مصابيح الأصول

علاء الدين بحر العلوم

مصابيح الأصول

المؤلف:

علاء الدين بحر العلوم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز نشر الكتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

إلّا الحج لخصوص الصحيحة منها ـ ومع ذلك فقد تمسك باطلاق ادلتها ـ

ولبيان كل من المقامين ، وتحقيقه نقول :

المعاملات : امور ليست من المخترعات الشرعية ، وانما هى مفاهيم ثبتت لدى العرف ، واهل المحاورة. قبل الشريعة الاسلامية. وقد جاء المشرّع الاعظم فاطلع عليها ، ولم يصدر منه تصرف اساسى فى تلك المفاهيم. فكان كغيره من العرب يتكلم بما يتكلمون به ، ويتحاور معهم بلغتهم الخاصة ، فاذا صدر منه بعض تلك الالفاظ مثل (أحل الله البيع) وكان فى مقام البيان كان المفهوم من ذلك عين ما يستفيده العرف ما لم ينصب قرينة على الخلاف. وحيث كان العرف يطلق البيع على اللفظى ، والفعلى ـ مثلا ـ يفهم من هذا ـ ان الفعلى ـ وهو المعاطاة مما احله الله تعالى ـ ايضا ـ فلو شككنا فى اعتبار امر زائد ـ على ما يفهمه العرف من ذلك المفهوم ـ كان لنا ان نتمسك بالاطلاق فى دفعه. نعم لو شككنا فى دخل شىء فى المعاملة عرفا ـ كاعتبار المالية فى البيع ـ مثلا ـ لم يمكن التمسك بالاطلاق فى دفع ما يشك فى اعتباره لعدم احراز صدق البيع على فاقد المالية عرفا.

فالذى تلخص من هذا : ان المعاملات مفاهيم استقر عليها الفهم العرفى ولم يتصرف الشارع اى تصرف ، وقد جرى فى محاوراته على مقتضى ما يفهمونه ، فعند الشك فى اعتبار امر زائد على فهم العرف ـ فى تلك المعاملة ـ نتمسك باطلاق الكلام ، ونثبت بذلك عدم اعتباره. اذ لو كان معتبرا للزم على الشارع حين ما يتكلم بلسان قومه ـ وهو فى مقام البيان ـ ان يبينه ، وحيث لم يبينه كشفنا عدم اعتباره عنده ـ كما هو غير معتبر عند العرف ـ

١٢١

وهذا بخلاف العبادات فحيث انها ماهيات ـ مخترعة من قبل الشارع المقدس ـ يرجع فى امرها الى نفس مخترعها. فعند الشك فى اعتبار جزء ، او شرط فيها لا يمكننا التمسك بالاطلاق لاحتمال مدخلية ذلك المشكوك فيه فى الماهية.

وقد يقال : ان حديث التمسك بالاطلاق فى المعاملات انما يتم اذا كان امضاء الشارع متوجها نحو الاسباب. واما لو كان امضاءه متجها نحو المسببات ـ التى هى عبارة عن نفس المبادلة بين المالين فى البيع ـ فالتمسك باطلاق امضاء المسبب لا يتم اصلا ـ اذا حصل الشك فى بعض الاسباب. اذ لا ملازمة بين امضاء المسبب والسبب فقد يمضى اصل المبادلة بين المالين ، ولكنه لا يمضى سبب خاص ـ كالمبادلة بالصيغة الفارسية.

ونحن لو نظرنا الى الادلة التى اثبتت الامضاء الشرعى لوجدناها متجهة نحو المسبب خاصة مثل قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وقوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (النكاح سنتى) فان معنى حلية البيع عبارة عن حلية المبادلة مقابل تحريم الربوا ، ولا معنى لحلية الصيغ التى هى الاسباب ، وكذا قوله : (اوفوا بالعقود) فان معنى الوفاء الانهاء والاتمام ، وهو يتعلق بنفس المبادلة دون الصيغ فانها توجد وتنعدم وليست قابلة للانهاء ، وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (النكاح سنتى) فان سنته نفس حصول الزوجية والعلقة بين الطرفين لا مجرد الصيغة. واذا كانت الادلة ناظرة الى امضاء السبب. فالتمسك بالاطلاق غير ممكن عند الشك فى صحة بعض الاسباب اذ لا ملازمة بين امضاء المسبب والسبب. فلا بد من الاخذ بالقدر المتيقن فى ناحية الاسباب لتحصيل الاثر ، واما غير ذلك من الاسباب المشكوكة فيرجع فيها الى اصالة عدم الانتقال.

١٢٢

وقد اجاب عن ذلك شيخنا الاستاذ ـ قده ـ بان المعاملات خارجة عن حريم الاسباب والمسببات ، وانما هى نظير الافعال التوليدية ، وما يتولد منها ـ كالاحراق والالقاء ـ وليس هاهنا وجودان احدهما للسبب ، والآخر للمسبب ، ليقال ان امضاء احدهما لا يستلزم امضاء الآخر ، بل ما يسمى بالسبب والمسبب ، ـ فى ابواب المعاملات ـ اشبه شىء بالادلة وذى الآلة ، والوجود واحد. فالبيع باللفظ العربى قسم ، وبغير العربى قسم أخر فاذا احله الشارع وحكم بالصحة فلا مانع من التمسك بالاطلاق بالاضافة الى الآلات. فيقال الشارع : أحل البيع مطلقا بأى آلة كان

