مصابيح الأصول

علاء الدين بحر العلوم

مصابيح الأصول

المؤلف:

علاء الدين بحر العلوم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز نشر الكتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد ، وآله الطاهرين ، واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين الى قيام يوم الدين.

لا يشك أحد فى أن الشريعة الاسلامية المقدسة قد اشتملت على أحكام الزامية فوجب على المكلف ان يقوم بامتثالها وأدائها ، وان كثيرا من تلك التكاليف لم تكن ضرورية وبديهية ليكفى فى الوقوف عليها مجرد الالتفات والنظر من دون احتياج الى اقامة برهان ، بل هى نظرية محتاجة الى اتخاذ مباد يتوصل بها الى الحكم الشرعى ، ويقف المكلف عليه ، والمبادى التى اشتملت على هذه الغاية هى علم الاصول دون بقية العلوم ، وهذه المبادى على اقسام :

منها ـ ما يوصل المكلف الى الحكم الشرعى وصولا علميا وجدانيا على نحو يكون المكلف بواسطة تلك القواعد باتا بالحكم ، وجازما به. وهى مباحث الاستلزامات العقلية كمقدمة الواجب ، وبحث الضد ، واجتماع الامر والنهى ، ودلالة النهى على الفساد. فان العقل اذا ادرك الملازمة بين وجوب الشىء ووجوب مقدمته ، وحكم بالتلازم بينهما ، وعدم الانفكاك نقطع بوجود أمر بالمقدمة اذا تعلق خطاب بذيها. وكذا لو تمت دلالة الامر بالشىء على النهى عن الضد الخاص ، فان العقل اذا ادرك الملازمة

١

بين وجوب شىء وحرمة ضده فاننا ننتقل الى حرمة الصلاة فيما اذا وجبت ازالة النجاسة عن المسجد. وكذا اذا ادرك العقل استحالة الامر والنهى فاننا نجزم حينئذ بعدم صحة الصلاة فى الدار المغصوبة ، وكذلك اذا ثبتت الملازمة بين حرمة عبادة ، او معاملة وفسادها فاننا نجزم حينئذ بفساد العبادة او المعاملة فيما اذا تعلق النهى بها ، فهذا القسم من المبادى يبحث عنه فى علم الاصول ، وغايته الايصال الى الحكم الشرعى على نحو القطع.

ومنها ـ ما يوصل الى الحكم الشرعى لا على نحو يوجب العلم الوجدانى بل يوجب العلم التعبدى به ، كمباحث الالفاظ والحجج ـ وهى على نحوين : النحو الاول ـ ما يبحث عن الصغرى بعد الاعتراف بالكبرى. النحو الثانى ـ بالعكس ما يبحث فيه عن الكبرى بعد تسليم الصغرى ـ اما النحو الاول ـ فهو مباحث الالفاظ حيث يبحث فيها عن ظهور الامر فى الوجوب ، او ظهور النهى فى الحرمة وغير ذلك ، فان الكبرى مسلمة وهى ان كل ظاهر حجة لان السيرة العقلائية قد جرت على الاخذ بظهور الكلام ، وما ينسبق الى الذهن عند التوجه اليه ، والشارع المقدس لم يتخذ طريقا خاصا فى مقام تفهيم معانى كلماته التى كان فى صدد إبدائها للمكلفين غير الطريقة التى جرى عليها العقلاء من الاخذ بالظهور. ولاجل هذه الجهة لم يناقش احد فى اصل حجية الظهور وانما هى من القواعد المسلمة التى لا تقبل التردد والتشكيك ، فالنزاع فى مباحث الالفاظ يقع عن تشخيص الصغرى للكبرى المسلمة ، ويقع البحث عنه فى جهتين ـ الجهة الاولى ـ فى دلالة نفس اللفظ من دون ضميمة شىء له كالبحث عن ظهور الامر فى الوجوب ، وظهور النهى فى الحرمة ، ودلالة القضية الشرطية على الانتفاء عند الانتفاء ، وظهور الكلام فى الاطلاق ان تمت مقدمات الحكمة. الجهة

٢

الثانية ـ فى دلالة اللفظ بعد انضمام شىء آخر اليه كظهور العام فى الباقى بعد التخصيص بدليل منفصل فان البحث عن تشخيص ظهوره لا من جهة نفس اللفظ وحده بل من اجل احالته بعد الانضمام.

واما النحو الثانى ـ الذى يبحث فيه عن الكبرى فهو كمباحث حجية خبر الواحد والشهرة ، وظواهر الكتاب فالبحث فى جميعها يقع عن ثبوت الحجية ، ويلتحق بهذا النحو بحث الظن الانسدادى على الكشف حيث يتنازع فى ان مقدمات الانسداد اذا تمت فهل يدرك العقل ان الشارع جعل الظن حجة فى حق كل من انسد عليه الطريق؟ فالبحث فى الحقيقة كبروى قد وقع عن حجية الظن تعبدا ، وكذا يلحق بهذا النحو بحث التعادل والترجيح فان البحث فيه عن أى الخبرين اذا تعارضا يكون حجة ، فهذا القسم من المبادى بكلا نحويه يوصل الى حكم شرعى تعبدى.

