مصابيح الأصول

علاء الدين بحر العلوم

مصابيح الأصول

المؤلف:

علاء الدين بحر العلوم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز نشر الكتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

الفرد مثلا. وعلى اى تقدير كان فهو من قبيل الوضع العام والموضوع له العام.

وعلى هذا يكون اغلب الوضع ، فقد نشاهد فردا من الطيور ونضع لفظا على كليه ، أو نرى نوعا من الورد ونضع لفظا بازاء الجامع. وما ذلك إلّا ان التصور الاولى كان سببا لتصور الكلى ، وهو لا يخرج عن كونه من قبيل الوضع العام والموضوع له العام.

(تنبيه)

إن العلقة الوضعية القائمة بين اللفظ والمعنى ناشئة من لحاظ الواضع لكل من اللفظ والمفهوم لحاظا استقلاليا ، وجعل ذلك اللفظ بازاء المفهوم الذى هو قابل للاتصاف بالوجود والعدم. اما الفرد الخارجى فليس اللفظ موضوعا له ، لانه غير صالح لان يتصور وينتقل الذهن إليه. بل المفهوم المنطبق عليه هو الذى جعل اللفظ له ، فان المفهوم (مرة) يكون كليا قابلا للصدق على كثيرين ، و (اخرى) يكون جزئيا غير قابل للصدق على كثيرين.

ومن هنا يظهر ان التصور أيضا لا يكون دخيلا فى الموضوع له ، ليكون المعنى جزئيا ذهنيا متشخصا فى عالم الذهن ، فان الموجود الذهنى ايضا غير قابل لان يتصور ويفرضه الوجود الذهنى ثانيا ، بل المجعول له اللفظ نفس المعنى الذى كان التصور طريقا للوصول إليه. وهذا المعنى (تارة) يلحظ بشخصه وبنفسه ـ سواء كان كليا ام جزئيا ـ و (اخرى) يلحظ بعنوان مشير اليه ، كعنوان اول ما يتولد من ولده فيضع اللفظ بازاء ذلك.

وكيف كان فأقسام الوضع فى جانب المعنى ـ كما عرفت ـ ثلاثة ، وكلها بحسب الامكان والثبوت ، وأما بحسب الوقوع والاثبات فقسمان

٤١

منها ثابت من دون إشكال ، وهما : الوضع العام والموضوع له العام ، والوضع الخاص والموضوع له الخاص. اما القسم الثالث : وهو الوضع العام والموضوع له الخاص ، فموضع خلاف بين القوم ، والمعروف بينهم ان اوضاع الحروف ، واسماء الموصول ، والاشارة ، والضمائر من هذا القسم ، ولا بد من تحقيق فى ذلك.

* * *

(المعنى الحرفى)

ويقع البحث عنه فى جهتين :

(الاولى) ـ فى شرح معانى الحروف ، وما تمتاز به عن الاسماء.

(الثانية) ـ فى تحقيق ان وضعها من اى اقسام الوضع.

(اما الجهة الاولى) ـ فقد اختلف الاقوال فيها :

القول الاول : ـ ما ذهب اليه السيد الشريف الرضى (قده) ، وتبعه عليه صاحب الكفاية من عدم الفرق بين المعنى الحرفى ، والاسمى. سوى مقام اللحاظ. وان معنى كل منهما متحد مع الآخر. إلا ان العلقة الوضعية القائمة بين اللفظ والمعنى انما تكون موجودة إذا لوحظ المعنى عند الاستعمال فى احدهما على نحو الاستقلال ، وفى الآخر على نحو الآلية.

وتوضيح : ذلك ان الواضع ـ عند ما تصور اللفظ والمعنى ـ لم يلحظ فى احدهما قيدا من القيود. بل تصور كلا منهما مستقلا منظورا بنفسه ، إلّا انه شرط على المستعملين حين استعمالهم للالفاظ فى تلك المعانى ان يكون اللحاظ آليا فى الحروف ، واستقلاليا فى الاسماء ، وشرط الواضع فى العلقة الوضعية فى مقام اللحاظ لا يوجب صيرورته قيدا فى اصل المعنى

٤٢

او اللفظ. ليكون تخصيصا لاحد المعنيين دون الآخر ، فيحصل الاختلاف بينهما ، ولهذا أفاد (قده) فى بحث المشتق من ان استعمال كل منهما فى موضع الآخر ، استعمال فى ذات ما وضع له إلا انه استعمال بغير العلقة الوضعية ، وعلى كل حال فالمستعمل كما كان حين الاستعمال محتاجا الى لحاظ كل من اللفظ والمعنى ـ كان الواضع مشترطا عليه لحاظ المعنى آليا ـ إن أراد استعمال كلمة فى فى الظرفية ، ولحاظه استقلاليا ـ إن اراد استعمال كلمة الظرفية فيها ـ فالعلقة الوضعية فى احدهما تغايرها فى الآخر.

(ويرد عليه) اولا ـ ان شرط الواضع فى المقام ـ على المستعملين ليس كسائر الشروط التى يجب الوفاء بها. فانه لو كان معنى الاسم والحرف واحدا ، والاختلاف فى العلقة الوضعية للزم صحة استعمال احدهما فى الآخر. بل هو اولى من المجاز ، لان المجاز عبارة عن استعمال اللفظ فى غير ما وضع له مع العلاقة المصححة ، وما نحن فيه ليس استعمالا فى خلاف ما وضع له (بل بعين ما وضع له) ـ كما هو المدعى ـ غايته انه لا يكون بالعلقة الوضعية. ولكن بالوجدان نرى انه لو صدر ذلك من أحد ـ بان استعمل احدهما فى الآخر ـ لكان غلطا فاحشا. كأن يعبر عن قوله مثلا : زيد فى الدار. بقوله : زيد الظرفية التعريف دار. وهذا يكشف عن وجود مغايرة بين المعنيين لا يصح معه استعمال احدهما فى الآخر.