والجواب عن ذلك ـ ظاهر : اذ لا فرق بين التعبير بالآلة ، وذى الآلة ، والسبب والمسبب ، والاشكال فيهما واحد. فان الشارع لو امضى ذى الآلة فذلك لا يلازم امضاء نفس الآلة. فالاختلاف بينهما ليس إلّا فى التعبير واما ما افاده قده من انه لا تعدد فى الوجود فما يسمى بالسبب متحد وجودا ـ مع ما يسمى بالمسبب ـ فلا يمكننا المساعدة عليه بوجه فان المسبب فى المعاملات من الموجودات الاعتبارية التى لا وجود لها فى غير عالم الاعتبار ، والسبب من الالفاظ او الافعال ، وهى من الموجودات الحقيقية فى الخارج فكيف يصح ان يقال انهما متحدان وجودا ، وامضاء احدهما هو بعينه امضاء الآخر؟

والظاهر ان هذا الاشكال يندفع ـ بما ذكرناه سابقا ـ فى معنى الانشاء حيث قلنا : انه عبارة عن ابراز اعتبار نفسانى بمبرز ما. فالمعتبر فيه شيئان : الاعتبار النفسانى ، وابرازه باللفظ ، او الكتابة ، او الاشارة ، او الفعل ، وعليه فالبيع وغيره من المعاملات ـ بالمعنى الاعم ـ اسم للمجموع. ولا يطلق على احدهما خاصة. فمن اطلق اللفظ من دون ان يعتبر فى نفسه

١٢٣

ذلك المعنى ـ كما لو كان فى مقام تعداد الصيغ ـ بلا اعتبار نفسانى. فقال : بعت لا يطلق على قوله البيع ، وبالعكس ايضا كذلك فلو اعتبر فى نفسه ملكه هبة لزيد بلا تلفظ ، او اشارة ، او ما شاكلهما. مما يفيد الابراز لا يكون هذا هبة وبناء عليه يندفع الاشكال اذ ليس فى البين امران : سبب ومسبب ، او آلة وذو الآلة ، لنحتاج الى تكلف اثبات ان امضاء احدهما يستلزم امضاء الآخر ، بل البيع ـ مثلا ـ شىء واحد ، مؤلف من امرين : الاعتبار ، وابرازه. فاذا امضاه الشارع باطلاقه فلا مانع من التمسك باطلاق كلامه عند الشك فى اعتبار شىء زائد على صدق المفهوم العرفى ـ وبعبارة اخرى ـ متى ما صدق مفهوم البيع عند العرف ثم شك فى اعتبار شىء فيه على سبيل الجزء ، او الشرط. شرعا ، لا مانع من التمست بالاطلاق لاثبات عدم اعتباره ، وبه يرتفع الشك فى اعتباره.

وبهذا يندفع ـ ايضا ـ ما يقال : ان المعاملات اذا كانت اسام للمسببات فهى لا تتصف بالصحة والفساد ، بل تتصف بالوجود او العدم. وذلك فان غير القابل للاتصاف بالصحة والفساد هو الامضاء الشرعى ، او العقلائى ، لانه اما موجود ، واما معدوم. ومن الظاهر ان اسامى المعاملات لم تجعل للامضاء الشرعى ، او العقلائى ، بل وضعت بلحاظ كل من الاعتبار النفسانى ، وابرازه. فان الامضاء يتعلق بالمعاملة التى هى فعل من الافعال الصادرة عن آحاد الناس وهى تتصف بالصحة والفساد فكما يقال : الصيغة العربية الماضوية صحيحة ، وغير العربية فاسدة. كذلك يقال الاعتبار الصادر ـ من البالغ صحيح ـ والصادر ـ من غيره فاسد. لم يتعلق به الامضاء من الشارع.

فتحصل ـ مما ذكرناه ـ انه لا يفرق فى جواز التمسك باطلاق دليل

١٢٤

الامضاء بين القول بوضع اسامى المعاملات على الاعم ، او على خصوص الصحيحة منها. والسر في ذلك هو ان الامضاء الشرعى. انما تعلق بمطلق البيع ـ مثلا ـ العرفى. او بخصوص الصحيح عندهم ـ دون ما هو الصحيح شرعا ـ لان الصحيح الشرعى لا يعقل ان يتعلق به الامضاء. لوضوح ان الممضى لا يمضى ، فلا يعقل ان يكون الامضاء الشرعى ماخوذا فى موضوع دليل امضاء المعاملات ، ليكون معنى (أحل الله البيع) ان الله امضى وأحل البيع الذى احله وامضاه. فلو كانت الصحة ماخوذة فى موضوع دليل الامضاء ، فهى الصحة عند العقلاء وان اخذ الصحة بمعنى الامضاء العقلائى فى المعاملات لا يمنع من التمسك بالاطلاق.