ومنها ـ ما لا يكون موصلا الى حكم شرعى واقعى مقطوع به جزما ولا تعبدا ، وانما يوصل الى وظيفة شرعية قد جعلت للمكلف فى مرحلة الشك وهى الاصول العملية من البراءة الشرعية ، والاشتغال الشرعى ، والاستصحاب. فان جميعها يوصل المكلف الى وظيفة شرعية مقررة فى ظرف وجود الشك والجهل بالواقع.

ومنها ـ ما يوصل الى وظيفة مقررة من جانب العقل بعد تعذر المراحل المتقدمة وتسمى بالاصول العقلية كالبراءة ، والتخيير ، والاشتغال. فالالتجاء الى هذه الاصول العقلية يكون بعد فقد الدليل الموصل الى الحكم الوجدانى والتعبدى والى الوظيفة الشرعية ، ويلحق بهذا القسم بحث الظن الانسدادى على الحكومة فانه بحث عما يعينه العقل من الوظيفة الفعلية لامتثال الاحكام المعلومة بالاجمال بعد عدم التمكن من الامتثال

٣

القطعى او عدم وجوبه.

فالذى تحصل من هذا ان مسائل علم الاصول تارة توصل الى الحكم الشرعى الواقعى بنحو يقطع المكلف ويعلم به علما وجدانيا كمباحث الملازمات العقلية. وأخرى ـ توصل الى حكم تعبدى من قبل الشارع المقدس وهو على نحوين : منه ما يبحث فيه عن الصغرى مع تسليم الكبرى كمباحث الالفاظ ، ومنه ما يبحث فيه عن الكبرى فقط كبحث الحجج ويلحق بالاخير بحث الظن الانسدادى على الكشف وبحث التعادل والترجيح وثالثة ـ توصل الى وظيفة شرعية كالاصول العملية الشرعية ، ورابعة ـ توصل الى وظيفة عقلية مقررة فى مرحلة الشك ويلحق بهذا الاخير بحث الظن الانسدادى على الحكومة ، فكل قاعدة من قواعد علم الاصول لا بد من ان تندرج تحت احدى هذه الاقسام وإلّا فهى خارجة عن علم الاصول.

وربما يورد على التقسيم المذكور بخروج بعض القواعد عنه مع الاعتراف بأنها من مسائل علم الاصول. منها بحث اجتماع الامر والنهى ، فانه لو بنى على عدم جواز الاجتماع نظرا الى ما يدركه العقل من استحالة اجتماع ارادتين فعليتين متناقضتين فى شىء واحد لما اوصلنا الى حرمة الصلاة فى الدار المغصوبة مثلا إلّا بملاحظة امرين خارجيين احدهما ان الغالب من احد الخطابين على الآخر هو خطاب الغصب ولا بد من تحقيقه من الخارج وقد يكون الغالب خطاب الصلاة فتصح الصلاة هناك وثانيهما ان النهى عن العبادة يدل على فسادها فلم تكن القاعدة وحدها موصلة الى حكم واقعى قطعى بل تحتاج الى قاعدة اخرى نستطيع بسببهما مجموعا الوصول الى الحكم القطعى فلا تكون هى وحدها من مسائل الاصول.

والجواب عنه : اننا لا نشترط فى المسألة الاصولية ترتب الاثر على

٤

كلا طرفى المسألة من الثبوت والعدم بل يكفى فى صدق المسألة الاصولية على قاعدة ترتب الاثر على احد الطرفين دون الآخر والاثر هنا مرتب على القول بالجواز حيث ان العقل اذا ادرك عدم الاستحالة فى اجتماع الخطابين الفعليين ولم يجد ثمة منافاة فى فعلية كل منهما فاللازم فعلية خطاب الصلاة وصحتها اذا وقعت فى الدار المغصوبة لامكان التقرب بها فى ذلك المكان وهذا المقدار كاف فى اندراج المسألة فى فن الاصول بلا حاجة الى ترتب الاثر على التقديرين وهذا هو الحال فى مباحث الالفاظ وغيرها من المسائل الاصولية فان الاثر لا يترتب على كل من تقديرى ظهور الامر مثلا فى الوجوب وعدمه وانما يترتب على القول بالظهور وكذا الكلام فى حجية خبر الواحد وبقية مباحث الحجية.

ومنها ـ مبحث الضد فان دلالة الامر بالشىء على النهى عن الضد الخاص لو تمت فلا يثبت بها إلّا ان ضد الواجب الفعلى محرم وهو حكم كبروى مستنبط من دليله ينطبق على موارده الخاصة كقاعدة ما لا يضمن وليس من قبيل ما يستنبط منه الحكم ، ولا ريب ان ضابط المسألة الاصولية المعنى الثانى دون الاول ، مضافا الى ان صيرورة الصلاة مثلا محرمة لا تقتضى عدم صحتها ما لم ينضم الى ذلك قاعدة اخرى وهى ان النهى عن العبادة يقتضى الفساد وعليه فليست القاعدة وحدها موصلة الى الحكم الشرعى القطعى.