و (ثانيا) ـ انه لو كان معنى كل منهما عين الآخر ، وكان الاختلاف بينهما فى ناحية اللحاظ فاللازم من هذا ان تكون بعض المعانى الاسمية ـ المنظور بها للغير ، والملحوظ آلة لشىء آخر ـ حرفية. فان بعض العناوين قد يؤخذ فى الموضوع لا من حيث نفسه ، بل من جهة حكايته ، وكاشفيته

٤٣

عن غيره ، وهو باطل بالضرورة.

و (ثالثا) ـ ليس من المسلم دائما أن يكون الحرف ملحوظا آليا ، وطريقا للغير. فهناك بعض الموارد يلحظ الحرف بلحاظ استقلالى ، ويكون منظورا اليه بنفسه ، وذلك كما لو علمنا ان زيدا حل فى بلد ونعلم انه سكن فى مكان ولكنه لا نعلم المكان بخصوصه ، فنسأل عن تلك الخصوصية التى هى مدلول الحرف فنقول : سكن زيد فى اى مكان. ولا ريب ان المنظور اليه حينئذ نفس الخصوصية. مع العلم ببقية جهات القضية.

فالمتحصل من المجموع انه ليس ثمة اتحاد بين المعنيين اصلا.

القول الثانى : الذى هو فى حد التفريط. ما ينسب الى المحقق الرضى (قده) ايضا ان الحروف ليس لها معنى اصلا ، وانما جيء بها فى الكلام علامة على وجود خصوصية فى المقام ، فهى كالاعراب من هذه الجهة. فكما ان الرفع ، والنصب ، والجر لا يستفاد منها معانى ، وانما هى قرينة على وجود خصوصية فى مدخولها يشير اليها كالفاعلية والمفعولية ، فكذلك الحروف.

(وبعبارة اخرى) الحروف علامة على إرادة خصوصية من خصوصيات مدخولها ـ كالاعراب فان مدخولها ، وهى الدار ـ مثلا فى قولنا فى الدار لها احوال كثيرة : منها ـ ملاحظتها بمالها من الوجود التكوينى كسائر الموجودات فيصح الاخبار عنها. ويقال : الدار واسعة.

واخرى ـ بملاحظتها بمالها من الوجود الاينى الذى يراد منها المكان ، ومحل الاستقرار فيقال : زيد فى الدار.

وثالثة ـ وقوعها مبدأ للسير ، فيقال : سرت من الدار الى المدرسة.

ورابعة ـ وقوعها منتهى إليها ، فيقال : وصلت الى الدار.

٤٤

فاذا دخلت (فى) على كلمة الدار فقد صارت علامة على ان فى مدخولها خصوصية وهى الوجود الاينى ـ بمعنى المكان ـ وهكذا الاعراب من هذه الجهة. فان زيدا مثلا قابل لان يصدر منه الفعل ، أو يقع عليه ، او ينتهى اليه الشىء ... الخ .. فاذا رفع فقد دل الرفع على أنه فاعل اذا تقدمه فعل ، ويكون الفعل صادرا منه لا واقعا عليه. فالحروف والاعراب قرائن على وجود خصوصية فى المدخول.

ولا يخفى ان هذا القول أشبه بالجمع بين المتناقضين ، بمعنى ان الحروف ليس لها معنى اصلا وانها للتزيين والتحسين فى الكلام بحيث يكون وجودها كالعدم ـ مثل بعض الحروف الزائدة كالباء الداخلة على خبر ليس وفاعل كفى ـ فلا يكون لوجودها أهمية فى الكلام وانها كالعدم ، ومعنى انها علامة دالة على خصوصية فى المقام ان الحروف لوجودها اثر فى الكلام بحيث لولاها لا نعدم المعنى ، أو تبدل الى معنى آخر ، كالاعراب فان له كمال لا اثر فى المعنى. فقولنا : ضرب زيد عمرا ـ يستفاد منه معنى غير ما يستفاد من جملة ضرب زيدا عمرو ـ فلازمه ان يكون للحروف معنى كالمعانى الاسمية من حيث اهميتها ، وليست خالية عن كل معنى.

وعلى كل تقدير فلا شبهة فى ان الحروف فى الكلام تدل على خصوصيات لم تكن تستفاد منه لو لا تلك الحروف. ولا ريب فى ان هذه الدلالة لا موجب لها الا الوضع ، فالحروف لها وضع لا محالة ، والكلام فعلا فى ما به تمتاز معانيها عن المعانى الاسمية ، فلا مجال للقول بان الحروف لا معنى لها وإنما هى علامات.

القول الثالث ـ ان المعانى الحرفية مغايرة للمعانى الاسمية فى ذاتها ، ولا بد من بيان الفارق بينهما ، وقد وقع الخلاف فى ذلك.