وملخّص ما تقدم : ان العبادات ـ على القول بوضعها للصحيح ـ لا يمكن التمسك باطلاق ادلتها لدفع احتمال دخل المشكوك فيه فى المسمى اذ معه لا يحرز صدق اللفظ على المورد. واما المعاملات ـ فيمكن التمسك بالاطلاق فيها حتى على القول بالوضع للصحيح لما عرفت انها اسام للمجموع من الاعتبار النفسانى ، ومبرزه ، وهذا الاعتبار المبرز خارجا (تارة) يكون موردا لامضاء العقلاء. (واخرى) لا يكون كذلك لخلل اما فى نفس الاعتبار ، او فى مبرزه ، فان العقلاء لا يمضون اعتبار المجنون ، او الفضولى ، كما لا يمضون اللفظ الصادر بغير اختيار ، وشعور. فان قلنا : ان البيع اسم للصحيح. فهو اسم للاعتبار المبرز فى الخارج ـ الذى امضاه العقلاء ـ فلو شككنا فى اعتبار شىء زائد على ما امضاه العقلاء ـ كالعربية ـ فنتمسك بالاطلاق ، وننفى اعتبار المشكوك فيه. نعم لو شككنا فى اعتبار امر فى المسمى ـ عند العقلاء ـ كما اذا شككنا فى اعتبار المالية ـ فى البيع ـ كما هو ظاهر تعريف المصباح لم يجز التمسك بالاطلاق لاحتمال دخلها

١٢٥

فى الصدق. نعم لا مانع من التمسك به ـ على القول بالاعم ـ لاجل احراز صدق البيع عليه على الفرض. واما احتمال اعتبار الامضاء الشرعى فى صحة الصدق فهو فاسد كما عرفت.

هذا كله على ما سلكناه من ان المعاملات اسم للمجموع من المبرز والمبرز خارجا ـ وليست هناك سببية ولا مسببية اما لو تنزلنا عن ذلك وقلنا : انها من قبيل السبب والمسبب ـ فما ذكره القوم من عدم التلازم بين امضاء السبب والمسبب ـ يتم لو كان هناك مسبب واحد. وله اسباب متعددة ، حيث يقال : امضاء السبب الواحد لا يلازم امضاء جميع الاسباب المتعددة. فلا بد من الاخذ بالقدر المتيقن لو كان ، وفى غيره يرجع الى اصالة عدم ترتب الاثر. واما لو كانت الاسباب والمسببات متعددة فلا يتم ذلك بلا فرق بين تفسير المسبب بالاعتبار القائم بالنفس ، او تفسيره بالوجود التنزيلى المتحصل من وجود الصيغة ، واللفظ على مقتضى مسلكهم. ان الانشاء ـ ايجاد للمعنى باللفظ. وان البيع ما يحصل بعد التلفظ بصيغة (بعت) او تفسيره بفعل العقلاء ، وان امضاء العقلاء مسبب وسببه بيع البائع وفعله. واحتمال ارادة الامضاء الشرعى من المسبب مقطوع العدم ـ لان الامضاء الشرعى غير قابل لتعلق الامضاء به ـ فجميع ذلك لا يتم فيه حديث عدم التلازم بين امضاء المسبب وامضاء سببه.

اما بناء على ان المسبب هو الاعتبار القائم بالنفس ـ كما لو اعتبر زيد ملكية داره للمشترى فأبرزه بصيغة عربية ، وعمرو اعتبر ملكية كتابه للمشترى فأبرزه بالمعاطاة ، وبكر اعتبر ملكية بستانه فأبرزه بالصيغة العجمية ـ فالاعتبارات متعددة ، لتغاير اعتبار زيد عن اعتبار عمرو وبكر ، وكذا الحال فى الشخص الواحد لو اعتبر الامور الثلاثة متفرقا ، وكل اعتبار ـ

١٢٦

المعبّر عنه بالمسبب له مبرز يعبّر عنه بالسبب ـ فاذا تعلق الامضاء بالمسبب. كشف ذلك عن امضاء سببه لا محالة ، وإلّا كان الامضاء لغوا لا يترتب عليه اثر.

واما اذا اريد بالمسبب الوجود التنزيلى ـ الحاصل بالتلفظ بصيغة بعت ـ مثلا ـ فهو اوضح من السابق فان زيدا لو قال : بعت الكتاب ، ثم قال : بعت الدار ، ثم قال : بعت البستان. فهناك صيغ واسباب متعددة ، وبكل واحد من الصيغ يتحقق وجود تنزيلى للبيع على مسلكهم. فلكل صيغة وجود. كما ان لكل منشأ وجودا انشائيا بوجود سببه ، وعليه كان امضاء الوجود الانشائى امضاء لسببه ايضا. فان الوجود الانشائى لا ينفك عن وجود ما به يتحقق الانشاء فلا يعقل تعلق الامضاء باحدهما دون الآخر على ان ذلك لغو ـ كما عرفت ـ.

واما اذا اريد بالمسبب امضاء العقلاء ـ فالامر فى غاية الوضوح ـ وذلك لان مقتضى انحلال امضاء العقلاء ، ان يكون لبيع زيد داره امضاء عقلائى ، ولبيع زيد كتابه امضاء عقلائى ، وكذا سائر الامور. فان لكل منها امضاء عقلائيا. وليس احدها عين الآخر فلكل سبب ، وهو بيع البائع ـ مثلا ـ مسبب خاص ـ وحينئذ ـ نقول : اذا امضى الشارع البيع وقال : أحل الله البيع ـ فهو حكم انحلالى. ينحل الى كل واحد من الامضاءات العقلائية ، ومعناه ان كل واحد من الامضاءات العقلائية ممضى عند الشارع. ومن الضرورى ان الامضاء العقلائى كان متعلقا بافراد المعاملات على ما هى عليه من الاختلاف فيما به تنشأ المعاملة وعليه فامضاء المسبب يكون امضاء للسبب ايضا ويمكن التمسك بالاطلاق عند الشك فى اعتبار الامر الزائد.