والجواب عنه : ان البحث فى هذه المسألة لا يقع عن حرمة ما يضاد الواجب الفعلى من الافعال كى يرد عليه ما ذكروا انما يقع البحث فيها عن الملازمة العقلية بين وجوب الشىء وحرمة ضده فالمبحوث عنه امر واقعى يترتب على احرازه الجزم بالحكم الشرعى. واما ما ذكر من ان الحكم

٥

بفساد العبادة اذا كانت مضادة للواجب الفعلى لا يترتب على القول بدلالة الامر بالشىء على النهى عن ضد ذلك الشىء إلّا بضميمة القول بدلالة النهى على الفساد ، فالجواب عنه قد ظهر مما سبق اذ لا يعتبر فى المسألة الاصولية ترتب الاثر على التقديرين بل يكفى ترتبه على طرف واحد ، والاثر هنا مترتب على تقدير العدم اى عدم الدلالة والاقتضاء للنهى ، فاذا فرضنا ان ضد الواجب لا يكون محرما انتج هذا ان العبادة المضادة للواجب الفعلى يمكن ان يتقرب العبد بها فتقع صحيحة فى ذاك الحال وهو كاف فى صيرورتها مسألة اصولية.

ومنها ـ مسألة مقدمة الواجب وذلك من جهة ان المستنتج منها هو وجوب المقدمة وهذا حكم كبروى ينطبق على مصاديقه نظير قاعدة ما لا يضمن ، وقد عرفت ان المسألة الاصولية ما وقعت نتيجتها فى طريق الاستنباط فهى خارجة عن المسائل الاصولية.

والجواب عنه : ان البحث فى هذه المسألة ليس بحثا عن ثبوت الوجوب للمقدمة بل هو بحث عن ادراك العقل للملازمة بين وجوب الشىء ووجوب مقدمته ويترتب على ذلك الجزم بوجوب المقدمة شرعا حين ما علمنا بوجوب ما يتوقف وجوده عليها خارجا ، الا انا سنذكر فى مسألة مقدمة الواجب ان البحث فى هذه المسألة لا اثر له اصلا وليس من شأن الفقيه البحث عن الوجوب الغيرى لعدم حاجته فى ذلك بل انما حاجته فى الوجوبات النفسية التى يستحق تاركها العقاب وفاعلها الثواب ، واما ما ذكر من الاثر للقول بوجوب المقدمة كله مندفع. وسوف يأتى الكلام عليه إن شاء الله.

ومنها ـ مباحث الاصول العملية ، فقد يقال ان نتائج هذه المباحث من الاحكام المستنبطة وليست مما يستنبط منه الحكم الشرعى ، فان معنى

٦

البراءة الشرعية ان كل ما هو مشكوك حكم يشك فيه فهو مرفوع شرعا وهو حكم كلى ينطبق على موارده وليس مما يستنبط منه الحكم ، وكذلك الحال فى سائر الاصول العملية فهذه المباحث خارجة عن المسائل الاصولية.

والجواب عنه : ان الاصول العملية وان كانت من هذه الناحية كالقواعد الفقهية ولكنها تفترق عن تلك القواعد من جهة انتهاء المجتهد اليها فى مقام العمل ، لان فيها جهة تأمين عن الواقع ولانها فى طول الحكم الواقعى ، وبديهى ان كل ما كان كذلك وكان محصلا للوظيفة الفعلية فى مقام العمل كان من المسائل الاصولية. وهذا بخلاف القواعد الفقهية فانها ليست كذلك.

فاتضح من جميع ما تقدم ان كل قاعدة رجعت الى قسم من الاقسام الاربعة كانت من المسائل الاصولية وإلّا فهي خارجة عنه.

(غاية علم الاصول)

ان فائدة علم الاصول هى تحصيل الوظيفة الفعلية للمكلف فى مرحلة العمل ، فان كل فرد من افراد البشر بعد ان علم اجمالا بوجود احكام الزامية كان عليه القيام بادائها رسما للعبودية وحرصا على تحصيل المنفعة ودفع المفسدة ، فلا بد له من سلوك طريق يؤمنه من العقوبة ويضمن له تفريغ ذمته من مسئولية التكليف ، ولا ينهض بهذه المهمة الا القواعد المدرجة فى علم الاصول المحصلة للوظيفة الفعلية التى يجب العمل على مقتضاها اعم من كونها توجب القطع الوجدانى او التعبدى بالحكم الشرعى او لما قرره الشارع فى مرحلة الشك او العقل فى مرحلته الاخيرة. فالفائدة

٧

هى تحصيل الوظيفة الفعلية للمكلف فى مرحلة العمل.

(تعريف علم الاصول)

بعد ان عرفت ان الغاية من الاصول تحصيل الوظيفة الفعلية للمكلف فجدير بأن يكون تعريف علم الاصول عبارة عن العلم بالقواعد لتحصيل العلم بالوظيفة الفعلية فى مرحلة العمل فانك عرفت ان جميع القواعد توصل المكلف الى وظيفة فعلية فى مقام الاداء ، فلا وجه لما عرفه البعض بانه عبارة عن العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعى ، اذ لو اريد من الاستنباط فى التعريف المذكور المعنى الاعم الذى ذكرناه من تحصيل الوظيفة الفعلية فلا بأس به ، وان اريد منه خصوص الاستنباط الحقيقى والوصول الى الحكم الشرعى فهو تخصيص بلا مخصص اذ يلزمه خروج الاصول العملية حتى الشرعية منها عن علم اصول من جهة انها غير قابلة للاستنباط بل هى احكام منطبقة على مواردها ، غاية الامر ينتهى المجتهد اليها اذا تعذر عليه الدليل الاجتهادى مع ان هذه القواعد تشترك مع بقية القواعد الأخر فى تحصيل الغرض وهو احراز الوظيفة الفعلية وبتطبيق العمل عليها يحصل الامن من العقاب ، اذا فالتعريف الصحيح هو ما ذكرناه انه عبارة عن العلم بالقواعد المحصلة للعلم بالوظيفة الفعلية فى مقام العمل.

