوع القيد الى الهيئة رجوع القيد فى

٣١٠

باب الوصية الى الموصى به وهذا لا يمكن الالتزام به ولذا لم يلتزم به احد اصلا.

لزوم عود القيد الى المادة

واما البحث عن الجهة الثانية :

فقد استدل الشيخ (قده) على لزوم عود القيد الى المادة بما حاصله : ان كل انسان اذا توجه نحو شىء فاما ان يطلبه اولا ، لا كلام لنا على الثانى. وعلى الاول ، فاما ان يطلبه مطلقا ، او مقيدا بنحو خاص ، ولا كلام لنا على الاول ، لعدم وجود قيد يتنازع فى رجوعه الى احد الامرين ، وعلى الثانى : فاما ان يكون القيد اختياريا ، او غير اختيارى كزوال الشمس بالاضافة الى وجوب صلاة الظهرين ، وعلى الاول ، فقد يكون القيد الاختيارى داخلا تحت الطلب كالطهارة بالاضافة الى الصلاة ، وقد يكون خارجا عنه اخذ مفروض الوجود كالاستطاعة بالاضافة الى الحج ، وعلى جميع التقادير يكون الطلب فعليا والمطلوب مقيدا وهذا امر وجدانى لا مناقشة فيه ، ولهذه الجهة كان القيد راجعا الى المادة دون الهيئة.

وغير خفى : انه لا بدّ لنا من معرفة ما يريده الشيخ (قده) من الطلب الذى اعتبره سليما من تعلق القيود ، فان اريد به الشوق النفسانى اى الشوق المؤكد فما جاء به متين جدا ، لان كل انسان اذا التفت نحو شىء وبدا له شوقه ورغبته ، فالمشتاق اليه قد يكون مطلقا ، وقد يكون مقيدا ، والقيد قد يصير اختياريا ، وقد لا يكون كذلك ، وما هو اختيارى قد يكون داخلا تحت الطلب ، وقد يكون خارجا عنه ، الى ما شاكل هذه التقسيمات المذكورة التى هى فى الحقيقة عائدة الى نفس المشتاق

٣١١

اليه دون نفس الشوق والرغبة فانهما فعليان ، إلّا ان البحث فى الحقيقة راجع الى الحكم المجعول ، وهو الوجوب ، والشوق ، ليس من سنخ الاحكام الشرعية وانما هو من الصفات النفسية فهو خارج عن البحث.

وان اريد بالطلب ـ الارادة التى تحصل من الشوق ويعبّر عنها بالاختيار فنقول : لا ريب ان الاختيار من باب الافتعال ، ومعناه اعمال القدرة فى سبيل تحصيل الخير للنفس من المصلحة فهو فعل صادر من القادر لا من صفاته ، ولهذا كانت الارادة فى الله ـ سبحانه وتعالى ـ حادثة وليست بقديمة على ما نطقت به الروايات عن المعصومين عليهم‌السلام والدليل عليه صحة اتصاف ذاته المقدسة بوجودها ، وبعدمها ، فيقال ان الله تعالى اراد هذا ولم يرد ذاك ولا يقال ، انه عالم بهذا وليس عالما بذاك ، لان علمه ازلى قديم ، واذا كان معنى الارادة اعمال القدرة ، فلا ريب ان ذلك لا يتم إلّا فى الموارد المقدورة التى يستطيع العبد ان يعمل قدرته فيها ، وبديهى ان فعل الغير ليس بمقدور للامر ، وما هو خارج عن نظام القدرة لا يصلح تعلق الارادة به ، بل ربما يستحيل تعلق الارادة بفعل الشخص نفسه اذا كان متاخرا ـ كارادة الصوم غدا ـ واذا استحال تعلق الارادة بما هو خارج عن المقدور فكيف يصح التقسيم بالاضافة الى المراد.

والحاصل : انه لا يمكن الالتزام بوجود ارادة متعلقة بفعل الغير عند طلب شىء منه ، فان الآمر اما ان يكون هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ او غيره ، اما الاول ، فلان تعلق ارادة البارى بفعل الغير وان كان ممكنا لعموم قدرته إلّا انه حيث ينافى اختيار العبد فان تفكيك ارادة الله تعالى عن مراده غير معقول ، فلا معنى لتوجه التكليف اليه فانه متوقف على اختيار المكلف ، واما على الثانى : فمن جهة ان الانسان غير قادر على

٣١٢

اصدار الفعل عن غيره فانه لا معنى لارادة صدور الفعل عنه لما عرفت من ان معناها اعمال القدرة.