* * * *

١٢٧

((بحث الاشتراك))

والكلام يقع فيه من جهتين :

(الجهة الاولى) وقع النزاع بين القوم فى امكان الاشتراك ، او استحالته ، او وجوبه. فذهب بعضهم الى وجوبه ـ استنادا الى تناهى الالفاظ ، وعدم تناهى المعانى ، والضرورة تقتضى لزوم الاشتراك ، لئلا تبقى بعض المعانى بلا دلالة لفظ عليه ـ.

وقد اجاب عن ذلك صاحب الكفاية (قده) باجوبة اربعة :

الاول ـ ان المعانى وان لم تكن متناهية ، والالفاظ متناهية. إلّا ان وضع الالفاظ على المعانى غير المتناهية يستلزم اوضاعا غير متناهية ، وهو محال.

الثانى ـ لو فرض امكان ذلك فالغرض ، والفائدة من الوضع. نفس الاستعمال. وهو من البشر يقع متناهيا لمقدار تعلق حاجته به. اما وضع الالفاظ على المعانى غير المتناهية الزائدة على مقدار الاستعمال المتناهى. فهو لغو صرف غير محتاج اليه. فالوضع اذن لا يصح إلّا فى مقدار متناه.

الثالث ـ ان الالفاظ وان تناهت. إلّا ان المعانى الكلية ايضا متناهية ، وان كانت بحسب خصوصياتها ، وافرادها غير متناهية. فلا مانع من جعل اللفظ بازاء معنى كلى ، ثم نطلقه على افراده. وهذا فى غير افراد الانسان معلوم ، فان افراد الانسان متمايزة بحسب الاسم ، واللفظ ، ولكل منها اسم مخصوص. ولكن الحيوانات وغيرها من سائر الموجودات ليست كذلك. فيضع الواضع لفظ الشاة على الطبيعى من ذلك الحيوان الخاص ، ثم يطلقه على كل واحد من افراده. دون ان كون للافراد اسام خاصة ، وهكذا بقية الحيوانات.

١٢٨

وعليه فالمعانى الكلية متناهية ، ولا مانع من جعل اللفظ لها.

الرابع ـ انه يلزم ان يكون الاستعمال فى جميع المعانى على نحو الحقيقة ، بل يمكن ان يكون فى جملة منها حقيقيا ، ويستعمل فى غيرها على سبيل المجاز اذن من جميع ما تقدم يعلم ان الاشتراك ليس بواجب.

(وغير خفى) ان ما افاده ـ قده ـ من وجوب الاشتراك امر صحيح. باعتبار عدم الحاجة الى الوضع الزائد على مقدار الاستعمال. نعم ان ما ادعاه (قده) من تناهى الالفاظ والمعانى الكلية فهو محل اشكال.

اما الالفاظ. فهى كالمعانى غير متناهية ، والوجه فيه : ان الالفاظ كالاعداد. فالعدد مضبوط مواده من الواحد الى العشرة ، وكذا الحروف الهجائية محدودة. من الواحد الى الثمانية والعشرين ، إلّا ان كلا منهما يتركب الى عدد متناه فاللفظ الواحد اذا رفع اوله ، أو ضم ، او كسر. فهو لفظ مغاير للاول ـ واذا اضيف الى كل واحد من ذلك حرف من الحروف الباقية صار مركبا غير الاول ، وهكذا تصبح الالفاظ متعددة بهذه النسبة. (وبعبارة اخرى) اختلاف الهيئات ، والتقديم ، والتاخير ، والحركات ، والسكنات ، والزيادة ، والنقصان. يوجب تعدد الالفاظ الى عدد غير متناه ـ ولا سيما بملاحظة ان جميع اللغات من العربية وغيرها مؤتلفة من هذه الحروف ـ وهى تختلف باختلاف الهيئات ، والتقديم والتاخير. اذن فالكلمات غير متناهية كالمعانى.

واما المعانى الكلية ـ فان اريد منها المفاهيم العامة. كمفهوم الشىء والممكن ، ونحوهما مما يصدق على اكثر الموجودات فى العالم فهى منحصرة.

وان اريد منها المعانى الكلية. التى هى غير المفاهيم العامة. فهى

١٢٩

غير متناهية لان كل معنى باعتبار خصوصياته ، ومقارناته المنصورة يمكن ان يبلغ ما لا نهاية له فكيف اذا لوحظت المعانى كلها ، ويظهر ذلك بملاحظة ما ذكرناه فى الالفاظ ، وفى الاعداد.

فالمتحصل من جميع ذلك ان الصحيح من الاجوبة التى ذكرها صاحب الكفاية قده هو الثانى. وملخصه ان الغرض من الوضع هو الاستعمال ، وهو متناه والوضع لما زاد عن مقدار الحاجة ، والاستعمال لغو.

وقد يدعى استحالة الاشتراك لمنافاته للغرض المترتب على الوضع. فان الغرض منه تفهيم المقاصد للغير ، وجعل اللفظ لمعنى ثان ، يوجب اجمال المراد منه. فينتفى الغرض من ذلك ، وهو محال صدوره من المولى الحكيم.

واجاب عن هذا صاحب الكفاية ـ قده ـ بان الغرض قد يتعلق بالاجمال فيلتجأ الى الاشتراك تحصيلا لهذا المعنى ، فهو ليس من نقض الغرض.

وغير خفى : ان ما جاء به فى الكفاية ، وان كان صحيحا ولكنه يتم على رأى من لا يرى حقيقة الوضع التعهد ، بل يرى جعل الملازمة ، او جعل وجود اللفظ وجودا للمعنى فى عالم الاعتبار ، وغير ذلك ، فان تعدد الجعل فى اللفظ الواحد فى عالم الاعتبار ممكن لانه خفيف المئونة.