٤٥

فذهب المحقق النائينى ـ قده ـ إلى ان المعانى الاسمية اخطارية ، والمعانى الحرفية ايجادية ، بمعنى ان المفهوم إن أمكن تصوره مستقلا من دون لحاظ شىء معه ـ كان معنى اسميا حيث يخطر المعنى فى الذهن ، وإن لم يكن تصوره مستقلا بل كان لحاظه يتبع لحاظ شىء آخر له فهو معنى حرفى.

بيان ذلك : ان الشىء إذا لوحظ بحسب وجوده الخارجى ـ فتارة ـ يكون وجوده غير محتاج الى شىء يقوم به ، او يعرض عليه. بل يوجد بنفسه مستقلا (كالجوهر) مثل الجسم.

واخرى ـ يفتقر وجوده خارجا الى وجود محل يقوم به ويعرض عليه (كالاعراض) فان البياض والسواد مثلا لا يوجدان خارجا الا بعد أن يوجد جسم فى الخارج ، فكان وجودهما تبعا لوجود شىء آخر.

وهكذا الكلام فى الوجود الذهنى ، فان بعض المفاهيم يستقل فى عالم التصور والادراك والتعقل ، بحيث لا يكون تصورها موقوفا على تصور شىء آخر ، وذلك كالجواهر والاعراض بل الامور الاعتبارية ، والامور العدمية ـ كمفهوم الانسان ، والبياض ، والملكية ، واجتماع الضدين. فهذه مفاهيم تتعقل منفردة من دون ضميمة شىء لها ، فاذا تكلم الشخص بها فقد اخطر معانيها فى الذهن ، واخطرها ، فهذه هى الاسماء.

وبعضها الآخر لا يمكن تعقله فى الذهن إلا بتعقل شىء آخر معه بحيث يدركه العقل بتبع ادراكه لشىء آخر ، وفى ضمن كلام تركيبى ، فهذه هى مفاهيم الحروف. فان (فى) التى هى للظرفية لا تتصور مستقلة إلّا بانضمامها الى كلمتى زيد والدار مثلا. فهى فى عالم المفاهيم كالاعراض فى الوجود الخارجى ، ولهذا كانت كلمة (فى) مثلا موجدة معنى قائما

٤٦

بين امرين. ولولاهما لما تم معنى للظرفية. فالحروف معانيها إيجادية تحصل فى عالم الالفاظ حيث وضعت لتحقق الربط بين مفهومى زيد والدار ، بخلاف المعانى الاسمية فانها اخطارية ينتقل اليها عند التلفظ بها ، ويدركها الذهن مستقلا. ولهذا يحمل ما ورد عنه (ع) : الحرف ما اوجد معنى فى غيره ـ على هذا المعنى.

نعم ايجادها لمعنى ليس كالايجاد فى عالم الانشاء ـ عند قولنا : بعت او آجرت ـ فان كلمة بعت سبب لوجود ملكية فى عالم الاعتبار ، لا فى عالم اللفظ. بخلاف الحروف فانها موجدة للمعنى فى عالم اللفظ. فالمتحصل من هذا ان الحروف موضوعة للربط بين الكلمات كالهيئات ، ولولاها لاصبح الكلام مهملا ، وهى توجد المعنى فى مرحلة اللفظ ، وهذا المعنى بنفسه متقوم بالغير ، ولا استقلال له فى ذاته. بخلاف الاسماء فان معانيها معان مستقلة فى ذاتها تخطر فى الذهن من دون احتياج لشىء آخر. ولاجل هذا ان كل شىء إذا لوحظ للغير ، وكان لحاظه آليا يشبه بالمعنى الحرفى. وكأن اهل الادب التفتوا الى هذا الفارق فأخذوا فى مقام تفسير الاسماء يفسرونها بمالها من المعانى تماما ، ويقولون ، معنى التبر الذهب مثلا. بخلاف الحروف ، فانهم يفسرون كلمة (فى) مثلا ويقولون : انها للظرفية. ولا يقولون ان معناها نفس الظرفية ، وما ذلك إلا لاجل ان المعانى الاسمية بذاتها تغاير المعانى الحرفية.

(والجواب عن ذلك) : ان ما افاده المحقق النائينى ـ قده ـ من تغاير المعنيين الحرفى والاسمى ، واستقلال المعنى الاسمى مفهوما ، وعدم استقلال المعنى الحرفى تصورا ، وان الحرف يوجد الربط بين الامرين ولو لا لاصبح الكلام مهملا مما لا اشكال فيه ، انما الاشكال فيما افاده من ان

٤٧

المعنى الحرفى إيجادى. إذ لا ينحصر امر المعنى بين الاخطار والايجاد ـ على نحو يكون انتفاء احدهما موجبا لتعين الآخر ـ فمن الممكن ان يكون هناك شق ثالث ، وصورة اخرى تغاير الاثنين.

بيان ذلك : ان الحروف وإن اوجبت الارتباط بين المعانى الاسمية بحيث لولاها اصبح الكلام مهملا إلا أن الربط الحاصل من الحروف ليس مستندا الى مجرد لفظة (فى) وما شاكلها ، وإنما من جهة كشف ذلك الحرف عن خصوصية ، تلك الخصوصية هى التى ربطت بين الكلمات. نعم الخصوصية المنكشفة بلفظة (فى) غير مستقلة فى عالم التصور ، وإنما تقوم بين امرين ، وهذا لا يستلزم ان تكون الحروف نفسها رابطة.