وقد ظهر من هذا ان تقسيم الارادة الى التكوينية والتشريعية باطل.

وان اريد بالطلب : اعتبار شىء على ذمة المكلف فان حقيقة الطلب هو التصدى نحو حصول الشىء والاعتبار المذكور مصداق للتصدى نظرا الى ان المولى اذا اشتاق فعل الغير فلا بد من ايجاد الداعى له والداعى ليس إلّا الامر ، ولهذا الامر جهتان ـ الاولى ـ الاعتبار النفسانى ، وهو الذى لا يقبل التعليق اصلا ويمنع من رجوع القيد اليه ـ الثانية ـ المعتبر وهو كون الشىء على ذمة المكلف ونعبّر عن هذا بالوجوب (تارة) ، وبالالزام (اخرى) ولا محذور فى تعليقه على شىء بل لا مناص من الالتزام به ، ولتحقيق هذا نقول : ان الفعل الذى هو متعلق الوجوب على قسمين.

القسم الاول ـ ما اذا كان الفعل متصفا بالحسن فعلا من جهة وجود جميع ما يعتبر فى اتصافه به و ـ حينئذ ـ يكون الوجوب لا محالة فعليا وغير مقيد بشىء.

الثانى ـ ما اذا لم يكن الفعل متصفا بالحسن فعلا لعدم وجود ما هو دخيل فى ملاك الاتصاف بالمصلحة فلا محالة يكون الوجوب معه فعليا ، بل يكون تقديريا على فرض تحقق ما له الدخل فى الملاك ، فان جعل الوجوب فعليا مع كون المتعلق غير واجد للملاك فعلا لغو صرف يرجع امره الى عدم تبعية الحكم للملاك ـ مثلا ـ اذا التفت المولى الى شرب الماء فقد يكون عطشه فعليا فيأمر عبده باحضار الماء ـ بمعنى أنه يعتبر على ذمة عبده احضار الماء فعلا فيكون الوجوب فعليا ، وقد يكون عطشه فيما بعد

٣١٣

ذلك فلا محالة يعتبر على ذمة عبده احضار الماء فى ظرف عطشه فالاعتبار فعلى ، إلّا ان المعتبر وهو كون احضار الماء على ذمة العبد امر متاخر فانه على تقدير حصول العطش والمفروض انه غير حاصل بعد وفى مثل هذا الفرض لو قدر للمولى ان يعتبر فعلية اشتغال ذمة العبد باحضار الماء فى ظرف العطش ليرجع القيد الى المادة لا الى نفس الوجوب ، والمعتبر ، لكان هذا لغوا محضا.

ويشهد على ما ندعيه ـ من رجوع القيد الى الهيئة فى الجمل الانشائية ـ ظهور القضايا الشرطية عرفا فى تعليق الجزاء على الشرط مثل ـ ان طلعت الشمس فالنهار موجود ـ وان استطعت فحج ـ فان المستفاد عرفا من الجملة الاولى هو تعليق وجود النهار على طلوع الشمس ؛ كما ان المستفاد من الجملة الثانية تعليق وجوب الحج على نفس الاستطاعة دون تعليق نفس الحج عليها ، وهذا شاهد على ما نحن بصدد اثباته.

فالمتحصل مما تقدم : ان المولى يستطيع ان يعتبر فعلا وجوب شىء على تقدير حصول قيد من القيود فيكون الاعتبار فعليا والمعتبر امر متاخر ، ولا يفرق فى هذا المعنى بين الالتزام بتبعية الاحكام للمصالح فى انفسها ، او فى متعلقاتها ، اما على الاول فواضح ، اذ ربما لا تكون هناك مصلحة تدعو الى جعل الحكم وايجاده فعلا وانما المصلحة تحدث فى وقت متاخر ، فالمولى يعتبر الآن وجوب شىء فى فرض اتصافه بالمصلحة ، واما بناء على تبعيتها لمتعلقاتها بان تكون المصلحة فى نفس الفعل دون الحكم فالامر واضح ايضا ، لا لما ذكر فى الكفاية من فرض وجود مانع من الانشاء فعلا وان كان المقتضى حاصلا ، بل لاجل عدم المقتضى هنا