(الفرق بين الاصول وبقية العلوم)

والمقصود من بقية العلوم ما كان له الدخل فى استنباط الحكم الشرعى كاللغة والنحو والصرف والرجال وغير ذلك دون ما هو اجنبى عنه ، ضرورة انه مع الجهل باللغة لا يمكن استفادة الحكم من مثل قوله عليه‌السلام : اذا بلغ

٨

الماء قدر كر لا ينجسه شىء. والفارق بين القواعد الاصولية وغيرها هو ان القواعد الاصولية ما كانت صالحة وحدها ولو فى مورد واحد لان تقع فى طريق استنباط الحكم الشرعى من دون توقف على مسألة اخرى من مسائل علم الاصول نفسه او مسائل سائر العلوم ، وذلك كما لو بنينا على ظهور الامر فى الوجوب فان هذا كاف فى استنباط الحكم منه بلا ضميمة شىء آخر له ، وذلك فيما اذا كان السند قطعيا كالخبر المتواتر او المحفوف بالقرينة.

فان قلت : ان الاستنباط فى المسائل اللفظية من الاصول دائما يتوقف على ضم مسألة حجية الظواهر اليها فلا يمكن استنباط الحكم من اى مسألة لفظية بوحدتها.

قلت : ان مسألة حجية الظهور ليست من علم الاصول بل من الكبريات المسلمة لدى العقلاء ولذا لم يناقش احد فيها ، غاية الامر الخلاف وقع فى بعض صغرياتها وذلك فى موارد ثلاثة : الاولى ـ فى اشتراط حجية الظهور بالظن بالوفاق او بعدم الظن بالخلاف ـ الثانية ـ فى اختصاص حجية الظواهر بمن قصد افهامه ـ الثالثة ـ فى حجية ظواهر الكتاب.

وهكذا مسألة حجية الخبر الواحد ، فانا لو فرضنا ان رواية كانت نصا فى مدلولها ترتب على كبرى مسألة حجية الخبر بعد ضم صغراها اليها استنباط حكم كبروى من دون توقف على مسألة اخرى من مسائل الاصول او غيرها ، وهذا بخلاف مسائل سائر العلوم اذ لا يترتب عليها وحدها حكم كبروى شرعى ولا توصل الى وظيفة فعلية ولو فى مورد واحد بل دائما تحتاج الى ضم مسألة اصولية اليها ، فمثل العلم بالصعيد وانه عبارة عن مطلق وجه الارض او غيره لا يترتب عليه العلم بالحكم وانما يستنبط الحكم من الامر او النهى وما يضاهيهما. نعم قد تكون المسألة الاصولية متوقفة

٩

على مسألة اخرى فى مقام الاستنباط منها كما اذا فرضنا ان الامر بشىء ما ورد فى رواية ظنية السند فان الاستنباط منها يتوقف على اثبات ظهور الامر فى الوجوب وعلى اثبات حجية السند ، إلّا ان كلا منهما مسألة اصولية برأسها اذ يمكن استنباط الحكم من كل منهما بلا حاجة الى ضم مسألة اخرى كما اذا كان الامر واردا فى السنة القطعية او كانت الرواية نصا فى مدلولها.

فظهر من هذا ان البحث عن ادوات العموم وان كلمة كل والجمع المحلى بالالف واللام والنكرة فى سياق النفى مما يفيد العموم ام لا ، او ان معانى المشتقات ظاهرة فيمن تلبس بالمبدإ او فى الاعم ، او ان اسماء العبادات وضعت للصحيح او الاعم انما هى مسائل لغوية لعدم امكان وقوعها فى طريق الاستنباط وحدها وبما ان القوم لم يعنونوها فى اللغة قد تعرض لها فى فن الاصول تفصيلا.

فالذى ظهر ان قواعد علم الاصول هى ما أمكن حصول الاستنباط من كل مسألة مسألة منها ولو على سبيل القلة بلا انضمام مسألة اخرى اليها من مسائل علم الاصول نفسه او مسائل بقية العلوم الأخر ، وهذا بخلاف مسائل سائر العلوم فانها محتاجة فى مقام تحصيل الوظيفة الفعلية الى ضم كبرى من المسائل الاصولية اليها.