(وبعبارة اخرى) الحروف ليست معانيها اخطارية كالاسماء لانها لا تقبل الاستقلال تصورا. كما انها ليست بايجادية باعتبار كشفها عن خصوصية فى المعنى دون ايجادها لخصوصية فى اللفظ. اذن فهى برزخ بين الاثنين. ولاجل كشفها عن الخصوصية ـ التى تربط الكلام بعضه ببعض ـ امتنع ان تحل بعض الحروف محل بعضها ، لان الخصوصية التى تنكشف بواسطة (فى) غيرها المنكشفة بواسطة الباء ولو كانت سببا لايجاد الربط لصح قيام بعضها مقام البعض.

واما ما فرع عليه ـ قده ـ من ان عدم استقلالية المعانى الحرفية ـ بحسب المفهوم ـ اوجب ان يكون النظر إليها نظرا آليا ، فغير تام فان المعنى الحرفى ـ كما سبق ـ قد يلحظ استقلالا بنفسه بلا تبع شىء آخر. كما لو حل زيد فى بلد ، وعلمنا أنه سكن فى مكان ، ولكنه لا نعلم بخصوصيته فنسأل عن تلك الخصوصية التى هى مدلول الحرف فنقول : سكن زيد فى اى مكان؟ ولا ريب ان المنظور اليه حينئذ نفس الخصوصية مع العلم ببقية

٤٨

جهات القضية.

وأما ما استشهد به من ان ما لا استقلال له فهو شبيه بالحرف ، فهو وإن كان صحيحا إلا أن التشبيه من حيث عدم الاستقلالية لا من حيث كونه آليا ، ومرآتا. وهذا لا يكون شاهدا على ان المعنى الحرفى آلى. نعم يستكشف منه ان المعنى الحرفى غير مستقل بالمفهوم.

(القول الرابع) ما ذهب إليه بعض مشايخنا المحققين ـ قده ـ من ان الحروف عبارة عن النسب ، والروابط القائمة بين الجواهر والاعراض التى لا وجود لها فى نفسها. وبيان ذلك : ان الوجودات على اربعة اقسام.

القسم الاول ـ ما يكون مستقلا فى حد نفسه بحسب الخارج غير مفتقر. فى تحققه ووجوده الى شىء آخر يقوم به ، او يعرض عليه كما أنه لا يتوقف حصوله فى الخارج على علة موجدة له فيقال : هو موجود فى نفسه ، ولنفسه ، وبنفسه ـ بمعنى انه فى حد ذاته يحمل عليه الوجود كما ان وجوده غير محتاج الى موضوع وعلة أصلا ـ وهذا هو (واجب الوجود).

القسم الثانى ـ ما يكون وجوده مستقلا فى نفسه ، ويحمل عليه الوجود ، ووجوده غير محتاج الى محل يقوم به ، او يعرض عليه. وإنما كان من ناحية إيجاده مفتقرا الى علة تقتضيه ـ وهذا القسم هو الجوهر كزيد وعمرو ـ فيقال : زيد موجود فى نفسه ولنفسه إلا أن وجوده كان بغيره ، وبسبب آخر ، فيقال : (موجود فى نفسه ولنفسه وبغيره).

القسم الثالث ـ ما يكون موجودا فى نفسه ، ويستحق اطلاق الوجود عليه ، إلا أن وجوده فى الخارج محتاج إلى محل يقوم به ، وموضوع يعرض عليه ـ كما يتوقف وجوده على علة تكوّنه وتقتضيه ـ وهذا (كوجود الاعراض) حيث انها وجودات فى نفسها ولكن بغيرها ولغيرها. لا أنها

٤٩

اوصاف لموضوعات متحققة فى الخارج ، ووجودات بغيرها من جهة وجود علة اقتضت ذلك كالسواد والبياض ، فهذه وجودات فى نفسها وبغيرها ولغيرها.

القسم الرابع ـ ما يكون موجودا لا فى نفسه ، بمعنى انه ليس موجودا فى حد نفسه فضلا عن كونه لنفسه حيث هو فى ضمن شىء آخر ، ولا انه بنفسه. لانه بعلة اقتضت ذلك ، فهو موجود لا فى نفسه ، غير قابل لحمل الوجود عليه ، وإنما هو فى غيره ومحتاج فى ذاته الى تعقل شىء آخر ـ وذلك هو وجود النسب والروابط التى تكون رابطة بين العرض ومعروضه ، فانها غير موجودة على نحو الاستقلال ـ ومن ثم لا ماهية لها ، لان الماهية ما تقع فى جواب السؤال عن الشىء بما هو الحقيقية ، ولا يقع عنها بما هو شىء إذ لا مفهوم له حتى يقع فى الجواب. فهذا القسم من الوجود يسمى (بالوجود الرابط) كما أن القسم الثالث يسمى (بالوجود الرابطى).

اما الدليل على اصل وجوده فهو أننا نتيقن ـ تارة ـ بوجود جوهر وهو زيد مثلا ، ونتيقن بوجود عرض كالقيام او البياض ، ولكننا نشك فى ثبوت ذاك العرض لذلك الجوهر.

(وبعبارة اخرى) نشك فى نسبة ذلك العرض الى المعروض ، وتحقق الربط بين زيد والبياض ، او زيد والقيام. ولا ريب ان متعلق الشك ليس بنفسه متعلق اليقين فان اليقين تعلق بوجود كل من الجوهر والعرض ، والشك تعلق بوجود شىء آخر هو النسبة والربط بينهما ، ولا إشكال ان تعدد المتعلق يكشف عن تعدد الوجود. فلا بد وأن تكون وجودات ثلاثة : وجود للجوهر ، ووجود للعرض ، ووجود للنسبة والربط. فهذا دليل على أصل وجوده.