اما بناء على مسلكنا من ان حقيقة الوضع هو التعهد ، فالاشتراك غير ممكن. لان التعهد ـ كما عرفت ـ التزام الواضع على نفسه انه متى جاء باللفظ الخاص فلا يريد به الا معنى مخصوصا. وهذا لا يتلائم مع تعهده ثانيا انه متى جاء بذلك اللفظ الخاص فهو يريد منه معنى آخر غير الاول. وليس معنى ذلك الا النقض لما تعهده اولا ، نعم يستطيع الواضع ان يلغى

١٣٠

التزامه الاول ، ويتعهد من جديد بانه متى جاء بذلك اللفظ الخاص فقد قصد منه احد المعنيين المخصوصين فيكون قد تصور عنوان احدهما ووضع اللفظ لواقع ذلك العنوان. فيصير من قبيل الوضع العام ، والموضوع له الخاص. ولا بد ـ حينئذ ـ ان ينصب قرينة على مراده اذا اراد احد المعنيين بخصوصه. وهذا كما يمكن فى الابتداء ، ان يضع بهذا الاسلوب ، كذلك يمكن لو كان مسبوقا بالوضع.

ولكنه فى الحقيقة ليس من الاشتراك المتنازع فيه اذ ليس هنا وضعان ، والتزامان ، بل وضع والتزام واحد ، ولا محذور فيه

والصحيح ان الاشتراك غير ممكن.

ثم ان قلنا بامكان الاشتراك ـ كما هو مذهب غيرنا ـ فكما يتاتى فى كلام المتحاورين ، كذلك يتأتى فى القرآن المجيد ـ وحينئذ ـ ياتى بالقرينة لا لتعيين المراد اولا ، وبالذات ، بل لافادة امر آخر ، ومنه يستفاد ارادة احد المعنيين من المشترك لئلا يلزم تطويل بلا طائل.

تذييل

نقل شيخنا الاستاذ ـ قده ـ عن بعض مؤرخى المتأخرين ، وهو جرجى زيدان. ان المنشأ لحصول الاشتراك فى لغة العرب ، جمع اللغات فان العرب كانت على طوائف ، وقد وضعت طائفة لفظا خاصا لمعنى مخصوص ، ووضعت الطائفة الثانية نفس اللفظ لمعنى آخر ، وجاءت الثالثة فوضعت عين اللفظ لمعنى ثالث ، ولما جمعت اللغة العربية من مجموع هذه الطوائف وجد بعض الالفاظ قد وضعت لمعان متعددة باوضاع مستقلة كما وجدت الفاظ اخرى متعددة قد حصلت بازاء معنى واحد فكان منها الترادف.

١٣١

وغير خفى : ان ما ذكره جرجى زيدان ممكن فى نفسه ، ولكن الجزم به على نحو الموجبة الكلية بلا موجب ولا سيما بملاحظة حال الاعلام الشخصية. فنجد الشخص الواحد يضع لفظا واحدا لاولاده المتعددين استنادا الى المناسبة ـ كما فى اولاد الحسين عليه‌السلام ـ فان كل واحد منهم مسمى بعلى ، والتمييز بينهم بالاكبر ، والاوسط ، والاصغر. وهو لفظ مشترك. واذا كان حال اسامى الاعلام كذلك ، فمن الممكن ان تكون اسامى الاجناس كذلك.

وكيف كان : فعلى مسلكنا من امتناع الاشتراك من واضع واحد باعتباران الوضع عبارة عن التعهد والالتزام ، وان كل مستعمل واضع سواء كان منشأ الاشتراك هو الوضع ابتداء ام كان جمع اللغات لا مناص من الالتزام بالاشتراك المعنوى ، او بالحقيقة والمجاز.

(استعمال المشترك فى اكثر من معنى واحد)

اتفق جماعة من المتاخرين على عدم امكان استعمال اللفظ الواحد فى اكثر من معنى واحد ،

وليعلم ان محل النزاع هو فيما اذا استعمل لفظ فى معنيين مستقلين ، بان يكون اللفظ مستعملا باستعمالين كل منهما مستقل فى حد ذاته ، لا على ان يستعمل باستعمال واحد يراد به مجموع المعنيين ، بما هو كذلك لانه امر ممكن ، وان كان مجازا لعدم وضعه الا لاحدهما.

وقد يستدل على الاستحالة ـ كما هو ظاهر كلام شيخنا الاستاذ قده ، وجماعة ـ بان استعمال اللفظ باستعمالين متعددين فى آن واحد يلزمه ملاحظة كل واحد من المعينين بلحاظ استقلالى فى آن واحد ، ولا ريب

١٣٢

ان اللحاظين المستقلين لا يمكن اجتماعهما فى النفس فى آن واحد.

وغير خفى : ان وجه الاستحالة لو كان هذا المعنى فلا مانع من جواز استعمال اللفظ فى اكثر من معنى واحد فى آن واحد. لان صقع النفس واسع يتحمل لحاظين مستقلين فى آن واحد اذا كان متعلقهما متعددا ـ كما هو الفرض ـ والدليل عليه امور :

منها ـ انا نحمل بعض المعانى على موضوعاتها. فنقول : زيد انسان مع ان حمل شىء على شىء يستلزم لحاظ كل من الموضوع والمحمول والنسبة فى آن واحد اذن جاز لحاظ كل من الموضوع والمحمول مستقلا فى آن واحد.