(مرتبة علم الاصول)

اتضح مما تقدم ان مرتبة علم الاصول متأخرة عن بقية العلوم العربية ، فان كل مسألة اصولية فى حد ذاتها قبل استنباط الحكم واستحصال النتيجة منها لا بد من معرفة معناها والوقوف على مادة القاعدة وهيئتها التركيبية

١٠

منها والبسيطة ، وكيفية طريق استحصال النتيجة من انضمام الصغرى الى الكبرى ، وهذه الامور يتكفل البحث عنها علم النحو والصرف واللغة والمنطق وسائر العلوم العربية االأخر ، فالاحرى على كل من طلب دراسة الاصول ان يقرأ العلوم العربية مقدارا يتأتى منه الغرض المذكور ، واما رتبة علم الاصول بالاضافة الى الفقه فان الاصول مقدم على الفقه تقدما رتبيا لا فضيلة وشرفا ، والوجه فيه ان الاصول كما عرفت مباد يتوصل بها الى الحكم الشرعى وهو متقدم عليه.

فالمتحصل ان علم الاصول وسيط بين الفقه وسائر العلوم العربية ، فهو كالجزء الاخير من العلة التامة للاستنباط وسائر العلوم العربية كالمقتضى والمعد للعلة.

(الفرق بين القواعد الاصولية والفقهية)

ان القواعد الفقهية على قسمين : قسم يجرى فى الشبهات الموضوعية ، وقسم يجرى فى الشبهات الحكمية.

القسم الاول ـ الفرق بينه وبين القواعد الاصولية هو ان القواعد الجارية فى الشبهات الموضوعية عبارة عن كبريات تنتج بعد انضمام الصغرى اليها حكما جزئيا شخصيا ـ كقاعدتى التجاوز والفراغ ـ فانهما يفيدان عدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ ، والانتهاء من العمل ، أو بعد تجاوز محل المشكوك ، وهاتان الكبريان اذا ضممناهما الى صغرياتهما ـ التى هى موارد ابتلاء الشخص نفسه ـ انتجتا صحة عمله المشكوك ، وكذلك الحال فى قاعدة اليد ، وقاعدة نفى الضرر ، والحرج فى موارد الضرر ، او الحرج الشخصى. فان الناتج من القواعد الفقهية الجارية فى الشبهات الموضوعية

١١

حكم شخصى خاص. واما المسائل الاصولية فالناتج منها ـ بعد الانضمام ـ حكم كلى عام ثابت لجميع المكلفين كمسألة حجية خبر الواحد فانا لو ضممنا هذه القضية الكلية الى قضية صغروية ، وهى الخبر الذى اثبت جزئية السورة فى الصلاة لانتج من هذا جزئية السورة فى حق كل واحد من دون اختصاص بفرد معين فهذا هو الفارق بينهما.

والقسم الثانى ـ هى القواعد الجارية فى الشبهات الحكمية ـ مثل لا ضرر ولا حرج ـ بناء على جريانهما فى موارد الضرر ، او الحرج النوعى. وكذا قاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ، تنتج بعد الانضمام حكما كبرويا كليا. فان مفاد الاولى : ان كل حكم اذا استلزم ضررا او حرجا ولو كان الضر والحرج نوعيا فهو مرفوع ، ومفاد الثانية : ان كل معاملة كان فى صحيحها ضمان ففى فاسدها كذلك ، وبالعكس ان كل معاملة لم يكن فى صحيحها ضمان ففى فاسدها لا يكون فيه الضمان ايضا. فكلتا القاعدتين من حيث النتيجة متحدة مع علم الاصول من حيث انتاج الحكم الكلى إلّا ان هناك فرقا بينهما فان نتائج هذه القواعد لا تقع فى طريق استنباط الحكم ، ولا انها مما ينتهى اليه بعد العجز عن استنباط الحكم الشرعى ، وانما هى من الحكم المستنبط المنطبق على موارده مثلا المستفاد من دليل لا ضرر ـ ان الحكم الضررى مرفوع ، وهو بنفسه حكم شرعى ينطبق على موارده. مثل اللزوم فى المعاملة الغبنية فانه ضررى نوعا فهو مرفوع شرعا. وكذا قاعدة لا يضمن فانها تنطبق على مثل الهبة ، والعارية فان صحيحها لم يكن فيه ضمان فكذا فاسدهما بخلاف البيع فان صحيحه مضمون ، ففاسده كذلك ، وهذا بخلاف المسائل الاصولية ، فان نتائجها بين ما امكن ان يستنبط منه الحكم الشرعى ، وما يكون مرجعا

١٢

للفقيه فى تعيين الوظيفة الفعلية ، وقد مر بيان ذلك ـ فيما تقدم ـ نعم اصل حكم القاعدة الفقهية انما استفيد من المسائل الاصولية ـ كما هو الحال ـ فى جميع المسائل الفقهية. وبهذا البيان اتضح الفرق بين المسائل الاصولية والفقهية. هذا وقد تصدى المحقق النائينى (قده) لبيان الفارق بين علمى الاصول والفقه وافاد بان علم الاصول ما كانت نتيجته لا تقبل الالقاء لعامة المكلفين فلا معنى لان يكتب المجتهد فى رسالته ان الامر ظاهر فى الوجوب ، او ان خبر الواحد حجة فان العامى يعجز عن تطبيق هذا الكبرى على الصغرى لاستنتاج النتيجة ، بخلاف علم الفقه فان نتيجته تقبل الالقاء نحو المكلفين ، وبامكانهم تطبيقها على مواردها. فيقول المجتهد لهم من شك فى طهارة ثوبه ونجاسته فليبن على طهارته ، وتطبيق هذا المعنى امر سهل على المكلف.