٣١٤

اذ بعد ان فرضنا ان الملاك غير موجود لفرض ان القيود التى توجب اتصاف الفعل بالمصلحة غير موجودة فجعل الحكم فعلا لغو صرف ، نعم لو علم الآمر ان الامتثال حين اتصاف الفعل بالمصلحة ليس بممكن لوجب عليه الامر من الآن ليتهيأ المكلف لامتثاله وذلك كما لو علم من نفسه بانه سيعطش بعد ساعة وعلم ان العبد لا يمكنه الاتيان بالماء فى ذلك الوقت لعذر من الاعذار فانه يجب عليه ان يامره فعلا ليحضر الماء قبل عروض العطش عليه إلّا ان هذه الصورة خارجة عما نحن فيه.

تردد القيد فى رجوعه الى الهيئة او المادة

ان علم من الخارج ان القيد راجع الى المادة دون الهيئة وجب تحصيله لفعلية الوجوب فى المقيد ، وان علم برجوعه الى الهيئة فلا يجب تحصيله لعدم فعلية الوجوب فيه بل تتوقف فعليته على تقدير حصول القيد ، وان تردد فلا يدرى انه راجع الى الهيئة لينتفى الوجوب ، او الى المادة ليكون فعليا ، فهنا مورد الكلام.

وقبل الشروع فى ذلك ، يجدر بنا ان نبين ان مورد الكلام انما هو فى القيود الاختيارية التى يتمكن المكلف من الاتيان بها ، واما القيود الخارجة عن اختيار المكلف فلا بد من ارجاعها الى الهيئة لانها لا بد ان تؤخذ مفروضة الوجود ، ومعه لا يعقل رجوعها الى المادة لاستلزام ذلك وجوب تحصيلها ، والمفروض عدم القدرة عليها ، ولذا قلنا : برجوعها الى الوجوب لا الواجب ولا كلام فى ذلك.

اذا عرفت هذا فنقول : لو حصل لنا الشك فى رجوع القيد الى الهيئة ، او المادة ، فهل هناك اصل لفظى يكون مرجعا فى تعيين احدهما.

٣١٥

اما الشيخ الانصارى (قده) فهو فى غنى عن هذا البحث لما سبق من رأيه فى القيود من انها دائما ترجع الى المادة دون الهيئة ، باعتبار ان مفاد الهيئة معنى حرفى وهو غير قابل للتقييد ومع هذا الفرض لا مجال للتردد ليحتاج لرفعه الى التمسك بدليل لفظى ، او اصل عملى ، ولكنه مع ذلك تعرض لهذه المسألة فذكر مضافا الى دليله على استحالة رجوع القيد الى الهيئة ـ دليلا آخر على ان مقتضى الاصل اللفظى ارجاع القيد الى المادة دون الهيئة ، ومن الواضح ان هذا لا يتم إلّا مع التنزل عما افاده (اولا) من استحالة رجوع القيد الى الهيئة اذ مع الاستحالة لا مجال للاستظهار ، اللهم إلّا ان يخصص فرض هذه المسألة فيما اذا كان الوجوب مستفادا من جملة اسمية فانه حينئذ لا اشكال فى امكان رجوع القيد اليه.

وكيف كان فقد افاد الشيخ (قده) وجهين فى تقريب مختاره.

الوجه الاول :

ان دليل الوجوب مشتمل على اطلاقين (احدهما) اطلاق الهيئة وهو شمولى ومعناه الوجوب ـ مثلا ـ على كل تقدير سواء حصل القيد ام لم يحصل فاذا فرض تقييد الهيئة فلا بد من رفع اليد عن الاطلاق الشمولى و (ثانيهما) اطلاق المادة وهو بدلى ومعناه طلب فرد ما من تلك الطبيعة التى تعلق بها الحكم على سبيل البدل ، اما هذا ، او ذاك ، فاذا فرض تقييدها فلا بد من رفع اليد عن الاطلاق البدلى ، ومتى تردد امر قيد فى الرجوع الى احدهما لزم التصرف فى المادة دون الهيئة ، لان الاحتفاظ ببقاء الاطلاق الشمولى خير من الاحتفاظ بالاطلاق البدلى.