٥٠

واما الدليل على ان هذا القسم وجود غير مستقل خارجا ، وانه وجود لا فى نفسه. فهو ان ثبوت شىء لشىء ليس أمرا مستقلا بل هو فى ضمن شيئين : جوهر وعرض ، إذ لو كان للنسب وجود مستقل لكان قائما بغيره لا محالة. فلا بد من رابط هناك بينه وبين معروضه. وهكذا ننقل الكلام الى ذلك الربط فلو كان موجودا فى نفسه. لاحتاج الى معروض ، وإلى ما لا نهاية له ، ولاجل كونه غير مستقل فى الوجود عبر عنه بالوجود الرابط ، وذلك لقيامه بوظيفة مهمة هى ربط العرض بالجوهر.

اذا عرفت هذا : فالمعانى الاسمية إنما هى من قبيل الجواهر والاعراض حيث انها معان مستقلة بحسب المفهوم والوجود ، واما الحروف فهى النسب والروابط ، وقد وضعت الحروف للدلالة على تلك المعانى النسبية. فان (النسبة) ـ تارة ـ يقصد منها ثبوت شىء لشىء. واخرى ـ ثبوت شىء فى شىء وهى (الظرفية) وثالثة ـ ثبوت شىء بشىء وهى الآلة وجامعه هو الربط. وهذه كلها نسب خارجية. اما مفهوم الربط الذى هو ربط بالحمل الاولى فهو معنى اسمى ، لكونه مستقلا فى عالم التعقل والادراك ، ونسبته الى واقع النسبة كالعنوان الى معنونه ، واما المعنى الحرفى فهو ربط بالحمل الشائع.

والحاصل ان حكمة الوضع كما تقتضى وضع الالفاظ للمعانى الاسمية من الجواهر والاعراض ، كذلك تقتضى ان تكون النسب موضوعا لها شىء ، وليس الموضوع لها الا الحروف فالحروف وضعت للنسب الواقعية الخارجية التى هى غير مستقلة فى الوجود اصلا. وليست موضوعة لمفاهيم النسب الخاصة كالنسبة الظرفية ، والابتدائية وهكذا فقولنا : كلمة (فى) موضوعة للنسبة الظرفية لا نريد به انها موضوعة لهذا المفهوم ـ

٥١

اى ما هو نسبة ظرفية بالحمل الاولى ـ بل نريد به انها موضوعة لواقعها وما هو نسبة بالحمل الشائع. وهذا كقولنا : اجتماع الضدين ، او شريك البارى محال. فانا لا نريد به ان نفس مفهوم ذلك محال. بل المحال واقع الاجتماع ، وواقع الشريك ، وهكذا العدم فان مفهومه ليس بمعدوم بالحمل الشائع الصناعى. نعم مفهوم العدم عدم بالحمل الذاتى.

فالذى تلخص من مقالة بعض المشايخ : ان الحروف وضعت لواقع النسب ، والروابط الخارجية التى هى سنخ من الموجودات غير المستقلة ، والتى هى غير موجودة فى نفسها ، بخلاف الاسماء فانها وضعت لمفاهيم مستقلة فى عالم التصور.

(ولا يخفى) ان البحث هنا يقع فى مرحلتين : (الاولى) فى اصل تحقق قسم رابع ـ غير وجود الواجب والجواهر والاعراض ـ وهو الوجود المصطلح عليه (وجود لا فى نفسه). (الثانية) فى ان الحروف وضعت لهذا المعنى أم لا؟.

اما الكلام عن الاولى ـ فالتحقيق انه ليس هناك قسم رابع من الموجودات الممكنة غير وجود الجواهر والاعراض ، والوجه فيه ان هذه الموجودات غير المستقلة لو كانت لم تكن لها ماهية اصلا ، ولا يتعقل وجود خارجى امكانى بلا ماهية. إذ لا معنى للموجود بلا ماهية ، فانها حد للوجود. نعم وجود الواجب لا ماهية له لانه لا حدّ له.

واما ما استدلال به من البرهان على إثباته فغير تام ... لان غاية ما جاء به ان تعدد المتعلق ، يكشف عن تعدد الوجود ، وهذا ليس بصحيح ، إذ ربما يكون هناك وجود واحد فى الخارج ، ويكون من جهة متيقنا ، ومن اخرى مشكوكا. فالكلى ربما يتيقن بوجوده فى الدار ، ولكن

٥٢

بالاضافة الى مصاديقه كزيد وعمرو مشكوك. وبناء على ان الكلى عين فرده فوجود ذلك الكلى وجود للفرد ، فهو وجود واحد صار متعلقا لليقين والشك من جهتين. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان اليقين تعلق بوجود (الجوهر) وهو زيد ، ويقين تعلق بوجود (العرض) وهو كلى البياض ، إلا اننا نشك فى نسبة ذلك الكلى الى زيد.

ومن المعلوم انه على تقدير ثبوته لزيد ليس هناك وجودات متعددة : وجود للكلى ، ووجود للفرد. بل هو وجود واحد فى الخارج ، وهو وجود البياض مثلا. وهكذا الحال فى غير المقام ، فانا إذا أثبتنا وأقمنا البرهان على أن للعالم محدثا ، وموجدا ، وصانعا فلا محالة يعترف الخصم به. ولكنه ـ مع ذلك ـ فى شك من انه جسم ، أو أنه عالم ، ونحو ذلك. فاليقين بوجود صانع مع الشك فى الخصوصيات لا يكشف عن ان الصانع والخصوصية المشكوكة متعددان بحسب الوجود.