ولا يخفى ان ما ذكره (قده) لم يظهر لنا وجهه. فان ما افاده وان كان يتم غالبا إلا ان هناك بعض القواعد الفقهية لا يمكن القاؤها الى العامى ، ولا يستطيع من معرفتها فضلا عن تطبيقها ، وذلك كقاعدة ما لا يضمن او التسامح فى ادلة السنن ، او قاعدة لا ضرر ولا حرج ، بداهة ان المكلف العامى عاجز عن تطبيق هذه القواعد على مواردها فان كثيرا من فروع العلم الاجمالى ـ التى ذكرها فى العروة ـ قد نشأ الاختلاف فيها من الاختلاف فى تطبيق تلك القواعد على مواردها. فاذا كان التطبيق مما يخفى امره على الاعلام فما ظنك بالعامى المحض ، او من كان له حظ من العلم. اذا فالصحيح ما قلناه ـ كما تقدم.

* * *

١٣

(موضوع العلم)

البحث فى موضوع العلم يقع فى جهات ثلاث :

(الاولى) ـ فى الحاجة الى تصوير الموضوع لكل علم.

(الثانية) ـ فى بيان العوارض الذاتية والغريبة.

(الثالثة) ـ فى المحمولات وهل انها يلزم ان تكون من العوارض الذاتية؟.

(اما الجهة الاولى) فقد ذهب البعض الى ان كل علم لا بد له من موضوع ، استنادا الى برهان لزوم السنخية بين العلة والمعلول الذى اسسه الحكماء لاثبات الصادر الاول ، وقالوا : إن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد ، كما ان الواحد لا يصدر إلا من الواحد ، ضرورة انه لا بد من وجود سنخية ومناسبة بين العلة والمعلول. والواحد ـ بما هو واحد ـ لا يسانخ الاثنين بما هما اثنان.

وتقريب هذا المعنى فيما نحن فيه : هو ان الغرض فى كل واحد من العلوم امر واحد يترتب على البحث عن عوارض موضوعات مسائله ، والموضوعات المتعددة المتباينة لا تؤثر أثرا واحدا ، كما هو المفروض ، فاحتجنا الى جامع يحوى تحته جميع موضوعات المسائل ، ليكون ذلك الجامع ـ بنفسه ـ مؤثرا فى تحصيل الغرض دون موضوعات المسائل وحينئذ يتم حديث صدور الواحد عن الواحد.

و (الجواب عن ذلك) ان قاعدة صدور الواحد عن الواحد وإن كانت مستعملة بالاضافة الى الفاعل بالاضطرار دون الفاعل بالاختيار ، إلا ان تطبيق القاعدة على ما نحن فيه مردود من وجوه ثلاثة :

١٤

(الاول) ـ ان الغرض الذى يقصدونه فى المقام إن اريد به الشخصى ، فلا ريب انه يترتب على مجموع المسائل لا جميعها ، فنسبة كل مسألة الى ما يترتب عليه الغرض نسبة الجزء الى الكل. وبديهى ان المجموع إذا كان هو العلة لم يلزم محذور صدور الواحد عن المتعدد ، وان اريد به الغرض النوعى ، فلا ريب ان الغرض فى كل مسألة يغاير الغرض فى الاخرى ، مثلا : القدرة على استنباط الحكم على نحو الجزم والبت إنما تترتب على مباحث الاستلزامات العقلية دون مباحث الالفاظ والحجج فى الاصول العملية ، كما ان القدرة على استنباط الحكم على نحو التعبد به شرعا إنما تترتب على خصوص مباحث الالفاظ والحجج دون غيرها ، فالغرضان متغايران. وهكذا علم النحو ، فان الغرض المترتب على باب الفاعل غير الغرض الذى يترتب على باب المفعول وغيره فى باب الاضافة. وإن كان يجمعها صون اللسان عن الخطا فى المقال ، وعليه ، فلا حاجة إلى جامع واحد يضم تحته موضوعات المسائل ، فان الغرض ـ كما عرفت ـ متعدد ، فلا يلزم صدور الواحد عن الكثير إذا لم نلتزم بالموضوع الجامع.

(الثانى) ـ ان الاغراض فى العلوم لا تترتب على نفس مسائلها ـ لنحتاج الى تصوير الجامع بين موضوعاتها ـ إذ أن لازمه ان يكون العامى الجامع لبعض الكتب الاصولية ـ مثلا ـ قادرا على الاستنباط ، لوجود نفس المسائل عنده خارجا ، وهو باطل بالضرورة ، بل الاغراض تترتب على العلم بثبوت محمولات تلك المسائل لموضوعاتها ، فلا حاجة الى تصوير الجامع بين الموضوعات ، فان المحصل للغرض إنما هو العلم بالمسائل. نعم لا بد من تصوير جامع بين العلوم. وهذا امر آخر. ومع تسليم ترتب الغرض على نفس المسائل ، فهو لا محالة يترتب على النسب الخاصة ،

١٥

فلا بد من تصوير الجامع بين هذه النسب ، ولا ضرورة الى تصويره بين الموضوعات ، لان المؤثر فى تحصيل الغرض ـ على الفرض ـ انما هو ثبوت المحمولات لموضوعاتها لا خصوص موضوعاتها.