ولا يخفى ـ ان تقريبه هذا منحل الى دعويين ، (اولاهما) دعوى كبروية مفادها تقديم الاطلاق الشمولى على الاطلاق البدلى و (ثانيهما)

٣١٦

دعوى ان هذه المسألة من صغريات تلك الكبرى الكلية.

وقد ناقش صاحب الكفاية (قده) فى الكبرى فمنع تقديم الاطلاق الشمولى على البدلى باعتبار تساويهما فى الدلالة لان دلالة كل منهما بالاطلاق وقد استفيد من مقدمات الحكمة ، ومجرد ان الاطلاق شمولى فى احدهما لا يوجب تقدمه على الاطلاق الآخر ، اذ المدار على الاظهرية فى الدلالة والمفروض تساويهما من هذه الجهة فلا وجه للتقديم اصلا ، نعم لو كانت الدلالة فى احدهما مستفادة من مقدمات الحكمة ، وفى الآخر بالوضع كالعموم كانت الثانية مقدمة على الاولى لانها بيان ؛ ومن مقدمات الحكمة عدم البيان ، وقد ذكر الشيخ (قده) ذلك فى (مبحث التعادل والتراجيح) فى تعارض الاطلاق ، والعموم ، ما نصه «لا اشكال فى ترجيح التقييد على ما حققه ـ سلطان العلماء ـ من كونه حقيقة لان الحكم بالاطلاق من حيث عدم البيان ، والعام بيان ، فعدم البيان للتقييد جزء من مقتضى الاطلاق ، والبيان للتخصيص مانع عن اقتضاء العام للعموم فاذا دفعنا المانع عن العموم بالاصل والمفروض وجود المقتضى له ، ثبت بيان التقييد وارتفع المقتضى للاطلاق ، فالمطلق دليل تعليقى ، والعام دليل تنجيزى» انتهى.

اما شيخنا الاستاذ (قده) فقد ارتضى مقالة الشيخ الانصارى (قده) من تقديم الاطلاق الشمولى على البدلى ، وخالف بذلك صاحب الكفاية (قده) مستدلا على ذلك بامور ثلاثة.

الامر الاول ـ ان الاطلاق الشمولى عبارة عن انحلال الحكم المعلق على الطبيعة المأخوذة على نحو مطلق الوجود فيتعدد بتعدد الافراد ، او الاحوال ، مثل ـ لا تكرم فاسقا ـ بينما نرى ان الاطلاق البدلى

٣١٧

عن حكم واحد صالح للانطباق على كل فرد من افراد الطبيعة التى اخذت على نحو صرف الوجود مثل ـ اكرم العالم ـ ولا ريب ان رفع اليد عن مفاد الاطلاق البدلى مع المحافظة على الاطلاق الشمولى يوجب تضييقا من ناحية الانطباق والصلاحية التى كان المكلف محولا بها دون تصرف فى الحكم ، بخلاف التصرف فى الاطلاق الشمولى فانه يوجب رفع اليد عن الحكم فى بعض الافراد ، ومتى دار الامر بين التصرف فى رفع اليد عن الحكم ، والتصرف فى التوسعة والضيق من جهة الانطباق مع المحافظة على الحكم ، كان الثانى اولى ، لان ابقاء الحكم خير من رفعه ، ولهذا يقدم الاطلاق الشمولى على البدلى.

وغير خفى : اولا ، ان ما افاده لا يساعد الدليل عليه اذ لو سلّم المعنى المذكور فتقديم احدهما على الآخر لا يكون إلّا بالجمع العرفى من جهة اقوائية الدلالة واظهريتها ، وما ذكر فى المقام اقرب الى الجموع التبرعية منه الى الجمع العرفى.

وثانيا ـ ان الاطلاق البدلى وان كان بمقتضى دلالته المطابقية يفيد ثبوت الحكم لواحد من افراد الطبيعة على سبيل البدلى ، إلّا انه بمقتضى دلالته الالتزامية يفيد الحكم الترخيصى من ناحية انطباق تلك الطبيعة على اى فرد من افرادها وان المكلف مخير فى تطبيقها على ما يشاء ، ولذا قلنا ان التخيير فيه شرعى وليس بعقلى فكان الاطلاق البدلى من هذه الجهة كالاطلاق الشمولى من ناحية تعدد الحكم ، وانحلاله بانحلال افراد متعلقه ، غاية الامر ان الاطلاق الشمولى افاد الحكم الوجوبى الالزامى المتعدد بتعدد افراد متعلقه مطابقة ، والاطلاق البدلى افاد الحكم الترخيصى كذلك التزاما ، والاختلاف بينهما فى نوع الدلالة لا يكون

٣١٨

موجبا للفرق ، فهما اذن متكافئان ومتعارضان.