(واما الكلام عن الثانية) فلأننا لو تنزلنا عن ذلك ، وسلمنا بان هناك وجودا رابعا ـ وهو الوجود لا فى نفسه ـ إلا ان كون الحروف من هذا القبيل ليس كذلك. إذ الحروف لم تكن موضوعة لما هو الموجود خارجا لعدم تحققه فى الذهن ، وقد مر ان ما يوضع له اللفظ ، لا بد وان يكون أمرا قابلا للوجود الذهنى لينتقل اليه السامع ، ثم بعد ان أصبحت موضوعة للمفاهيم فما هو المفهوم الذى وضع له الحرف؟ هل هو مفهوم النسبة والربط؟ فان ذلك مفهوم اسمى مستقل فى عالم الادراك ، أو هناك مفهوم آخر وضعت له الحروف غير مفهوم النسبة فما هو ذلك المفهوم؟ وعلى كل فالحروف ليست موضوعة للنسب الخارجية ـ مضافا ـ الى ان الحروف تستعمل فى موارد غير صالحة لاثبات العرض الى معروضه ، ولتحقق الربط

٥٣

بينهما ، وذلك فى مثل واجب الوجود ، فيقال : الله عالم بكذا ، او قادر على كذا ، او مريد لكذا ... الخ وبناء على ان الحروف تفيد الربط بين العرض والجوهر فقد استعملت الباء واخواتها للدلالة على هذا المعنى. مع ان صفاته تعالى عين ذاته ، وذاته غير قابلة لطرو هذه الامور عليها ، فانها ليست محلا للعوارض والحوادث.

مع اننا بالوجدان نشاهد استعمال الحرف فى مثل هذه الموارد كاستعماله عند ما يقال : زيد عالم بكذا ـ من دون فارق بينهما ـ بل ربما تستعمل الحروف فى الامور العدمية والاعتبارية. فيقال : اجتماع الضدين فى نفسه ممتنع ، والامكان فى نفسه مغاير للامتناع. ولا ريب انه لا نسبة بين اجتماع الضدين ونفسه ، وكذلك بين الامكان ونفسه ، ليعبر عنها بالوجود الرابط إذا فما هى النسبة التى يحكى عنها الحرف؟.

(القول الخامس) ـ ذكره المحقق العراقى ـ قده ـ : ان الحروف لم تكن موضوعة لافادة النسب الخاصة ، ولا للربط بين العرض والمعروض ـ فان الهيئة هى التى تفيد هذا المعنى ـ بل الحروف موضوعة للاعراض النسبية. بيان ذلك : ان الاعراض على قسمين :

(قسم) ما يكون فى مقام وجوده الخارجى محتاجا الى موضوع واحد يقوم به خاصة ، وهذا كمقولة الكيف والكم.

(وقسم) ما يكون فى مقام وجوده الخارجى محتاجا الى موضوعين يتقوم وجوده بهما ـ وهو كمقولة الاين والمتى والاضافة وما شاكلها ـ ويسمى بالعرض النسبى. والحروف موضوعة للقسم الثانى ، فاننا لو قلنا : (زيد فى الدار) فان (زيدا) جوهر له مفهوم اسمى مستقل فى عالم الادراك لا يستفاد منه إلا واقعه ، كما ان (الدار) مفهوم اسمى لا يستفاد منها إلا

٥٤

واقعها واما (فى) فتدل على خصوصية قد نسبت إلى الذات وهى تحقق كون ما منه وتلك الخصوصية هى التى صححت النسبة ، ولولاها لما كان فى الكلام مناسبة. اما الهيئة فهى تشير الى ذلك العرض المتحقق من زيد وتحمله عليه ، وهذه الخصوصية التى يكشفها الحرف تختلف (فتارة) تكون وجودا أينيّا مكانيا. وأخرى ـ ابتدائيا. وثالثة ـ انتهائيا.

فالمتحصل من هذا القول ان الحروف تدل على العرض المنتسب إلى موضوع ما ، والهيئة تدل على ربط ذلك العرض بموضوع بعينه ، وتحققه خارجا. فاصبحت الحروف موضوعة للاعراض النسبية ، كما أن الهيئة تدل على تحققها فى الخارج.

وهذا القول فاسد بل اوضح من سابقه فسادا. أما فساده : فلان الحروف ربما تستعمل فى موارد غير قابلة لنسبة العرض الى معروضه ، فيقال : إن الله عالم بكذا ، وقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) وامثالهما. وإذا كان معنى الحروف الاعراض النسبية كان لازمه استحالة استعمال الحروف فى هذه الموارد ، لانه تعالى أجل من ان يتصف بالاعراض النسبية وغير النسبية.

واما اوضحية الفساد : فلان معنى هذا القول ان (فى) موضوعة للظرفية لانها العرض النسبى ـ اعنى كون شىء فى شىء وهذا المفهوم معنى اسمى ، ولازمه اتحاد المعانى الاسمية والحرفية بحسب الذات ، ويكون التخيير بينهما باللحاظ. مع انه ـ قده ـ بنفسه اعترف بتغاير المعنيين ، فهذا نقض لما التزم به.