ومنها ـ الاتيان بفعلين بجارحتين من جوارحنا فى زمان واحد ـ كما اذا شاهدنا شيئا خارجيا بسبب العين ، وفى نفس الوقت حركنا يدنا او رأسنا. ومن المعلوم انهما فعلان اختياريان ، والافعال الاختيارية تحتاج الى الارادة المسبوقة باللحاظ ـ اذن فالاتيان بعملين فى آن واحد مستلزم للحاظ كل منهما بلحاظ استقلالى فى آن واحد. وكيف كان فاجتماع اللحاظيين المستقلين مع تعدد المعنى ، والمتعلق ممكن.

وقد ذكر صاحب الكفاية ـ وجها آخر للاستحالة ، وهو ان الاستعمال عبارة عن جعل اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى ، وهذا يقتضى فناء اللفظ فى المعنى ، ولازمه لحاظ المعنى مستقلا ، ولحاظ اللفظ تبعا له فان كان المستعمل فيه واحدا فالامر واضح. وان كان متعددا فلازمه ان يكون اللفظ الواحد ملحوظا بلحاظين آليين فى آن واحد وهو محال.

وغير خفى : انه يتوقف على اثبات ان الاستعمال ايجاد للمعنى باللفظ وان وجود اللفظ فى نفسه وجود تنزيلى للمعنى ، وهذا يبتنى على ان تكون

١٣٣

حقيقة الوضع عبارة عن جعل اللفظ وجودا للمعنى تنزيلا ، وقد عرفت فساده.

واما بناء على ان حقيقة الوضع هو التعهد والالتزام : فلا مانع من ذلك لان الاستعمال عبارة عن فعلية ذلك التعهد. ولا محذور فى كون شىء واحد علامة على ارادة المعنى الاول ، وارادة المعنى الثانى. بعد ان كان اللفظ علامة على ارادة المتكلم قصد تفهيم معنى خاص.

توضيح ذلك : انا اذا بنينا على ان اللفظ علامة لقصد تفهيم المخاطب معنى خاصا فهو ملحوظ فى مرحلة الاستعمال بنفسه. فقد يجعل علامة لقصد تفهيم احد المعنيين بخصوصه ، وقد يجعل علامة لقصد تفهيم احد المعنيين لا بعينه ، وثالثة يجعل علامة لقصد تفهيم المجموع بان يلاحظ المجموع شيئا واحدا فيقصد تفهيم باللفظ ، ورابعة يلاحظ كل من المعنيين مستقلا على نحو العموم الاستغراقى ، ويجعل اللفظ علامة لقصد تفهيمهما وفى جميع ذلك لا يحتاج اللفظ باكثر من لحاظ واحد.

اذن فاستعمال اللفظ الواحد فى اكثر من معنى واحد ممكن.

اذا عرفت صحة الاستعمال فى اكثر من معنى واحد ، فالبحث يقع عن موافقته للظهور وعدمه. ومعنى ذلك اننا لو رأينا مشتركا لفظيا غير مصحوب بالقرينة التى تدل على ارادة بعض المعانى فهل نحمله على ارادة الجميع ، او يحتاج حمله عليه الى دليل.

الظاهر. ان حمله على الجميع خلاف الظهور باعتبار أننا صححنا الاشتراك برفع اليد عن التعهد الاول. والالتزام بتعهد آخر ، وهو ارادة احد المعنيين او المعانى فيكون معنى اللفظ احد تلك المعانى لا جميعها. فاذا ورد لفظ مشترك ولم تقم قرينة على ارادة جميع معانيه لا يمكن حمله

١٣٤

على ذلك لمخالفته للظهور الناشئ من الوضع لاحدهما لا للجميع.

والحاصل ان حمل المشترك على ارادة جميع المعانى خلاف التعهد والالتزام. فلا يصار اليه إلّا بدليل فاحتمال ارادة كلا المعنيين مدفوع بظهور اللفظ فى خلافه. نعم اذا علمنا بارادة اكثر من المعنى الواحد ، وشككنا فى الاستعمال انه على نحو المجموع او الجميع بمعنى اننا علمنا ارادة المعنيين من اللفظ فى كيفية الارادة وهل ارادهما معا ، او اراد كل واحد مستقلا. فاللفظ يصبح مجملا ، ولا يصح حمله على احدهما لان ارادة اكثر من معنى واحد خلاف التعهد ، والظهور بلا فرق بين ارادة الجميع او المجموع. ولا بد من الرجوع الى الاصول العملية فلو كان لاحد عبدان كل منهما مسمى بغانم ، واراد بيعهما فقال. للمشترى بعتك غانما بدرهمين ووقع الخلاف بين البائع والمشترى فى استعمال هذه الكلمة وانه هل استعملها على نحو المجموع بهذا المقدار ، او استعملها فى كل منهما مستقلا فكانه قال بعتك كلا منهما بدرهمين ، ويكون الثمن اربعة دراهم. فيرجع الى اصالة عدم اشتغال ذمة المشترى باكثر من درهمين. فلا بد للبائع المدعى لاشتغال ذمة المشترى باكثر منهما من الاثبات.

وبما ذكرناه يظهر الحال فى استعمال اللفظ فى المعنى الحقيقى ، والمجازى وانه امر ممكن فى نفسه. إلّا انه خلاف الظاهر فلا يصار اليه إلّا بدليل.