الامر الثانى :

ان الاطلاق فى كل من الشمولى ، والبدلى ، وان توقف على مقدمات الحكمة إلّا ان الاطلاق البدلى يزيد على الاطلاق الشمولى بمقدمة واحدة ، وتلك احراز تساوى الافراد التى ينطبق عليها العنوان فى الوفاء بالغرض بلا تفاوت بينها اصلا ، فلو تفاوت وفاء بعضها عن بعض امتنع التمسك بالاطلاق ، بينما الاطلاق الشمولى غنى عن هذه المقدمة فان اطلاقه يتم حتى مع العلم بتفاوت ملاك بعض الافراد عن بعض شدة ، وضعفا ، كالكذب على الله ، ورسوله ، فانه اشد من الكذب على سائر المكلفين من البشر.

وكيف كان فهذه المقدمة التى احتاجها الاطلاق البدلى لا بد من احرازها بدليل خارجى ، ومتى كان الاطلاق الشمولى موجودا كان صالحا لبيان التعيين فى بعض الافراد ، واشدية الملاك فيها دون الآخر ، ومعه لا ينعقد الاطلاق البدلى بالضرورة.

وغير خفى ـ ان جهة الاحراز فى الوفاء بالغرض ـ ثبوتا ـ لا تستدعى اثباتها فى الخارج بل نفس بيان المولى واطلاقه يدل عليه اذ بعد ان فرضنا ان الاشدية لو كانت حاصلة فى بعض الافراد لزم عليه بيانها وحيث اطلق ولا بيان يعلم ان جميع الافراد موافقة لغرضه ووافية به.

ويؤيده : ان المكلف لو تردد وتحير فى صلاحية فرد من حيث الوفاء بالغرض تمسك بالاطلاق واثبت بذلك وفاء الجميع والصلاحية فى مقام الامتثال ، وبناء عليه كلاهما متعارضان.

٣١٩

الامر الثالث :

ان حجية الاطلاق البدلى بالاضافة الى جميع الافراد تتوقف على ان لا يكون هناك مانع فى بعض الافراد من حيث شمول الاطلاق له ، والاطلاق الشمولى فى مورد المعارضة صالح لان يكون مانعا عن حجية ذلك الاطلاق البدلى فى الانطباق على ذلك الفرد فلو توقف عدم صلاحيته للمانعية على وجود الاطلاق البدلى وشموله للفرد لزم الدور.

وغير خفى ـ ان الجواب عنه ظهر من مطاوى الحديث السابق فان حجية الاطلاق البدلى فى نفسه وكشفه عن وفاء جميع الافراد بالغرض لا تتوقف على دليل خارجى بل نفس البيان الذى دل على وجوب اكرام العالم ـ مثلا ـ باطلاقه يثبت هذا المعنى وبناء عليه فكلا الاطلاقين متكافئان ويقع التعارض بينهما.

ثم لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا تقديم الاطلاق الشمولى على الاطلاق البدلى والتزمنا بالكبرى الكلية ، فالنقاش يقع فى الامر الثانى ـ اعنى الصغرى ـ وذلك فان القيد الذى تردد امره فى الرجوع الى الهيئة ، او المادة ، ان كان متصلا فلا ينعقد ظهور اطلاق ذلك الدليل لاحتفافه بما يصلح للقرينية ومعه يكون الدليل مجملا ـ وان كان منفصلا ـ بان جاء بعد تمامية ظهور كلا الدليلين فى الاطلاق ، فلا يتقدم احد الدليلين على الآخر وذلك فان السبب الذى يدعو الى تقديم الاقوى من الدليلين على الآخر هو وقوع المعارضة والتنافى فى نفس الدليلين ذاتا فيعلم بخطإ احدهما من حيث كشف كل منهما عن الحكم الواقعى ولا يمكن الجمع بينهما إلّا بطريقة تقديم الاقوى منهما ظهورا على الآخر ، واما اذا لم يكن التنافى حاصلا بين نفس الدليلين كما نحن فيه ، بل استفيد ذلك من

٣٢٠