(المختار)

والصحيح أن يقال : إن الحروف وضعت لمعان ومفاهيم غير مستقلة

٥٥

فى عالم المفهوم ، وإنما هى متعلقة بالغير. تلك المفاهيم هى تضييق المعانى الاسمية.

بيان ذلك : ان المعانى الاسمية ـ الكليات منها والجزئيات ـ تنقسم إلى عدة تقسيمات من حيث حصصها ، وافرادها ، واحوالها. على وجه لا يجمعها عدد ، مثلا الضرب له عدة تقاسيم : فهو ينقسم باعتبار زمانه ، ومكانه ، وآلته ، وموجده ، وقابله ، وكيفيته ، ونحو ذلك. الى تقاسيم لا نهاية لها. ولا ريب أن كل حصة من الحصص المذكورة لم يوضع لها لفظ مخصوص ، فان ملاحظة تلك الحصص الكثيرة للواضع من الامور العسرة إن لم تكن غير ممكنة ، وذلك لعدم وجود الفاظ تكفى للدلالة على تلك المعانى التى ليس لها ضابط من حيث العدد. ولا اشكال أن غرض المتكلم ـ كما يتعلق ببيان المفهوم على سعته واطلاقه ـ يتعلق ببيان حصة خاصة من تلك الحصص. إما للحكم عليها ، وإما لداع آخر يدعوه الى تصويرها أمام المخاطب. فكان بالضرورة محتاجا الى وسيلة كافية تنهض بهذه المهمة وتبرز ذلك المعنى أمام السامع. وقد عرفت ان الاسماء عاجزة عن القيام بهذا الامر ، ولكن الحروف هى التى نهضت بتحصيل الغرض المذكور فكانت دالة على تضييق دائرة المعنى ، وتقييد ما كان واسعا (وتفيد ان المعنى الاسمى لم يرد على سعته وإطلاقه بل اريدت منه حصة خاصة) مثلا لو قلنا : (الصلاة فى المسجد مستحبة) فلفظ (الصلاة) دل على العبادة الخاصة ، وكلمة (المسجد) دلت على الارض التى اتخذت بيتا لله تعالى ليعبد فيه ، واما كلمة (فى) فقد دلت على ان المراد من الصلاة ليس الطبيعة السارية إلى كل فرد بل حصة خاصة منها وهى الصلاة فى المسجد فقد يحكم عليها بحكم شرعى كما فى المثال ، وقد يحكم عليها بالوجود ، أو بالعدم ، أو

٥٦

بالامكان ، او بالامتناع ، أو بغير ذلك.

فالحروف وضعت لمفاهيم غير مستقلة فى نفسها ، بل قائمة بالغير. تلك المفاهيم هى تضييق المعانى الاسمية ، وبهذا اصبحت معانى الحروف مغايرة للمعانى الاسمية. لان المعانى الاسمية مستقلة فى عالم الادراك لا تحتاج إلى شىء تقوم به بخلافها الهيئات الناقصة ، كهيئة الاضافة ، فانها ايضا تدل على التضييق. فاذا قلنا : (دار زيد) أو (غلام عمرو) فان الدار لها معنى واسع ينقسم الى أحوال كثيرة (فتارة) يختص بزيد (وأخرى) بعمرو (وثالثة) بالامير ، وما شاكل ذلك. كما ان الغلام كذلك فى المثال الثانى ، وقد صور لنا الحصة الخاصة نفس الاضافة دون ان يتوسط بينها حرف من الحروف.

(تنبيه)

لقد قسموا الحروف إلى قسمين : قسم يدخل على الجملة الناقصة بحيث لا يكتفى به فى مقام الافادة مثل فى وعن ، وهذا القسم هو الذى وضع لتضييق المفاهيم الاسمية.

وقسم يكون مدخولها تام النسبة والافادة. مثل ادوات الاستفهام ، والنداء ، والتمنى ، والترجى ، وهى تلازم الدخول على الجمل التامة. ومفاد هذه الحروف مفاد الجمل الانشائية تدل بحسب وضعها على امر نفسانى قائم فى ضمير المتكلم. فكلمة (ليت) إذا قيل : (ليت لى قنطارا من الذهب) تبرز ما فى نفس المتكلم من التمنى المخصوص المتعلق بالذهب مثلا ، وهكذا الاستفهام فانه يبرز ما فى نفس المتكلم من طلب الفهم الخاص لا المطلق. وهذا امر يعود الى التزام الشخص على نفسه بانه متى ما جاء

٥٧

بهذه الحروف الخاصة فقد أبرز بها معنى فى ضميره. فهذا القسم من الحروف مفاده كالانشاء من ناحية كشفها عن شىء ما فى النفس ـ حسب ما التزم به المتكلم ـ وبهذا اختلف القسم المذكور عن بقية الحروف التى تدخل على الجمل الناقصة ، فانها لا تفيد إلا تضييق المعانى الاسمية ـ كما سبق.

ومن هنا اتضح حال وضع الحروف ، وإنها من قبيل الوضع العام ، والموضوع له الخاص. وذلك بعد أن قلنا : إن الحروف تفيد تضييق المعانى الاسمية. فالحروف بنفسه لم يكن موضوعا لمفهوم التضييق لانه معنى اسمى ، بل وضع لواقع التضييق الطارى على مثل الصلاة ، والاكل ، والشرب فان الواضع قد تصور مفهوم التضييق الذى هو معنى اسمى ، ولاحظه مرآة الى افراده ، وبهذا اللحاظ وضع الالفاظ بازاء تلك الافراد. فكان الوضع عاما والموضوع له خاصا.