فان قلت : كيف ذلك وقد ذكروا ان ارادة المعنى المجازى لا بد فيها من القرينة الصارفة عن ارادة معنى الحقيقى المعاندة له.

قلت : ان هذا انما هو فيما اريد المعنى المجازى فقط. وإلّا فلا بد من نصب قرينة على ارادة المعنيين على نحو ارادة العموم المجموعى ، او الاستغراقى ، وان شئت قلت ان التعهد ، والالتزام الوضعى انما كان بان

١٣٥

يراد من اللفظ خصوص المعنى الحقيقى فلا بد عند ارادة المعنى المجازى معه على نحو ارادة المجموع ، او الجميع من نصب قرينة صارفة عن ارادة خصوص المعنى الحقيقى. كما هو الحال عند ارادة المعنى المجازى بخصوصه.

ولعل الى هذا المعنى يشير صاحب المعالم ـ قده ـ فى كلامه. من ان المعانى مقيدة بالوحدة ، ومقصوده ان التعهد فى الالفاظ المشتركة انما هو على ارادة تفهيم احد المعنيين او المعانى : ويبعد كثيرا ان يريد بذلك ان معنى الذهب ـ مثلا ـ هو الذهب مع الوحدة ـ هذا كله فى المفرد ـ

التثنية والجمع

ذهب صاحب المعالم ـ قده ـ الى امكان ارادة الاكثر من معنى واحد فى التثنية والجمع. وانه على نحو الحقيقة. استنادا الى ان التثنية بمنزلة تكرار اللفظ الواحد. ويؤيد ذلك ما جاء من التثنية فى الاعلام الشخصية. كزيدين فان المراد منه فردان متغايران.

ومهما كان فلا بد من البحث تفصيلا عن صحة استعمال التثنية والجمع ، وارادة الاكثر وهل هو معقول فى نفسه ليبحث عن مخالفته للظهور ـ كما ذكر فى الكفاية ـ

والتحقيق فى ذلك : ان للتثنية والجمع وضعين : احدهما للمادة ـ والآخر للهيئة. اما الهيئة ـ وهى الالف والنون ـ فقد وضعت لتعدد ما يراد من مدخولها ـ وحينئذ ـ نحن والمدخول ككلمة العين ـ مثلا ـ فى قولنا جئنى بعينين. فان اريد منه معنيان كالذهب والفضة كانت الهيئة دالة على ارادة التعدد من ذلك ويكون المراد من العينين اثنين من الذهب ، واثنين من الفضة. فتدل التثنية ـ على اربعة افراد. وهذا امر ـ مبنى على ما حررناه

١٣٦

سابقا ـ من امكان استعمال اللفظ فى اكثر من معنى ، وعدمه.

ولكنه خارج عن محل الكلام ـ فانه من استعمال المفرد فى المعنيين ولا ينبغى الشك فى مجازية هذا الاستعمال ، واما هيئة التثنية فقد استعملت فى معناها الموضوع له. وهذه الصورة غير مرادة لصاحب المعالم وإلّا فلا معنى لكون التثنية حقيقة.

وان اريد من المدخول ـ وهو العين ـ مثلا ـ معنى واحد ـ كالذهب مثلا او الفضة ـ والهيئة تدل على ارادة اكثر من طبيعة واحدة من المدخول. فهذا غير معقول. لما سبق ان للتثنية وضعين : احدهما للهيئة ـ وهى تدل على ارادة التعدد من المدخول. وثانيهما للمادة ـ وهى ان اريد بها الذهب فقط ، فالهيئة تفيد تكرار هذا المعنى بارادة فردين منه ، او الفضة فكذلك ومع هذا كيف تدل التثنية على تعدد مدخولها ـ من حيث الطبيعة ـ بعد ان اريد من المدخول طبيعة واحدة كما هو الفرض. نعم لا مانع من ارادة فردين من المسمى بان يؤول العين بالمسمى نظير التثنية فى الاعلام الشخصية : كزيدين حيث يراد منهما فردان من المسمى بزيد ، ولكنه مجاز بلا كلام.

اذن فلا وجه للاصرار من صاحب المعالم قده على انه فى التثنية حقيقة.

تنبيه

ربما يستدل على جواز استعمال اللفظ المشترك فى معناه بما ورد فى الاخبار الشريفة ان للقرآن بطونا سبعة او سبعين ، فيستظهر وقوع ذلك فى القرآن.

وقد اجاب عن ذلك صاحب الكفاية ـ قده ـ بانه لا دلالة لها على

١٣٧

ان ارادتها من قبيل ارادة المعنى من اللفظ ، بل لعله كان بارادتها فى نفسها حين استعمال الالفاظ فى معانيها.

وفيه ما لا يخفى ـ اذ لو كان المراد بالبطن ما ذكره لما كان ذلك موجبا لعظمة الكتاب لامكان هذا المعنى ، وهو ارادة معان كثيرة. فى انفسها حين الاستعمال فى سائر المحاورات ايضا.

مضافا ـ الى ان ارادة المعانى بنفسها حين الاستعمال لا تسمى بطنا. لانها معان أخر غير المعنى المستعمل فيه اللفظ ، وعليه كيف تكون هذه المعانى بطنا للقرآن الكريم.

فالصحيح فى الجواب ان يقال : ان المراد بالبطن لوازمات المعانى وملزوماتها من دون ان يستعمل اللفظ فيها وهو لا ينافى قصور افهامنا عن ادراك هذه الامور. وهذا هو الذى افاده ـ قده ـ اخيرا.