(الثالث) ـ ان تصوير الجامع ـ بين موضوعات المسائل ـ غير ممكن دائما. وذلك ، فان محمولات علم الفقه امور اعتبارية : كالوجوب والحرمة والطهارة والنجاسة. وهذه (تارة) تثبت للموضوعات التى هى من الاجسام الخارجية : مثل الماء طاهر والخمر نجس و (اخرى) تثبت للمواضيع التى هى من قبيل الاعراض الخارجية او الامور الاعتبارية : مثل شرب الخمر حرام ، والنكاح سنة ، والصلاة واجبة ، والبيع حلال ، والهبة جائزة ، و (ثالثة) تثبت المحمولات للامور العدمية : كالتروك الواجبة فى الحج ، وغيره فكانت موضوعات المسائل مختلفة من حيث المقولة ، (فمنها) ـ ما هو من مقولة الجوهر ، و (منها) ـ ما هو من الاعراض من مقولة الجدة ، ومن الوضع ، ومن الكيف. ومن الموضوعات ـ ما يكون من الامور العدمية. وقد حقق فى محله انه لا جامع بين الجواهر والاعراض فضلا عن ان تكون جامع بينها وبين الامور العدمية ، ومع هذا كيف يمكننا ان نتصور جامعا يضم موضوعات المسائل. فالذى تحصل مما ذكرناه عدم الحاجة الى موضوع للعلم يجمع موضوعات مسائله.

و (اما الجهة الثانية) وبها يعلم حال الثالثة ـ فقد قسم القوم العوارض الى سبعة اقسام ، فان العرض (تارة) يعرض الشىء بلا واسطة اصلا ، وهو العارض اولا وبالذات ، و (اخرى) بواسطة شىء ، وهذه الواسطة إما داخلية وإما خارجية ، والداخلية إما أعم كالجنس ، وإما أخص كالفصل ، والمقصود بذلك انه اخص بالاضافة الى الجزء الآخر ، وإلّا فهو مساو للذات.

١٦

ثم إن الواسطة الخارجية أعم أو أخص أو مساوية أو مباينة ، فهذه سبعة أقسام. وقد اتفقوا على ان ما كان عروضه على الشىء بلا وساطة امر داخلى أخص كالفصل من العرض الذاتى ، كما انهم تسالموا على ان ما كان عروضه بوساطة الامر الخارجى ـ باقسامه ـ من العرض الغريب. وقد اختلف فى العوارض بوساطة امر داخلى اعم من حيث انه ذاتى ام غريب ، ومن هنا استشكل القوم فى كيفية الجمع والتوفيق بين تعريفهم للموضوع ـ وهو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية.

وتسالمهم بان العارض بوساطة الخارج من الغريب ، حيث وجدوا محمولات المسائل فى اغلب العلوم من هذا القبيل ، وهو العارض بوساطة الخارج الاخص. مثلا : محمولات مسائل علم الفقه الوجوب ، والحرمة ، وباقى الاحكام ، وهى تعرض على افعال المكلفين بوساطة الصلاة والصوم والزكاة وغيرها من الافعال التى هى اخص من موضوع علم الفقه ، وهو فعل المكلف. وكذا علم النحو ، فان محمولات مسائله الرفع والنصب وغيرهما وهما يعرضان على الكلمة بوساطة الفاعل والمفعول الذين هما اخص من موضوع علم النحو ، وهو الكلمة ، والكلام. وكل هذا من العارض بوساطة الخارج الاخص وقد يتفق ان موضوع المسألة يكون اعم من موضوع العلم ، فيكون العارض حينئذ عارضا على الشىء بواسطة هى اعم ، كما فى علم الاصول ، فان موضوعه ـ حسبما قيل ـ الادلة الاربعة ، مع ان البحث عن جواز اجتماع الامر والنهى لا يختص بالخطاب الشرعى ، بل يشمل غيره حتى لو كانا غير شرعيين. وكذا البحث عن ظهور الامر فى الوجوب وهذا الاشكال جار منذ عهد قديم ، حتى ان صدر المتألهين قد تعرض له فى اسفاره واجاب عنه بما يختص بالفلسفة.