(الفرق بين الجمل الخبرية والانشائية)

ادعى صاحب الكفاية ـ قده بعد بيان المعنى الحرفى ان الفرق بين الخبر والانشاء كالفرق بين المعنى الاسمى والحرفى ، وان الاختلاف بينهما فى مرحلة الاستعمال.

وهذا مبنى على ما هو المشهور من ان الجملة الخبرية تدل على ثبوت النسبة الخارجية او على عدمها. بخلاف الجمل الانشائية فانها تفيد ايجاد المعنى فى نفس الامر والواقع ، فلو قلنا : (بعت) فالمادة دلت على حقيقة البيع التى هى مبادلة مال بمال ، والهيئة قد أفادت نسبة ذلك الشىء الى المتكلم. فان قصدنا من هذا الاستعمال الاخبار عن ثبوت النسبة سمى (إخبارا).

٥٨

اما لو قصدنا منه الانشاء أى بداعى ايجاد المعنى سمى (إنشاء) فكان كل من الجمل الخبرية والانشائية يحكيان عن معنى واحد. وهذا المعنى ان استعمل فيه اللفظ بداعى الحكاية عن ثبوت النسبة ، أو عدمها فى عالمها سمى (إخبارا). وإن استعمل بداعى ايجاد المعنى سمى (انشاء) ، والمدلول هو شىء واحد فى المقامين.

(ولا يخفى ما فيه) ان الجمل الخبرية باقسامها : اسمية ، وفعلية ـ بحسب هيئاتها ـ لا تكون موضوعة للدلالة على ثبوت النسبة ، أو عدمها خارجا. فان ذلك امر لا يترتب على الكلام فانه يحتمل صدقه ، كما يحتمل كذبه. وإنما تدل الجمل الخبرية على ان المتكلم فى مقام الحكاية عن ثبوت النسبة بحسب واقعها ، او عدمها من دون نظر الى المطابقة وعدمها.

وهذه الحكاية التى دل عليها اللفظ لا تختص بعالم الالفاظ ، بل تحصل بالاشارة ايضا. كما إذا سئل عن مجيء زيد فحرك راسه قاصدا بذلك الاجابة عن السؤال ، والحكاية عن ثبوت النسبة او عدمها. اما المطابقة للواقع ، وعدمها ، او الصدق والكذب فليس من شئون اللفظ ، بل من شئون المعنى المدلول ، فان طابق المخبر به الواقع اتصف بالصدق ، وإلا فهو يتصف بالكذب. فان اللفظ ـ كما عرفت ـ لا يفيد غير الحكاية عن ثبوت النسبة ، وعدمها. وذلك ناشى عن التزامه وتعهده بأنه متى جاء بالجملة الخبرية فقد اراد الاخبار عن ثبوت النسبة ، وعدم ثبوتها. فاذا جاء بها ، ولم يقصد منها ذلك فقد جرى على خلاف التزامه ، وتعهده. وهو مع ذلك لا يوجب خروج الجملة عن إفادتها الحكاية ما لم تقم قرينة على الخلاف ؛ وكذلك الحال فى الالفاظ المفردة مثل (زيد) فان اللفظ عند اطلاقه يستفاد منه ان المتكلم قصد به تفهيم المعنى الذى التزم بتفهيمه عند الاطلاق ، وإن اراد

٥٩

المستعمل معنى آخر منه ما لم ينصب قرينة صارفة عنه.

فالمتحصل من هذا ان الجملة الخبرية لم تكن بحسب هيئتها دالة على ثبوت النسبة وتحققها ، بل تدل على ان المتكلم فى مقام الحكاية عن ذلك ـ بحسب الخارج ـ وليس المقصود من الخارج هو الوجود الخارجى بل بحسب واقع الامر والحقيقة ، إذ ربما يخبر عن امور عدمية ، مثل اجتماع الضدين ممتنع.

واما الجمل الانشائية فلا نتعقل دعوى القوم انها موجدة للمعنى.

فان كان المقصود ان اللفظ يوجد به شىء من الوجودات الحقيقية فلا ريب انه يحصل باسبابه التكوينية الخارجية ، وليس اللفظ منها بالضرورة

وإن أريد بذلك ان الموجود باللفظ امر اعتبارى لا حقيقى فذلك المعتبر خفيف المئونة لا يفتقر إلّا الى الاعتبار ، وهو يوجد فى نفس معتبره ، وليس من اسبابه اللفظ.

وإن أريد بذلك ان اللفظ موجد اعتبارا ما من العقلاء او الشرع فان العقلاء والشرع اعتبروا تحقق البيع بالمادة والصيغة الخاصة ـ وهى بعت ـ كما اعتبروا تحقق الهيئة ـ بمثل وهبت ـ فالمتكلم إن انشأ هذا المعنى فقد اوجد اعتبار أولئك القوم.

فهذا امر لا بأس به إلا أن هذه الامور الاعتبارية لا تحصل من مجرد اللفظ. إذ لازمه تحقق البيع لو صدرت الجملة المتقدمة من النائم ، ولا يلتزم به أحد. فلا بد وان يكون ترتب ذلك على امر وراء نفس اللفظ ، وما هو إلا قصد المعنى.

على ان ذلك لو تم فانما يتم فى موارد العقود ، والايقاعات ، واما فى

٦٠