والذى يدل عليه ما ورد مستفيضا ان القرآن يجرى مجرى الشمس والقمر ، وانه لا يختص بقوم دون قوم ، بل فى بعضها ورد ان القرآن لو ورد فى خصوص قوم لمات عند موتهم مع انه حى الى يوم القيمة وورد ان الكتاب فى ظاهره قصة ، وفى باطنه عظة. بمعنى انه ليس بكتاب تاريخى. بل يحدث عن قضايا صدرت عن الامم السابقة كبنى اسرائيل ، وغيرهم. لتكون هذه دروسا يسير المتاخرون على نهجها ولتدلهم على ان الكفر بنعم الله. يوجب السخط عليهم. اما بقية اللوازم ، والملزومات التى تضمنها القرآن فلا يعرفها الامن خوطب به ، ومن يقوم مقامه من الائمة عليهم‌السلام ، وقد وقفنا على بعضها بواسطة الاخبار الشريفة.

١٣٨

(المشتق)

لا اشكال فى صحة اطلاق المشتق على من تلبس بالمبدإ فعلا ، وعلى من تلبس به وانقضى عنه ، او على من يتلبس به مستقبلا ، كما لا شبهة فى انّ اطلاقه فى الحال على من يتلبس به مستقبلا مجاز ، بعلاقة المشارفة : وان اطلاقه على من تلبس به بالفعل اطلاق حقيقى ، انما البحث فى اختصاصه بخصوص من تلبس به بالفعل ، ام يعم المنقضى عنه. بان يكون موضوعا للجامع بينهما ، ويكون اطلاقه على كل واحد منهما حقيقيا. وقبل البدء فى المطلب ـ يجدر بنا ان نذكر امورا لها مساس بالبحث ـ

الامر الاول : ـ محل النزاع فى المقام ـ يختص ببعض المشتقات ، ويعم بعض الجوامد. فان المشتق اعنى به ما يكون هيئته ومادته موضوعتين بوضعين قد يصدق على ذات باعتبار تلبسها بمبدئه كاسم الفاعل ، والمفعول ، والآلة ، والمكان ، والزمان ، والصفة المشبهة ، وصيغ المبالغة ، وقد لا يصدق عليها كالمصادر المزيدة. بل المجردة والافعال ، واما الجامد اعنى به ما يكون بهيئته ومادته موضوعا بوضع واحد لمعنى واحد فهو على قسمين : اذ قد يوضع الجامد لمعنى ينتزع عن مقام الذات ، وقد يوضع لمعنى ينتزع عن خارج مقام الذات. فهذه اربعة اقسام ومحل النزاع هو القسم الاول من كل من المشتق والجامد. بيان ذلك : ان كل مشتق قابل لان يحمل على شىء باعتبار تلبسه بالمبدإ الماخوذ فى ذلك المشتق نحو تلبس فهو داخل فى محل النزاع ، باعتباران التلبس المعتبر فى صحة صدقه هل يعم التلبس فيما انقضى وانصرم؟ او انه يختص بالتلبس الفعلى ، فالنزاع فى سعة المفهوم الاشتقاقى وضيقه باعتبار وضع هيئته من دون اختصاص

١٣٩

لها بمادة دون مادة. ومن هنا يظهر عدم اختصاص النزاع بما اذا لم يكن المبدأ ذاتيا. فان خصوصية المبدا لا دخل لها فى وضع الهيئات. فما يستفاد من هيئة ناطق وحيوان هو بعينه ما يستفاد من هيئة قائم وعطشان. نعم فيما اذا كان المبدأ ذاتيا لا يعقل فيه بقاء الذات وزوال التلبس ، لكن الهيئة لا يختص وضعها بتلك المادة فلا مانع من وضعها للاعم. وسيجىء توضيح ذلك بعد ذلك إن شاء الله تعالى. نعم كل مشتق لا يقبل ان يحمل على الذات فهو خارج عن محل الكلام وذلك كالمصادر المزيدة مثل الاكرام ، بناء على ان اصل المشتقات المصادر المجردة فالمزيدة مشتقة منها إلّا انها تخرج عن البحث ، لعدم صحة حملها على الذات فلا يقال : زيد اكرام ـ اما بناء على ان اصل الاشتقاق شىء غير المصادر المجردة ، فالمصادر المجردة بنفسها مشتقة منه لكنها تخرج عن محل النزاع ايضا لعدم صحة حملها على الذات فلا يقال : زيد كرم الا مبالغة او مجازا.

وهكذا الافعال بجميع اقسامها ، لا يشملها النزاع لعدم جريانها على الذات ـ وان كانت من جملة المشتقات.

اما الجوامد : فبعض منها داخل فى البحث ، وبعض منها خارج. فان الجامد اذا كان منتزعا عن مقام الذات ، كالانسان والحجر ، والتراب ، وغير ذلك فهو خارج عن محل البحث ، والوجه فيه : ان العناوين ـ فى امثال ذلك ـ مقومة للذات ، وبانتفائها تنتفى نفس الذات ، وهكذا سائر العناوين الذاتية. فلو استحال الخشب رمادا ، او الانسان ملحا ، فقد انعدمت الحقيقة السابقة. ووجدت حقيقة اخرى. ومع انعدام الحقيقة السابقة تنتفى التسمية ايضا ـ لانها تتبع بقاء الصورة النوعية ، اما المادة المشتركة بين الجميع المعبر عنها ـ بالهيولى ـ فليست قوام الاسم ، بل

١٤٠