١٧

وغير خفى ان اساس الاشكال المزبور امران : (احدهما) ـ الالتزام بان البحث فى العلوم لا بد وان يكون من الاعراض الذاتية لموضوع العلم. و (ثانيهما) ـ الالتزام بان العارض على الشىء ـ بوساطة الخارج الاخص او الداخل الاعم ـ من الاعراض الغريبة. ويمكننا منع كلا الامرين على سبيل منع الخلو. وذلك بان يقال : إن كل مسألة إن ترتب عليها الغرض الداعى الى تدوين العلم فهى من مسائله ، سواء كان محمول هذه المسألة من العوارض الذاتية لموضوع العلم ام لم يكن ، مثلا كل مسألة ترتب على نتيجتها تعيين الوظيفة الفعلية فى مرحلة العمل ، فهى مسألة اصولية وان كان محمول تلك المسألة من العوارض الغريبة لموضوع العلم ، وبالعكس لو فقدت المسألة ترتب الغرض المذكور على نتيجتها كانت خارجة عن المسائل الاصولية وان كان محمول المسألة من العوارض الذاتية ، فان الاختصاص فى البحث عن الذاتى فقط لم ينص عليه دليل بالخصوص. ولو سلمنا لزوم ان يكون البحث عن العرض الذاتى ، لا مكن دعوى ان العارض بواسطة الخارج الاخص او الداخل الاعم من العوارض الذاتية ، إذن يرتفع الاشكال من دون حاجة الى التكلف فى جوابه. ثم إن المراد بالعارض ـ هنا ـ كل امر لاحق للموضوع ، سواء كان من الامور الاعتبارية الجعلية ـ كما فى الاحكام الشرعية ـ ام كان من الامور الواقعية من الجواهر والاعراض او غيرها ـ كالوجود والوجوب والاستحالة والامكان ـ فالمراد بالعارض هنا ما يقابل الذاتى فى باب الكليات ـ وإن كان من الذاتى فى باب البرهان. نعم لا يبحثون فى العلوم عن ذاتيات الموضوع ومقوماته. وكيف كان فما جاء به المحقق النائينى (قده) ـ وأتعب نفسه فى دفع الاشكال بالاخذ بالحيثيات ، وانها حيثيات تقييدية ـ لا حاجة له ، بل الجواب ما ذكرناه.

١٨

(تمايز العلوم)

اختلف القوم فى المائز بين العلوم هل انه بالموضوع أو بالمحمول او بالغرض؟ كما ذهب اليه صاحب الكفاية (قده) والظاهر ان مركز النفى والاثبات ليس امرا واحدا ليقع الخلاف فيه ، (فتارة) يراد من تمايز العلوم مرحلة الاثبات لمن يجهلها. و (اخرى) يراد منه التمايز فى مرحلة الثبوت وفى مقام التدوين.

(اما المقام الاول) فحقيقته ان كل شخص إذا كان جاهلا بحقيقة علم من العلوم واراد معرفته والاحاطة به ـ ولو بصورة إجمالية ـ فللعالم بذلك العلم ان يميزه له عن غيره بما شاء من التمييز بالموضوع او المحمول او الغرض على سبيل الاجمال او التفصيل ، فله ان يقول ـ مثلا ـ : غاية علم النحو حفظ اللسان عن الخطاء فى المقال ، او ان موضوعه الكلمة والكلام ، او ان محموله الاعراب والبناء ولعل الوجه ـ فى من خص المائز بالموضوعات ـ هو اسبقية الموضوع على غيره بحسب الرتبة ، فان المحمول تابع له ، والغرض يترتب على ثبوته للموضوع.

و (اما المقام الثانى) فلان كل مؤلف لعلم. بعد اختياره جملة من المسائل المتشتتة ، وتدوينها فى كتابه مقتصرا عليها ـ يختلف تمييزه باختلاف الدواعى (فتارة) يكون هناك غرض خارجى يترتب على العلم والمعرفة بتلك المسائل ، كما فى اغلب العلوم ، فلا بد من البحث عن كل مسألة اشتملت على ذلك الغرض ، كما لا بد ـ فى هذا الفرض ـ من التمييز بالغرض. وليس للمدون ان يميزها بالموضوعات ، إذ لا عبرة ـ فى الفرض ـ بوحدة الموضوع وتعدده ، على انه يقتضى جعل كل باب بل كل مسألة

١٩

علما على حدة ، كما ذكره صاحب الكفاية (قده). و (اخرى) يكون الداعى الى التدوين نفس العلم والمعرفة للشىء ، دون ان يكون هناك غرض خارجى يدعوه الى تدوين المسائل. وهذا على نحوين : (فتارة) يكون هناك موضوع ، ويود البحث عن احواله وشئونه : كما فى علم الطب الباحث عن طوارى بدن الانسان ، فلا بد من التمييز بالموضوع. و (اخرى) يكون هناك محمول ، ويود الباحث معرفة ما يعرض عليه ذلك المحمول : كالحركة والسكون ، فلا بد من التمييز بالمحمول فقط.

فمن هنا ظهر انه لا وجه لما أطلقه القوم من التمييز ، بل قد عرفت ان الدواعى تختلف وباختلافها يختلف ما به التمييز.

(موضوع علم الاصول)

المعروف بينهم ان موضوع علم الاصول الادلة الاربعة : الكتاب ، السنة ، الاجماع ، العقل.

وفيه : أنه إن أريد بها انها ـ بوصف دليليتها ـ موضوع لعلم الاصول ، بمعنى ان البحث يقع عما يعرض الدليل بعد ثبوت دليليته ، فلازمه خروج اكثر مسائل الاصول عدا مباحث الالفاظ ، لان ما عداها ـ من مباحث الحجج ـ يقع البحث عنها من حيث اصل الحجية والدليلية ، فيقال : خبر الواحد حجة ام لا ، والاجماع المنقول حجة ام لا؟ ولا إشكال ان البحث عن ثبوت الحجية ليس بحثا عن عوارض الدليل ، وانما هو بحث عن دليلية الخبر او الاجماع. نعم البحث فى مباحث الالفاظ بحث عن العوارض ، حيث يبحث فيها ـ مثلا ـ عن ان الامر الوارد فى الكتاب او السنة ظاهر فى الوجوب. وهذا بحث عن العوارض ، إلا ان الالتزام باختصاص المسائل

٢٠